الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (111- 112): وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى...} الآية: أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه مِنْ إنزال ملائكةٍ وإحياءِ سلفهم حَسْبما اقترحه بعضُهم؛ أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره، فيخبر بصدْقِ محمَّد عليه السلام، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء، لا ربَّ غيره. وقرأ نافع وغيره: {قبلاً}، ومعناه مواجهةً ومعاينةً؛ قاله ابن عباس وغيره، ونصبه علَى الحالِ، وقال المبرِّد: معناه: ناحيةً؛ كما تقول: لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْن. قال * ع *: فنصبه؛ على هذا: هو على الظرفِ، وقرأ حمزة وغيره: {قُبُلاً} بضمِّ القافِ والباءِ، واختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى قِبَل بكسر القافِ، أي: مواجهةً؛ كما تقول: قُبُل ودُبُر. وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء: هو جَمْعُ قَبِيلٍ، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كلَّ شيء كُفَلاَءَ بصدْقِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قَبِيلٍ، أي: صنفاً صنفاً، ونوعاً نوعاً، والنصب في هذا كلِّه على الحال، {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، أي: يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتَضِي إيمانهم، ولا بُدَّ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك، قُلْتُ: وقال مكِّيٌّ: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، أي: في مخالَفَتِكَ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئْتَهم به، وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ، فَإذَا أَحْرَقَتْهُ، قَالَ: نَحِّ عَنِّي مِخْصَرَتَكَ، فَوَاللَّهِ، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا اختلف عَلَيْكَ فِيهِ اثنان. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ، وَاللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَتَبَسَّمُ» انتهى من الهداية. وقوله سبحانه: {وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن...} الآيةَ: تتضمَّن تسلية النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَرْضَ القُدْوة عليه، أي: هذا الذي امتحنت به، يا محمَّد، مِن الأعداء قد امتحن به غَيْرُك من الأنبياء؛ ليبتليَ اللَّه أُولِي العَزْم منهم، و{شياطين الإنس والجن}: يريدُ: المتمردِّين من النوعَيْن، و{يُوحِي}: معناه: يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاةِ والسِّرَارِ، و{زُخْرُفَ القول}: محسَّنه ومُزَيَّنه بالأباطيل؛ قاله عكرمة ومجاهد، والزخرفة؛ أكثر ما تستعملُ في الشرِّ والباطل، و{غُرُوراً}: مصدرٌ، ومعناه يغرُّون به المضلَّلين، والضمير في {فعَلُوهُ} عائدٌ على اعتقادهم العداوةَ، ويحتملُ على الوحْيِ الذي تضمَّنه {يُوحِي}. وقوله سبحانه: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}: لفظٌ يتضمَّن الأمر بالموادعة، وهو منسوخٌ؛ قال قتادة: كُلُّ ذَرْ في كتاب اللَّه منسوخٌ بالقتالِ. .تفسير الآيات (113- 115): وقوله سبحانه: {ولتصغى}: معناه: لِتَمِيلَ، قال الفَخْر: والضميرُ في قوله: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} يعود على زُخْرفِ القولِ، وكذلك في قوله: {وَلِيَرْضَوْهُ} والاقترافُ: معناه الاكتساب. وقال الزجَّاج: و{ليقترفوا}، أي: يختلقوا ويَكْذِبوا، والأول أفصحُ. انتهى. والقُرَّاء على كسر اللامِ في الثلاثةِ الأفعالِ؛ على أنها لام كَيْ معطوفة على غُروراً و{حُكْماً} أبلغُ من حاكِمٍ؛ إذ هي صيغةٌ للعَدْلِ من الحكام، والحاكم جَارٍ على الفعل، فقَدْ يقال للجائِرِ، و{مُفَصَّلاً}: معناه: مزالُ الإشكال، والكتاب أولاً هو القرآن، وثانياً اسم جنسٍ للتوراةِ والإنجيلِ والزبورِ والصُّحُفِ. وقوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين}: تثبيتٌ ومبالغةٌ وطَعْنٌ على الممترين. قلتُ: وقد تقدَّم التنبيهُ على أنه صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ، وأنَّ الخطاب له، والمراد غيره ممَّنْ يْمُكِنُ منه الشَّكُّ. وقوله سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً...} الآية: {تَمَّتْ}؛ في هذا الموضع: بمعنى: استمرت وصحَّتْ في الأزل صدقاً وعدلاً، وليس بتمامٍ مِنْ نقصٍ، ومثله ما وقَع في كتب السِّيرة مِنْ قولهم: وتَمَّ حَمْزَةُ على إسْلاَمِهِ، في الحديثِ مع أبي جهل، والكلماتُ: ما أنزل على عباده، و{لاَ مُبَدِّلَ لكلماته}: معناه: في معانيها. .تفسير الآيات (116- 118): وقوله سبحانه: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض...} الآية: المعنى: فامض، يا محمَّد لما أُمِرْتَ به، وبلِّغ ما أُرْسِلْتَ به، فإنك إنْ تطع أكثر من في الأرض يضلُّوك، قال ابنُ عباس: الأرض هنا: الدنيا، وحُكِي أنَّ سبب هذه الآية أنَّ المشركين جادلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في أمر الذبائحِ، وقالوا: أتأكُلُ ما تقتُلُ، وتترُكُ ما قَتَلَ اللَّه، فنزلَتِ الآية، ثم وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتَدُون بطُنُونهم ويتَّبعون تخرُّصهم، والخَرْصُ: الحَرْز والظنُّ، وهذه الآية خبر في ضمْنه وعيدٌ للضالِّين، ووعدٌ للمهتدين، وقوله سبحانه: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُم بآياته مُؤْمِنِينَ...} الآية: القصْد بهذه الآية النهْيُ عما ذبح للنُّصُب وغيرها، وعن الميتة وأنواعها، ولا قصد في الآية إلى ما نَسِيَ المؤمن فيه التسميَة أو تعمَّدها بالترْكِ. .تفسير الآيات (119- 121): وقوله سبحانه: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ...} الآية: {ما}: استفهام يتضمَّن التقريرَ، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}، أي: فصَّل الحرامَ من الحلالِ، وانتزعه بالبيانِ، و{ما} في قوله: {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ}، يريد بها: مِنْ جميع ما حَرَّم؛ كالميتة وغيرها، وهي في موضع نَصْب بالاستثناء، والاستثناءُ منقطعٌ. وقوله سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً} يريد الكفرة المحادِّين المجادلين، ثم توعَّدهم سبحانه بقوله: {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين}. وقوله جلَّت عظمته: {وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} نهْيٌ عامٌّ، والظاهرُ والباطنُ: يستوفيان جميع المعاصي، وقال قوم: الظاهر: الأعمالُ، والباطنُ: المعتَقَد، وهذا أيضاً حسن؛ لأنه عامٌّ، وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده، عن أبي أُمَامة، قال: «سَأَلَ رجُلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: مَا الإثْمُ؟ قَالَ: مَا حَكَّ فِي صَدْرِكَ، فَدَعْهُ»، وروى ابن المبارك أيضاً بسنده؛ أنَّ رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ» فَقَالَ: أَنَا ذَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ، فَدَعْهُ» انتهى، وقد ذكرنا معناه مِنْ طرُقٍ في غير هذا الموضعِ، فأغنى عن إعادته. ثم توعَّد تعالى كَسَبَةَ الإثمِ بالمجازاةِ على ما اكتسبوه من ذلك، والاقتراف: الاكتساب. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ...} الآية: مقصد الآية النهْيُ عن الميتة؛ إذ هي جواب لقول المشركين: تَتْرُكُونَ ما قَتَلَ اللَّهُ، ومع ذلك، فلفظها يعمُّ ما تُرِكَتِ التسميةُ عليه من ذبائِحِ الإسلام، وبهذا العمومِ تعلَّق ابن عمر وابنُ سيرينَ والشَّعْبِيُّ وغيرهم؛ فقالوا: ما تُرِكَتِ التسميةُ علَيْه، لم يؤكَلْ، عمداً كان أونسياناً، وجمهورُ العلماء على أنه يؤكل إن كان تركُها نسياناً؛ بخلاف العَمْدِ، وقيل: يؤكل، سواءٌ تركَتْ عمداً أو نسياناً، إلا أنْ يكون مستخِفًّا. وقوله تعالى: {وَإِنَّ الشياطين...} الآية: قال عكرمة: هم مَردَةُ الإنس من مجوسِ فَارِس، وذلك أنهم كانوا يوالُونَ قُرَيْشاً على عداوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ}؛ من قريش {ليجادلوكم}؛ بقولهم: تأكلون ما قَتَلْتُمْ ولا تأكلون ما قَتَلَ اللَّه؛ فذلك من مخاطبتهمْ هو الوحْيُ، والأولياء هم قريشٌ، وقال ابن زَيْد وعبد اللَّه بن كثير: بل الشياطينِ الجِنُّ، واللفظة على وجْهها، وأولياؤهم: كَفَرة قريش، ووحْيُهم بالوسوسة، وعلى ألسنة الكُهَّان. ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمَّن الوعيدَ وعرض أصعب مثالٍ في أن يشبه المؤمن بالمُشْرك، قال ابن العربيِّ: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ}، سمَّى اللَّه تعالى ما يقع في القلوبِ في الإلهام وحياً، وهذا مما يطلقه شيوخُ المتصوِّفة، وينكره جُهَّال المتوسِّمين بالعلْمِ، ولم يعلموا أن الوحْيَ على ثمانيةِ أقسامٍ، وأن إطلاقه في جميعها جائزٌ في دِينِ اللَّه. انتهى من أحكام القرآن. .