فصل: تفسير الآيات (49- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (34- 37):

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}
وقوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ}: أوْبَقْتُ الرَّجُلَ: إذا أَنْشَبْتَهُ في أمْرٍ يَهْلِكُ فِيهِ، وهو في السفُنِ تغريقها و{بِمَا كَسَبُواْ} أي: بذنوب رُكَّابها، وقرأ نافع، وابن عامر: {وَيَعْلَمُ} بالرفع؛ على القطع والاستئناف، وقرأ الباقون والجمهور: {وَيَعْلَمَ} بالنصب؛ على تقدير {أنْ}، و{المَحِيصُ}: المنجى، وموضعُ الرَّوَغَانِ.
ثم وعَظَ سبحانه عبادَهُ، وحَقَّر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورَغَّبَهُمْ فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه، وعَظَّم قَدْرَ ذلك في قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِّن شَئ فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وقرأ الجمهور: {كبائر} على الجمع؛ قال الحسن: هي كُلُّ ما تُوُعِّدَ فيه بالنار، وقد تقدَّم ما ذَكَرَهُ الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها، {والفواحش}: قال السُّدِّيُّ: الزنا، وقال مقاتل: مُوجِبَاتُ الحدود.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} حَضٌّ على كسر الغضب والتدرُّب في إطفائه؛ إذ هو جمرةٌ من جَهَنَّمَ، وبَابٌ مِنْ أبوابها، وقال رجلٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْني، قَال: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ»، ومَنْ جاهد هذا العَارِضَ مِنْ نَفْسِهِ حتى غَلَبَهُ، فقدْ كُفِيَ هَمًّا عظيماً في دنياه وآخرته.
* ت *: وروى مالكٌ في المُوَطَّإ أَنَّ رجُلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فأنسى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَغْضَبْ» قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أراد: عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بكلماتٍ قليلةٍ؛ لئلاَّ أنسى إنْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ، ثم أسند أبو عُمَرَ من طُرُقٍ عن الأحنفِ بن قَيْسٍ عن عَمِّه جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ، أَنَّه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لِي؛ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، قَال: «لاَ تَغْضَبْ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِراراً، كُلُّها يُرَجِّعُ إليه رسُولُ اللَّه: لاَ تَغْضَبْ»، انتهى من التمهيد، وأسند أبو عُمَرَ في التمهيد أيضاً عن عبد اللَّه بن أبي الهُذَيْلِ قال: لما رأى يحيى أَنَّ عيسى مُفَارِقُهُ قال له: أَوْصِنِي، قَالَ: لا تَغْضَبْ، قال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قال: لا تَقْتَنِ مَالاً، قال عَسَى. انتهى. وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ أقال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنْهُمْ، وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قال ابن المُبَارَكِ: وأخبرنا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ قال: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى يَقُولُ: «مَنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي في مَلإَ ذَكَرْتُهُ في مَلإَ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ فَلَمْ أَمْحَقْهُ فِيمَنْ أَمْحَقُ» انتهى.

.تفسير الآيات (38- 41):

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}
وقوله تعالى: {والذين استجابوا} مَدْحٌ لكلِّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ، وقَبِلَ شَرْعَهُ، ومَدَحَ اللَّهُ تعالى القَوْمَ الذين أَمْرُهُمْ شورى بينهم؛ لأنَّ في ذلك اجتماعَ الكلمة، والتَّحَابُّ، واتصالَ الأيْدِي، والتَّعَاضُدَ على الخير، وفي الحديث: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إلاَّ هُدُوا لأَحْسَنِ، مَا بِحَضْرَتِهِمْ». وقوله تعالى: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} معناه: في سبيل اللَّه، وبِرَسْمِ الشَّرْعِ؛ وقال ابن زيد قوله تعالى: {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ...} الآية، نزلت في الأَنصار، والظاهر أَنَّ اللَّه تعالى مدح كلَّ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفةِ كائناً مَنْ كَانَ، وهل حَصَلَ الأنصارُ في هذه الصفة إلا بعد سَبْقِ المهاجرين إليها رضي اللَّهُ عَنْ جميعهم بِمَنِّه وكرمهِ.
وقوله عز وجل: {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ}: مدح سبحانه في هذه الآية قوماً بالانتصار مِمَّنْ بَغَى عليهم، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا: الانتصار بالواجب تغيير منكر، قال الثعلبيُّ: قال إبراهيم النَّخَعِيُّ في هذه الآية: كانوا يكرهون أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} قيل: سُمِّي الجزاء باسم الابتداء، وإن لم يكن سيئة، لتشابههما في الصورة، قال * ع *: وإنْ أخذنا السيِّئة هنا بمعنى المصيبة في حَقِّ البشر، أي: يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر فلسنا نحتاج إلى أنْ نقول: سمى العقوبة باسم الذنب؛ بل الفعل الأَوَّلِ والآخر سيئة، قال الفخر: اعلم أَنَّهُ تعالى لما قال: {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} أردفه بما يَدُلُّ على أَنَّ ذلك الانتصار يجب أَنْ يكون مُقَيَّداً بالمثل؛ فإنَّ النقصان حَيْفٌ، والزيادة ظلم، والمساواة هو العدل؛ فلهذا السبب قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} انتهى؛ وَيَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ونحوه من الآي، واللام في قوله: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} لام التقاء القسم.
وقوله: {مِّن سَبِيلٍ} يريد: من سبيل حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار، والخلاف فيه: هل هو بين المؤمن والمُشْرِكِ، أو بين المؤمنين؟.

.تفسير الآيات (42- 45):

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)}
وقوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس...} الآية، المعنى: إنما سبيل الحكم والإثم على الذين يظلمون الناس، روى التَّرْمِذِيُّ عن كعب بن عُجْرَةَ قال: قال لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،: «أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا كَعْبُ مِنْ أُمَرَاءٍ يَكُونُونَ، فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ في كَذِبِهِمْ، وأَعَانَهُمْ على ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلاَ يَرِدُ عَلَي الْحَوْضِ، يا كَعْبُ، الصَّلاَةُ بُرْهَانٌ، والصَّبْرُ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخطيئة كما يُطْفِئ الماءُ النَّارَ، يا كَعْبُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلاَّ كَانَتِ النَّارُ أولى بِهِ». قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، وخرَّجه أيضاً في كتاب الفتن وصحَّحه، انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل} إلى قوله: {أَلِيمٌ}: اعتراضٌ بَيْنَ الكلامَيْنِ، ثم عاد في قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} إلى الكلام الأول، كأنَّه قال: ولمنِ انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِكَ ما عليهم من سبيل، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ...} الآية، واللام في قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} يصِحُّ أنْ تكون لام قَسَمٍ، ويصح أنْ تكون لام الابتداء، و{عَزْمِ الامور}: مُحْكَمُهَا ومُتْقَنُهَا، والحميدُ العاقبةِ منها، فمَنْ رأى أَنَّ هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين، وأنَّ الصبر للمشركين كان أفضل قال: إنَّ الآية نسخت بآية السيف، ومَنْ رأى أَنَّ الآية بين المؤمنين، قال: هي مُحْكَمَةٌ، والصبر والغفران أفضل إجماعاً، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقَيَامَةِ، نادى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَيَقُومُ عَنَقٌ مِنَ النَّاسِ كَبِيرٌ، فَيُقَالُ: مَا أَجْرُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا في الدُّنْيَا»
وقوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ} تحقير لأمر الكَفَرَةِ، أي: فلا يُبَالي بهم أحدٌ من المؤمنين؛ لأنَّهم صائرون إلى ما لا فلاحَ لهم معه، ثم وصف تعالى لنبيِّه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب، وقولهم: {هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} ومرادهم: الرَّدُّ إلى الدنيا، والرؤية هنا رؤيةُ عَيْنٍ، والضميرُ في قوله: {عَلَيْهَا} عائدٌ على النار، وإنْ لم يتقدَّم لها ذِكْرٌ من حيثُ دَلَّ عليها قوله: {رَأَوُاْ العذاب}.
وقوله: {مِنَ الذل} يتعلق ب {خاشعين}.
وقوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىِّ} قال قتادة والسُّدِّيُّ: المعنى: يسارقون النَّظَرَ؛ لما كانوا فيه من الهَمِّ وسوء الحال لا يستطيعون النَّظَرَ بجميعِ العَيْنِ؛ وإنَّما ينظرون ببعضها؛ قال الثعلبيُّ: قال يونس: {مِنْ} بمعنى الباء، ينظرون بطرف خَفِيٍّ، أي: ضعيف؛ من أجل الذُّلِّ والخوف، ونحوُه عن الأخفش، انتهى، وفي البخاريِّ {مِن طَرْفٍ خَفِىِّ}، أي: ذليل.
وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين ءَامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة...} الآية، وقول {الذين ءَامَنُواْ} هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء مُنْقَلَبِهِمْ.
وقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ الظالمين في عَذَابٍ مُّقِيمٍ} يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين يومئذ، حكاه اللَّه عنهم، ويحتمل أَنْ يكون استئنافاً من قول اللَّه عز وجل وأخباره لنبيه محمد عليه السلام.

