الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (70- 71): وقوله سبحانه: {ياأيها النبي قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، روي أنَّ الأسرَى بِبَدْرٍ أعلموا رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ لهم مَيْلاً إِلى الإِسلام، وأنهم إِنْ رجعوا إِلى قومهم، سَعَوْا في جلبهم إِلى الإِسلام، قال ابن عَبَّاس: الأَسْرَى في هذه الآية: عَبَّاسٌ وأصحابه، قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئْتَ به، ونشهد إِنك لَرَسُولُ اللَّه، ولَنَنْصَحَنَّ لك علَى قومنا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، ومعنى الكلام: إِن كان هذا عَنْ جِدٍّ منكم، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ أَنفسكم الخَيْرَ والإِسلام، فإِنه سيجبر عليكم أَفْضَلَ مما أَعطيتم فديةً، ويغفرْ لكم جميعَ ما اجترمتموه، وروي أنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي اللَّه عنه قال: فيَّ وفي أصْحَابِي نَزَلَتْ هذه الآيةُ، وقال حِينَ أعطاه رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مالِ البَحْرَيْنِ ما قَدِّرَ أنْ يقول: هذا خَيْرٌ ممَّا أُخِذَ مِنِّي، وأنا بَعْدُ أَرجُو أنْ يَغْفِرَ اللَّهِ لِي، وروي عنه؛ أنه قال: ما أَوَدُّ أَنَّ هذه الآية لَمْ تَنْزِلْ، ولي الدنيا بأجمعها؛ وذلك أن اللَّه تعالى قد أتاني خَيْراً مما أُخِذَ مني، وأنا أرجو أَنْ يَغْفِرَ لي، وقوله: {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} أي: بالكُفْر، {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي: بأن جعلهم أسْرَى، {والله عَلِيمٌ} فيما يبطنونه، {حَكِيمٌ} فيما يجازيهم به. .تفسير الآية رقم (72): وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، مَقْصِدُ هذه الآية وما بعدها: تبيينُ منازل المهاجرين والأنصار، والمؤمنين الذين لم يُهَاجِرُوا، وذكر المهاجرين بَعْد الحديبية، فقدَّم أوَّلاً ذِكْرَ المهاجرين، وهُمْ أصل الإِسلام، وتأمَّل تقديمَ عُمَرَ لهم في الاستشارةِ، وَهَاجَرَ: معناه: هَجَرَ أهله وقرابته، وهَجَرُوهُ، {والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ}: هم الأنصارُ، فحكَمَ سبحانه على هاتَيْنِ الطائفتين؛ بأن بَعْضَهُم أولياءُ بَعْضٍ، فقال كثيرٌ من المفسِّرين: هذه الموالاةُ: هي المؤازرة، والمعاونة، واتصال الأيدي، وعليه فَسَّر الطبريُّ الآية، وهذا الذي قالوه لازم من دلالة لفظ الآية، وقال ابن عبَّاسٍ وغيره: هذه الموالاةُ هي في المواريث؛ وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجريُّ إذا ماتَ، ولم يكُنْ له بالمدينةِ وليٌّ مهاجريٌّ، ورثه أخوه الأنْصَارِيُّ، وكان المسلم الذي لم يُهَاجِرْ لا ولايَةَ بينه، وبَيْنَ قريبه المهاجريِّ، ولا يرثه، ثم نُسِخَ ذلك بقوله سبحانه: {وَأُوْلُواْ الأرحام...} الآية [الأنفال: 75]؛ وعلى التأويلين، ففي الآية حضٌّ على الهجرة، قال أبو عُبَيْدَة: الوِلاَيَةُ- بالكسر- من وَليتُ الأَمْرَ إِليه، فهي في السلطان، وبالفَتْحِ هي من المَوْلَى؛ يقال: مَوْلَى بَيِّنَ الوَلاَيَةِ- بفتح الواو-. وقوله سبحانه: {وَإِنِ استنصروكم}، يعني: إِن استدعى هؤلاء- المؤمنون الذين لم يُهَاجِروا نَصْرَكُمْ- {فَعَلَيْكُمُ النصر إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}؛ فلا تنصروهم عليهم؛ لأَنَّ ذلك غَدْرٌ ونقْضٌ للميثاق. .