الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (75- 79): وقوله سبحانه: {وَمِنْهُم مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ...} الآية: هذه الآية نزلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطب الأنصاريِّ، قال الحسن: وفي مُعَتِّبِ بنِ قُشَيرٍ معه، واختصار ما ذكره الطبريُّ وغيره مِنْ أمره: أنه جاء إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادع اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي مَالاً، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ ذَا مَالٍ، لَقَضَيْتُ حُقُوقَهُ، وَفَعَلْتُ فِيهِ الخَيْرَ، فَرَادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تُطِيقُهُ» فَعَاوَدَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَوْ دَعَوْتُ اللَّه أَنْ يُسَيِّرَ الجِبَالَ مَعِي ذَهَباً، لَسَارَتْ» فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فاتخذ غَنَماً، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ؛ حتى ضاقَتْ به المدينةُ، فتنحَّى عنها، وكَثُرت غنمه، حتَّى كان لا يُصَلِّي إِلا الجُمُعَةَ، ثم كَثُرَتْ حتى تَنَحَّى بعيداً، فترك الصَّلاَة، وَنَجَمَ نِفَاقه، وَنَزَلَ خلال ذلك فَرْضُ الزكاةِ، فبعَث النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقِينَ بكتابه في أخْذ زكاة الغَنَمِ، فلما بلغوا ثَعْلَبَةَ، وقرأ الكِتَابَ، قالَ: هَذِهِ أُخْتُ الجِزْيَةِ، ثم قال لهم: دَعُونِي حَى أَرَى رَأْيي، فلما أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأَخْبَروه، قال: «وَيْح ثَعْلَبَة»ثَلاَثاً، ونزلَتْ الآية فيه، فحضر القصَّةَ قريبٌ لثعلبة، فخرج إِليه، فقال: أَدْرِكْ أَمرك، فقد نَزَلَ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَرَغِبَ أَنْ يؤدِّي زكاتَهُ، فأعرض عنه رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَلاَّ آخُذَ زَكَاتَكَ»، فبقي كذلك حَتَّى تُوُفِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم وَرَدَ ثَعلبةُ على أبي بَكْر، ثم على عمر، ثم على عثمان، يرغَبُ إِلى كلِّ واحد منهم أنْ يأخذ منه الزكاةَ، فكلُّهم رَدَّ ذلك وأباه؛ اقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبقي ثعلبةُ كذلك حتى هَلَكَ في مدَّة عثمان. وفي قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ}: نصٌّ في العقوبة على الذَّنْب بما هو أشدُّ منه. وقوله: {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}: يقتضي موافاتَهُمْ على النِّفَاق، قال ابنُ العربيِّ: في ضمير {يَلْقَوْنَهُ} قولان: أحدهما: أنه عائدٌ على اللَّه تعالى. والثاني: أنه عائدٌ على النفاقِ مجازاً؛ على تقدير الجَزَاءِ؛ كأنه قال: فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يَوْمِ يلقون جَزَاءَهُ. انتهى من الأحكام. و{يَلْمِزُونَ}: معناه: ينالون بألسنتهم، وأكثر الروايات في سَبَبِ نُرُولِ الآية أَنَّ عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ تصدَّق بأربعة آلاف، وأمْسَكَ مثلها. وقيل: هو عمر بنُ الخطَّاب تصدَّق بِنِصْفِ مالِهِ، وقيل: عاصمُ بْنُ عَدِيٍّ تصدَّق بمائَةِ وَسْقٍ، فقال المنافقون: ما هذا إِلا رياء، فنزلَتِ الآية في هذا كلِّه، وأما المتصدِّق بقليل، فهو أبو عقيل تصدَّق بصاعٍ من تمرٍ، فقال بعضهم: إِن اللَّه غنيٌّ عن صاعِ أبي عقيل، وخرَّجه البخاريُّ، وقيل: إِن الذي لُمِزَ في القليلِ هو أبو خَيْثَمَةَ؛ قاله كعب بن مالك. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}: معناه: يستهزئون ويستخفُّونْ وروى مسلمٌ عن جَرِيرِ بنِ عبد اللَّهِ، قال: كُنْتُ عند رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءَه قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ متقلِّدي السُّيُوف، عَامَّتِهِم مِنْ مُضَرَ، بلِ كلُّهم مِنْ مُضَرَ، فتمعَّر وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا رَأَى بهم مِن الفَاقَةِ، فذخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً، فأَذَّن وأقَام، فصلَّى ثم خَطَبَ، فقال: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة} إِلى آخر الآية: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] والآية التي في سورة الحشر: {اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] تَصَدَّقَ رَجُلٌ؛ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمْره؛ حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تتابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رأَيْتُ كُومَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ؛ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». انتهى. .تفسير الآيات (80- 81): وقوله سبحانه: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}: المعنى: أَنَّ اللَّه خَيَّر نبيَّه في هذا، فكأنه قال له: إِن شئْتَ فاستغفر لهم، وإِن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنَّه لا يغفِرُ لهم، وإِن استغفر سبعين مرَّةً، وهذا هو الصحيحُ في تأويل الآية، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمر: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَيَّرَنِي فاخترت، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنِّي إِذَا زِدتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ لَزِدْتُ...» الحديث، وظاهرُ لفْظِ الحديثِ رفْضُ إِلزام دليل الخطَاب، وظاهرُ صلاته صلى الله عليه وسلم عَلَى ابن أُبَيٍّ أَنَّ كُفْره لم يكنْ يقيناً عنده، ومحالٌ أَنْ يُصلِّيَ على كافرٍ، ولكنه راعى ظواهره من الإِقرار ووَكَلَ سريرته إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وعلَى هذا كان سَتْرُ المنافقين، وإِذا ترتَّب كما قلنا التخييرُ في هذه الآيةِ، صَحَّ أَنَّ ذلك التخييرَ هو الَّذِي نُسِخَ بقوله تعالى في [سورة المنافقين: 6]: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} * ت *: والظاهر أن الآيتين بمعنًى، فلا نَسْخ، فتأمَّله، ولولا الإِطالة لأَوْضَحْت ذلك. قال * ع *: وأما تمثيله بالسبعين دُونَ غيرها من الأعدادِ، فلأَنه عددٌ كثيراً مَّا يجيءُ غايةً ومقنعاً في الكَثْرة. وقوله: {ذلك} إِشارة إِلى امتناع الغُفْرَانِ. وقوله عزَّ وجلَّ: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله...} الآية: هذه آية تتضمَّن وصف حالِهِمْ، على جهة التوبيخ، وفي ضمنها وعيدٌ، وقوله: {المخلفون}: لفظٌ يقتضي تحقيرَهُم، وأنهم الذين أبعدهم اللَّه مِنْ رضاه ومقْعَد: بمعنى القُعُود، و{خِلاَف}: معناه: بَعْدَ؛ ومنه قولُ الشاعر: [الطويل] يريد: بعد الذي مَضَى. وقال الطبريُّ: هو مصدرُ: خَالَفَ يُخَالِفُ، وقولهم: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر}: كان هذا القول منهم؛ لأن غزوة تبوك كَانَتْ في شدَّة الحَرِّ وطِيب الثمار. .تفسير الآيات (82- 84): وقوله سبحانه: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً}؛ إِشارة إِلى مدة العُمر في الدنيا. وقوله: {وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا}؛ إِشارةٌ إِلى تأبيدِ الخلودِ في النَّارِ، فجاء بلَفْظ الأمر، ومعناه الخبر عن حالهم، وتقديرُ الكلام: لِيَبْكُوا كثيراً؛ إِذ هم معذَّبون، جزاءً بما كانوا يكسبون، وخرَّج ابن ماجه بسنده، عن يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عن أنَسٍ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يُرْسَلُ البُكَاءُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَتَّى تَصِيرَ في وُجُوهِهِمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ لَوْ أُرْسِلَتْ فِيهَا السُّفُنُ لَجَرَتْ»، وخرَّجه ابن المبارك أيضاً عن أنسٍ، قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يأيُّها النَّاسُ، ابكوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ تَسِيلُ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعَ، فَتَسِيلُ الدِّمَاءُ، فَتُقَرِّحُ العُيُونَ، فَلَوْ أَنَّ سُفُناً أُجْرِيَتْ فِيهَا، لَجَرَتْ»، انتهى من التذكرة. وقوله سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ...} الآية: يشبه أنْ تكون هذه الطائفةُ قد حُتِمَ عليها بالموافاة على النفاق، وعُيِّنُوا للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون}: نصٌّ في موافاتهم على ذلك؛ وممَّا يؤيِّد هذا ما روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَيَّنهم لحذيفةَ بْنِ اليمانِ، وكان الصحابة إِذا رأَوْا حذَيفةَ تأخَّر عن الصَّلاة على جنازة، تأَخَّرُوا هم عنها، وروِي عَنْ حذيفة؛ أَنه قَالَ يَوْماً: بَقِيَ من المنافقين كَذَا وَكَذَا. وقوله: {أَوَّلُ} هو بالإِضافة إِلى وَقْت الاستئذان، والخالفون: جَمْعُ مَنْ تخلَّف من نساءٍ، وصبيان، وأهْل عذر، وتظاهرت الرواياتُ أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُول، وأَنَّ قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} نزلَتْ بعد ذلك، وقد خرَّج ذلك البخاريُّ من رواية عمر بن الخَطَّاب. انتهى. .تفسير الآيات (85- 89): وقوله سبحانه: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم}: تقدم تفسير مثل هذه الآية، والطَّوْلُ في هذه الآية المالُ؛ قاله ابن عباس وغيره، والإِشارة بهذه الآيةِ إِلى الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ ونظرائِهِ، والقاعدون: الزَّمْنَى وأهْلُ العُذْر في الجُمْلَة، و{الخوالف}: النساءُ جَمْعُ خالفةٍ؛ هذا قول جمهور المفسِّرين. وقال أبو جعفر النَّحَّاس: يقال للرجُلِ الذي لا خَيْرَ فيه: خَالِفَةٌ، فهذا جمعه بحَسَبِ اللفظ، والمراد أخسَّةُ الناسِ وأخلافهم؛ ونحوه عن النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وقالت فرقة: الخوالفُ: جمعُ خَالِفٍ؛ كفَارِسٍ وَفَوَارِس. {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}: أي: لا يفهمون، و{الخَيْرَاتُ}: جمع خَيْرَة، وهو المستحْسَنُ من كلِّ شيء. وقوله سبحانه: {أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم}: {أَعَدَّ}: معناه يَسَّر وَهَيَّأ، وباقي الآية بيِّن. .تفسير الآيات (90- 92): وقوله سبحانه: {وَجَاءَ المعذرون مِنَ الأعراب...} الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: هؤلاء كانوا مؤمنين، وكانَتْ أَعذارُهُم صادقة، وأصل اللفظة: المُعْتَذِرُونَ، فقلبت التاءُ ذالاً وأدغمتْ، وقال قتادة، وفرقةٌ معه: بل الذين جاؤوا كفرةٌ، وقولُهُمْ وعُذْرهم كَذِبٌ. قال * ص *: والمعنى: تكلَّفوا العُذْر، ولا عذر لهم، و{كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ}، أي: في إيمانهم. انتهى. وقوله: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ...} الآية قوله: {مِنْهُمْ} يؤيِّد أن المعذِّرين كانوا مؤمنين، فتأمَّله، قال ابنُ إِسحاق: المعذِّرون: نَفَرٌ من بني غِفَارٍ؛ وهذا يقتضي أنهم مؤمنون. وقوله جلَّت عظمته: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى...} الآية: يقولُ: ليس على أهل الأعذار مِنْ ضَعْف بدنٍ أو مرضٍ أو عدمِ نفقةٍ إِثمٌ؛ والحَرَجُ: الإِثم. وقوله: {إِذَا نَصَحُواْ}: يريد: بنيَّاتهم وأقوالهم سرًّا وجهراً، {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ}: أي: من لائمةٍ تناطُ بِهِمْ، ثم أكَّد الرجاءَ بقوله سبحانه: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقرأ ابنُ عبَّاس: {وَاللَّهُ لأَهْلِ الإِسَاءَة غَفُورٌ رَحِيم}، وهذا على جهة التفسيرِ أشبهُ منه على جهةِ التلاوةِ؛ لخلافه المُصْحَفَ، واختلف فيمَنْ المرادُ بقوله: {الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ}: فقالتْ فرقة: نَزلَتْ في بَنِي مُقَرِّنٍ: ستَّة إِخوة، وليس في الصحابة ستَّة إِخوة غيرهم، وقيل: كانوا سبعةً. وقيل: نزلَتْ في عائِذِ بْنِ عمرو المُزَنيِّ؛ قاله قتادة، وقيل: في عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَعْقِلٍ المزَنِّي. قاله ابن عباس. وقوله عَزَّ وجلَّ: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} هذه الآيةُ نزلَتْ في البَكَّائين، واختلف في تعيينهم، فقيل: في أبي موسَى الأشعريِّ وَرَهْطِهِ، وقيل: في بني مُقَرِّنٍ؛ وعلى هذا جمهور المفسِّرين، وقيل: نزلَتْ في سبعة نَفَرٍ من بطونٍ شتَّى، فهم البَكَّاؤون، وقال مجاهد: البَكَّاؤون هم بنو مُقَرِّن من مُزَيْنة، ومعنى قوله: {لِتَحْمِلَهُمْ}: أيْ: عَلَى ظَهْر يُرْكَبُ، ويُحْمَل عليه الأثاثُ. * ت *: وقصة أبي موسَى الأشعريِّ ورَهْطِهِ مذكورةٌ في الصَّحيح، قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: القول بأن الآية نزلَتْ في أبي موسَى وأصحابه هو الصحيحُ، انتهى. .تفسير الآيات (93- 94): وقوله سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ...} الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في المنافقين المتقدِّم ذكْرُهُمْ: عبدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، والجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبٌ، وغيرهم. وقوله: {إِذَا رَجَعْتُمْ}: يريد: مِنْ غزوةَ تَبُوكَ، ومعنَى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ}: لن نصدِّقكم، والإِشارة بقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} إِلى قوله: {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خلالكم} [التوبة: 47]، ونحوه من الآيات. وقوله سبحانه: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ}: توعُّد، والمعنى: فيقع الجزاءُ عليه، قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: اعمل للدنيا بقَدْر مُقَامِكَ فيها، واعمل للآخرة بقَدْر بقائك فيها، واستحيي مِنَ اللَّه تعالى بقَدْرِ قُرْبه منْكَ، وأَطِعْهُ بقَدْر حَاجَتِكَ إِليه، وخَفْهُ بقَدْر قُدْرته عليك، واعصه بِقَدْر صَبْرَكَ على النَّار. انتهى. من سراج الملوك. وقوله: {ثُمَّ تُرَدُّونَ}: يريد البَعْثَ من القبور. .تفسير الآيات (95- 97): وقوله عز وجل: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ...} الآية: قيل: إِن هذه الآية من أول ما نَزَلَ في شأن المنافقين في غزوة تَبُوكَ. وقوله: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ}: أي: نَتَنٌ وقَذَر، وناهِيكَ بهذا الوَصْف مَحَطَّةً دنيويةً، ثم عطف بمحَطَّةِ الآخِرَةِ، فقال: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، أي: مسكنهم. وقوله: {فَإِن تَرْضَوْاْ...} إِلى آخر الآية: شَرْطٌ يتضمَّن النهْيَ عن الرضا عنهم، وحُكْم هذه الآية يستمرُّ في كل مغموص عليه ببدْعَةٍ ونحوها. وقوله سبحانه: {الأعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}: هذه الآيةُ نزلَتْ في منافقين كانوا في البوادِي، ولا محالة أنَّ خوفهم هناك كان أقلَّ من خوف منافِقِي المدينة، فألسنتهم لذلك مُطْلَقَةٌ، ونفاقهم أنْجَمُ و{أجْدَرُ}: معناه أحْرَى. وقال * ص *: معناه أحقُّ، والحُدُودُ هنا: السُّنَن والأحْكَام.
|