فصل: قال الألوسي:

صباحاً 4 :54
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
13
السبت
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عباس أيضًا: هو الرجل يُلِمُّ بذنب ثم يتوب.
قال: ألم تسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول:
إن يَغفر اللَّهُ يغفر جَمّا ** وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألَمَّا

رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس.
قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادًا.
وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {إِلاَّ اللَّمَمَ} قال: هو أن يلمّ العبد بالذنب ثم لا يعاوده؛ قال الشاعر:
إن تَغفِرِ اللهم تغفر جَمَّا ** وأيُّ عبدٍ لكَ لا أَلَمَّا

وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود.
ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] الآية.
ثم قال: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [آل عمران: 136] فضمن لهم المغفرة؛ كما قال عقيب اللمم: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} فعلى هذا التأويل يكون {إِلاَّ اللمم} استثناء متصل.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك.
وقيل: اللمم الذنب بين الحدّين وهو ما لم يأت عليه حدّ في الدنيا، ولا تُوعِّد عليه بعذاب في الآخرة تكفِّره الصلوات الخمس.
قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة.
ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس.
وقال الكلبي: اللمم على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًّا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة؛ فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش.
والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلمّ به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه.
وعن ابن عباس أيضًا وأبي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به.
وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه؛ وهو كقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23].
وقيل: اللّمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة؛ قاله نفطويه.
قال: والعرب تقول ما يأتينا إلاَّ لِمَامًا؛ أي في الحين بعد الحين.
قال: ولا يكون أن يلمّ ولا يفعل، لأن العرب لا تقول ألمّ بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا همّ ولم يفعله.
وفي الصحاح: وألمّ الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة.
وأنشد غير الجوهري:
بِزينَب أَلْمِمْ قَبْلَ أن يَرْحَلَ الرَّكبُ ** وقُلْ إِنْ تَمَلِّينَا فما مَلَّكِ الْقَلْبُ

أي اقرب.
وقال عطاء بن أبي رباح: اللّمم عادة النفس الحين بعد الحين.
وقال سعيد بن المسيّب: هو ما ألمّ على القلب؛ أي خطر.
وقال محمد بن الحنفية: كلّ ما هممت به من خير أو شر فهو لَمَم.
ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: «إن للشيطان لَمّة وللملَك لَمَّة» الحديث.
وقد مضى في (البقرة) عند قوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} [البقرة: 286].
وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل اللّمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه؛ يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمَمًَا وإلمامًا؛ أي الحين بعد الحين.
وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال؛ قال الأعشى:
أَلَمّ خَيَالٌ مِن قُتَيْلَةَ بَعْدَمَا ** وَهَى حَبْلُها مِن حَبْلِنَا فَتَصَرَّمَا

وقيل: إلا بمعنى الواو.
وأنكر هذا الفرّاء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب.
وقيل: الَّلمم النظرة التي تكون فجأة.
قلت: هذا فيه بعدٌ إذ هو معفوّ عنه ابتداء غير مؤاخذ به؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار، وقد مضى في (النور) بيانه.
والّلمم أيضًا طرف من الجنون، ورجل ملموم أي به لَمَمٌ.
ويقال أيضًا: أصابت فلان لمّةٌ من الجنّ وهي المسّ والشيء القليل؛ قال الشاعر:
فإذا وذَلِك يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ** إِلاَّ كَلَمَّةِ حالِمٍ بِخَيالِ

الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} لمن تاب من ذنبه واستغفر؛ قاله ابن عباس.
وقال أبو ميسرة عمرو بن شَرَحْبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قِباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكَلاَع وحَوْشَب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضًا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة.
فقال أبو خالد: بلغني أن ذا الكَلاَع أعتق اثني عشر ألف بنت.
قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} من أنفسكم {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع.
قال الترمذيّ أبو عبد الله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض، وكنا جميعًا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذَرْوِ النفوس على اختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صُلْبها على اختلاف الهيئات؛ منهم كالدرّ يتلألأ، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحُمَمَة، وبعضهم أشدّ سوادًا من بعض؛ فكان الإنشاء واقعًا علينا وعليه.
حدّثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال: حدّثنا بِشر بن بَكرٍ، قال: حدّثنا الأوزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُرض عليّ الأوّلون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة» فقال قائل: يا رسول الله! وَمن مضى من الخلق؟ قال: «نعم عُرض عليّ آدم فمن دونه فهل كان خُلِقَ أحد» قالوا: ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات؟ قال: «نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها».
قلت: وقد تقدّم في أوّل (الأنعام) أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها.
{وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} جمع جَنِين وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنِينًا لاجتنانه واستتاره.
قال عمرو بن كُلْثوم:
هِجانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقرأ جَنِينَا