تفسير الآيات (73- 75): وقوله سبحانه: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}؛ وذلك يجمع الموارثَةَ والمعاوَنَةَ والنُّصْرة، وهذه العبارةُ تحريضٌ وإِقامةٌ لنفوس المؤمنين؛ كما تقولُ لمن تريدُ تحريضَهُ: عَدُوُّكَ مُجْتَهِدٌ أي: فاجتهد أَنْتَ، وحكى الطبريُّ في تفسير هذه الآية، عن قتادة؛ أنه قال: أبَى اللَّهُ أَن يقبل إِيمانَ مَنْ آمن ولم يُهَاجرْ، وذلك في صَدْر الإِسلام، وفيهم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ المُشْرِكِينَ لاَ تَتَرَاءَى نَارُهُمَا» الحديثَ على اختلاف ألفاظه، وقول قتادة، إِنما هو فيمن كان يُقيمُ متربِّصاً يقول: مَنْ غَلَبَ، كُنْتُ معه؛ وكذلِكَ ذُكِرَ في كتاب الطَّبريِّ، وغيره، والضميرُ في قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ}، قيل: هو عائدٌ على المُؤازرة والمعاونة، ويحتملُ على الميثاق المذكور، ويحتملُ على النَّصْر للمسلمين المستَنْصِرِينَ، ويحتمل على الموارثَة والتزامها، ويجوز أَن يعود مجملاً على جميعِ ما ذُكِرَ، والفتْنَةُ: المِحْنَة بالحَرْب وما انجر معها؛ من الغارَاتِ، والجلاءِ، والأسر، والفسادُ الكَبيرُ: ظُهُورُ الشِّرْك. وقوله سبحانه: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً}، تضمَّنت الآيةُ تخصيصَ المهاجرين والأنصار، وتشريفَهم بهذا الوَصْف العظيمِ. * ت *: وهي مع ذلك عند التأمُّل يلوح منها تأويل قتادَةَ المتقدِّم، فتأمَّله، والرزْقُ الكريمُ: هو طعام الجنَّة؛ كذا ذكر الطبريُّ وغيره. قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: وإِذا كان الإِيمان في القَلْب حقًّا، ظهر ذلك في استقامة الأعمال؛ بامتثال الأمر واجتناب المَنْهِيِّ عنه، وإِذا كان مجازاً، قَصَّرت الجوارحُ في الأعمال؛ إذ لم تبلغ قوَّتُهُ إليها. انتهى. {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ}: قوله: {من بعد}، يريدُ به مِنْ بَعْدِ الحُدَيْبِيَةِ؛ وذلك أن الهجرة مِنْ بعدِ ذلك كانَتْ أقلَّ رتبةً من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهِجْرَةُ الثانية، {وجاهدوا مَعَكُمْ}: لفظٌ يقتضي أنهم تَبَعٌ لا صَدْرٌ. وقوله سبحانه: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله}، قالَ مَنْ تقدَّم ذكره: هذه في المواريثِ، وهي ناسخةٌ للحُكْم المتقدِّم ذكْرُهُ. وقالتْ فرقة، منها مالك: إن الآية لَيْسَتْ في المواريث، وهذا فَرارٌ من توريثِ الخَالِ والعَمَّة ونحو ذلك. وقالَتْ فرقة: هي في المواريث، إِلا أنها نُسِخَتْ بآية المواريث المبيّنة، وقوله: {فِى كتاب الله}: معناه: القرآن، أي: ذلك مُثْبَتٌ في كتاب اللَّه. وقيل: في اللَّوْحِ المحفوظِ. كَمَلَ تفسيرُ السُّورة، والحَمْدُ للَّهِ، وصلَّى اللَّه علَى سيِّدنا محمَّد وآله وَصَحْبِهِ وسَلَّم تسليماً. .تفسير سورة براءة: وتسمى سورة التوبة قاله حذيفة وغيره. وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس وقال: ما زال ينزل ومنهم ومنهم حتى ظن أنه لا يبقى أحد وهي من آخر ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم. قال علي رضي الله عنه لابن عباس: بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبشارة، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود؛ فلذلك لم تبدأ بالأمان. .