فصل: (سورة الروم: آية 28).

صباحاً 4 :58
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
13
السبت
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الروم: الآيات 14- 16].

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا وَلقاء الْآخرَة فَأُولئكَ في الْعَذاب مُحْضَرُونَ (16)}.
الضمير في يَتَفَرَّقُونَ للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. وعن الحسن رضى اللّه عنه:
هو تفرّق المسلمين والكافرين: هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين- وعن قتادة رضى اللّه عنه: فرقة لا اجتماع بعدها في رَوْضَةٍ في بستان، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء. وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون: بيضة النعامة يُحْبَرُونَ يسرون. يقال: حبره إذا سرّه سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره. ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسارّ، فعن مجاهد رضى اللّه عنه:
يكرمون. وعن قتادة: ينعمون. وعن ابن كيسان: يحلون. وعن أبى بكر بن عياش: التيجان على رءوسهم. وعن وكيع: السماع في الجنة. وعن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم: أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم، وفي آخر القوم أعرابىّ فقال: يا رسول اللّه، هل في الجنة من سماع؟
قال: «نعم يا أعرابى، إنّ في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية، يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة» قال الراوي: فسألت أبا الدرداء، بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروى «إنّ في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث اللّه ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا» {مُحْضَرُونَ} لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم، كقوله: {وَما هُمْ بخارجينَ منْها لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ}.

.[سورة الروم: الآيات 17- 19].

{فَسُبْحانَ اللَّه حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّماوات وَالْأَرْض وَعَشيًّا وَحينَ تُظْهرُونَ (18) يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَيّ وَيُحْي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها وَكَذلكَ تُخْرَجُونَ (19)}.
لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجى من الوعيد. والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه اللّه من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة اللّه الظاهرة. وقيل: الصلاة. وقيل لابن عباس رضى اللّه عنهما: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء تُصْبحُونَ صلاة الفجر وَعَشيًّا صلاة العصر. وتُظْهرُونَ صلاة الظهر. وقوله وَعَشيًّا متصل بقوله حينَ تُمْسُونَ وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّماوات وَالْأَرْض اعتراض بينهما. ومعناه: إنّ على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه. فإن قلت: لم ذهب الحسن رحمه اللّه إلى أنّ هذه الآية مدنية؟ قلت: لأنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. والقول الأكثر أنّ الخمس إنما فرضت بمكة. وعن عائشة رضى اللّه عنها: فرضت الصلاة ركعتين فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة أقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون} الآية» وعنه عليه السلام: «من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّه حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبحُونَ- إلى قوله- وَكَذلكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه. ومن قالها حين يمسى أدرك ما فاته في ليلته» وفي قراءة عكرمة:
حينا تمسون وحينا تصبحون. والمعنى: تمسون فيه وتصبحون فيه، كقوله يَوْمًا لا تَجْزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا بمعنى فيه الْحَيَّ منَ الْمَيّت الطائر من البيضة، والْمَيّتَ منَ الْحَيّ البيضة من الطائر. وإحياء الأرض: إخراج النبات منها وَكَذلكَ تُخْرَجُونَ ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون. والمعنى: أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس من إخراج الميت من الحىّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي. وقرئ: الميت، بالتشديد. وتخرجون، بفتح التاء.

.[سورة الروم: الآيات 20- 21].

{وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَكُمْ منْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ (20) وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ منْ أَنْفُسكُمْ أَزْواجًا لتَسْكُنُوا إلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}.
خَلَقَكُمْ منْ تُرابٍ لأنه خلق أصلهم منه. وإذا للمفاجأة. وتقديره: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، كقوله وَبَثَّ منْهُما رجالًا كَثيرًا وَنساءً. منْ أَنْفُسكُمْ أَزْواجًا لأن حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال. أو من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الألف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ التوادّ والتراحم بعصمة الزواج، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم وعن الحسن رضى اللّه عنه: المودة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد، كما قال وَرَحْمَةً منَّا وقال: ذكْرُ رَحْمَت رَبّكَ عَبْدَهُ. ويقال: سكن إليه، إذا مال إليه، كقولهم: انقطع إليه، واطمأن إليه- ومنه السكن. وهو الإلف المسكون إليه. فعل بمعنى مفعول. وقيل: إن المودة والرحمة من قبل اللّه وإن الفرك من قبل الشيطان.

