الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (50- 53): وقوله سبحانه: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرسول...} الآية: لمَّا رأى المَلِكُ وحاضروه نُبْلَ التَّعْبِير وحُسْنَ الرأْيِ، وتضمَّن الغيب في أمْر العامِ الثامِنِ، مع ما وُصِفَ به من الصِّدْق عَظُمَ يوسُفُ في نَفْس الملك، وقال: {ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ}: يعني: المَلِكَ، {فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، وقصْدُه عَلَيْه السلام بيانُ براءته، وتحقُّق منزلته من العِفَّة والخَيْرِ، فرسَمَ القصَّة بطَرَف منها، إِذا وقع النظَرُ عَلَيْه، بان الأمْرُ كله، وَنَكَبَ عن ذِكْرِ امرأة العزيز؛ حُسْنَ عِشْرةٍ ورعايةٍ لذِمَامِ مُلْك العزيز له، وفي صحيح البخاري، عن عبد الرحمن بن القاسِمِ صاحبِ مَالِكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ولَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ لُبْثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» المعنى: لو كُنْتَ أنا، لَبَادَرْتُ بالخروج، ثم حاوَلْتُ بيان عُذْرِي بَعْدَ ذلك؛ وذلك أَنَّ هذه القصص والنوازل، إِنما هي معرَّضة ليقتدي النَّاسُ بها إِلى يوم القيامة، فأراد صلى الله عليه وسلم حَمْلَ الناسِ على الأحزمِ من الأمورِ؛ وذلك أن التارِكَ لمِثْلِ هذه الفُرْصَة ربَّما نَتَجَ له بسَبَبِ التأخير خلاَفُ مقصوده، وإِن كان يوسف قد أَمِنَ ذلك؛ بِعِلْمِهِ من اللَّه، فغيْرهُ من الناس لا يأمَنُ ذلك، فالحالة التي ذَهَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه إِلَيْها حالَةُ حَزْمٍ ومدحٍ؛ ليقتدى به، وما فعله يوسَفُ عليه السلام حالةُ صَبْرٍ وتجلُّد، قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: وانظر إِلى عظيمِ حلْمِ يوسُف عليه السلام وَوُفُورِ أدبه، كيف قال: {مَا بَالُ النسوة الاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، فذكر النساءَ جملةً؛ لتدخُلَ فيهنَّ امرأة العزيزِ مدْخَلَ العمومِ؛ بالتلويحِ دون التصريح. انتهى. وهذه كانَتْ أخلاقُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقابل أحداً بمكروهٍ، وإِنما يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا»، من غير تعيينٍ، وبالجملة فكلُّ خَصْلة حميدةٍ مذكُورَةٍ في القُرآنَ اتصف بها الأنبياءُ والأصفياءُ، فقد اتصف بها نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، إِذ كان خلقه القرآن، كما روته عائشةُ في الصحيحِ، وكما ذكر اللَّه سبحانه: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] انتهى. وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}، فيه وعيدٌ، وقوله: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}: المعنى: فَجَمَعَ المَلِكُ النِّسوة، وامرأة العزيزِ معَهُنَّ، وقال لهنَّ: {مَا خَطْبُكُنَّ...