فصل: تفسير الآيات (25- 35):

صباحاً 1 :36
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (25- 35):

{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
وقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ لِلَّهِ} إلى قوله {العظيم}، ظاهرُه: أنه من قول الهدهد؛ وهو قول ابن زيد وابن إسحاق، ويحتملُ أنْ يكونَ من قول اللّه تعالى اعتراضاً بيْنَ الكَلاَمَيْن، وقراءةُ التشديدِ في {أَلاَّ} تعطى: أن الكلامَ للهدهدِ؛ وهي قراءةُ الجمهورِ، وقراءة التخفيفِ؛ وهي للكسائي تَمْنَعَهُ وتقوِّي الآخرَ؛ فتأملْه، وقرأ الأعمشُ {هَلاَّ يَسْجُدُونَ} وفي حرف عبد اللّه {أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ} بالتَّاء، و{الخبء}: الخفيُّ من الأمور؛ وهو من خَبَأْتُ الشيءَ، واللفظةُ تَعُمّ كل ما خَفِي من الأمور؛ وبه فسر ابن عباس. وقرأ الجمهورُ: {يُخْفُونَ وَيُعْلِنون} بياء الغائب؛ وهذه القراءة تُعْطى أنَّ الآيةَ من كلامِ الهدهد. وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ عن عاصم {تُخْفُونَ وَتُعْلِنُونَ} بتاء الخطاب؛ وهذه القراءة تعطى أنَّ الآية من خطاب اللّه تعالى لأمة سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ}، قال وهب بن مُنَبِّه: أمره بالتولِّي حُسنُ أدب ليَتَنَحَّى حَسْبَ ما يُتأَدَّبُ به مع الملوك، بمعنى: وكنْ قريباً حتى ترى مراجعاتهم، ولكيلَ الأمر، إلى حُكْمِ ما في الكتابِ دونَ أن تكونَ للرسولِ ملازمةٌ ولا إلحاحٌ. ورَوَى وهب بن منبِّه في قصص هذه الآية: أن الهدهدَ وصل؛ فَوَجَدَ دون هذه المَلِكَةِ حُجُبَ جدراتٍ، فَعَمَدَ إلَى كُوَّةٍ كانتْ بلقيسُ صَنَعَتْهَا، لتَدْخُلَ منها الشمسُ عند طلوعها؛ لمعنى عبادَتِهَا إيَّاهَا؛ فدخل منها ورمى بالكتابِ إليها؛ فقرأتْه وجَمَعَتْ أهْلَ مُلْكِها؛ فخاطبتهم بما يأتي بعدُ. {قَالَتْ ياأيها الملأ} تعني: الأشراف: {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وصَفَتِ الكتابَ بالكريمِ إما لأنه من عند عظيمٍ، أو لأنه بُدِئ باسمٍ كريمٍ. ثم أخذتْ تصف لهم ما في الكتابِ، ثم أخذتْ في حسْنِ الأدَبِ مَعَ رجَالِها ومشاورتهم في أمرها؛ فراجعها قومُها بما يُقِرُّ عَيْنَها مِنْ إعلامِهم إيَّاها بالقوة، والبأس. ثم سلَّمُوا الأمر إلى نَظَرِها؛ وهذه محاورةٌ حسنة من الجميع. وفي قراءة عبد اللّه: {ما كُنْتُ قَاضِيَةً أَمْراً} بالضاد من القضاء، ثم أخبرتْ بلقيسُ بفِعلِ الملوكِ بالقُرَى التي يَتَغَلَّبُونَ عليها، وفي كلامها خوفٌ على قومِها وحَيْطَة لهم، قال الدَّاوُودِيُّ: وعن ابن عباس: رضي اللّه عنه {إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} قال: إذا أخذوهَا عَنْوَةً، أخربوها، انتهى.
وقوله: {وكذلك يَفْعَلُونَ} قالت فرقة: هو من قول بقليس، وقال ابن عباس: هو من قول اللّه تعالى معرِّفاً لمحمَّدٍ عليه السلام وأمَّتِهِ بذلك.
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ...} الآية، روي أن بلقيس قالت لقومها: إني أُجَرِّبُ هذا الرجلَ بهدية فيها نفائسُ الأموالِ، فَإنْ كَانَ مَلِكاً دُنْيَوِيّاً أرضاه المال؛ وإن كان نَبِيّاً لم يقبل الهديةَ، ولم يُرْضِهِ مِنّا إلا أن نَتَّبِعَه على دينه، فينبغي أن نؤمِنَ به، ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة.

