الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ وابنُ مَالِكٍ: لو هنا شرطية بمعنى إنْ فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتَّقدير: وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد لو هذه مضارع كان مستقبلًا كما يكونُ بَعْدَ إنْ وأنشد: [الكامل] أي: وإنْ تكن عديمًا، ومثلُ هذا البيت قول الآخر: [البسيط] والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقًا في الماضي، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى إنْ توهُّمُ أنَّهُ لَمَّا أمر بالخشيةِ- والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم الذي ينافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ لو لفظ إنْ ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري لَوْ على فعل مستقبل، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا. قال أبُو حَيَّان: وهذا الَّذي تَوهَّموه لا يلزم، إلاَّ كانت الصِّلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذا معنى لو تركوا من خلفهم أي: ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في لَوْ أن تكون بمعنى إنْ إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل، فَإذَا كَانَ مَاضيًا على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه. انتهى. وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صِحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى إنْ أنْ تكن في الآية كذلك؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب لو محذوف مدلولٌ عليه بقوله: لا يلفك وهو نَهْيٌ، والنَّهْيُ مستقبلٌ فلذلك كانت لَوْ تعليقًا في المستقبل. وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ إذا، وإذا للمستقبل. ومفعول {وَلْيَخْشَ} محذوفٌ أي: وليخش الله. ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ {وَلْيَخْشَ} يطلبُ الجلالة، وكذلك {فَلْيَتَّقُواّ} فيكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوَّلِ. قوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ متعلِّقٌ بتَرَكُوا ظرفًا له. والثَّاني: أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من ذرية؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالًا. قوله: {ضِعَافًا}، أمال حمزة: ألف {ضِعَافًا} ولم يبال بحرف الاستعلاء لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِ الإمالَة. وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ {ضُعُفًا} بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء، والسُّلمي وعائشة {ضعفاء} بضم الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو: ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء، وقرئ {ضَعافَى} بالفتح والإمالة نحو: سَكَارى، وظاهر عبارةِ الزَّمخشري أنَّه قُرِئَ {ضُعافى} بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال: وقُرِئَ {ضُعَفَاء}، و{ضَعافى} و{ضُعافى} نحو {سَكارى} و{سُكارى} فيحتمل أنْ يريد أنَّه قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها، ويحتمل أن يُرِيدَ أنَّهُ قُرِئَ {ضَعافى} بفتح الضَّاد دونً إمَالَةٍ، و{ضَعافَى} بفتحها مع الإمالة [كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة، وسكارى بفتحها مع الإمالة]، والظَّاهِرُ الأوَّلُ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة. قوله: {خَافُواْ عَلَيْهِمْ}. أمَالَ حمزةُ ألف {خَافُوا} للكسرة المقدَّرَةِ في الألف، إذ الأصل {خَوِفَ} بكسر العين؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو: {يَخَافُ}. وعلَّل أبو البَقَاءِ وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم، أو إحدى أخواته: خِفْت وخِفْنَا، والجملةُ من لَوْ وجوابها صلةُ الَّذينَ. اهـ. .التفسير المأثور: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وليخش الذين لو تركوا...} الآية. قال: هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته فيسمعه يوصي وصية يضر بورثته، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله، فنهوا أن يأمروا بذلك. يعني أن من حضر منكم مريضًا عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق، أو في الصدقة، أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبين ماله وما عليه من دين، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: ليس لأحدكم إذا مات وله ولد ضعاف- يعني صغارًا- أن يتركهم بغير مال فيكونون عيالًا على الناس، ولا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم، ولكن قولوا الحق في ذلك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة، ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول: فإن ولي مثل ذريته ضعافًا يتامى فليحسن إليهم، ولا يأكل أموالهم إسرافًا وبدارًا أن يكبروا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إذا حضر الرجل عند الوصية فليس ينبغي أن يقال: أوص بمالك فإن الله رازق ولدك، ولكن يقال له: قدم لنفسك واترك لولدك. فذلك القول السديد، فإن الذي يأمر بهذا يخاف على نفسه العيلة. وأخرج سعيد بن منصور وآدم والبيهقي عن مجاهد في الآية قال: كان الرجل إذا حضر يقال له: أوص لفلان، أوص لفلان، وافعل كذا وافعل كذا حتى يضر ذلك بورثته. فقال الله: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم} قال: لينظروا لورثة هذا كما ينظر هذا لورثة نفسه، فليتقوا الله، وليأمروه بالعدل والحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم} يعني من بعد موتهم {ذرية ضعافًا} يعني عجزة لا حيلة لهم {خافوا عليهم} يعني على ولد الميت الضيعة كما يخافون على ولد أنفسهم {فليتقوا الله وليقولوا} للميت إذا جلسوا إليه {قولًا سديدًا} يعني عدلًا في وصيته فلا يجور. وأخرج ابن جرير عن الشيباني قال: كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز، وابن الديلمي، وهانئ بن كلثوم، فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، فضقت ذرعًا بما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشر يودّني أنه لا يولد لي ولد أبدًا. فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل وهي خارجة إن شاء وإن أبى. قال: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك؟ قلت: بلى. فتلا عليّ هذه الآية {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا...} الآية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم، والمرأة، أيتمه ثم أوصى به، وابتلاه وابتلى به». اهـ. .تفسير الآية رقم (10): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأسًا فتضيع مصالحهم؛ وصل بذلك ما بين أن ذلك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكدًا لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم: {إن الذين} ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال: {يأكلون أموال اليتامى ظلماَ} أي أكلًا هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه، فهو كفعل من يمشي في الظلام، ثم أتبعه ما زاده تأكيدًا بالتحذير في سياق الحصر فقال: {إنما يأكلون} أي في الحال وصور الأكل وحققه بقوله: {في بطونهم نارًا} أي تحرق المعاني الباطنية التي تكون بها قوام الإنسانية وبين أنها على حقيقتها في الدنيا ولكنا لا نحسها الآن لأنها غير النار المعهودة في الظاهر بقوله- مكررًا التحذير مبينًا بقراءة الجماعة بالبناء للفاعل أنهم يلجؤون إليها إلجاء يصيّرهم كأنهم يدخلونها بأنفسهم: {وسيصلون} أي في الآخرة- بوعيد حتم لا خلف فيه {سعيرًا} أي عظيمًا هو نهاية في العظمة، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول، أي يلجئهم إلى صليها ملجئ قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: قال الفخر: دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف. اهـ. قال الفخر: قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} فيه قولان: الأول: أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي: إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء: فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما». والقول الثاني: أن ذلك توسع، والمراد: أن أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث إنه يفضي إليه ويستلزمه، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] قال القاضي: وهذا أولى من الأول لأن قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} الاشارة فيه إلى كل واحد، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى. اهـ. .قال ابن الجوزي:
|