} الآية: أي: أيُّ شيء كانَتْ قصَّتَكُن، فجاوب النساءُ بجوابٍ جيدٍ، تظهر منه براءَةُ أَنفُسِهِنَّ، وأعطَيْنَ يوسُفَ بعْضَ براءةٍ، فقلْنَ: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}، فلما سمعت امرأة العزيزِ مقالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ، حضَرَتْها نيَّةٌ وتحقيقٌ، فقالتِ: {الآن حَصْحَصَ الحق}، أي: تبيَّنَ الحقُّ بعد خفائِهِ؛ قاله الخليل وغيره، قال البخاريُّ: حَاشَ وحَاشَى: تنزيهٌ واستثناء، وحَصْحَصَ: وَضَح. انتهى. ثم أقرَّتْ على نفسها بالمراودةِ، والتزمت الذنْبَ، وأبرأَتْ يوسُفَ البراءةَ التامَّة. وقوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} إِلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: اختلف فيه أَهْلُ التأويل، هل هو مِنْ قولِ يوسُفَ أَو من قول امرأة العَزِيزِ. .تفسير الآيات (54- 57): وقوله سبحانه: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}: المعنى: أن الملك، لَمَّا تَبَيَّنَتْ له براءة يُوسُفُ وتحقَّق في القصَّة أمانته، وفَهِمَ أيضاً صبره وعُلُوَّ همته، عظُمَتْ عنده منزلتُهُ، وتيقَّن حُسْنَ خلاله، فقال: {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}، فلما جاءه وكلَّمه قال: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}: قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: قوله: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}: أي: متمكِّن مما أردتَّ، أمين على ما ائتمنت عليه من شيء؛ أمَّا أمانته فلظهورِ براءَتِهِ، وأمَّا مكانته، فلثبوت عفَّته: ونَزَاهَتِهِ انتهى، وَلَمَّا فهم يوسُفُ عليه السلام من المَلِكِ أنَّه عزم على تصريفه والاستعانة بِنَظَرِهِ، قال: {اجعلني على خَزَائِنِ الأرض}، لما في ذلك من مصالح العباد. قال * ع *: وطِلبَةُ يوسُفَ للعملِ إِنما هي حِسْبَةٌ منه عليه السلام في رغبته في أنْ يقع العدلُ، وجائزٌ أيضاً للمرء أنْ يُثْنِيَ على نفسه بِالْحَقِّ، إِذا جهل أمره، و{خَزَائِنِ}: لفظٌ عامٌّ لجميع ما تختزنه المَمْلَكَة من طعامٍ ومالٍ وغيره. وقوله سبحانه: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض}: الإِشارة ب ذلك إِلى جميع ما تقدَّم من جميلِ صنعِ اللَّه به، فروي أن العزيز ماتَ في تلك الليالي، وقال ابنُ إِسحاق: بل عَزَلَه المَلِكُ، ثم مات أظفير، فولاه المَلِكُ مكانَهُ، وَزَوَّجَه زوجَتَهُ، فلما دخَلَتْ علَيْه عَرُوساً، قال لها: أَلَيْسَ هذا خيراً مما كُنْتِ أردتِّ، فدخَلَ يوسُفُ بها، فَوَجَدَهَا بكْراً، وولَدَتْ له ولدَيْنِ، ورُوِيَ أيضاً؛ أَنَّ الملك عزَلَ العزيزَ، وولَّى يوسُفَ موضعَهُ، ثم عظُمَ مُلْكُ يوسُفَ وتغلَّب على حالِ المَلِكِ أجمع، قال مجاهدٌ: وأسْلَمَ المَلِكِ آخِرَ أمْره، ودَرَسَ أمر العزيز، وذهبتْ دنياه، وماتَ، وافتقرت زوجته، وشاخَتْ، فلما كان في بعض الأيامِ، لَقِيَتْ يوسُفَ في طريقٍ، والجنودُ حوله ووراءه، وعلى رأسه بُنُودٌ عليها مكتوبٌ: {هذه سَبِيلِي أَدْعُواْ إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} [يوسف: 108] فَصَاحَتْ به، وقالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ أَعَزَّ العبيدَ بالطَّاعةَ، وأذَلَّ الأربابَ بالمَعْصِيةِ، فعرفَهَا، وقالَتْ له: تَعَطَّفَ عَلَيَّ وارزقني شيئاً، فدعا لها، وكلَّمها، وأشفَقَ لحالها ودعا اللَّه تعالى فرَدَّ عليها جمالَهَا، وتزوَّجها، ورُوِيَ في نحو هذا مِنَ القصص ما لا يُوقَفُ على صحَّته، ويطولُ الكلامُ بسَوْقه، وباقي الآية بيِّن واضحٌ للمستبصرين، ونورٌ وشفاءٌ لقلوب العارفين. وقوله: {لِيُوسُفَ}: أبو البقاء: اللام زائدةٌ، أي: مَكَّنّا يُوسُفَ، ويجوز ألا تكون زائدة، فالمفعول محذوفٌ، أي: مكنا ليوسف الأمورَ. انتهى. .