الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (7- 9): وقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ...} الآية: {تأَذَّن}: بمعنى آذَنَ، أي: أعلم. قال بعضُ العلماء: الزيادةُ على الشُّكر ليستْ في الدنيا، وإِنما هي مِنْ نعم الآخرةِ، والدنيا أهْوَنُ من ذلك. قال * ع *: وجائزٌ أن يزيدَ اللَّه المؤمِنَ علَى شُكْره من نعمِ الدنيا والآخرةِ، والكُفْرِ؛ هنا: يحتمل أن يكون على بابه، ويحتملُ أنْ يكون كفرَ النِّعَمِ، لا كفْرَ الجَحْد، وفي الآية ترجيةٌ وتخويفٌ، وحكى الطبريُّ عن سفيان وعن الحسن؛ أنهما قَالاَ: معنى الآية: لَئِنْ شكرتم لأَزيدنكم مِنْ طاعتي. قال * ع *: وضعَّفه الطبريُّ، وليس كما قال، بل هو قويٌّ حَسَنٌ، فتأمَّلَهُ. * ت *: وتضعيفُ الطبريِّ بيِّن؛ من حيثُ التخصيصُ، والأصلُ التعميمُ. وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ}: هذا أيضاً من التذْكير بأيام اللَّه، وقوله سبحانه: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}: قيل: معناه: رَدُّوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم؛ إِشارةً على الأنبياء بالسُّكوت، وقال الحسن: رَدُّوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسُل تسكيتاً لهم، وهذا أشنَعُ في الرَّدِّ. .تفسير الآيات (10- 14): وقوله عز وجل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ}: التقدير: أفي إِلاهية اللَّه شَكٌّ أو: أفي وحدانيَّة اللَّهِ شكٌّ، و{ما}؛ في قوله {مَا ءَاذَيْتُمُونَا} مصدريَّة، ويحتملُ أنْ تَكُونَ موصولةً بمعنى الذي، قال الداودي: عن أبي عُبَيْدةً {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي}: مجازه حيثُ أَقيمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ للحسابِ انتهى. قال عبد الحقِّ في العاقبة قال الربيع بن خَيْثَمٍ: مَنْ خافَ الوعيدَ، قَرُبَ عليه البعيد، ومَنْ طال أمله، ساء عمله. انتهى، وباقي الآية بيِّن. .تفسير الآيات (15- 16): وقوله سبحانه: {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: {استفتحوا}: أي: طلبوا الحُكْم، والفَتَّاح الحاكم، والمعنَى: أنَّ الرسل استفتحوا، أيْ: سألوا اللَّه تبارَكَ وتعالَى إِنفاذَ الحُكْمِ بنصرهم. وقيل: بلِ استفتح الكفَّارُ على نحو قولِ قريشٍ: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا...} [ص: 16] وعلى نحو قول أبي جَهْل يوم بَدْرٍ: اللَّهم، أقطعنا للرَّحِمِ، وأتيانا بمَا لاَ نَعْرِفُ، فاحنه الغَدَاةَ، وهذا قولُ ابنِ زيدٍ، وقرأَتْ فرقةٌ: {واستفتحوا}- بكسر التاء-؛ على معنى الأمر للرسُلِ، وهي قراءَة ابن عبَّاس ومجاهدٍ وابن مُحَيْصِنٍ: {وَخَابَ}: معناه: خسر ولم ينجحْ، وال {جَبَّارٍ}: المتعظِّم في نفسه، وال {عَنِيدٍ}: الذي يعاند ولا يناقد. وقوله: {مِّن وَرَائِهِ}: قال الطبري وغيره: مِنْ أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79]، وليس الأمر كما ذكروا، بل الوَرَاءُ هنا وهنَاكَ على بابه، أي: هو ما يأتي بَعْدُ في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحَوَادِثِ بالأَمَامِ والوراءِ، إِنما هو بالزَّمَانِ، وما تقدَّم فهو أمام، وهو بَيْن اليد؛ كما نقول في التوراة والإِنجيل: إنهما بيْنَ يدَي القرآن، والقرآنُ وراءهم، وعلَى هذا فما تأخَّر في الزمَانِ فهو وراء المتقدِّم، {ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ}: الصديد: القَيْح والدمُ، وهو ما يسيلُ من أجْسَادِ أهْلِ النَّار؛ قاله مجاهد والضَّحَّاك. .