.تفسير الآيات (36- 42):

{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)}
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سليمان} يعني: رسلُ بقليس، وقولُ سليمان: {ارجع} خطابٌ لرسلِها؛ لأن الرسولَ يقع على الجمعِ والإفرادِ والتذكيرِ والتأنيث. وفي قراءة ابن مسعود: {فلما جاؤوا سليمان} وقرأ {ارجعوا} ووعيدُ سليمانَ لهم مقترنٌ بدوامِهم على الكفرِ، قال البخاري: {لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا} أي: لا طاقةَ لهم، انتهى. ثم قال سليمان لجَمْعِه {ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}.
قال ابن زيد: وغرضُه في استدعاءِ عرشِها؛ أن يُرِيَها القدرةَ التي من عندِ اللّهِ وليغرب عليها، و{مُسْلِمِينَ} في هذا التأويل بمعنى: مُسْتَسْلِمِينَ، ويحتملُ أنُ يكونَ بمعنى الإسلام.
وقال قتادة: كان غرضُ سليمانَ عليه السلام قبل أن يَعْصِمَهُم الإسلامُ؛ فالإسلامُ على هذا التأويل يراد به الدين.
* ت *: والتأويل الأول أَليَقُ يمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، فيتعينُ حملُ الآيةِ عليه، والله أعلم.
ورُوِي أن عرشِهَا كانَ من ذهبٍ وفضةٍ؛ مُرَصَّعاً بالياقوتِ والجَوْهرِ، وأنه كان في جوفِه سبعةُ أبياتٍ عليها سَبْعة أغلاقٍ. والعِفْرِيتُ هو من الشياطين؛ القويُّ الماردُ.
وقوله: {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} قال مجاهد وقتادة: معناه: قبل قيامِك من مجلس الحكم وكان يجلس من الصبح إلى وقتَ الظهرِ في كل يوم، وقيل: معناه: قبلَ أنْ تستويَ من جلوسِكَ قَائِماً. وقول الذي عنده علم من الكتاب: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال ابن جبير وقتادة: معناه: قبل أن يصل إليكَ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ في أبعد ما ترى. وقال مجاهد: معناه: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي: مدة ما يمكنك أن تمد ببصرك دون تغميض؛ وذلك ارتداده.
قال * ع *: وهذانِ القولانِ يقابلانِ القولينِ قبلَهما.
وقوله: {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} معناه: قويٌّ على حمله؛ أمين على ما فيه. ويُرْوَى أنَّ الجِنَّ كَانَتْ تُخْبِرُ سليمانَ بمَنَاقِل سَيْرِ بلقيس، فلما قربَتْ، قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} فدعا الذي عنده علم من التوراة، وهو الكتاب المشار إليه باسم اللّه الأعظم؛ الذي كانت العادة في ذلك الزمان أن لا يدعو به أحد، إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرشِ، حتَّى نَبَعَ بَيْنَ يَدَيْ سليمانَ عليه السلام: وقيل: بل جِيءَ به في الهواءِ. وجمهورُ المفسرين على أن هذا الذي عنده علم من الكتاب كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا، روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان عليه السلام: يا نبي اللّه؛ امدد بصرَك نحوَ اليَمَنِ، فمد بصره؛ فإذا بالعرش، فما رد سليمان بَصره إلا وهو عنده. وقال قتادة: اسمه بلخيا. وقولُ سليمانَ عليه السلام: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} يريدُ تَجْرِبَة مَيْزِهَا ونَظَرِهَا، ورَوَتْ فرقةٌ أن الجنَّ أحسَّتْ من سليمان أوْ ظنت به أنه ربما تزوجها، فكرهوا ذلك وعيَّبُوها عنده، بأنها غيرُ عاقلِة ولا مميزة؛ وأَن رجلَها كحَافِرِ دابة، فجرَّب عَقْلَها وميَّزَها بتَنْكِيرِ السريرِ، وجرب أمر رجلِها بأمر الصَّرْحِ، لتكشفَ عن سَاقَيْها عنده، وتنكيرُ العرش: تغييرُ وضعهِ وسَتْرُ بعضِه. وقولُها {كَأَنَّهُ هُوَ} تحرزٌ فَصِيح، وقال الحسن بن الفضل: شَبَّهُوا عَلَيْهَا فَشَبَّهَتْ عَلَيْهِم. ولو قالوا: {أهذا عرشك؟} لقالت: نعم، ثم قال سليمان عليه السلام عند ذلك: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} الآية، وهذا منه؛ على جهة تعديد نعم اللّه تعالى عليه وعلى آبائه.

.تفسير الآيات (43- 44):

{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ} أي: عن الإيمان، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ قولِ سليمانَ، أو مِنْ قولِ اللّه، إخباراً لمحمدٍ عليه السلام: قال محمد ابن كعب القرظي وغيره: ولمَّا وَصَلَتْ بلقيسُ أمر سليمانُ الجنَّ فصَنَعَتْ له صَرْحاً؛ وهو السطحُ في الصَّحْنِ مِنْ غير سَقْفٍ وجَعَلَتْهُ مَبْنِيا كالصِّهْرِيجِ وملئ ماءً وبُثَّ فيهِ السَّمَكُ وطبَّقَه بالزُّجَاجِ الأَبيضِ الشَّفَّافِ، وبهذا جاءَ صَرْحاً. والصَّرْحُ أيضاً كل بناء عالٍ، وكل هذا من التصريح؛ وهو الإعلان البالغ. ثم وضع سليمانُ في وسطِ الصَّرْحِ كرسيّاً، فلما وصلته بلقيس؛ قيل لها: ادخلي إلى النبي عليه السلام، فلما رأتِ الصَّرْحَ حَسِبتَهُ لُجَّةً وهُو مُعْظَمُ المَاءِ، فَفَزِعَتْ وَظَنَّتِ أنها قُصِدَ بها الغَرَقُ، وَتَعَجَّبَتْ مِن كَوْنِ كرسِيِّه على الماءِ، ورأت مَا هَالَهَا، ولَمْ يكنْ لَها بُدَّ مِن امْتِثَالِ الأمرِ، فكَشَفَتْ عن ساقَيها، فرأى سليمانَ ساقَيْها سليمةً مِمَّا قالتِ الجنُّ غَيْرَ أَنَّها كثيرةُ الشَّعْرِ، فلما بلغتْ هذا الحد قالَ لها سليمانُ عليه السلام: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} والممرد: المحكوكُ الْمُمَلَّسُ؛ ومنه الأمرد، فعند ذلك قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} فرُوِيَ أن سليمانَ عليه السلام تَزَوَّجَهَا عند ذلك، وأسكنها الشام؛ قاله الضحاك. وقيل: تزوجَها وردَّها إلى ملكها باليمنِ وكان يأتيها على الريح كلَّ شَهْرٍ مَرَّةً، فوَلَدَتْ له غلاماً سمَّاه داودَ؛ مات في حياته. ورُوِيَ أن سليمانَ لما أراد زوالَ شَعْرِ ساقَيْهَا؛ أمر الجنَّ بالتَّلَطُّفِ في زوالِه، فصنَعوا النُّورَةَ ولم تَكُنْ قَبْلٌ وصنعوا الحمَّام.

.تفسير الآيات (45- 53):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا...} الآية، تمثيلٌ لقريشٍ، و{فَرِيقَانِ}: يريد بهما مَنْ آمنَ بصالِح. وَمَنْ كفَر به. واختصامهُم هُو تنازُعُهم. وقد ذكر تعالى ذلك في سورة الأعراف، ثم إن صالحاً عليه السلام ترفَّق بِقَوْمِهِ وَوَقَفَهم على خطأهم في استعجالهم العذابَ؛ قبل الرحمة. أو المعصيةَ للَّهِ قبلَ الطاعةِ، ثم أجابو بقولهم: {اطيرنا بِكَ} أي: تَشَاءَمْنَا بكَ. و{تِسْعَةُ رَهْطٍ} هُمْ رجالٌ كانوا من أوجُهِ القوْمَ وأعْتَاهُمْ؛ وهم أصحاب قدار، والمدينةُ مُجْتَمَعُ ثمودَ وقَرْيَتِهُم.
وقوله تعالى: {تَقَاسَمُواْ}.
قال الجمهور: هو فعل أمر، أشَار بعضُهم على بعضٍ بأن يَتحَالَفُوا على هذا الفعل بصالح، وحكَى الطبريُّ أَنه يجوز أن يكونَ تقاسموا فِعْلاً ماضِياً في موضعِ الحالِ، كأنه قال: متقاسِمينَ أو متحالفِين باللّه لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهلَه، وتؤيِّدِه قراءةُ عبد اللّه: {ولا يصلحون تقاسموا} بإسقاطِ قالوا.
قال * ع *: وهذه الألفاظُ الدالةُ على قَسَمِ تجاوب باللام، وإن لم يتقدمْ قَسَمٌ ظاهرٌ، فاللامُ في {لَنُبَيِّتَنَّهُ}: جوابُ القَسَمِ. ورُوِيَ في قصصِ هذهِ الآيةِ أَن هؤلاءِ التسعة؛ لمَّا كانَ فِي صَدْرِ الثلاثة الأيام. بعد عَقْرِ النَّاقَةِ وَقَدَ أخبرَهُمْ صالحٌ بمجيء العذابِ، اتفق هؤلاءِ التسعةُ فَتَحَالَفُوا على أن يأتوا دارَ صالحٍ ليلاً فيقتلوه وأهلَه المُخْتَصِّينَ به، قالوا فإن كان كاذباً في وعيدِهِ أوقعناه به ما يستحقُّ، وإن كانَ صادقاً كنَّا قَدْ عَجَّلْنَاه قبلَنا وشَفَيْنَا بهِ نُفُوسَنَا، فجاءوا واخْتَفَوْا لذلك في غارٍ قريبٍ من داره، فرُوِيَ أنَّه انْحَدَرَتْ عليهِم صَخْرَةٌ شَدَخَتْهُم جميعاً ورُوِيَ أنَّها طَبَّقَتْ عليهمُ الغَارَ فَهَلَكوا فيه حينَ هَلَكَ قَوْمُهُمْ، وكلُّ فَريقٍ لا يَعلم بِما جَرَى على الآخِرَ، وقَدْ كانوا على جحودِ الأمر من قرابةِ صالحٍ، ويعني بالأهل كلَّ مَنْ آمنَ بهِ؛ قاله الحسن.
وقوله سبحانه: {وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قال ابن العربيّ الحاتميّ: المكرُ إرداف النِّهمِ مع المخالفةِ وإبقاءِ الحالِ معَ سُوءِ الأدَب، انتهى من شرحه لألفاظ الصوفية. والتدميرُ: الهلاكُ و{خَاوِيَة} مَعْنَاهُ: قَفْرا، وهذه البيوتُ المشارُ إليهَا هِي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم عَامَ تَبُوكَ: «لاَ تَدْخَلُوا بُيُوتَ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» الحديثُ في صحيحِ مُسْلِمٍ وغيره.