.تفسير الآيات (46- 48):

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله...} الآية، إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها، واعتقدَتْ ذلك دِيناً، ثم أَمَرَ تعالى نِبِيَّه أنْ يأمرهم بالاستجابة لدعوة اللَّه وشريعته من قبل إتيان يوم القيامة الذي لا يُرَدُّ أحد بعده إلى عمل، قال * ع *: في الآية الأخرى في سورة ألم غلبت الروم: ويحتمل أن يريد: لا يَرُدُّه رَادٌّ حتى لا يقع، وهذا ظاهر بحسب اللفظ،، والنكير: مصدر بمعنى الإنكار؛ قال الثعلبيُّ: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ}: أي مَعْقِل، {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} أي: من إنكارٍ على ما ينزل بكم من العذاب بغير ما بكم، انتهى.
وقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ...} الآية تسلية للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والإنسان هنا اسم جنس، وجَمَعَ الضمير في قوله: {تُصِبْهُمْ} وهو عائد على لفظ الإنسان من حيث هو اسم جنس.

.تفسير الآيات (49- 51):

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}
وقوله تعالى: {للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ...} الآية، هذه آية اعتبار دَالٍّ على القُدْرَةِ والمُلْكِ المحيط بالجميع، وأَنَّ مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه وفي كُلِّ أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإنَّ الذي يخلق ما يشاء هو اللَّه تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق؛ فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} أي: ينوعهم ذكراناً وإناثاً، وقال محمد بن الحَنَفِيَّةِ: يريد بقوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} التَّوْءَمَ، أي: يجعل في بطن زوجاً من الذُّرِّيَّة ذكراً وأنثى، والعقيم: الذي لا يُولَدُ له، وهذا كله مُدَبَّرٌ بالعلم والقدرة وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث؛ تأنيساً بِهِنَّ لِيُهْتَمَّ بصونهنَّ والإحسانِ إليهنَّ، وقال النبيُّ عليه السلام: «مَنِ ابتلي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ»، وقال واثلةُ بْنُ الأَسْقَعِ: مِنْ يُمْنِ المَرْأَةِ تبكيرُها بالأنثى قبل الذكر؛ لأنَّ اللَّه تعالى بدأ بِذِكْرِ الإناث؛ حكاه عنه الثعلبيُّ قال: وقال إسحاق بن بِشْرٍ: نزلَتْ هذه الآيةُ في الأَنبياء، ثم عَمَّتْ ف {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} يعني: لوطاً عليه السلام، و{وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} يعني: إبراهيم عليه السلام، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا} يعني: نِبِيَّنَا محمَّداً عليه السلام، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} يعني: يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاء عليهما السلام.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءٍ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً...} الآية، نزلَتْ بسبب خَوْضٍ كان للكفار في معنى تكليم اللَّه موسى ونحو ذلك، ذهَبَ قريشٌ واليهودُ في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مُبَيِّنَةً صورةَ تكليم اللَّه عبادَهُ، كيف هو، فَبَيَّنَ اللَّه تعالى أَنَّهُ لا يكُونُ لأَحَدٍ مِنَ الأنبياءِ، ولا ينبغِي له، ولا يمكنُ فيه أنْ يُكَلِّمه اللَّه إلاَّ بأَنْ يوحي إليه أحَدَ وجوه الوَحْيِ من الإلهام؛ قال مجاهد: أوِ النَّفْثِ في القَلْبِ، أو وَحْيٍ في منام، قال النَّخَعِيّ: وكانَ من الأنبياء مَنْ يُخَطَّ له في الأرض ونحو هذا، أو بأنْ يُسْمِعَهُ كلامه دون أن يعرف هو للمتكلِّم جهةً ولا حَيِّزاً كموسى عليه السلام، وهذا معنى {مِن وَرَاءٍ حِجَابٍ} أي: من خفاء عن المُكَلَّم لا يحدُّه ولا يتسوَّر بذهنه عليه، وليس كالحجابِ في الشاهد، أو بأنْ يرسِلَ إليه مَلَكاً يُشَافِهُهُ بوحْي اللَّه عز وجل، قال الفخر: قوله: {فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أي: فيوحى ذلك المَلَكُ بإذن اللَّه ما يشاءُ اللَّه انتهى، وقرأ جمهور القُرَّاءِ والناس: {أَوْ يُرْسِلَ} بالنصب {فَيُوحَى} بالنصب أيضاً، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن عباس، وأهل المدينة: {أَوْ يُرْسِلُ} بالرفع فيوحي بسكون الياء، وقوله: {أَوْ مِن وَرَاءٍ حِجَابٍ} {مِنْ} متعلِّقةٌ بفعْلٍ يَدُلُّ ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلِّمه من وراء حجاب، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الرسالة من أنواع التكليم، وأَنَّ مَنْ حَلَفَ: لا يُكَلِّم فلاناً، وهو لم ينوِ المشافهة، ثم أرسل رسولاً حَنِثَ.