تفسير الآيات (58- 67): وقوله عز وجل: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}، قال السدِّيُّ وغيره: سبب مجيئهم أنَّ المجاعة اتصلت ببلادِهِمْ، وكان النَّاس يمتارُونَ مِنْ عنْد يوسُف، وهو في رتبة العزيز المتقدِّم، وكان لا يعطي الوارد أكثر مِنْ حِملٍ بَعِيرٍ يُسَوِّي بين الناس، فلما ورد إِخوته، عَرَفَهم، ولم يَعْرفُوه لِبُعْدِ العهد وتغيُّر سنِّه، ولم يقعْ لهم بَسَبِب مُلْكه ولسانِهِ القبْطِيِّ ظنٌّ عليه، ورُوِيَ في بعض القصص، أنه لما عرفهم أراد أنْ يخبروه بجميعِ أمرهم، فباحَثَهُمْ بأنْ قال لهم بتَرْجُمَانٍ: أُظنُّكُمْ جواسِيسَ، فاحتاجوا حينئذٍ إِلى التعريفِ بأنفسهم، فقالوا: نَحْنُ أبناءُ رجُلٍ صِدِّيقٍ، وكنا اثْنَيْ عَشَرَ ذهب منَّا واحدٌ في البَرِّيَّة، وبقي أصغرنا عنْدَ أبينا، وجئْنَا نَحْن للميرة، وسقنا بعير الباقي منَّا، وكنا عَشَرَةً، ولهم أحدَ عَشَرَ بعيراً، فقال لهم يوسف: ولِمَ تخلَّفَ أحدكم؟ قالوا: لمحبَّة أبينا فيه، قال: فأتوا بهذا الأخِ؛ حتى أعلم حقيقة قَوْلِكم، وأرَى لِمَ أحَبُّهُ أبوكم أَكْثَرَ منكم؛ إِن كنتم صادقين، وروي في القصص أنهم وَرَدُوا مصْرَ واستأذنوا على العزيز، وانتسبوا في الاستئذان، فعرفَهُمْ، وأمر بإِنزالهم وأدخَلَهم في ثاني يومٍ على هيئة عظيمةٍ لمُلْكِه، وروي أنه كان متلثِّماً أبداً سَتْراً لجماله، وأنه كان يأخذ الصُّوَاع، فينقره، ويَفْهم منْ طنينه صدْقَ الحديثِ منْ كذبه، فَسُئِلوا عن أخبارهم، فكلَّما صدقوا، قال لهم يوسف: صَدَقْتم، فلما قالوا: وكَانَ لَنَا أخٌ أكله الذِّئب، أطنَّ يوسُفُ الصُّواع، وقال: كَذَبْتم، ثم تغيَّر لهم، وقال: أراكُمْ جواسيسَ، وكلَّفهم سَوْقَ الأخ الباقي؛ ليظهر صدْقُهم في ذلك؛ في قصصٍ طويلٍ، جاءت الإِشارة إِليه في القرآن، والجهاز ما يحتاج إِليه المسافر من زَادٍ ومتاعٍ. وقوله: {بِأَخٍ لَّكُم} * ص *: نَكَّرَهُ، ليريهم أنه لا يعرفُهُ، وفَرْقٌ بين غلامٍ لك، وبين غلامِكَ، ففي الأول أنت جاهلٌ به، وفي الثاني أنْتَ عالمٌ، لأن التعريف به يفيدُ نَوْعَ عهدٍ في الغلامِ بَيْنَكَ وبين المخاطَب، انتهى. وقول يوسف: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الكيل...} الآية: يرغِّبهم في نفسه آخراً ويؤَنِّسهم ويَسْتميلهم، و{المنزلين}: يعني: المُضِيفين، ثم توعَّدهم بقوله: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ}، أي: في المستأنف، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كَانَ يُوسُفُ يُلْقِي حَصَاةً في إِنَاءِ فِضَّةٍ مَخُوصٍ بالذَّهَبِ فَيَطِنُّ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الإِنَاءَ يُخْبِرُنِي أَنَّ لَكُمْ أَباً شَيْخاً»، ورُوِيَ أنَّ ذلك الإِناء به كان يَكِيلُ الطعامَ، إِظهاراً لِعزَّته بحسب غَلاَئِهِ، وروي أن يوسُفَ استوفى في تلك السنين أمْوَالَ الناسِ، ثم أملاكَهم، وظاهر كُلِّ ما فعله يوسُفُ معهم أنَّه بوحْيٍ وأمْرٍ، وإِلا فَكَانَ بِرُّ يعقوب يقتضي أن يبادِرَ إِلَيْهِ ويستَدْعيه، لكنَّ اللَّه تَعَالى أَعلمه بما يَصْنَعُ؛ ليكمل أجْرَ يعقوب ومِحْنته، وتتفسَّر الرؤيا الأُولى. وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا}: يريد: لعلَّهم يعرفون لها يداً وتكرمةً يَرَوْنَ حقَّها؛ فيرغبون في الرجوعِ إِلينا، وأما