تفسير الآيات (17- 21): وقوله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}: عبارةٌ عن صعوبة أمره عليهم، وروي أنَّ الكافر يؤتَى بالشَّرْبة من شراب أهْل النَّار، فيتكَّرهها، فإِذا أدنيَتْ منه، شَوَتْ وجهه، وسقَطَتْ فيها فروة رأسِهِ، فإِذا شربها، قَطَّعت أمعاءه، وهذا الخبر مفرَّق في آيات من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}، أي: مِنْ كل شعرة في بَدَنِهِ؛ قاله إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ، وقيل: مِنْ جميع جهاته السِّتِّ، {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}: لا يراحُ بالموت، {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: قال الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ العذابُ الغليظ: حَبْسُ الأنفاسِ في الأجسادِ، وفي الحديث: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ تَكَلَّمُ بِلَسَانٍ طَلِقٍ ذَلِقٍ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَلَهَا لِسَانٌ تَكَلَّمُ بِهِ، فَتَقُولُ: إِنِّي أُمِرْتُ بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلها آخَرَ، وبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وبِمَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَتَنْطَلِقُ بِهِمْ قَبْلَ سَائِرِ النَّاسِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فتنطوي علَيْهم، فتقذفُهُمْ في جهنَّم»، خرَّجه البزَّار، انتهى من الكوكب الدري. وقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وصف اليوم بالعُصُوفِ، وهي من صفات الريحِ بالحقيقة؛ لما كانت في اليوم، كقول الشاعر: [الطويل] وباقي الآية بيِّن. {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا}: معناه: صاروا في البِرَازِ، وهي الأرضُ المتَّسِعَة، {فَقَالَ الضعفاء}، وهم الأتْبَاعُ {لِلَّذِينَ استكبروا}، وهم القادة وأهْلُ الرأْي، وقولهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} المحيصُ: المفرُّ وَالمَلْجَأَ مأخوذٌ منِ حَاصَ يَحيصُ؛ إِذا نفر وفر؛ ومنه في حديث هِرَقْلَ: فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلى الأَبْوَابِ وروي عن ابن زيدٍ، وعن محمد بن كَعْب؛ أن أهْلَ النار يقولُونَ: إِنما نال أَهْلُ الجَنَّةِ الرحْمَةَ بالصبر على طاعة اللَّه، فتعالَوْا فَلْنَصْبِرْ، فَيَصْبِرُونَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، فلا ينتفعونَ، فيقولُون: هلمَّ فَلْنَجْزَعْ، فَيَضِجُّونَ ويَصِيحُونَ ويَبْكُونَ خَمْسَمِائَةِ سنة أُخرَى، فحينئذٍ يقولُونَ هذه المقَالَةَ {سَوَاءٌ عَلَيْنَا...} الآية، وظاهر الآية أنهم إِنما يقولونها في مَوْقِفِ العرْض وقْتَ البروز بين يَدَي اللَّه عزَّ وجلَّ. .تفسير الآيات (22- 23): وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر}: المراد هنا ب {الشَّيْطَان} إِبليسُ الأَقْدَمُ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طريق عُقْبَة بنِ عَامِرٍ، أَنه قال: يقوم يومَ القيَامَةِ خَطيبَان؛ أَحدهما: إِبليسْ يقوم في الكَفَرة بهذه الأَلْفَاظِ، والثاني: عيسَى ابنُ مَرْيَمَ يقومُ بقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ...} الآية [المائدة: 117]، وروي في حديث؛ أنَّ إِبليس إِنما يقوم بهذه الألفاظ في النَّار علَى أهلها عند قولهم: {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21] في الآية المتقدِّمة؛ فعلى هذه الرواية، يكون معنى قوله: {قُضِيَ الأمر}، أي: حصل أهْلُ النار في النَّار، وأهْلُ الجنة في الجنة، وهو تأويلُ الطبريِّ. وقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سلطان}: أي: من حجة بيِّنة، و{إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ}؛ استثناء منقطعٌ، ويحتملُ أنْ يريد ب السُّلْطان في هذه الآية: الغلبة والقُدْرة والمُلْك، أي: ما اضطررتكم، ولا خوَّفتكم بقُوَّة منِّي، بلْ عرضْتُ عليكم شيئاً فأَتَى رأْيُكُمْ عليه. وقوله: {فَلاَ تَلُومُونِي}: يريد: بزعمه؛ إِذ لا ذَنْبَ لي، {وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، أي: في سوء نَظَركم في اتباعي، وقلَّةِ تثبُّتكم؛ {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}: المُصْرِخُ: المغيث، والصَّارِخُ: المستغيث، وأما الصَّريخ، فهو مصدَرٌ بمنزلة البَريح، وقوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ}: ما مصدريةٌ، وكأنه يقول: إِني الآن كافرٌ بإِشراككم إِيَّايَ مع اللَّه قَبْلَ هذا الوَقْتِ، فهذا تَبَرٍّ منه، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: الإِذن؛ هنا: عبارةٌ عن القضاء والإِمضاء. .تفسير الآيات (24- 26): وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}: {أَلَمْ تَرَ}: بمعنى: ألم تعلَمْ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمة الطَّيِّبة: هي لا إله إِلا اللَّه، مَثَّلها اللَّه سبحانه بالشَّجَرة الطَّيِّبة، وهي النَّخْلة في قول أكثر المتأوِّلين، فكأنَّ هذه الكلمة أصلها ثابتٌ في قلوبِ المؤمنين، وفَضْلُها وما يَصْدُرُ عنها من الأفعال الزكيَّة وأنواعِ الحسناتِ هو فَرْعُها يَصْعُد إِلى السماء مِنْ قِبَلِ العبدِ، والحِين: القطعةُ من الزمان غيرُ مَحْدُودةٍ؛ كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]، وقد تقتضي لفظة الحِينِ بقرينتها تحديداً؛ كهذه الآية، والكلمةُ الخبيثةُ: هي كلمة الكفر، وما قاربها مِنْ كلامِ السوءِ في الظلمِ ونحوه، والشجرة الخبيثة: قال أكثر المفسِّرين: هي شجرة الحَنْظَل؛ ورواه أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذا عندي عَلَى جهة المَثَلِ، {اجتثت}: أي: اقتلعت جثتها بنزع الأصولِ، وبقيَتْ في غاية الوهَنِ والضَّعْفِ، فتقلبها أقلُّ ريحٍ، فالكافر يَرَى أنَّ بيده شيئاً، وهو لا يستقرُّ ولا يُغْنِي عنه؛ كهذه الشجرة الذي يُظَنُّ بها عَلَى بُعْدِ أو للجَهْلِ بها أنها شيءٌ نافع، وهي خبيثةُ الجَنَي غير باقية. .تفسير الآيات (27- 30): وقوله سبحانه: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة}: {القول الثابت فِي الحياة الدنيا}: كلمةُ الإِخلاصِ والنجاةِ من النَّار: لا إله إِلا اللَّه، والإِقرارُ بالنبوَّة، وهذه الآية تعمُّ العالَمَ مِنْ لدنْ آدم عليه السلام إِلى يوم القيامةِ. قال طَاوُسٌ، وقتادة، وجمهور من العلماء: {الحياة الدنيا} هي مدَّة حياةِ الإِنسان، {وَفِي الأخرة} وَقْتُ سؤاله في قَبْرِهِ، وقال البَرَاء بنَ عَازِبٍ وجماعة: {فِي الحياة الدنيا}: هي وقتُ سؤاله في قَبْره، ورواه البَرَاءُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في لفظ متأوَّلٍ، وفي الآخرة: هو يوم القيامة عندَ العَرْض، والأولُ أحسن، ورجَّحه الطبريُّ. * ت *: ولفظ البخاريِّ عن البراءِ بْنِ عازِبٍ أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي القَبْرِ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة}» انتهى، وحديثُ البَرَاءِ خَرَّجه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والنسائيُّ وابنُ ماجه، قال صاحب التذكرة: وقد رَوَى هذا الحديثَ أبو هريرة وابن مسعود وابنُ عباس وأبو سَعِيدٍ الخدريُّ قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: كُنَّا في جنازةٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى في قُبُورِهَا فإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ...» الحديثَ، وفيه: فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلاَّ هَبلَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة وَيُضِلُّ الله الظالمين وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ}» انتهى. قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البِرِّ: وُروِّينا من طرق؛ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ: «كَيْفَ بِكَ يَا عُمَرُ، إِذَا جَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، إِذَا مُتَّ، وانطلق بِكَ قَوْمُكَ، فَقَاسُوا ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ وشِبْراً في ذِرَاعٍ وَشِبْرٍ، ثُمَّ غَسَّلُوكَ، وَكَفَّنُوكَ، وَحَنَّطُوكَ، ثُمَّ احتملوك، فَوَضَعُوكَ فِيهِ، ثُمَّ أَهَالُوا عَلَيْكَ التُّرَابَ، فَإِذَا انصرفوا عَنْكَ أَتَاكَ فَتَّانَا الْقَبْرِ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَصْواتُهُمَا كَالرَّعْدِ القَاصِفِ، وَأَبْصَارُهُمَا كَالبَرْقِ الخَاطِفِ يَجُرَّانِ شُعُورَهُمَا مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ، لَوْ اجتمع عَلَيْهَا أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يَقْلِبُوهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِن فَرِقْنَا فَحَقٌّ لَنَا أَنْ نَفْرَقَ أَنُبْعَثُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: إِذَنْ أَكْفِيَكَهُمَا»، انتهى، والظالمون؛ في هذه الآية: الكافرون، {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ}، أي: بحقِّ الملك؛ فلا رادَّ لأَمره، ولا معقِّب لِحُكْمه، وجاءتْ أحاديثٌ صحيحةٌ في مُسَاءلة العبد في قبره، وجماعة السُّنَّة تقولُ: إِنَّ اللَّه سبْحَانه يَخْلُقُ للعَبْدِ في قَبْرِهِ إِدراكاتٍ وتحصيلاً: إِما بحياةٍ؛ كالمتعارفة، وإِما بحضورِ النَّفْس، وإِن لم تتلبَّس بالجَسَدِ كالعُرْف، كلُّ هذا جائزٌ في قُدْرة اللَّه تَبَارَكَ وتعالى غير أنَّ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ؛ «أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ»، ومنها: أنه يرى الضوء كَأَنَّ الشمْسَ دَنَتْ للغروب، وفيها أنه يُرَاجَعُ، وفيها: «فَيُعَادُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ»، وهذا كلُّه يتضمَّن الحياةَ، فسُبْحَانَ مَنْ له هذه القدرةُ العظيمةُ، وقوله سبحان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا}: المراد ب {الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله}: كَفَرَةُ قُريشٍ، وقد خرَّجه البخاريُّ وغيره مسنداً عن ابن عباس انتهى، والتقديرُ: بدَّلوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْراً، ونِعْمَةُ اللَّه تعالى؛ في هذه الآية: هو محمَّد صلى الله عليه وسلم ودِينُهُ، {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ}، أي: مَنْ أطاعهم، وكأنَّ الإِشارة والتعنيف إِنما هو للرؤوس والأَعْلاَمِ، و{البوار}: الهلاك، قال عطاءُ بنُ يَسَارٍ: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في قَتْلَى بدْر، والأنداد: جمع نِدٍّ، وهو المثيلُ، والمرادُ: الأصنام، واللام في قوله: {لِّيُضِلُّواْ}- بضم الياء-: لام كَيْ، وبفتحها: لامُ عاقبةٍ وصيرورةٍ، والقراءتان سبعيَّتَانِ. .