تفسير الآيات (1- 2): قوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُّمْ مِّنَ المشركين}، التقدير: هذه الآيةُ براءَةٌ، ويصحُّ أن يرتفع {براءَةٌ}؛ بالابتداء، والخَبَرُ في قوله: {إِلَى الذين}. و{بَرَاءَةٌ} معناه: تَخَلَّصٌ وتَبَرٍّ من العهود التي بَيْنَكم، وبَيْنَ الكفَّار البادئين بالنَّقْض. قال ابن العَرَبِّي في أحكامه: تقول: بَرَأْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، فأنا مِنْه بَرِيءٌ؛ إِذا أنزلْتَهُ عن نَفْسكَ، وقطَعْتَ سبَبَ ما بينك وبَيْنه. انتهى. ومعنى السياحة في الأرض: الذَّهَاب فيها مسرحين آمنين؛ كالسَّيْح من الماء، وهو الجاري المنبسطُ؛ قال الضَّحَّاك، وغيره من العلماء: كان من العرب مَنْ لا عَهْدَ بينه وبَيْن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جملةً، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ، وتحُسسَ منهم نَقْضٌ، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ ولم ينقضوا، فقوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} هو أَجَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهِ لِمَنْ كان بينه وبينهم عهد، وتحسَّس منهم نقْضَهُ، وأول هذا الأجَلِ يومُ الأذان، وَآخره انقضاء العَشْر الأُوَل مِنْ رَبيعٍ الآخِرِ، وقوله سبحانه: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] حُكْمٌ مباينٌ للأوَّل، حَكَمَ به في المشركين الذي لا عَهْدَ لهم ألبتة، فجاء أَجَلُ تأمينهم خمسين يوماً، أوَّلها يومُ الأذانِ، وآخرها انقضاء المُحَرَّم. وقوله: {إِلَى الذين عَاهَدْتُّم}، يريد به الذين لَهُمْ عهدٌ، ولم ينقضوا، ولا تُحُسِّسِ منهم نَقْضٌ، وهم فيما روي بَنُو ضَمْرَةَ من كِنَانَة، كان بَقِيَ مِنْ عهدهم يومَ الأذان تِسْعَةُ أشهرٍ. وقوله عز وجل: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}، أي: لا تفلتون اللَّه، ولا تعجزونه هَرَباً. .تفسير الآيات (3- 4): وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ...} الآية: أي: إِعلامٌ، و{يَوْمَ الحج الأكبر} قال عمر وغيره: هو يَوْمُ عَرَفَة، وقال أبو هريرة وجماعة: هو يوم النَّحْر، وتظاهرتِ الرواياتُ؛ أن عليًّا أَذَّنَ بهذه الآياتِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِثْرَ خُطْبة أبي بَكْر، ثم رأَى أَنه لم يعمَّ الناس بالاستماع، فتتبَّعهم بالأذانِ بها يوم النَّحْر، وفي ذلك اليَوْمِ بَعثَ أبو بَكْرٍ مَنْ يعينه في الأذَانِ بها؛ كَأَبِي هُرَيْرَة وغيره، وتتَّبعوا بها أيضاً أسْوَاقَ العَرَب، كَذِي المَجَازِ وغيره؛ وهذا هو سبب الخلاف، فقالتْ طائفةٌ: يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَر: عرفَةُ؛ حيث وقع أَوَّلُ الأذان. وقالتْ أُخْرَى: هو يومُ النَّحْرِ؛ حيث وقع إِكمال الأذَان. وقال سفيان بن عُيَيْنَة: المراد باليَوْمِ أيامُ الحجِّ كلُّها؛ كما تقول: يَوْمُ صفِّينَ، وَيَوْمُ الجَمَلِ؛ ويتجه أن يوصَفُ ب {الأَكبر}؛ علَى جهة المدحِ، لا بالإِضافة إِلَى أصْغِرَ معيَّنٍ، بل يكون المعنى: الأكبر مِنْ سائر الأيام، فتأمَّله. واختصار ما تحتاجُ إِلَيْهِ هذه الآيةُ؛ على ما ذكَرَ مجاهد وغيره مِنْ صورة تلك الحال: أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افتتح مكَّة سنةَ ثمانٍ، فاستعمل عليها عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وقضى أَمْرَ حُنَيْنٍ والطائِفِ، وانصرف إِلى المدينة، فأقام بها حتَّى خرج إِلى تَبُوكَ، ثم انصرفَ مِنْ تَبُوكَ في رَمَضَانَ سَنَةَ تسْعٍ، فأَراد الحَجَّ، ثم نظر في أَنَّ المشرِكِينِ يَحُجُّون في تلْكَ السَّنَة، ويَطُوفون عُرَاةً، فقال: لا أريدُ أنْ أَرَى ذلك، فأمر أبا بَكْرٍ على الحَجِّ بالناس، وأنفَذَهُ، ثم أَتْبَعَهُ عليَّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه علَى ناقتِهِ العَضْبَاءِ، وأمره أنْ يؤذِّن في النَّاس بأربعين آيةً: صَدْرُ سورةِ {بَرَاءَة}، وقيل: ثَلاَثِينَ، وقيل: عشرين، وفي بعض الروايات: عَشْر آيات، وفي بعضها: تسع آيات، وأمره