الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير سورة الزخرف: بسم الله الرحمن الرحيم .تفسير الآيات (1- 4): {حم* والكتاب المبين} {والكتاب}: خُفِضَ بواو القَسَمِ، والضمير في {جعلناه} عائدٌ على الكتابِ، و{إِنَّهُ} عطف على {جعلناه}، وهذا الإخبارُ الثَّانِي وَاقِعٌ أيضاً تحْتَ القَسَمِ، و{أُمِّ الكتاب}: اللوح المحفوظ، وهذا فيه تشريفٌ للقرآن، وترفيع، واخْتَلَفَ المُتَأَوِّلُون: كيف هو في أُمِّ الكتاب؟ فقال قتادة وغيره: القرآن بأجمعه فيه منسوخ، ومنه كان جبريل ينزل، وهنالك هو عَلِيٌّ حكيم، وقال جمهور الناس: إنَّما في اللوح المحفوظ ذِكْرُهُ ودرجته ومكانته من العُلُوِّ والحكمة. .تفسير الآيات (5- 8): وقوله سبحانه: {أَفَنَضْرِبُ} بمعنى: أفنترك؛ تقول العرب: أَضْرَبْتُ عن كذا وضَرَبْتُ: إذا أَعْرَضْتَ عنه وتركْتَهُ، و{الذكر} هو: الدعاء إلى اللَّه، والتذكير بعذابِه، والتخويف من عقابه، وقال أبو صالح: الذِّكْرُ هنا أراد به العذاب نفسه، وقال الضَّحَّاكُ ومجاهد: الذكر القرآن. وقوله: {صَفْحاً}: يحتمل أَنْ يكون بمعنى العفو والغفر للذنوب، فكأَنَّهُ يقول: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم، وغفراً لإجرامكم؛ من أجل أنْ كنتم قوماً مسرفين، أي: هذا لا يصلح؛ وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل قوله: {صَفْحاً} أنْ يكون بمعنى مغفولاً عنه، أي: نتركه يَمُرُّ لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبُّره، فكأَنَّ المعنى: أفنترككم سُدًى، وهذا هو منحى قتادةَ وغيره، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: {إنْ كُنْتُمْ} بكسر الهمزة، وهو جزاءً دَلَّ ما تقدَّمه على جوابه، وقرأ الباقون بفتحها بمعنى: من أجل أَنْ، والإسراف في الآية هو كُفْرُهُمْ. {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ في الأولين} أي: في الأُمَمِ الماضية، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وغيرهم. {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي: كما يستهزئ قومك بك، وهذه الآية تسلية للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وتهديد بأَنْ يصيبَ قريشاً ما أصاب مَنْ هو أَشَدُّ بَطْشاً منهم. {ومضى مَثَلُ الأولين} أي: سلف أمرهم وسُنَّتُهُم، وصاروا عبرةً غَابِرَ الدَّهْرِ، أنشد صاحبُ عنوان الدِّرَايَةِ لشيخه أبي عبد اللَّه التَّمِيميِّ: [البسيط] انتهى. .تفسير الآيات (9- 14): وقوله سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}: الآيةُ ابتداءُ احتجاجٍ على قُرَيْشٍ يوجبُ عليهم التناقُضَ من حيث أَقرّوا بالخَالِقِ، وعَبَدُوا غيره، وجاءتِ العبارةُ عنِ اللَّه ب {العزيز العليم}؛ ليكونَ ذلك تَوْطِئَةً لما عَدَّدَ سبحانه من أوصافه التي ابتدأَ الإخبار بها، وقَطَعَهَا من الكلام الذي حكى معناه عن قُرَيْشٍ. وقوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الآية، هذه أوصافُ فِعْلٍ، وهي نِعَمٌ من اللَّه سبحانه على البَشَرِ، تقوم بها الحُجَّةُ على كُلِّ مُشْرِكٍ. وقوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ} ليس هو مِنْ قَوْلِ المسؤولين، بل هو ابتداء إخبارٍ من اللَّه تعالى. وقوله سبحانه: {والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاءَ بِقَدَرٍ} قيل: معناه: بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فَيَفْسُدَ، ولا قِلَّة فيقصر؛ بل غيثاً مُغِيثاً، وقيل: {بِقَدَرٍ} أي: بقضاء وحَتْمٍ، وقالت فرقة: معناه: بتقديرٍ وتحريرٍ، أي: قدر ماء معلوماً، ثم اختلف قائلُو هذه المقالة فقال بعضهم: ينزل في كلِّ عامٍ ماءً قَدْراً واحداً، لا يَفْضُلُ عامٌ عاماً، لكن يكثر مرَّةً هاهنا ومرة ههنا، وقال بعضهم: بل ينزل تقديراً مَّا في عَامٍ، وينزل في آخرَ تقديراً مَّا، وينزل في آخر تقديراً آخرَ بِحَسَبِ ما سَبَقَ به قضاؤه لا إله إلا هو. قُلْتُ: وبعض هذه الأقوالِ لا تُقَالُ من جهة الرأْيِ، بل لابد لها من سَنَدٍ، و{فَأَنشَرْنَا} معناه: أَحْيَيْنَا؛ يقال: نُشِرَ المَيِّتُ وأَنْشَرَهُ اللَّهُ، والأزواجُ هنا الأنواعُ من كل شيْءٍ، و{مِنْ} في قوله: {مِّنَ الفلك والأنعام} للتبعيض، والضمير في {ظُهُورِهِ} عائدٌ على النوع المركوبِ الذي وقَعَتْ عليه ما، وقد، بَيَّنَتْ آية أخرى ما يقال عند ركوب الفُلْكِ، وهو: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] وإنما هذه خاصَّةٌ فيما يُرْكَبُ من الحيوان، وإنْ قَدَّرنا أَنَّ ذِكْر النعمة هو بالقَلْبِ، والتذكُّر بدء الراكِبُ ب {سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا}، وهو يرى نعمة اللَّه في ذلك وفي سواه و{مُقْرِنِينَ} أي: مطيقين، وقال أبو حيَّان {مُقْرِنِينَ}: خبر كان، ومعناه غالبين ضابطين، انتهى، وهو بمعنى الأَوَّل، {وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أَمْرٌ بالإقرار بالبعث. * ت *: وعن حمزة بن عمرو الأسلميِّ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «على ظَهْرِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، فَإذَا رَكِبْتُمُوهَا فَسَمُّوا اللَّهَ» رواه ابن حِبَّان في صحيحه، انتهى من السلاح، وينبغي لمن مَلَّكَهُ اللَّه شيئاً من هذا الحيوان أَنْ يَرْفُقَ به ويُحْسِنَ إليه؛ لينالَ بذلك رضا اللَّه تعالى، قال القُشَيْرِيُّ في التحبير: وينبغي لِلْعَبْدِ أنْ يكُونَ مُعَظِّماً لِرَبِّه، نَفَّاعاً لخلقه، خيراً في قومه، مُشْفِقاً على عباده؛ فَإنَّ رأس المعرفة تعظيمُ أمر اللَّه سبحانه، والشفقَةُ على خَلْقِ اللَّه، انتهى، وروى مالكٌ في المُوَطَّإ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ إذِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْراً فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، فَخَرَجَ فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثرى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقَى فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإنَّ لَنَا في الْبَهَائِمِ أَجْرَاً؟! فَقَالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» قال أبو عُمَرَ في التمهيد: وكذا في الإساءة إلى الحيوان إثْمٌ، وقد روى مالكٌ، عن نافع، عن ابنِ عمر؛ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا، ولاَ هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ»، ثم أسند أبو عُمَرَ؛ «أَنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطاً مِنْ حِيطَانِ الأَنْصَارِ، فَإذَا جَمَلٌ قَدْ أُتِيَ فَجُرْجِرَ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ: مَنْ صَاحِبُ الجَمَلِ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ في هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ؛ إنَّهُ شَكَا إلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وتُدْئِبُهُ» ومعنى ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، أي: قَطَرَتْ دموعُهما قطراً ضعيفاً، والسَّرَاةُ الظَّهْرُ، والذفرى: ما وراءَ الأذنَيْن عن يمين النُّقْرَةِ وشِمَالِهَا، انتهى. .