الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالإيمان عند معاينة العذاب لا قيمة له، كما سيأتي في الآية المذكورة، لذلك قال تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ} المعهود المبين في الآية 79 من الأعراف المارة، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} هو بن هاران بن عم إبراهيم عليهم السّلام وقد هاجر معه إلى الشام فأنزله الأردن، فأرسله اللّه إلى أهل سدوم وما يتبعها، وهو أجنبي عنهم، إلا أنه صاهرهم، وهؤلاء المرسل إليهم كذبوا قبله إبراهيم ومن قبله، وكذبوه هو {إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} بالخلقة لا بالدين ولا بالنّسب، ومعناه هنا صاحبهم كما يقال يا أخا العرب، يا أخا تميم، وعليه قوله: وهو لوط عليه السّلام بدل من أخوهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله: {أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} الذي أرسلني إليكم، لأرشدكم إلى ما فيه صلاحكم، وقال لهم على طريق الاستفهام الانكاري {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ} عبر بالإتيان عن اجراء الفحش ليعلم قومه الأدب في المخاطبات، ولينبههم على ان هذا الفعل قبيح بنفسه ولفظه ليتحاشوا عنه وعن ذكره.هذا، وان اللّه تعالى عبر عن الوطء الحلال بالحرث في الآية 222 من البقرة في ج 3، وعن الجماع بالغشيان في الآية 188 من الأعراف المارة، وعن الفعل القبيح بالإتيان كما هنا، وفي الآية 73 من الأنبياء بالخبث في ج 2 وفي الآية 179 من الأعراف المارة وذلك ليتأدب العباد بتأديب القرآن ويصونوا ألسنتهم عن ذكر الألفاظ المستهجنة، قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله، وكثير من أقوال الرسول تأمر بالآداب في المخاطبة بالإشارة والقول والفعل تباعدا عن سوء الأدب والجهر بما هو فاحش والجنوح إلى الكنى والمعاريض في كل ما يستقبح ذكره، ومن هذا قوله تعالى {وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ} مما أحله لكم وهو محل الحرث والبذر الذي منعكم اللّه عن إتيانه أيام الحيض لقذارته، فكيف تميل أنفسكم إلى ذلك المحل مخرج القذر دائما {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ} متجاوزون متعدون الحل إلى الحرمة قالوا كانوا يفعلون هذا الفعل القبيح بأزواجهم أيضا: وقيل إن ابن مسعود قرأ: {وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم} هو تفسير الآية لا قراءة وقد أخطأ من جعلها قراءة لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف من تبديل خلق بأصلح، وقد ذكرنا غير مرة بأن كل قراءة فيها تبديل كلمة أو حرف أو زيادة أو نقص عما أثبت في المصاحف لا عبرة بها وليست بقراءة، وإنما هي شروح كتبوها على مصاحفهم تفسيرا لبعض الكلمات، لأنها أنزلت كذلك، وقد أكثرنا من التحرز عن مثل هذا لينتبه القارئ فيحذر من الإقدام على القول بشيء منه، إذ لا يجوز اعتباره ولا نقله الا تأويلا أو تفسيرا، وبحرم اعتقاد قرآنيته، لأن من يعتقد قرآنا ما ليس بقرآن قد يؤديه إلى الكفر والعياذ باللّه، إذ لا قرآن الا ما هو ثابت بين الدفتين البتة، وفي هذه الآية دلالة على تحريم إتيان النساء والجواري بأدبارهن حتى أن بعض العلماء كفر فاعله مبالغة في التحريم، وقد جاء في الحديث من أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم، ولا ينظر اللّه اليه، ولهذا أفتى من أفتى بكفره، لأن من كان بريئا مما انزل على محمد فهو كافر، تدبر هذا، وراجع الآية 80 فما بعدها من سورة الأعراف المارة تجد تفصيلا شافيا كافيا، والحكم الشرعي فيه، والقصة بتمامها ايضا {قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ} عن مقالتك هذه وتتركنا وشأننا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} من قرانا لأنك لست منا ولا فينا من ينظرك {قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ} المبغضين وهو أبلغ من قال، كما إذا قلت فلان من العلماء فقد جعلته منهم مساهما معهم بالعلم فهو أبلغ من قولك عالم، لأن العالم من علم مسألة واحدة، وفيه دليل على عظم هذه المعصية، ولما رأى عدم ميلهم لقوله وتهديدهم له قال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} فأجاب اللّه دعاءه بقوله: {فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا} هي امرأته منهم بقيت {فِي الْغابِرِينَ} الهالكين لأنها كانت راضية عن عمل قومها والراضي بحكم الفاعل في شريعتهم أما في شريعتنا فلا الا الرضاء بالكفر فهو كفر {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} تدميرا فظيعا بأن قلبنا قراهم كما مر في الآية 84 من الأعراف المارة، {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} من حجارة فكان عذابهم عذابا عظيما {فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} الذي أنزلناه عليهم من السماء وجعلنا أعالي أراضيهم أسفلها على صورة عجيبة هائلة {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} هي الغيضة المنبتة ناعم الشجر كالسدر والأراك، وهي بلدة قريبة من مدين من جهة البحر {إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} بن ثوبب بن مدين بن إبراهيم وقيل بن مكيك بن يشجر بن مدين وأم مكيك بنت لوط عليهم السّلام، ولم يقل هنا أخوهم، لأنه ليس منهم أيضا، وليس له معهم مصاهرة ولا نسبة، وكانوا طائفة على حدة {أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لأن طاعتي طاعته {وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} لأني مأمور من قبله وأجر المأمور على آمره، ثم طفق يأمرهم وينهاهم بما تلقاه عن ربه فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ} إذا كلتم للناس {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} حقوقهم بالتطفيف لأن فيه نقص حقهم، والكيل ثلاثة: واف وهو مأمور به، ومطفف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فإن فعله فقد أحسن، وإلا فلا شيء عليه، وفي الآية دليل على الوفاء وهو لا يخلو من الزيادة، لأنه لا يكون إلا بالرجحان، فمن رجح الموزون على الوزن فقد أوفى به {وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ} أي الميزان العدل أو القبان.
|