أن يُؤْذِنَ الناسَ بأربعةِ أشياء، وهي: أَلاَّ يحجَّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يدخُلَ الجَنَّة إِلا نَفْسٌ مؤمنةٌ، وفي بعض الروايات: ولا يَدْخُلَ الجَنَّةَ كَافرٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ، ومَنْ كان له عنْدَ رَسُولِ اللَّهِ عهْدٌ، فهو إِلى مدَّته، وفي بعض الروايات: ومَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ، فأجله أربعةُ أَشهُرٍ يسيحُ فيها، فإِذا انقضت، فإِن اللَّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولَهِ. قال * ع *: وأقول: إنهم كانوا ينادُونَ بهذا كلِّه، فأربعةُ أشهر؛ للذين لهم عَهْدٌ وتُحُسِّسَ منهم نقضُهُ، والإِبقاء إِلى المدَّة لمن لم يخبر منه نقضٌ، وذكر الطبريُّ أن العرب قالت يومئذٍ: نَحْنُ نَبرأُ مِنْ عهدك، ثم لام بعضُهُمْ بعضاً، وقالوا: ما تَصْنَعُونَ، وقد أسلَمَتْ قريشٌ؟ فأسلموا كلُّهم، ولم يَسِحْ أحد. قال * ع *: وحينئذٍ دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً. وقوله سبحانه: {أَنَّ الله بَرِيءٌ مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} أي: ورسولُهُ بريءٌ منهم. وقوله: {فَإِن تُبْتُمْ}، أي: عن الكُفْر. وقوله سبحانه: {إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}، هذا هو الاستثناءُ الذي تقدَّم ذكْره، وقرأ عكرمة وغيره: {ينْقُضُوكُمْ}- بالضاد المعجمة-، و{يظاهروا}: معناه: يعاونوا، والظَّهيرُ: المُعِينُ. وقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين}: تنبيهٌ على أنَّ الوفاء بالعَهْد من التقوَى. .تفسير الآيات (5- 7): قوله سبحانه: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم}: الانسلاخ: خروجُ الشيء عن الشيء المتلبِّس به؛ كانسلاخ الشاة عن الجِلْدِ، فشبه انصرام الأشهر بذلك. وقوله سبحانه: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...} الآية: قال ابن زَيْد: هذه الآية، وقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]: هما مُحْكَمَتان؛ أي: ليستْ إِحداهما بناسخةٍ للأخرى. قال * ع *: هذا هو الصواب. وقوله: {وَخُذُوهُمْ} معناه: الأسْر. وقوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ}: معناه: مواضع الغرَّة؛ حيث يرصدون ونصب {كُلَّ} على الظرف أو بإسقاط الخافِضِ، التقدير: في كُلِّ مَرْصَدةٍ. وقوله: {فَإِن تَابُواْ}، أي: عن الكُفْر. وقوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك}، أي: جَلَبَ منك عهداً وجواراً يأمن به، {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله}، يعني القُرْآن، والمعنى: يفهم أحكامه، قال الحسن: وهذه آية محكمة؛ وذلك سُنَّة إِلى يوم القيامة. وقوله سبحانه: {إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام...} الآية: قال ابنُ إسحاق: هي قبائلُ بني بَكْر؛ كانوا دخلوا وقْتَ الحديبية في العهد، فأُمِرَ المسلمون بإِتمام العَهْدِ لمن لم يكُنْ نَقَضَ منهم. .تفسير الآيات (8- 11): وقوله سبحانه: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ...} الآية: في الكلام حذْفٌ، تقديره: كيف يكون لهم عهد ونحوه، وفي {كيف} هنا تأكيدٌ لِلاستبعادِ الذي في الأُولَى، و{لاَ يَرْقُبُواْ} معناه: لا يُرَاعُوا، ولا يَحْفَظُوا، وقرأ الجمهور: {إِلاًّ}، وهو اللَّه عزَّ وجلَّ؛ قاله مجاهد، وأبو مِجْلِزٍ، وهو اسمه بالسُّرْيانية، وعُرِّب، ويجوز أن يراد به العَهْدُ، والعَرَبُ تقول للعهد والحِلْف والجِوَارِ ونحوِ هذه المعاني: {إِلاًّ}، والذِّمةُ أيضاً: بمعنى الحِلْفِ والجوارِ ونحوه.
|