الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشعراوي: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}نحن نعلم أن النار لا تُحمى إلا للمعادن، فإن كان ما كنزوه أوراقَ نقد فكيف يُحمَى عليها؟ وإن كان ما كنزوه معادن فهي صالحة لأنْ تُكْوَى بها أجسادهم، أما الورق فكيف يتم ذلك؟ ونقول: إن القادر سبحانه وتعالى يستطيع أن يجعل من غير المُحْمَى عليه مُحمىً، أو يحولها إلى ذهب وفضة؛ وتكوى بها نَواحٍ متعددة من أجسادهم، والكية هي أن تأتي بمعدن ساخن وتلصقه بالجلد فيحرقه ويترك أثرًا.وحين مات أحد الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبحثوا في ثيابه فوجدوا فيها دينارًا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «هذه كَيَّة من النار»؛ لأن صاحبه كان حريصًا على أن يكنزه، كما وجدوا مع صحابي آخر دينارين كنزهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاتان كَيَّتانِ».كان هذا قبل أن تشرع الزكاة، أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق الله فيه فلا يُعَدُّ كنزًا، وإلا لو قلنا: إنَّ الإنسان إذا أبقى بعضًا من المال لأولاده حتى ولو أدى زكاته فإن ذلك يعتبر كنزًا، لو قلنا ذلك لكنا قد أخرجنا آيات الميراث في القرآن الكريم عن معناها؛ لأن آيات الميراث جاءت لتورث ما عند المتوفي. والمال المورَّث المفترض فيه أنه قد أتى عن طريق حلال وأدى فيه صاحبه حق الله، لذلك لا يعتبر كنزًا.وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}، لماذا خَصَّ الله هذه الأماكن بالعذاب؟ لأن كل جارحة من هذه الجوارح لها مدخل في عدم إنفاق المال في سبيل الله. كيف؟ مثلًا: تجدون الوجه هو أداة المواجهة، وإذا رأيت إنسانًا فقيرًا متجهًا إليك ليطلب صدقة، وأنت تعرف أنه فقير وقد جاءك لحاجته الشديدة، فإن كان أول ما تفعله حتى لا تؤدي حق الله أن تشيح بوجهك عنه، أو تعبس ويظهر على وجهك الغضب، فإن هذا الفقير يحس بالمهانة والذلة؛ لأن الغني قد تركه وابتعد عنه، فإذا لم تنفع إشاحة الوجه واستمر الفقير في تقدمه من الغني، فإنه يعرض عنه بأن يدير له جنبه ليحس بعدم الرضا، فإذا استمر الفقير واقفًا بجانبه فإنه يعطي له ظهره.إذن: فالجوارح الثلاث قد تشترك في منع الإنفاق في سبيل الله، وهي الوجه الذي أداره بعيدًا، ثم أعطاه جانبه، ثم أعطاه ظهره. هذه هي الجوارح الثلاث التي تشترك في منع حق الله عن الفقير، ولذلك لابد أن تُعذَّب فَتُكْوى الجباه والجنوب والظهور.ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ}، أي: هذا ما منعتم فيه حق الله، فإن كنز الإنسان مالًا كثيرًا فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالًا قليلًا؛ لأن الكَيَّ سيكون بمساحة كبيرة، أما إن كان الكنز صغيرًا فتكون الكية صغيرة.ولهذا لا يجب أن يغتر المكتنز بكمية ما كنز؛ لأن حسابه سوف يكون على قدر ما كنز.وقوله سبحانه وتعالى: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: أن عذابكم في الآخرة سيكون بسبب كنزكم المال، فالمال الذي تفرحون بكنزه في الدنيا كان يجب أن يكون سببًا في حزنكم؛ لأنكم تكنزون عذابًا لأنفسكم يوم القيامة، ومهما أعطاكم كنز المال من تفاخر وغرور في الحياة الدنيا، فسوف يقابله في الآخرة عذابٌ، كُلٌّ على قدر ما كنز. اهـ..قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة: قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}فإن قيل: اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟أجيب: بأنّ من اعتقد أن العزير ابن الله وأنّ المسيح ابن الله فليس بمؤمن بل هو مشرك وبأنّ من كذب رسولًا من الرسل فليس بمؤمن واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء {ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله} من الشرك وأكل أموال الناس بالباطل وتبديل التوراة والإنجيل وغير ذلك {ولا يدينون دين الحق} أي: الثابت الذي هو ناسخ لسائر الأديان وهو الإسلام كما قال تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام}{من الذين أوتوا الكتاب} أي: اليهود والنصارى بيان للذين لا يؤمنون {حتى يعطوا الجزية} وهي الخراج المضروب على رقابهم في نظير سكناهم في بلاد الإسلام آمنين مأخوذ من المجازاة لكفنا عنهم.