الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل في معاني السورة كاملة: .قال المراغي: {انشقت}: أي تشقّقت بالغمام كما جاء في قوله: {وَيوم تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} وأَذِنَتْ لربها: أي استمعت له كما قال: و{حقّت}: أي وحق لها أن تمتثل ذلك أي يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير: {مُدَّتْ}: أي بسطت بزوال جبالها ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، و{ألقت ما فيها}: أي ألقت ما في جوفها من الموتى والكنوز، و{تخلت}: أي خلت مما فيها فلم يبق فيها شيء، {كادِحٌ}: أي جاهد مجدّ. قال شاعرهم: {فملاقيه}: أي فملاق له عقب ذلك، ينقلب: أي يرجع، {أهله}: أي عشيرته المؤمنين، {وراء ظهره}: أي بؤتاه بشماله من وراء ظهره، والثبور: الهلاك أي ينادى ويقول: وا ثبوراه أقبل فهذا أوانك، و{يصلى}: أي يقاسى، و{سعيرا}: أي نارا مستعرة، {مسرورا}: أي فرحا، {يحور}: أي يرجع قال لبيد: والمراد أنه لن يرجع إلى اللّه، {بلى}: أي بلى يحور ويرجع. الشفق: هو الحمرة التي تشاهد في الأفق الغربي بعد الغروب، وأصله رقة الشيء، يقال ثوب شفق: أي لا يتماسك لرقته، ومنه أشفق عليه: أي رق له قلبه قال: {وسق}: أي ضم وجمع، يقال وسقه فاتَّسَقَ واستوسق: أي جمعه فاجتمع، وإبل مستوسقة: أي مجتمعة قال: و{اتَّسَقَ} أي اجتمع نوره وصار بدرا، {لتركبن}: أي لتلاقنّ، والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس: والمراد لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهى الموت وما بعده، {لا يسجدون}: أي لا يخضعون ولا يستكينون، {يوعون}: أي يجمعون في صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت في العذاب تهكما، و{ممنون}: أي مقطوع من قولهم منّ فلان الحبل إذا قطعه. اهـ.. باختصار. .قال الفراء: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} قوله عز وجل: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ...}. تشقق بالغمام. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} وقوله عز وجل: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ...}. سمعت وحق لها ذلك. وقال بعض المفسرين: جواب {إِذا السّماء انشقت} قوله: {وأَذِنَتْ} ونرى أنه رأى ارتآه المفسر، وشبهه بقول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُها} لأنا لم نسمع جواباً بالواو فى(إذ) مبتدأة، ولا قبلها كلام، ولا في (إذا) إذا ابتدئت، وإنما تجيب العرب بالواو في قوله: حتى إذا كان، و(فلما أن كان) لم يجاوزوا ذلك. قال الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِن كلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، واقْتَرَبَ} بالواو، ومعناه: اقترب. والله أعلم. وقد فسرناه في غير هذا الموضع. {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} وقوله عز وَجل: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ...}. بسطت ومُدِّدت كما يمدّد الأديم العكاظى والجواب فى: {إذا السماءُ انشقَّت}، وفى {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} كالمتروك؛ لأنَّ المعنى معروف قد تردّد في القرآن معناه فعرف. وإن شئت كان جوابه: {يأيها الإنسان}. كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيأيها الناس ترون ما عملتم من خير أو شر. تجعل {يأيها الإنسان} هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، وقد فسِّر جواب: إذا السماء- فيما يلقى الإنسان من ثواب وَعقاب- وكأن المعنى: ترى الثواب والعقاب إذا انشقت السماء. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} وقوله جل وعز: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ...}. يقال: إن أيمانهم تُغل إلى أعناقهم، وتكون شمائلهم وراءَ ظهورهم. {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً} وقوله عز وجل: {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً...}. الثبور أن يقول: واثبوراه، واويلاه، والعرب تقول: فلان يدعو لَهَفه إذا قال: والهَفَاه. {وَيَصْلَى سَعِيراً} وقوله: {وَيَصْلَى سَعِيراً...}. قرأ الأعمش وعاصم: {ويَصْلَى}. وقرأ الحسن والسلمى وبعض أهل المدينة: {ويُصَلَّى} وقوله: {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ}. يشهد للتشديد لمن قرأ: {ويُصَلَّى}، و{يَصْلى} أيضًا جائز لقول الله عز وجل: {يَصْلَوْنَها}، و{يَصْلاَها}. وكل صواب واسع. {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} وقوله عز وجل: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ... بَلَى...}. أن لن يعود إلينا إلى الآخرة. بلى ليحورَنَّ، ثم استأنف فقال: {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً...}. {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} وقوله عز وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ...}. والشفق: الحمرة التي في المغرب من الشمس حدثنا أبو العباس قال: حدثنا محمد قال: حدثنا الفراءُ قال: حدثنى ابن أبى يحيى عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده رفعه قال: الشفق: الحمرة. قال الفراء: وكان بعض الفقهاء يقول: الشفق: البياض لأنّ الحمرة تذهب إذا أظلمت، وإنما الشفق: البياض الذي إذا ذهب صُلِّيت العشاء الآخرة، والله أعلم بصواب ذلك. وسمعْتُ بعض العرب يقول: عليه ثوبٌ مصبوغ كأنه الشفق، وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة. {وَاللَّيْلِ وَمَا وسق} وقوله عز وجل: {وَاللَّيْلِ وَمَا وسق...}: وما جمع. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} وقوله تبارك وتعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ...}. اتساقه: امتلاؤه ثلاث عشرة إلى ست عشرة فيهن اتساقه. {لتركبن طبقا عَن طبق} وقوله عز وجل: {لتركبن طبقا عَن طبق...}. حدثنا أبو العباس قال: حدثنا محمد قال: حدثنا الفراء قال: حدثنى قيس بن الربيع عن أبى إسحاق: أن مسروقا قرأ: (لتركبن يا محمد حالاً بعد حال) وذُكر عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: {لتركبن} وفسر: لتركبن السماء حالاً بعد حال. حدثنا أبو العباس قال: حدثنا محمد قال:، حدثنا الفراء قال: وحدثنى سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ: {لتركبن} وفسر: لَتصِيرَن الأمورُ حالا بعد حال للشدة. والعرب تقول: وقع في بناتِ طبق، إذا وقع في الأمر الشديد، فقد قرأ هؤلاء: {لتركبن} واختلفوا في التفسير. وقرأ أهل المدينة وكثير من الناس: {لتركبن طبقا} يعنى: الناس عامة! وَالتفسير: الشدة وقال بعضهم في الأول: لتركبن أنت يا محمد سماءً بعد سماء، وَقرئت: {لَيَرْكَبُنَّ طبقا عنْ طبق} وَمعانيهما معروفة، {لتركبن}، كأنه خاطبهم، {وَلَيَرْكبُنَّ} أخبر عنهم. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} وقوله عز وجل: {بمَا يُوعُونَ...}. الإيعاء: ما يجمعون في صدورهم من التكذيب والإثم. والوعى لو قيل: وَالله أعلم بما يوعون لكَان صوابا، ولكنه لا يستقيم في القراءة. اهـ. .قال الأخفش: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} قال: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: وَحُقَّ لَها. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} وقال: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} تقول: أَوْعيتُ في قلبي كذا وكذا. كما تقول أَوْعَيْتُ الزادَ في الوِعاء. وتقول وَعَتْ أُذُنِي. وقال: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}. {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} وأما {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فعلى معنى {يا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} [6] {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} على التقديم والتأخير. اهـ. .قال ابن قتيبة: 2- قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها}: استمعت، وَحُقَّتْ أي حقّ لها. 6 – {إِنَّكَ كادِحٌ}، أي عامل ناصب في معيشتك، إِلى لقاء رَبُّكَ. 11- {فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً} أي بالثبور، وهو: الهلكة. 14- {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي لن يرجع ويبعث. 16- {بِالشَّفَقِ}: الحمرة التي ترى بعد مغيب الشمس. 17- {وَاللَّيْلِ وَما وسق} أي جمع وحمل. ومنه: الوسق، وهو: الحمل. 18- {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي امتلأ في الليالي البيض. 19- {لتركبن طبقا عَنْ طبق} أي حالا بعد حال. قال الشاعر: 23- {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ} أي يجمعون في صدورهم وقلوبهم يقال: أوعيت المتاع، إذا جعلته في الوعاء. 25- {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع. اهـ. .قال الغزنوي: 2 {أَذِنَتْ}: سمعت وأطاعت، {وَحُقَّتْ}: حقّ لها السّمع والطاعة. 3 {مُدَّتْ}: بسطت وسوّيت باندكاك الجبال. 6 {كادِحٌ}: ساع دؤوب. 17 {وسق}: جمع. 18 {اتَّسَقَ}: استوى. 19 {طبقا عَنْ طبق}: حالا عن حال. اهـ. .قال ملا حويش: عدد 33- 83 و84. نزلت بمكة بعد سورة الانفطار. وهي خمس وعشرون آية. ومائة وسبع كلمات. وأربعمائة وثلاثون حرفا. وتسمى سورة انشقت. لا يوجد مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ 1 وَأَذِنَتْ} سمعت وأجابت وأذعنت وخضعت {لِرَبِّها} في ذلك الانشقاق، وهو مثل انفطرت في السورة المارة من حيث المعنى. وأعلم أن انشقاق السماء وإن ثبت في هذه الآية نصا إلا أن موضعه وكيفيته غير معلومة على القطع، وقد عثرنا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه وجهه أنها تنشق من المجرّة، وقد جاء بالآثار أن المجرة باب السماء، وقال بعضهم إنها وسط السماء، وقال أهل الهيئة إنها نجوم صغار متقاربة بعضها من بعض، وقولهم هذا لا ينافي كونها باب السماء ووسطه، وان مصعد الملائكة ومهبطهم منها واللّه أعلم. وما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل معإذا إلى اليمن وقال له «إنهم سائلوك عن المجرة فقل لهم إنها لعاب حية تحت العرش» لا يصح، وليس هو من متعلقات الدين حتى يوصيه به. وأذن بمعنى سمع وارد في كلام العرب، قال قغيد: وقال الآخر: أي سمعوا وصاروا كلهم آذانا وسماعها انقيادها لأمر اللّه بما يراد منها. {وَحُقَّتْ} 2 أي وحق لها إطاعة ربها، وليس لها أن تأباه أو تمتنع عنه لأنها مخلوقة له، ولا على المخلوق إلا إطاعة خالقه {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} 3 بسطت وسوّيت باندكاك جبالها وبنائها في أوديتها وبحورها {وَأَلْقَتْ ما فِيها} من الأموات المكفوتين بها {وَتَخَلَّتْ} 4 عن كل ما فيها {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} 5 وحق لها أن تنقاد لأمره في ذلك كله لأنه هو الذي صنعها وأودع مكوناته فيها. أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأجلس جالسا في قبري، وان الأرض تحرك بي، فقلت لها مالك؟ فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت، إذ لا شيء فيّ وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ} الآية». ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى لما يتعلق بالسماء، وهذه بالأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجواب إذا محذوف تقديره وقع من الهول ما تقصر عنه عبارة الفقهاء الفصحاء ويكل عنه لسان العلماء البلغاء. قال تعالى: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ} المراد به الجنس فيدخل فيه كل إنسان {إِنَّكَ كادِحٌ} جاهد وساع مدافع في عملك وسائر فيه {إِلى رَبِّكَ كَدْحاً} عظيما، الكدح عمل الإنسان جهده في الخير والشر وهو مفعول لكادِحٌ {فَمُلاقِيهِ} 6 أي مواجه ربك يوم الجزاء فتقف أمامه فيجازيك على عملك الخير بأحسن منه والشر بمثله {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ بِيَمِينِهِ} 7 في ذلك اليوم الذي وعدكم به الرسل {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} 8 وينال الثواب المترتب عليه {وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ} المعدين له في الجنة من أهل الجنة ومن المؤمنين المتصلين به أهل الدنيا {مَسْرُوراً} 9 بما أوتي من الخير والكرامة وهذا الكتاب الذي يأخذه يفرح به، راجع الآية 19 فما بعدها من سورة الحاقة، وحق له أن يسر لأنها مؤديه إلى جنة ربه ورضاه، فمن ينجح بأعلى شهادة بالدنيا عبارة عن أنها تخوله مزاولة الطب والمحاماة أو الهندسة والزراعة أو السياسة أو القضاء من مناصب الدنيا الفانية وفي نهايتها التعب والعناء، تراه يطير فرحا، فكيف بمن يفوز بالدار الباقية وما فيها من حور وولدان ومآكل ومشارب وملابس وسرور لا يفنى، وشتان بين المسرورين كما بين الدنيا والآخرة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} 10 إهانة له وكراهية لرؤيته وبعضا لإمساكه {فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً} 11 يصيح يا ويلاه يا هلاكاه، وهذا أشد حسرة وأكثر تأثرا وأعظم حزنا ممن يسقط في آخر دورة من أدوار تعليمه إذ يرجى له أن يمهل ليكمل أو يؤذن له بما دون ذلك، وأما هذا فيلاقي العذاب الأليم ويخلد في الجحيم ولا يجاب دعاؤه ولا يسمع نداؤه {وَيَصْلى سَعِيراً} 12 نارا تأجج يحرق فيها لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة طيبة {إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ} بدار الدنيا {مَسْرُوراً} 13 باتباع هواه وركوب شهوته والعكوف على ملاذه {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} 14 يرجع إلى ربه ولن يحيى بعد موته وليس كما ظن {بَلى} إنه يعود إلى ربه ويبعث من قبره ويحاسب على فعله {إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً} 15 من يوم خلقه إلى يوم حشره إلى ما بعد ذلك، والبصير لا يخفى عليه شيء، وهو مبالغة من باصر، وهو من يدرك الأمور المحسوسة والمعقولة يبصره وبصيرته، ولما كان اللّه تعالى عالما بأحواله كلها فلا يجوز في حكمته إهماله، بل لابد من إثابته على صالح عمله ومعاقبته على سيئه. روى البخاري ومسلم عن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسب عذّب»، قالت فقلت أو ليس يقول اللّه عز وجل: {يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} قالت فقال: «ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذّب». قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} 16 الحمرة التي تبقى بالأفق بعد غروب الشمس وتظهر قبل طلوعها بعد البياض {وَاللَّيْلِ وَما وسق} 17 جمع وضمّ ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والهوام والحيتان والطير، لأن ما كان طوره الانتشار في النهار، قد يجتمع في الليل، وبالعكس فإن ما كان منضما بالنهار قد ينتشر بالليل، ويقال طعام موسوق أي مجموع ومستوسقة مجتمعة، قال الشاعر: ويأتي وسق بمعنى عمل أي وما عمل فيه وعليه قوله: وما جاء بأن يحور بمعنى يرجع قوله: والشفق مأخوذ من الرقة يقال شيء شفق أي لا يتماسك لوقته، ومنه أشفق عليه خاف عليه ورق له، والشفقة من الإشفاق والشفق، قال الشاعر: والوسق في العرف ستون صاعا أو حمل بعير، وهذا مما يدل على أن الصاع المستعمل الآن في بعض البلاد غيره قبلا، لأن ستين منه الآن لا يحملها جملان، راجع الآية 141 من سورة الأنعام تعلم تفصيل هذا، ويأتي وسق بمعنى طرد أي وما أطرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها، ومن ضوء النهار، ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس، فإذا سرقت طردت معا، ولا حاجة هنا لتقدير لفظ (رب) أي أقسم برب الشفق كما قاله بعض المفسرين، لأن اللّه تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه جمادا كان أو ناميا، وحكم لا في هذا القسم حكمها في {لا أقسم بيوم القيامة}. قال تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} 18 ثمّ نوره وجمع وكملت استدارته فصار بدرا {لتركبن طبقا عَنْ طبق} 19 أي لتداولنّ أيها الناس في حياتكم ومماتكم حالا بعد حال مماثلة ومطابقة وموافقة لأحتها في الشدة والهول، قال الأعرج بن جابس: وقد تأتي عن التي معناها المجاوزة بمعنى بعد كما في قولهم: سادرك كابرا عن كابر، أي بعد كابر، وعليه قوله: لأن المجاوزة والبعد متقاربان، واللام في {لتركبن} واقعة في