.تفسير الآيات (54- 58):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}
وقوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النساء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تقدمَ قصصُ هؤلاءِ القومِ، و{تُبْصِرُونَ} معناه: بقلوبِكُم.
قال أبو حيان: و{شَهْوَةً} مفعولٌ منْ أجله، انتهى. وعن ابن عباس قال: قالَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللّه مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ؛ واللفظُ له؛ وابن ماجهْ وابنُ حبان في صحيحه، انتهى من السلاح.

.تفسير الآيات (59- 61):

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
وقوله تعالى: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَا يُشْرِكُونَ} الآياتِ، هذا ابتداء تقريرٍ وتنبيهٍ لقريشٍ والعربِ وهو بعدُ يَعُمُّ كلَّ مُكَلَّفٍ من الناس جميعاً، وافتتح ذَلِكَ بالقولِ بحمدِه سبحانَه وتمجيدِه وبالسلام على عباده الذين اصْطَفَاهُمْ للنبوَّة والإيمانِ، فهذا اللفظُ عَام لجمعيهم من ولد آدم، وكأنَّ هذا صدرُ خُطْبَةٍ للتقريرِ المذكورِ، قالتْ فرقة: وفي الآية حذْفُ مضافٍ في موْضِعَيْن التقدير: أتوحيدُ اللّهِ خيرٌ أم عبادةٌ ما تشركونَ ف ما، على هذا: موصولةٌ بمعنى: الذي، وقالت فرقة: ما مصدريةٌ، وحذفُ المضافِ إنما هو أولاً تَقْديرُه: أتوحيدُ اللّه خير أم شركُكُمْ.
* ت *: ومِنْ كلاَم الشيخ العارفِ باللّه أَبى الحسن الشاذليِّ قَال رحمه اللّه: إن أردتَ أَن لا يصدأَ لكَ قلبٌ؛ ولا يلحقك همٌّ؛ ولا كربٌ؛ ولا يبقَى عليكَ ذنبٌ فأكْثِرْ من قولك: «سبحان اللّه وبحمده؛ سبحان اللّه العظيم، لا إله إلا اللّه، اللهم ثبِّتْ عِلْمَها في قلبي، واغفر لي ذنبي، واغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، وقل الحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفى» انتهى.
وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ} وما بعدها من التقريراتِ توبيخٌ لهم وتقريرٌ على ما لا مَنْدُوحَةَ عن الإقرارِ به، والحدائق مُجْتَمع الشجرِ من الأعنابِ والنَّخِيل وغير ذلك، قال قوم: لا يقال حديقةٌ إلا لِمَا عليه جدارٌ قد أحدق له.
وقال قوم: يقال ذلك كان جدارٌ أو لم يَكُنْ؛ لأَن البَيَاضَ مُحْدِقٌ بالأشجار، والبهجةُ الجمالُ والنَّضَارَة.
وقوله سبحانه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي: ليس ذلك في قدرتِكم، و{يَعْدِلُونَ} يجوز أن يرادَ به: يعدِلُونَ عن طريق الحقِّ، ويجوزُ أَنْ يُرَادَ به يَعْدِلُونَ باللّهِ غيرَه، أي: يجعلون له عَدِيلاً ومَثِيلاً، و{خِلاَلَها} مَعْنَاه: بَيْنها، والرواسي: الجبال، والبحرانِ: الماءُ العذبُ والماءُ الأجاج؛ على ما تقدم، والحاجز: ما جَعَلَ اللّه بيْنَهما مِنْ حَوَاجِز الأرْضِ وموانِعها على رِقَّتِها في بعض المواضع، ولطافتِها؛ لولا قدرة اللّه لغلب المالحُ العذَب.