وقيل من الجزاء بمعنى القضاء قال الله تعالى: {واتقوا يومًا لا تجزى نفس عن نفس شيئًا} أي: لا تقضي وقوله تعالى: {عن يد} حال من الضمير أي: منقادين مقهورين يقال لكل من أعطي شيئًا كرهًا من غير طيب نفس أعطي عن يد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وهل يجوز أن يوكلوا مسلمًا في دفعها أو لا ينبغي على تفسير الصغار المذكور في قوله تعالى: {وهم صاغرون} أي: أذلاء منقادون لحكم الإسلام ويكفي في الصغار أن يجري عليهم الحكم بما لا يعتقدون حله أن يجوز التوكيل على هذا تفسيره- أن يجلس الآخذ ويقوم الكافر ويطأطئ رأسه ويحني ظهره ويضع الجزية في الميزان ويقبض الآخذ لحيته ويضرب لهزمتيه وهما مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من الجانبين: مردود بأن هذه الهيئة باطلة ودعوى سنيتها أو وجوبها أشدّ بطلانًا ولم ينقل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا من الخلفاء الراشدين فعل شيئًا من ذلك وعلى تفسيرها بما ذكر يمتنع التوكيل إذا قيل بوجوبه لا باستحبابه..تنبيه [في بيان إلحاق المجوس بأهل الكتاب]: مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ولكن ألحق بهم المجوس لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وكذا من زعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم ومن أحد أبويه كتابيّ والآخر وثنيّ وأولاد من تهوّد أو تنصر قبل النسخ أو شككنا في وقت التهوّد والتنصر أكان قبل النسخ أم بعده؟ فلا تعقد لأولاد من تهوّد أو تنصر بعد النسخ في ذلك الدين ولا لعبدة الأوثان والشمس والملائكة والسامرة والصابئون إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم فليسوا منهم وإلا فمنهم، وعن مالك تؤخذ الجزية من كل كافر إلا المرتد، وعن أبي حنيفة إلا مشركي العرب، وأقلّ الجزية دينار لكل سنة عن كل واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «خذ من كلّ حالم»- أي: محتلم- دينارًا صححه ابن حبان والحاكم وتؤخذ من زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير وفقير عجز عن كسب فإذا تمت سنة وهو معسر ففي ذمّته حتى يوسر، وقال أبو حنيفة على الغنيّ ثمانية وأربعون درهمًا وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على فقير غير كسوب ولابد أن يكون المأخوذ منه حرًّا ذكرًا غير صبيّ ومجنون وتلحق إفاقة مجنون كثرت فإن قلّ زمن الجنون كساعة من شهر فلا أثر لها ولو بلغ ابن ذمي ولم يعط جزية ألحق بمأمنه وإن أعطاها عقد له.وقيل: عليه كجزية أبيه ولا يحتاج إلى عقد له اكتفاء بعقد أبيه ومن مات ممن عقدت له الجزية أو أسلم أو جنّ أو حجر عليه بفلس أو سفه بعد سنة فجزيته كدين آدميّ أو في أثنائها تقسط وتسقط بالإسلام والموت عند أبي حنيفة.{وقالت اليهود عزير ابن الله} اختلفوا في قائل هذه المقالة على أقوال: أحدها قال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال: إنّ الله فقير ونحن أغنياء وثانيها قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبع دينك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذين القولين القائل إنما هو بعض اليهود إلا أنّ الله تعالى نسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على اسم الواحد يقال: فلان ركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحدًا منها، وفلان يجالس السلاطين ولعله لم يجالس إلا واحدًا. وثالثها: أنّ هذا المذهب لعله كان ثابتًا فيهم ثم انقطع فحكى الله تعالى ذلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود لذلك فإنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب واختلف في السبب الذي قالوا ذلك لأجله فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنّ اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرّع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه وقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردّها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء الله تعالى ثم إنّ التابوت أنزل بعد ذهابه عنهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله وقيل: لما رفع الله تعالى عنهم التوراة خرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لا يخرم منها حرفًا، فقالوا: ما جمع الله التوراة في قلبه وهو غلام إلا أنه ابنه، وقال الكلبيّ: إنّ بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرًا فاستصغره فلم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة فبعث الله تعالى عزيرًا ليجدّد لهم التوراة ويكون لهم آية بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة وأرسل إليه ملكًا بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره فلما أتاهم وقال لهم: أنا عزير كذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فاتل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إنّ رجلًا منهم قال: إنّ أبي حدّثني أنّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوا بها ما كتبه عزير فلم يجدوه غادر حرفًا فقالوا: إنّ الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.وقرأ عاصم والكسائيّ {عزير} بالتنوين والباقون بغير تنوين، قال الزجاج: الوجه إثبات التنوين فقوله: عزير مبتدأ، وقوله: ابن خبره، وإذا كان كذلك فلابد من التنوين في حال السعة لأنّ عزيرًا ينصرف سواء كان عربيًا أم عجميًا وسبب كونه منصرفًا أمران: أحدهما: أنه اسم خفيف فينصرف وإن كان أعجميًا كهود ولوط والثاني: أنه على صيغة التصغير وأنّ الأسماء الأعجمية لا تصغر. وأمّا الذين تركوا التنوين فلهم فيه أوجه: أحدها أنه أعجميّ معرفة فوجب أن لا ينصرف. وثانيها: قال الفرّاء: نون التنوين ساكنة من عزير والباء من ابن الله ساكنة فحصل هاهنا التقاء الساكنين فحذف التنوين للتخفيف، وردّ هذا الوجه بأنه مخالف لما تقرّر من أن الوجه عند ملاقاة التنوين للساكن التحريك لا الحذف. وثالثها: أنّ الابن وصف والخبر محذوف والتقدير عزير بن الله معبودنا، وردّ هذا أيضًا بأنه يؤدّي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدّر لأنّ من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر فكان المقصود بالإنكار قولهم: عزير ابن الله معبودنا وحصل تسليم كونه ابن الله ومعلوم أن ذلك كفر.{وقالت النصارى المسيح} أي: عيسى {ابن الله} واختلف في السبب الذي قالوا ذلك لأجله فقيل: إنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب، وقيل: إنّ النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود: إن الحق مع عيسى وقد كفرنا ومصيرنا إلى النار ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار وكان له فرس يقاتل عليه يقال له العقاب فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وقال للنصارى: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتًا فيها مكث فيه سنة لا يخرج منه ليلًا ولا نهرًا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج منه وقال: إنه نودي أنّ الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم عمد إلى ثلاث رجال اسم واحد منهم نسطورا والآخر يعقوب والآخر ملكا فعلم نسطورا أنّ عيسى ومريم والإله ثلاث وعلم يعقوب أنّ عيسى ليس بإنسان ولا جسم ولكنه ابن الله وعلم ملكا أنّ عيسى هو الإله لم يزل ولا يزال فلما اشتهر ذلك فيهم دعا كل واحد منهم وقال له: أنت خالصتي فادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من اليلاد ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني، وقال لكل واحد منهم: سأذبح نفسي تقرّبًا إلى عيسى، ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرّق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس وواحد إلى ناحية أخرى وأحكم كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرّقوا واختلفوا ووقع القتال فهذا هو السبب في وقوع الكفر في طوائف النصارى هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى قال الرازي عقب هذه الحكاية: والأقرب عندي أن يقال ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف ثم إنّ القوم لأجل عداوة القوم بالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوّة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك وفشا هذا المذهب الفاسد في اتباع عيسى عليه السلام والله سبحانه وتعالى أعلم بالحقيقة {ذلك قولهم بأفواههم} أي: لا مستند لهم عليه.
|