جواب القسم، وجاء لفظ الطبق بمعنى عشرين عاما أخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها، أي قبلها. وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، وعلى هذا المعنى ما جاء في القاموس من جملة معاني الطبق، ويأتي بمعنى القرآن، قال العباس بن عبد المطلب يمدح حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم: وعليه يكون المعنى لتركبن سنن من قبلكم قرنا بعد قرن، إلا أن هذين المعنيين الآخرين خلاف الظاهر، والمعول على الأول، وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحرضب لتبعتموهم». قلنا يا رسول اللّه اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»؟ أي فمن دونهم أو من قبلهم أو هم أنفسهم، وهو حديث صحيح ولكن لا يراد أنه جاء مفسرا لهذه الآية، تدبر ومن خصّ هذا الخطاب لسيد المخاطبين فقط من المفسرين أراد {لتركبن} سماء بعد سماء إذ يطلق على السماء طبق أيضًا، لكون الواحدة فوق الأخرى، قال تعالى: {سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً} الآية 3 من سورة الملك، وقد أوله بما يشير إلى المعراج، على أن المعراج وقع قبل هذا بأكثر من سنتين، وذكرنا آنفا بما يشعر إلى التعميم، وهو المناسب بسياق التنزيل وسباق الآي. قال تعالى: {فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 20 بك يا سيد الرسل أي شيء جرى لهم، وما منع هؤلاء الكفرة عن الإيمان بك وقد آتيناهم من دواعيه ما يسمعون ويبصرون ويعون إن كان لهم سمع وبصر وعقل ينتفعون بها، وما آتيناهم هذه الجوارح والحواس إلا ليستدلوا بها على وحدانيتنا ويصدقوا رسلنا. {وَإِذا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن} الذي أنزلناه عليك لصلاحهم ورشدهم، فما بالهم {لا يَسْجُدُونَ} 21 لنا ولا يخضعون لقدرتنا ولا يخشون هيبتنا؟ ثم انتقل من عدم سجودهم إلى تكذيبهم فقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} 22 بك وبكتابك {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ} 23 في صدورهم ويجمعون فيها من التكذيب والبغض لك والحقد عليك، والإيعاء هو جعل الشيء في وعاء وعليه قوله: وأريد به هنا الإضمار وهو ما يضمرونه لحضرة الرسول من العداء. وما قيل إن المراد بهم المنافقون لا يصح وإنما هم قريش الذين كانوا يحيكون لحضرة الرسول المكايد، والسورة هذه كلها مكية إجماعا، ومكة لا يوجد فيها منافقون إذ ذاك، لأن النفاق وقع بعد الهجرة في المدينة، حتى ان لفظته لم تعرف إذ ذاك. قال تعالى تهكما بهم {فَبَشِّرْهُمْ} يا سيد الرسل على سبيل التبكيت والتقريع {بِعَذابٍ أَلِيمٍ} 24 لا تطيقه قواهم ويظهر على بشرتهم سوءه {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} هذا استثناء منقطع من ضمير بشرهم المنصوب، فتكون البشارة في ذلك العذاب الفظيع خاصة بالمكذبين، أما المؤمنون العاملون صالحا ف {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 25 منقوص ولا مقطوع. وهذه الجملة تدحض قول من قال إن الاستثناء متصل على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل صالحا من آمن وعمل بعد منهم أي أولئك الكفرة، لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين عامة، والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، روى البخاري ومسلم عن رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إذا السماء انشقت} فسجد، فقلت ما هذه؟ قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ولمسلم عنه قال: سجدنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في {اقرأ باسم ربك} و{إذا السماء انشقت} وهذه السجدة آخر السجدات الواردة في القسم المكي وهي اثنتا عشرة سجدة وبقي في القسم المدني سجدة الرعد والحج فقط تتمة الأربع عشرة سجدة، ومن قال بالسجدة آخر الحج أبلغها خمس عشرة. وقدمنا ما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة السجدة، وفيها ما يرشدك لغيرها من المواقع فراجعها ففيها كفاية. هذا واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اهـ.
|