وقال مكحول: كنا أجنّة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقي، ثم صرنا رُضَّعًا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يَفَعةً فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخًا لا أبالك! فما بعد هذا ننتظر؟! وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبيّ صغير: هو صِدِّيق؛ فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد» فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} إلى آخرها.
ونحوه عن عائشة: «كان اليهود».
بمثله.
{فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] أي لا تمدحوها ولا تثُنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع.
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله؛ عن الحسن وغيره.
قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة.
وقد مضى في (النساء) الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} فتأمله هناك.
وقال ابن عباس: ما من أحد من هذه الآمة أزكّيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله: {إِلاَّ اللمم} هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلًا، وإنْ قدرته مُنْقَطِعًا ساغ ذلك، وبِكُلٍّ قد قيل، واخْتُلِفَ في معنى {اللمم} فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشَّعْبِيُّ، وغيرهم: اللمم: صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها؛ لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحُسْنَى إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماءُ في هذا القول، وكَثُرَ المائِلُ إليه، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان، وقال ابن عباس: معناه: إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه، وعنِ الحسن بن أبي الحسن أَنَّهُ قال: في اللَّمَّةِ من الزنا، والسَّرِقَةِ، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال ع: وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى؛ إذِ الغالب في المؤمنين مواقعةُ المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلى الله عليه وسلم: الرجز:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا

وقوله سبحانه: {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء، وأجِنَّةٌ: جمع جنين.
وقوله سبحانه: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهيًا عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضًا، وإذا كان هذا، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحدًا لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديثُ صحيحة، وباقي الآية بَيِّنٌ.
ت: قال صاحِبُ (الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ): أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعًا للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها؛ لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء اللَّه: أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة، وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعِفَّةٍ عَدَمُ الرضا منك عنها؛ قال شارحه ابن عُبَّاد: الرضا عن النفس: أصل جميع الصفات المذمومة، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب؛ وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا؛ كما قيل: الطويل:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ** وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا

انتهى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَللَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقًا وملكًا لا لغيره عز وجل أصلًا لا استقلالًا ولا اشتراكًا، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى: {لِيَجْزِىَ الذين فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانًا لحاله؛ أو بمثل ما عملوا، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير {وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ} أي اهتدوا {بالحسنى} أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبىء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلابد من ضال ومهتد، وَمِن أن يلقى كل ما يستحقه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يلقى الحسنى جزاءًا لتبليغه وهم يلقون السوأى جزاءًا لتكذيبهم، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين.
وجوز أن يكون معنى {فَأَعْرَضَ} [النجم: 29] الخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك أنه أعلم بك وبهم فيجزى كلًا ما يستحقه، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في {بِمَن ضَلَّ} {وَبِمَن اهتدى} [النجم: 30] وجعل قوله تعالى: {لِيَجْزِىَ} على هذا متعلقًا بما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} الخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم {لِيَجْزِىَ} الخ، وقوله سبحانه: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات} جملة معترضة تؤكد حديث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل: هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق {لِيَجْزِىَ} بقوله تعالى: {وَللَّهِ مَا في السموات} كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد، أي هو أعلم بهم وإنما سوي هذا الملك للجزاء، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ، وجوز في جملة {للَّهِ مَا في السموات} كونها حالًا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أولًا، وفي {لِيَجْزِىَ} تعلقه بضل و{اهتدى} على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله، و{بِمَنِ اهتدى} ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى، ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه: {لاَ تُغْنِى شفاعتهم} [النجم: 26] كما ذكره مكي، وقرأ زيد بن علي {لنجزى} و{نجزى} بالنون فيهما {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر محذوف؛ و{الإثم} الفعل المبطىء عن الثواب وهو الذنب وكبائره ما يكبر عقابه.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {كبير الاثم} على إرادة الجنس، أو الشرك {والفواحش} ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وقيل: الفواحش والكبائر مترادفان {إِلاَّ اللمم} ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره، ومنه لمَةُ الشعر لأنها دون الوفرة، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة والغمزة والقبلة وهو من باب التمثيل، وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وعليه قول الرماني هو الهمّ بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع، وقول ابن المسيب: ما خطر على القلب، وعن ابن عباس وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] على ما في (البحر)، وقيل: هو مطلق الذنب.
وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع، وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلًا، و{إِلا} صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الاثم في حكم النكرة، أو لأن غير و{إِلا} التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في {غَيْرِ المغضوب} [الفاتحة: 7] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع {إِلا} صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك، وتبعه أكثر المتأخرين، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا: سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، والقاضي أبو بكر البلاقلاني، وإمام الحرمين في (الإرشاد)، وتقي الدين السبكي وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة، وحكى الانقسام عند المعتزلة، وقال: إنه ليس بصحيح، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة، والجمهور على الانقسام قيل: ولا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرًا إلى عظمة الله عز وجل وشدة عقابه سبحانه وإجلالًا له جل شأنه عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أيّ كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم؛ وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حد الكبيرة فقيل: هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء، وقيل: كل معصية أوجبت الحدّ وبه قال البغوي وغيره والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل، وقد يقال: يرد على الأول أيضًا أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد.