الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا طَوْعًا لَهُمُ اخْتِيَارٌ فِي الإسلام وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا كُرْهًا فَهُمُ الَّذِينَ فُطِرُوا عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ تعالى كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْكُرْهِ يُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الِاخْتِيَارَ وَيَقْهَرُهُ؛ فَإِنَّ اللهَ تعالى قَدِ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّكْوِينِ: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [41: 11] فَأَطْلَقَ الْكَرْهَ وَأَرَادَ بِهِ لَازِمَهُ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ. أَقُولُ: وَهَذَا سَهْوٌ فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَكُنْتُ- فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ- أُرَاجِعُهُ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوِ الطَّبْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تَتِمَّةَ الْآيَةِ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ تعالى بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ مِنْ قِسْمِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ بِالِاخْتِيَارِ فَمِنْهُ مَا يُفْعَلُ طَوْعًا وَمَا يُفْعَلُ كَرْهًا. وَكَذَا مَا يَقَعُ بِهِمْ مِنْهُ مَا يَكُونُونَ كَارِهِينَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُونَ رَاضِينَ بِهِ. فَإِذَا كَانَ مُرَادًا فِي الْآيَةِ فَالطَّوْعُ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَا. وَصَفْوَةُ الْكَلَامِ أن الدين الْحَقَّ هُوَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ تعالى وَالْإِخْلَاصُ فِي الْخُضُوعِ لَهُ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أُمَمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ، فَجَاءَهُمُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ بِذَلِكَ قَدِ ابْتَغَوْا غَيْرَ دِينِهِ الَّذِي زَعَمُوهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَرَأَ حَفْصٌ يَرْجِعُونَ بِالْيَاءِ كَمَا قَرَأَ يَبْغُونَ وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى أنه قَرَأَ {تَبْغُونَ} بِالتَّاءِ كَالْجُمْهُورِ فَهُوَ قَدْ جَعَلَ الْخِطَابَ أَوَّلًا لِلْيَهُودِ وَجَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْمَرْجِعِ عَامًّا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {تَرْجِعُونَ} وِفَاقًا لِقِرَاءَتِهِمْ {تَبْغُونَ}. اهـ. .من فوائد الشعراوي: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله نبيا ورسولا فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج الله، وليس أمامهم إذن إلا مناهج البشر النابعة من الأهواء، والتي تقود حتما إلى الضلال، إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، أنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه، وقال لنا هذا المنهج: أنتم مستخلفون في الكون، وأنتم أيها الخلفاء في الأرض سادة هذا الكون، سادة يخدمكم الكون كله، وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم، الحيوان أقل منكم بالفكر. والنبات أقل من الحيوان بالحس. والجماد أقل من النبات. إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لإرادتك أيها الإنسان، فالنبات يخدم الحيوان والحيوان يخدمك أيها الإنسان، والجماد يخدم الجميع، والعناصر التي نأخذها نحن البشر من الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان. إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم الأجناس التي تعلوه. والجماد يخدم النبات. والجماد والنبات يخدمان الحيوان. والجماد والنبات والحيوان في خدمة الإنسان وأنت أيها الإنسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك أيها الإنسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الأجناس الأخرى كأن لابد أن تبحث عمن اعطاك السيادة على الأجناس الأخرى. هل أنت أيها الإنسان قد سخرت هذه الأجناس بقدرتك وقوتك؟ لا؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت لك ما لا تقدر عليه، فخدمتك حين لا توجد لك قدرة، وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ أنك أيها الإنسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك، وأن تبحث لك عن سيد يناسب سيادتك على غيرك. والكون لا يوجد فيه سيد عليك؛ لأن الكون محس، فإن جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الإله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول: إن هذا كلامي منطقي بالنسبة لوضعي في الكون وبعد ذلك انظر إلى الكون، فأنت في الكون لست وحدك بل هناك أجناس أخرى، وكل جنس من الأجناس له قانونه وله مهمته، للحيوان مهمة، وللنبات مهمة، وللجماد مهمة. فهل وجدت جنسا من الأجناس تمرد على مهمته؟ لا. إن الحصان مثلا، تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه، وتجد هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الأرض من روث الحيوان وما تأبت، لقد أدت الخدمة لك راكبا، وأدت الخدمة لك ناقلا، وما تمردت عليك أبدا. كل الأجناس- إذن- تؤدي مهمتها كما ينبغي، فاستقام الأمر فيها، وما دام الأمر قد استقام فيها، فبأي شيء استقام؟ إن الله هو الذي خلقها ذللها، قال لها: كوني في خدمة الإنسان مؤمنا كان أو كافرا وفي هذا الأمر عدالة الربوبية، فلا تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة الإنسان. أرأى أحدكم الشمس مرة قالت: لم يعد الخلق يعجبونني، ولن أشرق عليهم وسأحتجب اليوم؟! أتمرد الهواء وقال: لا، إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء، لذلك لن أمكنهم من الانتفاع بي. أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت الإنسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ لا.. فكل شيء في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليلا. لذلك يقول الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 72- 73]. والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فلا يذلل، ولا يستأنس، وذلك حتى تعلم أيها الإنسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض ثعابين هذا العالم أو استأنس الأسد. وأنت أيها الإنسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة. بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا الذي يخدمك لو لم يذلله الله لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذلله، أنه تذليل وتسخير وخضوع لهذه المخلوقات منحه الله تعالى لك أيها الإنسان تفضلا منه سبحانه مع عجزك وضعفك. ولم نجد شيئا نافعا قد عصى الإنسان في الكون، لأن كل الخلق مسخر من الله لخدمة الإنسان كافرا كان أو مؤمنا، وهذا هو عطاء الربوبية، لأن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا، فالخالق الأكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا، ولذلك تستجيب الأجناس من غير الإنسان للإنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا. فإن أحسن الكافر استخدام الأسباب فإن الأسباب تعطيه ولا تعطي المؤمن الذي لا يستخدم الأسباب، أو لا يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية، والربوبية للجميع. أما عطاء الألوهية فهو افعل ولا تفعل وهو عطاء للمؤمنين فقط. فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بلا شذوذ فيه، ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا فلنا أن نسأل من أين جاء الخلل في الكون؟ إن الخلل قد جاء منك أيها الإنسان. ولهذا فنحن لا نجد فسادا في الكون إلا وللإنسان مدخل فيه، أما مالا مدخل للإنسان فيه فلا فساد فيه أبدا. أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ لا. لماذا لأن أحدا لا دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا، صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم والفضلات، وصحيح أيضا أن الحق يكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن، فحين يتدخل الإنسان فإن الشيء قد يفسد. لكن هل معنى ذلك ألا نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي الأيدي؟ لا، بل يجب أن نتدخل في الكون، ولكن بمنهج الله. إنك إن تدخلت في الكون بمنهج الله، فكل شيء يسير الكون الذي لا منهج له إلا الخضوع والتسخير، فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته، والحيوان مهمته، وأنت أيها الإنسان مطلوب منك أن تؤدي مهمتك، وهي أن تطيع الله، تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في: افعل كذا ولا تفعل كذا فإن انتظمت مع المنهج بافعل ولا تفعل تكن قد انسجمت مع الكون. إن الله سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]. إن كل شيء في السماوات وفي الأرض قد أسلم لله طوعا أو كرها. وإذا ما تساءلنا، وما معنى {طوعا}؟ فالإجابة هي طاعة التسخير، كما قالت السماوات والأرض في النص القرآني الحكيم: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. فكل ما لا تكليف له جاء طائعا مسخرا، وما معنى: {كرها}؟ إن بعضا من العلماء قد قال: إن {طوعا} تشمل أجناس الملائكة، والجماد، والنبات، والحيوان، فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ولا يعترض أحد منهم ولا يملك أحدهم قدرة على العصيان، وأما عن {كرها} فقد فهم بعض العلماء أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثلا، ولهؤلاء نقول: لا يصح ولا يستقيم أن نعطي خصوم الإسلام فرصة ليقولوا إن الإسلام قد أكره أحدًا من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لأن الحق سبحانه قال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. فما دام الله لم يكره أحدًا على الإيمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن نفهم كرها على وضعها الحقيقي، والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له، لأنه سبحانه هو الذي خلقه ولا إله غيره وهذه مسألة مسلم بها، فالكون كله لله، وهو المدبر والقاهر له، قال الحق: {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]. وما دام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده، وكان يجب أن يفهم الإنسان مهمته على أنه هو الوحيد الذي كلفه الله؛ لأن بقية الأجناس لا اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف الله الإنسان بافعل ولا تفعل إذن فالتكليف فرع الإختيار؛ فالمنهج يقول لك: افعل كذا ولا تفعل كذا لأن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لأن تفعل ما يأمرك به، وصالحا لأن تفعل ما لا يأمرك به. إن اليد- مثلا- مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها، بدليل أن الإرادة إن شُلت وانقطع الخيط الموصل للإرادة الأمرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول الإنسان المصاب بذلك- والعياذ بالله- أن يرفع يده فلا يستطيع، فاليد مسخرة لإرادة الإنسان، وإرادتك أيها الإنسان عندما تسير في ضوء منهج الله فإنك توجهها في ضوء افعل ولا تفعل. وعندما يقال لك مثلا: لا تضرب بها أحدًا فمعنى ذلك أن اليد صالحة لأن تضرب، وعندما يقال لك: خذ بيد العاثر فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر، فأنت مخلوق على هيئة الطواعية من جوارحك لإرادتك. ويأتي المنهج ليقول لك: نفذ الإرادة في كذا ولا تنفذ الإرادة في كذا.. إذن فالإنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الأشياء المسخرة تمام الاتفاق، ويؤدي كل شيء على خير أداء، لكن متى يختلف الإنسان عن الانسجام عندما لا يطبق المنهج، فيشذ عن الركب في الكون كله، ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. إنها الأجناس كلها ساجدة، الشمس ساجدة، القمر ساجد، والنجوم، والجبال، كل هذه الجمادات ساجدة، وكذلك الشجر والنبات ساجد لله، والحيوان والدواب ساجدة لله، وكثير من الناس سجود، لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر، هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب، ولو أن الإنسان قد أخذ منهج الله فنفذه لصار كبقية الأجناس، لكن الإنسان اختلف، وقال: أنا سوف آخذ اختيار تحمل الأمانة، لأني عالم وعاقل كما جاء في القول الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ أنه كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فلو أخذ الإنسان منهج الله في افعل ولا تفعل، لانسجم الإنسان مع الوجود كله وحين ينسجم الإنسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما لا تأتي مخالفة في الوجود من غير الإنسان، وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في الانسجام. ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير، ولكنها تعلم شيئا، ويغيب عنها شيء آخر، ولو أخذوا عن الله العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها. إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على الإنسانية، ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون، ودليل ذلك ان العلماء الآن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة. وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن هناك تلوث للبيئة، لماذا؟ لأن كل عنصر كان يؤدي مهمته، فجزء من احتراق الحطب كان يتحول إلى كربون، وجزء آخر يتحول إلى غازاتـ، وتنصرف كل الأشياء إلى مساراتها. إن هذا يدلنا على أن الإنسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم. لقد قدّر الإنسان أنه يريد تخفيف الحركة، وينقل الأثقال ويختصر المسافات، لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها، فنشأ عادم يفسد البيئة، لكن لو كان عند الإنسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم. ولننظر إلى عظمة الحق، أنه يترك للعقل البشري أن يتقدم، ولكن العقل البشري قاصر وينسى من الأشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا. إن الذين اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا بفتح جديد في الكون، وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين اخترعوها؛ لأنهم وجدوا منها الضرر، لذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103- 105]. إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج الله، والحق سبحانه يضرب لنا المثل الواضح. إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها، لكن عادم خلق الله في الحيوان نافع، فالإنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة الأرض، والعجيب أن فضلات الحيوان التي تعطي خصوبة للأرض لا نجد فيها شيئا يقزز، ولا نجد لها الرائحة التي توجد في فضلات الإنسان، لماذا؟ لأن الحيوان يأكل على قدر حاجته، إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة، مثل الحشيش اليابس، وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام، ولذلك لا يُخرج فضلات كريهة الرائحة، لكن الإنسان ينوع ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على الانطلاق والانفلات، إن الحيوأن لا اختيار له، ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي لا يؤكل فيختار بغريزته المناسب له، وإذا امتلأت البطن لا يأكل؛ لأنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق، لكن الإنسان يتمتع بالاختيار، فأفسد عليه هذا الاختيار وأبعده عن منهج الله وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الاكتفاء بحدود الشبع. وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم لله طوعا في المسخرات. وإياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه. وبعض العلماء قد فاتهم ذلك، وهم يعطون لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون: إن دينكم انتشر بإكراه السيف ولذلك نقول لهم: لا، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار. إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف: قفوا عند حدكم، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى غير الإسلام.
|