تفسير الآيات (15- 19): وقوله سبحانه: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أيْ: جَعَلَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ والعربِ للَّه جزءاً، أي: نصيباً وحَظًّا، وهو قولُ العَرَبِ: الملائكة بنات اللَّه؛ هذا قول كثير من المتأولين، وقال قتادة: المراد بالجُزْء: الأَصنَامُ وغيرها ف {جُزْءاً} معناه: نِدًّا. * ت *: وباقي الآية يُرَجِّحُ تأويلَ الأكثرِ. وقوله: {أَمِ اتخذ}: إضرابٌ وتقريرٌ وتوبيخٌ؛ إذِ المحمود المحبوبُ من الأولاد قد خَوَّلَهُ اللَّه بني آدم، فكيفَ يتَّخِذُ هو لنفسه النصيب الأدنى، وباقي الآية بَيِّنٌ مِمَّا ذُكِرَ في سورة النحل وغيرها. ثم زاد سبحانه في توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ في الحلية} التقدير: أو مَنْ يُنَشَّأُ في الْحِلْيَةِ هو الذي خَصَصْتُم به اللَّه عز وجل، والحِلْيَةُ: الْحَليُ من الذهب والفضة والأحجار، و{يُنَشَّأُ} معناه: ينبت وَيَكْبُر، و{الخصام}: المحاجَّةُ ومجاذبة المحاورة، وقَلَّ ما تجد امرأة إلاَّ تُفْسِدُ الكلام وتخلط المعاني، وفي مصحف ابن مسعود: {وَهُوَ في الكَلاَمِ غَيْرُ مُبِينٍ} والتقدير: غير مُبِينٍ غَرَضاً أو منزعاً ونحو هذا، وقال ابن زيد: المراد ب {مَنْ يُنَشَّأُ في الحلية}: الأصنامُ والأوثان، لأنَّهم كانوا يجعلون الحَلْيَ على كثيراً منها، ويتخذون كثيراً منها من الذهب والفضة، وقرأ أكثر السبعة: {وجَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثاً} وقرأ الحَرَمِيَّانِ وابنُ عَامِرٍ: {عِنْدَ الرحمن إناثاً} وهذه القراءة أَدَلُّ على رفع المنزلة. وقوله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} معناه أَأُحْضِرُوا خَلْقَهُمْ، وفي قوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شهادتهم وَيُسْئَلُونَ} وعيدٌ مُفْصِحٌ، وأسند ابن المبارك عن سليمان بن راشِدٍ؛ أنه بلغه أَنَّ امرأ لا يشهدُ شهادةً في الدنيا إلاَّ شَهِدَ بها يومَ القيامة على رؤوس الأشهاد، ولا يمتدح عبداً في الدنيا إلاَّ امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، قال القرطبيُّ في تذكرته: وهذا صحيح؛ يَدُلُّ على صِحَّتِهِ قوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شهادتهم وَيُسْئَلُونَ} وقوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] انتهى. .تفسير الآيات (20- 25): وقوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عبدناهم...} الآية، أي: ما عبدنا الأصنام. * ت *: وقال قتادة وغيره: يعني: ما عبدنا الملائكة، وجعل الكفارُ إمهالَ اللَّه لهم دليلاً على رضاه عنهم، وأنَّ ذلك كالأمرِ به، ثم نفى سبحانه علمهم بهذا، وليس عندهم كتاب مُنَزَّلٌ يقتضي ذلك؛ وإنَّما هم يَظُنُّونَ ويحدسون ويُخَمِّنُون، وهذا هو الخَرْصُ والتخرُّص، والأُمَّة هنا بمعنى الملَّة والديانة، والآية على هذا تُعِيبُ عليهم التقليد، وذكر الطبريُّ عن قوم أَنَّ الأمَّة الطريقة، ثم ضرب اللَّه المثل لنبيِّه محمد عليه السلام وجعل له الأُسْوَةَ فيمن مضى من النذر والرسل؛ وذلك أَنَّ المُتْرَفِينَ من قومهم، وهم أهل التنعُّم والمال، قد قابلوهم بِمِثْلِ هذه المقالةِ، وفي قوله عز وجل: {فانتقمنا مِنْهُمْ...