مَيْزُ البِضَاعة، فلا يُقَالُ فيه: لَعَلَّ وقيل: قصد يوسف بِرَدِّ البضاعة أنْ يتحرَّجوا مِنْ أخْذِ الطعامِ بِلا ثَمنٍ، فيرجعوا لدَفْعِ الثمنِ، وهذا ضعيفٌ من وجوهٍ، وسرُورُهُم بالبضَاعةِ، وقولهم: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} يكشف أنَّ يوسف لم يَقْصِدْ هذا، وإِنما قصد أنْ يستميلهم، ويصلهم، ويُظْهِر أَنَّ ما فعله يوسف من صلتهم وجَبْرهم في تِلْكَ الشِّدَّة كان واجباً عليه، وقيلَ: عَلِمَ عَدَمَ البضاعةِ والدَّراهمِ عند أبيه؛ فرَدَّ البضاعة إِليهم؛ لئِلاَّ يمنعهم العُدْمُ من الرجوعِ إِليه، وقيل: جعلها توطئةً لجعل السقاية في رَحْلِ أخيه بعد ذلك، ليبيِّن أنه لم يَسْرِقْ لمن يتأمَّل القصَّة، والظاهر منَ القصَّة أنه إِنما أَراد الاستئلاف وصِلَةَ الرحِمِ، وأصْلُ {نَكْتَلْ}: نَكْتَئِل، وقولهم: {مُنِعَ مِنَّا الكيل}: ظاهره أنهم أشاروا إِلى قوله: {فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي}، فهو خوفٌ في المستأنفِ، وقيل: أشاروا إِلى بعيرِ يَامِينَ، والأولْ أرجَحُ، ثم تضمَّنوا له حِفْظَه وحَيْطَته، وقول يعقوبَ عليه السلام: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ...} الآية: {هَلْ} توقيفٌ وتقريرٌ ولم يصرِّح بمنعهم مِنْ حمله؛ لما رأَى في ذلك مِنَ المصلحة، لكنَّه أعلمهم بقلَّة طَمَأْنينَتِهِ إِليهم، ولكنْ ظاهر أمرهم أنهم قد أنابُوا إِلى اللَّه سُبْحانه، وانتقلَتْ حالهم، فلم يَخَفْ على يَامِينَ، كخوفه علَى يوسُفَ، وقرأ نافعٌ وغيره: {خَيْرٌ حِفْظاً}، وقرأ حمزة وغيره: {خَيْرٌ حَافِظاً}، ونصب ذلك في القراءتين؛ على التمييز والمعنى: أنَّ حفظ اللَّه خَيْرٌ من حفْظِكم، فاستسلم يعقوبُ عليه السلام للَّهِ، وتوكَّل علَيْه، وقولهم: {مَا نَبْغِي}: يحتمل أنْ تكون ما استفهاما؛ قاله قتادة: و{نَبْغِي}: من البُغْية، أي: ماذا نَطْلُبُ بَعْدَ هذه التَّكْرِمَة؛ هذا مَالُنَا رُدَّ إِلينا مع مِيرَتِنا، قال الزَّجَّاج: ويحتمل أنْ تكون ما نافية، أي: ما بقي لنا ما نَطْلُبُ، ويحتمل أنْ تكون أيضاً نافيةً، و{نَبْغِي} من البَغْيِ، أي: ما تَعَدَّيْنا فَكَذَبْنا على هذا المَلِكِ، ولا في وَصْف إِجماله وإِكرامه، هذه البضاعةُ رُدَّت إِلينا، وقرأ أبو حَيْوة: {ما تَبْغِي}؛ على مخاطبة يعقوبَ، وهي بمعنى ما تُرِيدُ، وما تطلب وقولهم: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} يريدون بَعِيرَ أخيهم؛ إِذ كان يوسُفُ إِنما حمل لهم عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ، ولم يحملِ الحادِيَ عشر؛ لغيب صاحبه، وقولهم: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ}: قيل: معناه: يسيرٌ على يوسف أنْ يعطيه. وقال السدِّيَّ: {يَسِيرٌ}، أي: سريع لاَ نُحْبَسُ فيه ولا نُمْطَلُ. وقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} الآية: أي لمَّا عاهدوه، أشْهَدَ اللَّه بينه وبينهم بقوله: {الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}، والوكيلُ: القيِّم الحافظُ الضَّامن. وقوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}: لفظٌ عامٌّ لجميع وجوه الغَلَبة، وانظر أنَّ يعقوبَ عليه السلام قد توثَّق في هذه القصَّة، وأشْهَدَ اللَّه تعالى، ووصَّى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكُّله، فهذا توكُّل مع