الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (22- 24): وقوله سبحانه: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الأخرة هُمُ الأخسرون إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبِّهِمْ...} الآية: {لاَ جَرَمَ} تقدم بيانها، {وَأَخْبَتُواْ}: قال قتادة: معناه: خشعوا، وقيل: معناه أنابوا؛ قاله ابن عباس، وقيل: اطمأنوا؛ قاله مجاهد وقيل: خافوا؛ قاله ابن عباس أيضاً، وهذه أقوالٌ بعضها قريبٌ من بعض. وقوله سبحانه: {مَثَلُ الفريقين...} الآية، الفريقان الكافرون والمؤمنون، شبه الكافِرَ بالأعمَى والأصمِّ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ والسميعِ، فهو تمثيلٌ بمثالين. .تفسير الآيات (25- 27): وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا...} الآية: فيها تمثيلٌ لقريشٍ وكفَّار العرب، وإِعلامٌ بأَن محمَّداً عليه السلام ليس بِبِدْعٍ من الرسل، والأراذل جَمْعُ الجمعِ، فقيل: جمع أَرْذُلٍ، وقيل: جَمْعُ أَرْذَالٍ، وهم سِفْلَة النَّاسِ، ومَنْ لا خَلاَقَ له ولا يبالِي ما يَقُولُ، ولا ما يُقَالُ له، وقرأ الجمهور: {بَادِيَ الرَّأْي}- بباء دون همز-؛ من بَدَا يَبْدُو، فيحتمل أنْ يتعلَّق {بَادِيَ الرَّأْي} ب {نَرَاكَ}، أي: وما نراك بأولِ نَظَرٍ وأقلِّ فكرة، وذلك هو بَادِي الرأيِ إِلاَّ ومتَّبِعُوكَ أراذلُنا، ويحتمل أنْ يتعلق بقوله: {اتبعك}، أيْ: وما نَرَاكَ اتبعك بَادِيَ الرَّأي إِلا الأراذلُ، ثم يحتملُ علَى هذا قوله: {بَادِيَ الرأي} معنيين: أحدهما: أَنْ يريدوا: اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسَى أنَّ بواطنهم ليستْ معك. والثاني: أن يريدوا: اتبعوك بأول نَظَرٍ، وبالرأْيِ البادِي، دون تثبُّت. ويحتملُ أنْ يكون قولهم: {بَادِيَ الرأي} وصْفاً منهم لنوحٍ، أي: تدَّعِي عظيماً وأَنْتَ مكشوفُ الرأْي، لا حَصَافَة لك، ونصبُهُ على الحالِ، أو على الصفة ل بَشَر. .تفسير الآيات (28- 34): وقوله سبحانه: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِندِهِ...} الآية: كأنه قال: أرأيتم إِن هدانِي اللَّهُ وأضلَّكم أَأُجبرُكُمْ على الهدَى، وأنتم له كارِهُونَ، وعبارة نوحٍ عليه السلام كانَتْ بلغته دالَّة على المعنى القائِم بنَفْسه، وهو هذا المفهومُ مِنْ هذه العبارة العربيَّة، فبهذا استقام أنْ يقال: قال كذا وكذا؛ إِذ القوم ما أفاد المعنى القائِمَ في النَّفْس، وقوله: {على بَيِّنَةٍ} أي: على أمْرٍ بيِّن جَلِيٍّ، وقرأ الجمهور: {فَعَمِيَتْ} ولذلك وجهان من المعنَى: أحدهما: خَفِيَتْ. والثاني: أَنْ يكون المعنَى: فَعُمِّيتُمْ أنتم عنها. وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: يريد: إِلزامَ جبر؛ كالقتال ونحوه، وأما إِلزامُ الإِيجاب، فهو حاصلٌ. وقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمَنُواْ}: يقتضي أَنَّ قومه طلبوا طَرْدَ الضعفاءِ الذين بادَرُوا إِلى الإِيمان به نَظِيرَ ما اقترحَتْ قريشٌ، و{تَزْدَرِي}: أصله: تَزْتَرِي؛ تَفْتَعِلُ مِنْ زَرَى يَزْرِي، ومعنى: {تَزْدَرِي}: تحتقر، والخير؛ هنا: يظهر فيه أَنَّهُ خيرُ الآخرة، اللَّهم إِلا أَنْ يكونَ ازدراؤهم من جهة الفَقْر، فيكون الخَيْرُ المال؛ وقد قال بعضُ المفسِّرين: حيثُ ما ذَكَرَ اللَّه الخيرَ في القرآن، فهو المَالُ. قال * ع *: وفي هذا الكلام تحامُلٌ، والذي يشبه أنْ يقال: إِنه حيثُ ما ذُكِرَ الخير، فإِنَّ المَالَ يدْخُل فيه. * ت *: وهذا أيضاً غير ملخَّص، والصواب: أَنَّ الخيرَ أَعمُّ من ذلك كلِّه، وانظر قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فإِنه يشملُ المال وغيرَهُ، ونحْوُه: {وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وانظر قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَةِ»، وقَوْلُهُ تعالَى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، فهاهنا لا مدْخَل للمالِ إِلا علَى تجوُّز، وقد يكون الخير المرادُ به المَالُ فَقَطْ؛ وذلك بحَسَب القرائن، كقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا...} الآية [البقرة: 180]. وقوله: {الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ}: تسليمٌ للَّه تعالَى، وقال بعضُ المتأوِّلين: هي ردٌّ على قولهم: اتبعك أراذِلُنا في ظاهر أمرِهم؛ حَسَبَ ما تقدَّمَ في بعض التأويلات، ثم قال: {إِنِّي إِذاً} لو فعلت ذلك، {لَّمِنَ الظالمين}، وقولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا}: معناه: قد طال منْكَ هذا الجِدَالُ، والمرادُ بقولهم: {بِمَا تَعِدُنَا} العذابَ والهلاكَ، {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}، أي: بمفلتين. .تفسير الآيات (35- 40): وقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه...} الآية: قال الطبريُّ وغيرُه: هذه الآيةُ اعترضت في قِصَّة نوحٍ، وهي في شأن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع قُرَيْشٍ. قال * ع *: ولو صحَّ هذا بسندٍ، لوجب الوقوفُ عنده، وإِلا فهو يَحْتملُ أَنْ يكون في شأن نوح عليه السلام، وتَتَّسِقُ الآية، ويكونُ الضمير في {افتراه} عائداً علي ما توعَّدهم به، أو عَلى جميعِ ما أخبرهم به، وبمعنى بل. وقوله سبحانه: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ...} الآية، قيل لنوح هذا بَعْدَ أَنْ طال عليه كُفْر القَرْن بعد القَرْن به، وكان يأتيه الرجُلُ بابنه، فيقول: يا بُنَيَّ، لا تُصَدِّقْ هذا الشيخَ، فهكذا عَهِدَهُ أَبي وَجَدِّي كَذَّاباً مَجْنُوناً، رَوَاهُ عُبَيْدُ بن عُمَير وغيره، فروي أنه لما أوحِيَ إِليه ذَلك، دَعَا، فقَالَ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، و{تَبْتَئِسْ} من البُؤْس، ومعناه: لا تَحْزَنْ. وقوله: {بِأَعْيُنِنَا}: يمكنُ أَنْ يريد بمرأًى منا، فيكون عبارةً عن الإِدراك والرعاية والحفْظ، ويكونُ جَمَعَ الأَعْيُنِ، للعظمةِ لا للتكثير؛ كما قال عزَّ مِنْ قائل: {فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23]، والعقيدةُ أنه تعالَى منزهُ عن الحواسِّ، والتشبيهِ، والتكييفِ، لا ربَّ غيره، ويحتملُ قوله: {بِأَعْيُنِنَا} أيُّ: بملائكتنا الذين جعلْناهم عيوناً على مواضع حِفْظِكَ وَمَعُونَتِك، فيكون الجَمْعُ على هذا التأويلِ: للتكْثير. وقوله: {وَوَحْيِنَا} معناه: وتعليمنا له صُورَةَ العَمَل بالوحْيِ، ورُوِيَ في ذلك: «أَنَّ نوحاً عليه السلام لَمَّا جَهِلَ كَيْفِيَّة صُنْعِ السَّفِينَةِ، أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ، أَن اصنعها على مثال جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ» إِلى غير ذلك ممَّا علِّمَهُ نوحٌ من عملها. وقوله: {وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ...} الآية، قال ابْنُ جُرَيْج في هذه الآية: تقدَّم اللَّه إِلَى نوحٍ أَلاَّ يَشْفَعَ فيهم. وقوله: {وَيَصْنَعُ الفلك}: التقديرُ: فشَرَعَ يصْنَعُ، فحكيتْ حالُ الاستقبال، وال {مَلأٌ} هنا: الجماعة. وقوله: {سَخِرُواْ مِنْهُ...} الآية: السُّخْر: الاستجهال مع استهزاء، وإِنما سخروا منه في أنْ صنعها في بَرِّيَّةٍ. وقوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} قال الطبريُّ: يريد في الآخرة. قال * ع *: ويحتمل الكلام- وهو الأرجح- أن يريد: إِنا نسخر منكم الآن، والعذابُ المُخْزِي: هو الغَرَق، وال {مُّقِيمٌ}: هو عذاب الآخرة، وال الأمر: واحد الأمور، ويحتملُ أن يكون مصدر أمَرَ، فمعناه: أَمْرُنَا للمَاءِ بالفَوَرَانِ، {وَفَارَ} معناه: انبعث بقُوَّة، واختلف النَّاس في التَّنُّور، والذي عليه الأكثَرُ، منهم ابنُ عباس وغيره: أنه هو تَنُّور الخُبْز الذي يُوقَدُ فيه، وقالوا: كانَتْ هذه أمارَةً، جعلها اللَّه لنُوحٍ، أي: إِذا فار التنُّور، فاركب في السفينة. وقوله سبحانه: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ...} الآية، الزَّوْج: يقال في مشهورِ كلامِ العرب: للواحد مما له ازدواجٌ، فيقال: هذا زَوْجُ هذا، وهما زَوْجَان، والزوج أيضاً في كلام العرب: النَّوْع، وقوله: {وَأَهْلَكَ}: عطْفٌ علَى ما عَمِلَ فيه {احمل} والأهل، هنا: القرابةُ، وبشَرْط مَنْ آمن منهم، خُصِّصُوا تشريفاً، ثم ذكر {مَنْ آمَنَ}، وليس من الأهْل، واختلف في الذي سبق عليه القوْلُ بالعَذَابِ، فقيل: ابنُهُ يَام، أوْ كنعان، وقيل: امرأته وَالِعَةُ- بالعين المهملة-، وقيل: هو عمومٌ فيمن لم يؤمن مِنْ أهْل نوحٍ، ثم قال سبحانه إِخباراً عن حالهم: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}. .تفسير الآيات (41- 43): وقوله تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا}: أي: وقال نوحٌ لمن معه: اركبوا فيها، وقوله: {بِسْمِ الله} يصحُّ أنْ يكون في موضع الحال في ضمير {اركبوا}، أي: اركبوا متبرِّكين باسم اللَّه، أو قائلين: باسم اللَّه، ويجوزُ أن يكون: {بِسْمِ * الله مجراها ومرساها} جملةً ثانيةً من مبتدإٍ وخبرٍ، لا تعلُّق لها بالأولَى كأنه أمرهم أولاً بالركوب، ثم أخبر أن مجراها ومرساها باسم اللَّه. قال الضَّحَّاك: كان نوحٌ إِذا أراد جَرْيَ السفينة، جَرَتْ، وإِذا أَراد وقوفَها، قال: باسم اللَّه، فتقف، وقرأ الجمهور بضم