} الآية: وعيدٌ لقريشٍ، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم بِمَنْ سَلَفَ من الأمم المُعَذَّبَةِ المُكَذِّبَةِ لأنبيائها. .تفسير الآيات (26- 28): وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: {إِنَّنِى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} أي: فافعل أنْتَ فِعْلَهُ، وتَجَلَّدْ جَلَدَهُ، و{بَرَاءٌ}: صفة تجري على الوَاحِدِ والاثْنَيْنِ والجَمْعِ؛ كَعَدْلٍ وَزَوْرٍ، وقرأ ابن مسعود: {بَرِيءٌ}. وقوله: {إلا الذي فطرني} قالت فرقة: الاستثناء مُتَّصِلٌ، وكانوا يعرفون اللَّه ويُعَظِّمُونه، إلاَّ أَنَّهم كانوا يشركون معه أصنامهم، فكأَنَّ إبراهيم قَالَ لهم: أنا لا أوافقكم إلاَّ على عبادة اللَّه الذي فطرني، وقالت فرقة: الاستثناء مُنْقَطِعٌ، والمعنى: لكنَّ الذي فطرني هو معبودي الهادي المُنْجي من العذاب، وفي هذا استدعاءٌ لهم، وترغيبٌ في طاعةِ اللَّه، وتطميع في رحمته. والضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً...} الآية، قالت: فرقة: هو عائد على كلمته بالتوحيد في قوله {إِنَّنِى بَرَاءٌ} وقال مجاهد وغيره: المراد بالكلمة: لا إله إلا اللَّه، وعاد عليها الضمير، وإنْ كان لم يجر لها ذكر؛ لأَنَّ اللفظ يتضمَّنها، والعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ، ووَلَدُ الوَلَدِ ما امتدَّ فرعهم. .تفسير الآيات (29- 35): وقوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ} يعني قريشاً {حتى جَاءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ}، وذلك هو شرع الإسلام، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم و{مُّبِينٌ} أي: يبين لهم الأحكام، والمعنى في الآية: بل أمهلتُ هؤلاءِ وَمَتَّعْتُهُمْ بالنعمة {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق} يعني القرآن {قَالُواْ هذا سِحْرٌ}. {وَقَالُواْ} يعني قريشاً: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} يعني: من إحدى القريتين، وهما مَكَّةُ والطَّائِفُ، ورجل مَكَّةَ هو الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في قول ابن عباس وغيره، وقال مجاهد: هو عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وقيل غير هذا، ورجل الطائف: قال قتادة: هو عُرْوَةُ بْنُ مسعود، وقيل غير هذا، قال * ع *: وإنَّما قصدوا إلى من عظم ذكره بِالسِّنِّ، وإلاَّ فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أعظمَ من هؤلاء؛ إذ كان المسمى عندهم الأمين، ثم وَبَّخَهُم سبحانه بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبِّكَ} والرحمة اسم عامٌّ يشمل النُّبُوَّةَ وغيرها، وفي قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} تزهيدٌ في السعايات، وعون على التَّوَكُّلِ على اللَّه عز وجل؛ وللَّه دَرُّ القائل: [الرجز] وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً أَرْضَاهُ بِمَا قَسَمَ لَهُ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَإذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْراً، لَمْ يُرْضِهِ بِمَا قَسَمَ لَهُ، وَلَمْ يُبَارِكْ لَهُ فِيهِ» انتهى، و{سُخْرِيّاً} بمعنى