سبب، وهو توكُّل جميعِ المؤمنين إِلا مَنْ شَذَّ في رَفْض السعْي بالكليَّة، وقَنِعَ بالماء وبَقْلِ البَرِّيَّة، فتلك غايَةُ التوكُّل، وعليها بعضُ الأنبياء عليهم السلام، والشارعُونَ منهم مثبتون سُنَنَ التسبُّب الجائز، قال الشيخُ العارِفُ باللَّه عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبي جَمْرَةَ رضي اللَّه عنه: وقد اشتمل القُرْآنَ على أَحكامٍ عديدةٍ، فمنها: التعلُّق باللَّه تعالَى، وتركُ الأسبابِ، ومنها: عمل الأسبابِ في الظاهِرِ، وخُلُوُّ الباطن من التعلُّق بها، وهو أجلُّها وأزكاها؛ لأن ذلك جَمْعٌ بينَ الحكمَةِ وحقيقة التَّوْحيد، وذلك لا يكُونُ إِلا للأفذاذِ الذين مَنَّ اللَّه عليهم بالتوْفِيق؛ ولذلك مَدَحَ اللَّه تعالَى يعقُوبَ عليه الصلاة والسلام في كتابه، فقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68] لأنه عمل الأسباب، واجتهد في توفيتها، وهو مقتضَى الحكمةِ، ثم رَدَّ الأمر كلَّه للَّه تعالى، واستسلم إِليه، وهو حقيقةُ التَّوحيد، فقال: {وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِنِ الحكم إِلاَّ لِلَّهِ...} الآية:، فأثنَى اللَّه تعالَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ جمعه بَيْن هاتين الحَالَتَيْنِ العظيمتين. وقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ}: قيل: خَشِيَ عليهم العَيْنَ، لكونهم أحَدَ عَشَر لرجلٍ واحدٍ، وكانوا أهْلَ جمالٍ وبَسْطة؛ قاله ابن عباس وغيره. .تفسير الآيات (68- 69): وقوله سبحانه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم}، روي أنه لَمَّا ودَّعوا أباهم، قال لهم: بَلِّغوا مَلِكَ مِصْر سَلاَمِي، وقولُوا له: إِنَّ أَبانا يصلِّي عليك، ويَدْعُو لك، ويَشْكُر صنيعك مَعَنَا، وفي كتاب أبي مَنْصُورٍ المهرانيِّ أنه خاطَبَه بكتابٍ قُرِئ على يوسف، فبكَى. وقوله سبحانه: {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}: بمثابة قولهم: لم يكُنْ في ذلك دَفْعُ قَدَرِ اللَّه، بل كان أرَباً ليعقُوبَ قضاه، فالاستثناء ليس من الأولِ، والحاجةُ هي أنْ يكون طَيِّب النفْس بدخولهم من أبواب متفرِّقة؛ خَوْفَ العين، ونظير هذا الفعْلِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَدَّ كُوَّةً في قَبْرٍ بِحَجَرٍ، وقال: «إِنَّ هَذَا لاَ يُغْنِي شَيْئاً، ولكِنَّهُ تَطْيِيبٌ لِنَفْسِ الحَيِّ»، ثم أثنى اللَّه عزَّ وجلَّ على يعقوب؛ بأنه لُقِّنَ ما علَّمه اللَّه من هذا المَعْنى، وأن أكثر الناس لَيْسَ كذلك، وقال قتادة: معناه: لَعَامِلٌ بما علَّمناه، وقال سفيان: من لا يعمل لاَ يَكُونُ عالماً. قال * ع *: وهذا لا يعطيه اللفْظُ، أمَّا أنَّه صحيحٌ في نفسه يرجِّحه المعنى وما تقتضيه منزلةُ يعقُوبَ عليه السلام. وقوله: {إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ} قال ابنُ إِسحاق وغيره: أخبره بأنه أخوهُ حقيقةً، واستكتمه، وقال له: لا تبال بكلِّ ما تراه من المَكْروه في تَحَيُّلي في أخْذِكَ منهم، وكان يَامِينُ شقيقَ يُوسُفَ. وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: يحتمل أنْ يشير إِلى ما عمله الإِخوة، ويحتمل الإِشارة إِلى ما يعمله فتيانُ يُوسُفَ من أمْرِ السقاية، ونحو ذلك، و{تَبْتَئِسْ}: من البُؤْس، أي: لا تَحْزَنْ، ولا تَهْتَمَّ، وهكذا عَبَّر المفسِّرون.
|