الميم من {مُجْرَاهَا ومُرْسَاهَا} على معنى إِجرائها وإِرسائها، وقر الأَخَوَان حَمْزَةُ والكِسَائيُّ وحفصٌ بفتح ميمٌ {مَجْريهَا} وكسر الراء، وكلُّهم ضمَّ الميم في {مُرْسَاهَا}. * ت *: قوله: وكسر الراء: يريد إِمالتها، وفي كلامِهِ تسامُحٌ، ولفظُ البخاريِّ: مُجْرَاها: مَسِيرُها، ومُرْسَاها: مَوْقِفُها، وهو مصدرُ: أُجْرَيْتُ وأَرْسَيْتُ. انتهى. قال النوويُّ: ورُوِّيَنا في كتاب ابن السُّنِّيِّ بسنده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «أَمَانٌ لأُمَّتي مِنَ الغَرَقِ، إِذَا رَكِبُوا أَنْ يَقُولُوا: {بِسْمِ الله مجراها ومرساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ..} الآية [الأنعام: 91]»، هكذا هو في النُّسَخ: إِذَا رَكِبُوا، ولم يقلْ: في السفينة انتهى. وقوله: {وَكَانَ في مَعْزِلٍ} أي: في ناحيةٍ، أي: في بُعْدٍ عن السفينة، أوْ عن الدِّين، واللفظ يعمُّهما. وقوله: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين}: يحتمل أنْ يكون نهياً محضاً مع علمه بأَنَّه كافرٌ، ويحتمل أنْ يكون خَفِيَ عليه كُفْره؛ والأول أبْيَنُ. وقوله: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ}: الظاهر أنَّ {لاَ عَاصِمَ} اسمُ فاعِلٍ على بابه، وقوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ}: يريد: إِلا اللَّهَ الرَّاحِمَ، ف {مَنْ} كنايةٌ عن اللَّه، المعنى: لا عاصِمَ اليَوْم إِلا الذي رَحِمَنَا. .تفسير الآيات (44- 48): وقوله سبحانه: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَاءَكِ...} الآية: البَلْع: تجرُّع الشيء؛ وازدراده، والإِقلاع عن الشيء: تركُه، و{غِيضَ} معناهُ: نَقَصَ، وأكْثَرُ ما يجيء فيما هو بمعنى الجُفُوف، وقوله: {وَقُضِيَ الأمر}: إِشارة إِلى جميع القصَّة: بعثِ الماء، وإِهلاكِ الأُممِ، وإِنجاءِ أَهْلِ السفينة. قال * ع *: وتظاهرت الرواياتُ وكُتُبُ التفسير بأَنَّ الغرق نَالَ جميعَ أَهْلِ الأَرْضِ، وعَمَّ الماءُ جَمِيعَهَا؛ قاله ابن عباس وغيره، وذلك بَيِّن من أمْرِ نوحٍ بحمل الأزواجِ مِنْ كلِّ الحيوانِ، ولولا خَوْفُ فنائها مِنْ جميعِ الأرضِ، ما كان ذلك، وروي أنَّ نوحاً عليه السلام رَكِبَ في السفينةِ مِنْ عَيْنِ الوَرْدَةِ بالشامِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، واستوت السفينة على الجودِيِّ في ذي الحِجَّة، وأقامَتْ عليه شهراً، وقيل له: {اهبط} في يوم عاشُورَاءَ، فصامه هو ومَنْ معه، وروي أنَّ اللَّه تعالى أَوحى إِلى الجبالِ؛ أَنَّ السفينة تَرْسِي على واحد منها، فتطاوَلَتْ كلُّها، وبقي الجُودِيُّ، وهو جبلٌ بالمَوْصِل في ناحيةِ الجزيرةِ، لم يتطاوَلْ؛ تواضعاً للَّه؛ فاستوت السفينةُ بأمْر اللَّهِ عليه، وقال الزَّجَّاجُ: الجُودِيُّ: هو بناحية آمد، وقال قوم: هو عند باقردي، وأكْثَرَ النَّاسُ في قصص هذه الآية، واللَّه أعلم بما صَحَّ من ذلك. وقوله: {وَقِيلَ بُعْدًا}: يحتمل أنْ يكون من قول اللَّه عزَّ وجلَّ؛ عطفاً على قوله: {وَقِيلَ} الأولِ، ويحتملُ أن يكون من قول نوحٍ والمؤمنين، والأول أظهر. وقوله: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي...} الآية: احتجاج من نوحٍ عليه السلام أَنَّ اللَّه أمره بحَمْلِ أهله، وابنه من أهله، فينبغي أن يُحْمَلَ، فأظهر اللَّه له أنَّ المراد مَنْ آمَنَ من الأهْلِ، وهذه الآية تقتضي أن نوحاً عليه السلام ظَنَّ أنَّ ابنه مؤمنٌ. وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: الذين عَمَّهم الوعْد؛ لأنه ليس على دينِك، وإِن كان ابنك بالولادة. وقوله: {عَمَلٌ غَيْرُ صالح}: جعله وصفاً له بالمصدر؛ على جهة المبالغة في وصفه بذلك؛ كما قالت الخَنْسَاءُ تصفُ ناقَةً ذَهَبَ عنْها ولَدُها: [البسيط] أي: ذاتُ إِقبالٍ وإِدبارٍ؛ ويبيِّن هذا قراءةُ الكسَائِيِّ {إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالحٍ} فعلاً ماضياً، ونصب {غير} على المفعول ل {عَمِلَ}، وقولُ من قال: إِن الولد كان لِغِيَّةٍ خطأ محضٌ، وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ والجمهور؛ قالوا: وأما قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] فإِن الواحدة كانَتْ تقول للناس: هو مجنونٌ، والأخرَى كانت تنبِّه على الأضيافِ، وأما خيانة غَيْرُ هذا، فلا؛ ويَعْضُدُه المعنَى، لشرف النبوَّة، وجوَّز المَهْدَوِيُّ أَنْ يعود الضمير في {إِنَّهُ} على السؤال، أي: إِن سؤالك إِيَّايَ ما ليس لَكَ به علْم عملٌ غَيْرُ صالحٍ؛ قاله النَّخَعِيُّ وغيره. انتهى. والأولُ أبينُ؛ وعليه الجمهورُ، وبه صدَّر المهدويُّ، ومعنى قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: إِذَا وَعَدتكَ، فاعلم يقيناً؛ أَنه لا خُلْفَ في الوعد، فإِذا رأيتَ ولدك لم يُحْمَلْ، فكان الواجبُ عليك أنْ تقف، وتَعْلَم أَنَّ ذلك بحقٍّ واجبٍ عند اللَّه. قال * ع *: ولكنَّ نوحاً عليه السلام حملته شفقةُ الأُبوَّة وسجيَّة البَشَر على التعرُّض لنفَحَاتِ الرحْمة، وعَلَى هذا القَدْر وقَع عتابُهُ؛ ولذلك جاء بتلطُّف وترفيع في قوله سبحانه: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين}، ويحتمل قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تطلُبْ منِّي أمراً لا تعلم المصلحة فيه عِلْمَ يقينٍ، ونحا إِلى هذا أبو عليٍّ الفارسيُّ، وهذا والأول في المعنَى واحدٌ. وقوله: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}: إِنابة منه عليه السلام، وتسليمٌ لأمر ربه، والسؤالُ الذي وقع النهْيُ عنه، إِنما هو سؤالُ العَزْمِ الذي معه محاجَّة وطَلِبَةٌ مُلِحَّةٌ فيما قد حُجِبَ وجْهُ الحكمة فيه، وأما السؤال؛ علَى جهة الاسترشاد والتعلُّم، فغير داخل في هذا، ثم قيل له: {اهبط بسلام}، وذلك عند نزوله من السفينة، وال {سلام}؛ هنا: السلامةُ والأمن، وال {بركات} الخيرُ والنموُّ في كلِّ الجهات، وهذه العِدَةُ، تعمُّ جميع المؤمنين إِلى يوم القيامة، قاله محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ، ثم قطع قَوْلُهُ: {وَأُمَمٍ} عَلَى وجْه الابتداء، وهؤلاء هم الكُفَّار إِلى يوم القيامة.
|