تفسير الآيات (31- 34): وقوله سبحانه: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة...} الآية: العباد: جمع عبدٍ، وعُرْفُه في التكرمة بخلافِ العبيدِ، والسر: صدقة التنقُّل، والعلانية: المفروضةُ؛ هذا هو مقتضى الأحاديثِ، وفسر ابن عباس هذه الآية بزكَاةِ الأَموالِ مجملاً، وكذلك فسَّر الصلاة؛ بأَنها الخَمْسُ وهذا عندي منه تقريبٌ للمخاطَب. والخلال: مصدرٌ من خَالَلَ، إِذا وادَّ وصافَى؛ ومنه الخُلَّة والخَلِيلَ، والمراد بهذا اليومِ يَوْمُ القيامة. وقوله سبحانه: {الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ}: هذه الآيةُ تذكيرٌ بآلائه سُبْحانه، وتنبيهٌ على قدرته التي فيها إِحْسَان إِلى البَشَر؛ لتقوم الحُجَّة عليهم، وقوله: {بِأَمْرِهِ}: مصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وهذا راجعٌ إِلى الكلامِ القديمِ القائِمِ بالذاتِ، و{دَائِبَيْنِ}: معناه: متمادِيَيْنِ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الجَمَلِ الذي بَكَى وأَجْهَش إِليه: «إِنَّ هَذَا الجمَلَ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبَه»، أي: تديمه في الخِدْمَة والعَمَل، وظاهرُ الآية أنَّ معناه: دائبَيْن في الطلوع والغروبِ وما بينهما من المَنَافِعِ للناسِ التي لا تحصَى كثرةً، وعن ابن عباس أَنَّه قال: معناه: دائِبَيْنِ في طاعة اللَّه، وقوله سبحانه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} المعنى: أنَّ جنس الإِنسان بجملته قد أوتي من كلِّ ما شأنه أنْ يسأل وينتفع به، وقرأ ابن عباس وغيره: {مِنْ كُلٍّ مَّا سَأَلْتُمُوهُ}- بتنوين كُلٍّ-، وروِيت عن نافع، وقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}، أي: لكثرتها وعِظَمها في الحَوَاس والقُوَى، والإِيجادِ بعد العَدَمِ والهدايةِ للإِيمان وغيرِ ذلك، وقال طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ حقَّ اللَّه تعالى: أَثْقَلُ من أَنْ يَقُومَ به العُبَّادُ، ونِعْمَهُ أَكثر مِنْ أَنْ يحصيها العبَادُ، ولكنْ أصْبِحُوا توَّابين، وأمْسُوا تَوَّابِين. * ت *: وَمِنْ الكَلِمِ الفارقيَّة: أيها الحَرِيصُ على نيلِ عَاجِلِ حظِّه ومراده؛ الغافلُ عن الاستعداد لمعاده تنبَّه لعظمة مَنْ وجودُكَ بإِيجادِهِ؛ وبقاؤك بإِرْفاده؛ ودوامك بإِمداده، وأنْتَ طفلٌ في حَجْر لُطْفه؛ ومهد عَطْفه؛ وحضانة حفظه، يغذِّك بلِبَانِ بِرِّهِ؛ ويقلِّبك بأيدي أياديه وفضله؛ وأنتَ غافلٌ عن تعظيم أمره؛ جاهلٌ بما أولاَكَ من لَطِيف سِرِّه؛ وفضَّلك به على كثيرٍ من خَلْقه، واذكر عهد الإِيجاد، ودوام الإِمْدَاد والإِرفاد؛ وحالَتَيِ الإِصْدَار والإِيراد؛ وفاتحة المبدأ وخاتمةَ المَعَاد. انتهى. وقوله سبحانه: {إِنَّ الإنسان}: يُريدُ به النوَعَ والجنْسَ، المعنَى: توجَدُ فيه هذه الخِلاَلُ، وهي الظُّلْم والكُفْر، فإِن كانَتْ هذه الخِلاَلُ من جاحِدٍ، فهي بصفةٍ، وإِن كانَتْ من عاصٍ فهي بصفةٍ أُخرَى.
|