الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:أحدهما: قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.الثاني: أن أمَّنَهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما قال: الأمن منيم، والخوف مسهر.وقوله تعالى: {أَمَنَةً مِّنْهُ} يعني به الدعة وسكون النفس من الخوف وفيه وجهان:أحدهما: أمنة من العدو.الثاني: أمنة من الله سبحانه وتعالى.{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} لأن الله تعالى أنزل عليهم ماء السماء معونة لهم بثلاثة أمور:أحدها: الشرب وإن كانوا على ماء.الثاني: وهو أخص أحواله بهم في ذلك المكان وهو أن الرمل تلبد بالماء حتى أمكن المسلمين القتال عليه.والثالث: ما وصفه الله تعالى به من حال التطهير.وفي تطهيرهم به وجهان:أحدهما: من وساوس الشيطان التي ألقى بها في قلوبهم الرعب، قاله زيد بن أسلم.والثاني: من الأحداث والأنجاس التي نالتهم، قاله الجمهور.قال ابن عطاء: أنزل عليهم ماءً طهر به ظواهر أبدانهم، وأنزل عليهم رحمة نقّى بها سرائر قلوبهم.وإنما خصه الله تعالى بهذه الصفة لأمرين:أحدهما: أنها أخص صفاته.والثاني: أنها ألزم صفاته.ثم قال: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيَطانِ} فيه قولان:أحدهما: وسوسته أن المشركين قد غلبوهم على الماء، قاله ابن عباس.والثاني: كيده وهو قوله: ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة، قاله ابن زيد.{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} يحتمل وجهين:أحدهما: ثقة بالنصر.والثاني: باستيلائهم على الماء.{وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} فيه قولان:أحدهما: بالصبر الذي أفرغه الله تعالى حتى يثبتوا لعدوهم، قاله أبو عبيدة.والثاني: تلبيد الرمل بالمطر الذي لا يثبت عليه قدم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. اهـ.
وقوله: {أمنة} مصدر من أمن الرجل يأمن أمنًا وأمنة وأمانًا، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة، وقرأ ابن محيصن {أمْنة} بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله، وهو في الصلاة من الشيطان.قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده، وقوله: {وينزل عليكم من السماء ماء} تعديد أيضًا لهذه النعمة في المطر، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره، وقاله الزجّاج: إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم- بإلقاء الشيطان إليهم- نزعم أنَّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر.وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين، وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت قالوا: فهذا معنى قوله: {ليطهركم به} أي من الجنابة، {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر والرجز العذاب، وقرأ أبو العالية {رجس} بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر، وقرأ ابن محيصن {رُجز} بضم الراء، وقرأ عيسى بن عمر {ويذهبْ} بجزم الباء، {وليربط على قلوبكم} أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم: رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب {ويثبت به الأقدام} أي في الرملة الدهسة التي كان المشي فهيا صعبًا.قال القاضي أبو محمد: والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء، فقال له حباب: أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة.قال القاضي أبو محمد: ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم، وهذا قبل الترائي بالأعين، وأيضًا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.قال القاضي أبو محمد: هذا أحد ما يحتمله قوله: {ويثبت به الأقدام} والضمير في {به} على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل أن يعود الضمير في {به} على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.قال القاضي أبو محمد: ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ {وينزل عليكم من السماء ماء} ساكنة الألف {ليطهركم به} قال: وهي بمعنى الذي.قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب {ليطْهركم به} بسكون الطاء. اهـ.
|