التسخير، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية. وقوله تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} قال قتادة والسُّدِّيُّ: يعني الجنة، قال * ع *: ولا شَكَّ أَنَّ الجنة هي الغاية، ورحمة اللَّه في الدنيا بالهداية والإيمان خير من كُلِّ مال، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا، وتزهيد فيها، ثم استمرَّ القولُ في تحقيرها بقوله سبحانه: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة...} الآية؛ وذلك أَنَّ معنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانه أبقى على عباده، وأنعم عليهم بمراعاة بقاء الخير والإيمان، وشاء حفظه على طائفة منهم بَقِيَّةَ الدهر، ولولا كراهيةُ أنْ يكونَ الناسُ كُفَّاراً كُلُّهم، وأَهْلَ حُبٍّ في الدنيا وتجرُّدٍ لها لوسَّعَ اللَّه على الكفار غايةَ التوسعة، ومَكَّنَهم من الدنيا؛ وذلك لحقارتها عنده سبحانه، وأنها لا قَدْرَ لها ولا وزنَ؛ لفنائها وذَهَابِ رسومها، فقوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} معناه في الكُفْرِ؛ قاله ابن عباس وغيره، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سقى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عَلْقَمَةَ عن عبد اللَّه قال: اضطجع رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ الحَصِيرُ في جَنْبِهِ، فَلَمَّا استيقظ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ عَنْهُ، وَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ آذَنْتَنِي قَبْلَ أَنْ تَنَامَ على هَذَا الحَصِيرِ، فَأَبْسُطَ لَكَ عَلَيْهِ شَيْئاً يَقِيكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لِيَ ولِلدُّنْيَا، وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَا لِي مَا أَنَا وَالدُّنْيَا إلاَّ كَرَاكِبٍ استظل في فَيْءِ أَوْ ظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» انتهى، وقد خَرَّجه التِّرمذيُّ، وقال: حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ،، و{سُقُفاً} جمع سَقْف، والمعارج: الأدراج التي يُطْلَعُ عليها؛ قاله ابن عباس وغيره، و{يَظْهَرُونَ} معناه: يعلون؛ ومنه حديث عائشةَ رضي اللَّه عنها والشمس في حجرتها لم تظهر بعد، والسُّرُرُ: جمع سرير، والزُّخْرُفُ: قال ابن عَبَّاس، والحسن، وقتادة والسُّدِّيُّ: هو الذهب، وقالت فرقة: الزُّخْرُفُ: التزاويق والنَّقْش ونحوه؛ وشاهده: {حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} [يونس: 24] وقرأ الجمهور: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا} بتخفيف الميم من {لما}؛ ف إنْ مُخَفَّفَةٌ من الثقيلة، واللام في {لما} داخلةٌ؛ لتَفْصِلَ بين النفي والإيجاب، وقرأ عاصم، وحمزة، وهشام بخلافٍ عنه بتشديد الميم من {لمَّا}؛ ف إنْ نافيةٌ بمعنى مَا، ولَمَّا بمعنى إلاَّ، أي: وما كُلُّ ذلك إلاَّ متاعُ الحياة الدنيا، وفي قوله سبحانه: {والأخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} وعْدٌ كريمٌ، وتحريضٌ على لزوم التقوى، إذْ في الآخرة هو التباينُ الحقيقيُّ في المنازل؛ قال الفخر: بَيَّنَ تعالى أَنَّ كُلَّ ذلك متاع الحياة الدنيا، وأَمَّا الآخرة فهي باقيةٌ دائمةٌ، وهي عند اللَّه وفي حُكْمِهِ للمتَّقِينَ المُعْرِضِينَ عَنْ حُبِّ الدنيا، المقبلين على حُبِّ المَوْلَى، انتهى.
|