.تفسير الآيات (52- 53):

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا...} الآية، المعنى: وبهذه الطرق، ومن هذا الجنس أوحينا إليك، أي: بالرسول، والرُّوحُ في هذه الآية: القرآن آن وهدى الشريعة، سَمَّاه رُوحاً من حيث يُحْيي به البَشَرَ والعَالَم؛ كَما يُحْيِي الجسدَ بالروح، فهذا على جهة التشبيه.
وقوله تعالى: {مِّنْ أَمْرِنَا} أي: واحد من أُمورنا، ويحتمل أَنْ يكون الأمر بمعنى الكلام، {وَمِنْ} لابتداء الغاية.
وقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} توقيفٌ على مِقْدَارِ النعمةِ، والضميرُ في {جعلناه} عائدٌ على الكتابِ، و{نَّهْدِى} بمعنى: نُرْشِدُ، وقرأ جمهور الناس: {وإنَّكَ لَتَهْدِي} بفتح التاء وكسر الدال، وقرأ حَوْشَبٌ: {لتهدى} بضم التاء وفتح الدال، وقرأ عاصم: {لَتُهْدِي} بضم التاء وكسر الدال.
وقوله: {صراط الله} يعني: صراط شرع اللَّه، ثم استفتح سبحانه القَوْلَ في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه؛ مبالغةً وتحقيقاً وتثبيتاً، فقال: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الامور} قال الشيخُ العارفُ باللَّه أبو الحسن الشاذليُّ رحمه اللَّه: إنْ أردتَ أَنْ تغلب الشَّرَّ كُلَّه، وتلحق الخيرَ كُلَّه، ولا يَسْبِقَكَ سَابِق، وإنْ عمل ما عمل فقل: يا مَنْ له الخَيْرُ كُلُّهُ، أسألك الخيرَ كُلَّه، وأعوذ بك من الشَّرِّ كُلِّه، فإنَّك أنت اللَّه الغَنِيُّ الغفُورُ الرَّحِيم، أَسْأَلُكَ بالهادِي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صراطٍ مستقيمٍ، صراطِ اللَّهِ الذي له ما في السموات وما في الأرض، أَلاَ إلى اللَّه تصيرُ الأمور، اللَّهُمَّ، إنِّي أَسْأَلُكَ مَغْفِرَةً تَشْرَحُ بها صَدْرِي، وتَضَعُ بها وِزْرِي، وترفعُ بها ذِكْرِي، وتُيَسِّرَ بها أمري، وتُنَزِّهَ بها فكري، وتُقَدِّسَ بها سِرِّي، وتكشفَ بها ضُرِّي، وترفَعَ بها قَدْرِي؛ إنَّك على كُلِّ شَيْءٍ قدير، اه.
* قلت *: قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب}: هذا بَيِّنٌ، وقوله: {وَلاَ الإيمان}: فيه تأويلات: قيل معناه: ولا شرائع الإيمان ومعالمَه؛ قال أبو العالية: يعني: الدعوةَ إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفَضْل: يعني أهل الإيمان، مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، وقال ابن خُزَيْمَةَ: الإيمان هنا الصلاة؛ دليله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] قال ابن أبي الجَعْدِ وغيره: احترق مُصْحَفٌ فلم يبقَ منه إلاَّ: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} وغَرِقَ مصحفٌ فامحى كُلُّه إلاَّ قولَه: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} نقله الثعلبيُّ وغيره، انتهى.