تفسير الآيات (122- 124): وقوله سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه}، لما تقدَّم ذكْر المؤمنين، وذكْر الكافرين، مثَّل سبحانه في الطائفتين بأنْ شَبَّه الذين آمنوا بَعْد كفرهم بأمواتٍ أُحْيُوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشَبَّه الكافرين وحَيْرَةَ جهلهم بقَوْمٍ في ظلمات يتردَّدون فيها، ولا يمكنهم الخروجُ منها؛ ليبيِّن عزَّ وجلَّ الفرق بيْنَ الطائفتَيْن، والبَوْن بين المنزلتَيْن، و{نُوراً} أمكن ما يعني به الإيمان، قيل: ويحتمل أن يراد به النُّور الذي يُؤْتَاهُ المؤمن يوم القيامة، {وَجَعَلْنَا}؛ في هذه الآية: بمعنى صَيَّرنا، فهي تتعدى إلى مفعولَيْن، الأول: {مُجْرِمِيهَا}، والثاني: {أكابر}، وفي الكلام؛ على هذا: تقديمٌ وتأخير، وتقديره: وكذلك جعلنا في كلِّ قريةٍ مجرميها أَكَابِرَ، وقدَّم الأهمَّ؛ إذ لعلَّة كِبْرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعولُ الأول: {أكابر}، و{مجرميها}؛ مضافٌ، والمفعولُ الثانيِ: في قوله: {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ}، و{لِيَمْكُرُواْ}: نصب بلامِ الصيرورةِ؛ والأكابر: جمع أكْبَر؛ كما الأفاضلُ جمع أفْضَل، قال الفَخْر: وإنما جعل المجرمين أكابر؛ لأنهم لأجل رياستهم أقْدَرُ على الغَدْرِ والمَكْرِ ورُكُوبِ الباطلِ من غيرهم؛ ولأن كثرة المال والجاه يَحْمِلاَنِ الإنسان على المبالغةِ في حِفْظهما؛ وذلك الحِفْظُ لا يتمُّ إلا بجميع الأخلاق الذميمةِ؛ كالغَدْر والمَكْر والكَذِب والغِيبة والنَّميمة والأَيْمَان الكاذبة؛ ولو لم يكن للمالِ والجاهِ سوى أنَّ اللَّه تعالى حَكَم بأنه إنما وصفَ بهذه الأوصافِ الذميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه، لكفى ذلك دليلاً على خَسَاسة المالِ والجَاهِ. انتهى، وما ذكره من المال والجاه هو الأغلَبُ. {ومايَشْعُرُونَ}، أي: ما يعلمون. وقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ}، أي: علامةٌ ودليلٌ على صحَّة الشرع، تشطَّطوا، وقالوا: لَنْ نؤمن حتَّى يُفْلَقَ لنا البَحْرُ، ويحيى لنا الموتى، ونحْوَ ذلك، فردَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كَفَرَ، وجعل يتشطَّط على اللَّه سبحانه، قال الفَخْر: قال المفسِّرون: قال الوليدُ بْنُ المُغِيرَةِ: لو كانتِ النبوَّة حقًّا، لكنْتُ أولى بها، قال الضَّحَّاك: أراد كلُّ واحد من هؤلاء الكفرة أنْ يُخَصَّ بالوحْيِ والرسالةِ؛ كما أخبر عنهم سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] انتهى. ثم توعَّد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند اللَّه صَغَارٌ وذلَّة. .تفسير الآيات (125- 129): وقوله سبحانه: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام...} الآية: {مَنْ}: شَرْطٌ، و{يَشْرَحْ} جوابُ الشرط. والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدى المؤمن، وضلالَ الكافر، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا: هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ، وشَرْحُ الصدرِ: هو تسهيلُ الإيمان، وتحبيبُه، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ، والصَّدْر: عبارةٌ عن القلب، وفي {يَشْرَحْ} ضمير يعود على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنى، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، والقولُ بأنه عائدٌ على المَهْدِيِّ قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ، والحَذَرُ منه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ، انشرح لَهُ الصَّدْرُ، وانفسح، قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ عَلاَمَةٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، قَبْلَ المَوْتِ»، والقول في قوله: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} كالقول في قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ}، وقرأ حمزة وغيره: حَرَجاً بفتح الراء، وروي أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قرأها يوماً بفتح الراء، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء، فقال: ابغوني رجُلاً من كِنَانَةَ، وليكنْ رَاعياً، وليكُنْ من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يَا فتى، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ؟ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة، قال عمر: كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير. وقوله سبحانه: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء}، أي: كأنَّ هذا الضَّيِّقَ الصَّدْرِ متى حاول الإيمان أو فكَّر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذُ باللَّه، كصعوبةِ الصُّعود في السماء، قاله ابن جُرَيْج وغيره، و{فِي السماء}، يريد: مِنْ سفل إلى علوٍ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود؛ كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء، ويَصْعَدُ: معناه: يعلو، ويَصَّعَّدُ: معناه: يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه. وقوله: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس}، أي: وكما كان الهدى كله من اللَّه، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته؛ كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ، قال أهل اللغة: الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ، ويأتي بمعنى النَّجَس. وقوله تعالى: {وهذا صراط رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرْعِ الذي جاء به نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس، و{فَصَّلْنَا}، معناه: بيَّنا وأوضحنا. وقوله سبحانه: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: {لَهُمْ دَارُ السلام} عائد عليهم، والسَّلام: يتجه أن يكون اسما من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، ويتجه أن يكون مصدراً بمعنى السلامة. وقوله تعالى: {عِندَ رَبِّهِمْ} يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليُّهم، أي: وليُّ الإنعام عليهمْ، و{بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، أي: بسَبَبِ ما كانوا يُقَدِّمون من الخير، ويفعلون من الطاعة والبر. وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس}، والمعنى: واذكر يَوْمَ، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: نقول: يا معشر الجنِّ، وقوله: {قَدِ استكثرتم}: معناه: أفرطتم، و{مِّنَ الإنس}: يريد: في إضلالهم وأغوائهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الكُفَّار من الإنْس، وهم أولياء الجنِّ الموبَّخين؛ على جهة الاعتذار عن الجنِّ: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}، أي: انتفع؛ وذلك كاستعاذتهم بالجنِّ؛ إذ كان العربيُّ إذا نزل وادياً، ينادي: يا رَبَّ الوادِي، إنِّي أستجيرُ بك في هذه الليلة، ثم يرى سلامته إنما هي بحفْظِ جَنِّيِّ ذلك الوادِي، ونحو ذلك، وبلوغُ الأجَلِ المؤجَّلِ: هو الموتُ، وقيل: هو الحشر. وقوله تعالى: {قَالَ النار مَثْوَاكُمْ...} الآية: إخبارٌ من اللَّه تعالى عما يقولُ لهم يوم القيامة إثْرَ كلامهم المتقدِّم، و{مَثْوَاكُمْ}، أي: مَوْضِعُ ثَوَابكُمْ؛ كَمُقَامِكُمُ الذي هو مَوْضِعُ الإقامة؛ قاله الزَّجَّاج، والاستثناءُ في قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ الله} قالتْ فرقة: {مَا} بمعنى مَنْ، فالمراد: إلا مَنْ شاء اللَّه مِمَّنْ آمن في الدنيا بعد، إن كان مِنْ هؤلاء الكَفَرة، وقال الطبريُّ: إن المستثنى هي المُدَّة التي بَيْنَ حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الطبريُّ، عن ابن عباس: إنه كان يتأوَّل في هذا الاستثناء؛ أنه مبلغ حالِ هؤلاء في علْمِ اللَّه، ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحَدٍ أنْ يحكم على اللَّه في خَلْقه لا يُنْزِلُهم جنَّةً ولا ناراً. قال * ع *: والإجماع على التخليد الأبديِّ في الكُفَّار، ولا يصحُّ هذا عن ابن عباس رضي اللَّه عنه. قال * ص *: {إِلاَّ مَا شَاءَ الله}: قيل: استثناء منقطعٌ، أي: لكِنْ ما شاء اللَّه مِنَ العذابِ الزائِدِ على النَّار، وقيل: متصلٌ، واختلفوا في تقديره، فقيل: هو استثناء مِنَ الأشخاصِ، وهم مَنْ آمن في الدنيا، ورُدَّ بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون منقطعاً لا متصلاً؛ لأنَّ مِنْ شرط المتصل اتحاد زمانَيِ المُخْرَجِ والمُخْرَجِ منه. انتهى، وقيل غير هذا. وقوله سبحانه: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً}، قال قتادة: معناه: نجعل بعضهم وليَّ بعض في الكفر والظلم، وقال أيضاً: المعنى نجعلُ بعضهم يَلِي بعضاً في دخول النار، وقال ابن زيد: معناه: نسلِّط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء النقمة منهم. قال * ع *: وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين؛ كقول ابن الزُّبَيْر: أَلاَ إنَّ فَمَ الذِّبَّانِ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ؛ و{كذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
|