فصل: تفسير الآية رقم (115):

صباحاً 9 :33
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (115):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} {الْمَشْرِقُ} موضع الشروق. {وَالْمَغْرِبُ} موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع، كما تقدم. وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله، ولان سبب الآية اقتضى ذلك، على ما يأتي.
الثانية: قوله تعالى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا} شرط، ولذلك حذفت النون، وأين العاملة، وما زائدة، والجواب {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وقرأ الحسن {تولوا} بفتح التاء واللام، والأصل تتولوا. و{ثم} في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبعد، فإن أردت القرب قلت هنا.
الثالثة: اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه {فَأَيْنَما تُوَلُّوا} على خمسة أقوال: فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكا قال: تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وقال المغيرة والشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح، لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر.
وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لاحد أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف، على ما يأتي. واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله، فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه. قال سحنون: فإن فعل أعاد، حكاه الباجي. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة.
وأجمعوا على أنه لا يجوز لاحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة، على ما يأتي بيانه. واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة، فقال مالك وأصحابه والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، قالوا: لان الاسفار التي حكي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا، لأن الإثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الاسفار بما يجب التسليم له.
وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء.
وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه بالإيماء. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنقل على الدابة في الحضر والسفر.
وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر، فقال: أما في السفر فقد سمعت، وما سمعت في الحضر. قال ابن القاسم: من تنفل في محمله تنفل جالسا، قيامه تربع، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه.
وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة- واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية- يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فكان هذا عذرا للنجاشي، وكانت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه سنة تسع من الهجرة. وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي. قال ابن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب، وقد كنت ببغداد في مجلس الامام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان؟ فيقول له: مات، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم يقول لنا: قوموا فلأصل لكم، فيقوم فيصلي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدة، وبينه وبين بلده ستة أشهر. والأصل عندهم في ذلك صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي.
وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مخصوص لثلاثة أوجه: أحدها- أن الأرض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي، كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الأقصى.
وقال المخالف: وأى فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته.
الثاني- أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة! ملك على دين لا يكون له أتباع، والتأويل بالمحال محال.
الثالث- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا. قال المخالف: بركة الدعاء من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سواه تلحق الميت باتفاق. قال ابن العربي: والذي عندي في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه.
قلت: والتأويل الأول أحسن، لأنه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر، والغائب ما لا يرى. والله تعالى أعلم. القول الرابع- قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فنزلت: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
القول الخامس- أن الآية منسوخة بقوله: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ذكره ابن عباس، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك.
وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي تلقاءه، حكاه أبو عيسى الترمذي. وقول سادس- روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة، المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وعن ابن عمر والنخعي: أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله.
وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية، فالمعنى أن بلاد لله أيها المؤمنون تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه.
وقيل: نزلت حين صد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال. ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا، لأنها محتملة لمعنى الامر. يحتمل أن يكون معنى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}: ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض.
الرابعة: اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا.
وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسعا، كما يقول القائل: رأيت علم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} لان المراد به: لله الذي له الوجه، وكذلك قوله: {إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجل، كما قال: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ}.
وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ابن عطية: وضعف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف، وإنما المراد وجوده.
وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة.
وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه ** رب العباد إليه الوجه والعمل

وقيل: المعنى فثم رضا الله وثوابه، كما قال: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي لرضائه وطلب ثوابه، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه لله بنى الله له مثله في الجنة». وقوله: «يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرا وهو أعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي» أي خالصا لي، خرجه الدارقطني.
وقيل: المراد فثم الله، والوجه صلة، وهو كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}. قاله الكلبي والقتبي، ونحوه قول المعتزلة.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ} أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
وقيل: {واسِعٌ} بمعنى أنه يسع علمه كل شي، كما قال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
وقال الفراء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شي، دليله قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب.
وقيل: متفضل على العباد وغني عن أعمالهم، يقال: فلان يسع ما يسئل، أي لا يبخل، قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} أي لينفق الغني مما أعطاه الله. وقد أتينا عليه في الكتاب الأسنى والحمد لله.

.تفسير الآية رقم (116):

{وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} هذا إخبار عن النصارى في قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}. وقيل عن اليهود في قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}. وقيل عن كفرة العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. وقد جاء مثل هذه الاخبار عن الجهلة الكفار في مريم والأنبياء.
الثانية: قوله: {سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ} الآية. خرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا».
الثالثة: سبحان منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة، من قولهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، بل هو الله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ولم يولد فيكون مسبوقا، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا! {بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} {ما} رفع بالابتداء والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. والقائل بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة السموات والأرض. وقد تقدم أن معنى سبحان الله: براءة الله من السوء.
الرابعة: لا يكون الولد إلا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته وهو لا يشبهه شي، وقد قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً}، كما قال هنا: {بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضى الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم إن البنوة تنافى الرق والعبودية- على ما يأتي بيانه في سورة مريم إن شاء الله تعالى- فكيف يكون ولد عبدا! هذا محال، وما أدى إلى المحال محال.
الخامسة: قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} ابتداء وخبر، والتقدير كلهم، ثم حذف الهاء والميم. {قانِتُونَ} أي مطيعون وخاضعون، فالمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطبع. والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. فالقنوت الطاعة، والقنوت السكوت، ومنه قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. والقنوت: الصلاة، قال الشاعر:
قانتا لله يتلو كتبه ** وعلى عمد من الناس اعتزل

وقال السدي وغيره في قوله: {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} أي يوم القيامة. الحسن: كل قائم بالشهادة أنه عبده. والقنوت في اللغة أصله القيام، ومنه الحديث: «أفضل الصلاة طول القنوت» قاله الزجاج. فالخلق قانتون، أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم.
وقيل: أصله الطاعة، ومنه قوله تعالى: {وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ}. وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ}.