قال العبد الفقير إلى اللَّه تعالى، عبدُ الرحمن بْنُ محمَّدِ بنِ مَخْلُوفٍ الثَّعَالِبيُّ، لَطَفَ اللَّه به في الدَّارَيْنِ: قد يَسَّر اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في تحرير هذا المختَصَر، وقد أودعتُهُ بحمد اللَّه جزيلاً من الدُّرُر، قد استوعبتُ فيه بحمد اللَّه مُهِمَّاتِ ابْنِ عطيَّةَ، وزدته فوائدَ جليلةً من غيره، وليس الخَبَرُ كالْعِيَانِ، تَوَخَّيْتُ فيه بحمد اللَّه الصَّوَاب؛ وجعلته ذخيرةً عند اللَّه لِيَوْمِ المآبِ، لا يَسْتَغْنِي عنه المُنْتَهِي؛ وفيه كفايةٌ للْمُبَتِدي، يستغني به عن المُطَوَّلاَت؛ إذْ قد حَصَّل منها لُبَابَهَا؛ وكَشَفَ عن الحقائقِ حِجَابَهَا.
التَّعْرِيفُ بِرِحْلَةِ المُؤَلِّف.
رحلْتُ في طَلَبِ العِلْمِ في أواخر القَرْنِ الثَّامِنِ، ودخلْتُ بِجَايَةَ في أوائل القرن التاسع، فلقيتُ بها الأَئمةَ المقتدى بهم، أَصحابَ سيِّدِي عبد الرحمنِ الوغليسيِّ متوافرِين، فحضَرْتُ مجالسَهُمْ، وكانَتْ عُمْدَةُ قراءتي بها على سيدي علي بن عثمان المَانْجِلاَتِيِّ رحمه اللَّه بمَسْجِدِ عَيْنِ البَرْبَرِ، ثم ارتحلْتُ إلى تُونُسَ، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأُبِّيَّ، والبرزليَّ، وغيرهم، وأخذْتُ عنهم، ثم ارتحلْتُ إلى المشرق، فلقيتُ بِمِصْرَ الشيْخَ وَلِيَّ الدِّينِ العِرَاقِي، فأخذْتُ عنه علوماً جَمَّةً مُعْظَمُهَا عِلْمُ الحديث، وفتح اللَّه لي فيه فتحاً عظيماً، وكتب لي وأَجَازَنِي جميعَ ما حضَرْتُهُ عليه، وأطلق في غيره، ثم لقيتُ بمَكَّةَ بعض المحدِّثين، ثم رجعتُ إلى الديار المصرية وإلى تُونُسَ، وشاركْتُ مَنْ بها، ولقيت بها شيخَنَا أبا عبد اللَّه محمَّدَ بْنَ مَرْزُوقٍ قادماً لإرادة الحَجِّ، فأخذتُ عنه كثيراً، وأجازني التدريسَ في أنواع الفُنُونِ الإسلاميَّةِ، وحَرَّضَنِي على إتمام تقييدٍ وضعتُه على ابن الحاجِبِ الفرعيِّ.
قلت: ولما فرغْتُ من تحرير هذا المختَصَرِ وافَقَ قدومَ شيخِنَا أبي عبد اللَّهِ محمد بن مرزوقٍ علينا في سَفْرَةٍ سافرها من تِلْمِسَانَ متوجِّهاً إلى تُونُسَ، ليصلح بَيْنَ سلطانها وبين صَاحِبِ تِلْمِسَانَ، فأوقفته على هذا الكتاب، فنظر فيه وأمعن النظر، فَسُرَّ به سروراً كثيراً ودعا لنا بخير، واللَّه الموفِّق بفَضْلِه.