.[سورة الروم: آية 22].

{وَمنْ آياته خَلْقُ السَّماوات وَالْأَرْض وَاخْتلافُ أَلْسنَتكُمْ وَأَلْوانكُمْ إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ للْعالمينَ (22)}.
الألسنة: اللغات. أو أجناس النطق وأشكاله. خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما، وتعرف حكمة اللّه في المخالفة بين الحلىّ وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد، وفرّعوا من أصل فذ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا اللّه مختلفون متفاوتون. وقرئ: للعالمين بفتح اللام وكسرها، ويشهد للكسر قوله تعالى: {وَما يَعْقلُها إلَّا الْعالمُونَ}.

.[سورة الروم: آية 23].

{وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}.
هذا من باب اللفّ وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين. لأنهما زمانان. والزمان والواقع فيه كشيء واحد، مع إعانة اللفّ على الاتحاد. ويجوز أن يراد: منامكم في الزمانين، وابتغاءكم فيهما، والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية.

.[سورة الروم: آية 24].

{وَمنْ آياته يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزّلُ منَ السَّماء ماءً فَيُحْيي به الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَعْقلُونَ (24)}.
في {يُريكُمُ} وجهان: إضماران، وإنزال الفعل منزلة المصدر، وبهما فسر المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقول القائل:
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ** إلى الإصباح آثر ذى أثير

خَوْفًا من الصاعقة أو من الإخلاف وَطَمَعًا في الغيث. وقيل: خوفا للمسافر، وطمعا للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له. فإن قلت: من حق المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك. قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن المفعولين فاعلون في المعنى، لأنهم راءون، فكأنه قيل: يجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. والثاني: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي: إرادة خوف وإرادة طمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكونا حالين، أي: خائفين وطامعين. وقرئ: ينزل بالتشديد.

.[سورة الروم: الآيات 25- 26].

{وَمنْ آياته أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بأَمْره ثُمَّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً منَ الْأَرْض إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ في السَّماوات وَالْأَرْض كُلٌّ لَهُ قانتُونَ (26)}.
وَمنْ آياته قيام السماوات والأرض واستمساكهما بغير عمد بأَمْره أي بقوله:
كونا قائمتين. والمراد بإقامته لهما: إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال. وقوله إذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله: {يريكم} في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور اخرجوا.
والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه، كما قال القائل:
دعوت كليبا دعوة فكأنّما دعوت ** به ابن الطّود أو هو أسرع

يريد بابن الطود: الصدى، أو الحجر إذا تدهدى، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم، بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى {ثُمَّ نُفخَ فيه أُخْرى فَإذا هُمْ قيامٌ يَنْظُرُونَ}. قولك: دعوته من مكان كذا، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك، تقول: دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل علىّ، ودعوته من أسفل الوادي فطلع إلىّ. فإن قلت: بم تعلق منَ الْأَرْض أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر اللّه بطل نهر معقل. فإن قلت: ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت: الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وقرئ: تخرجون، بضم التاء وفتحها قانتُونَ منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه.

.[سورة الروم: آية 27].

{وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى في السَّماوات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ (27)}.
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم، لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم: أوّل الغزو أخرق، وتسمون الماهر في صناعته معاودا، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى، حتى مرن عليها وهانت عليه. فإن قلت: لم ذكر الضمير في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه والمراد به الإعادة؟ قلت: معناه: وأن يعيده أهون عليه. فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وقدّمت في قوله هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ؟ قلت: هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو علىّ هين، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله ثُمَّ إذا دَعاكُمْ حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ثم هوّنت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء. وقيل الضمير في عليه للخلق.
ومعناه: أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام، والتمام أهون عليه وأقل تعبا وكبدا، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ. وقيل:
الأهون بمعنى الهين. ووجه آخر: وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله، والإعادة من قبيل الواجب الذي لابد له من فعله، لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب، والأفعال: إما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح، وهو رديف المحال، لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة. وإما تفضل والتفضل حالة بين بين، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله. وإما واجب لابد من فعله، ولا سبيل إلى الإخلال به، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول. فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب، كانت أبعد الأفعال من الامتناع.
وإذا كانت أبعدها من الامتناع، كانت أدخلها في التأنى والتسهل، فكانت أهون منها. وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به. ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات، ويدل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ} أي القاهر لكل مقدور، الحكيم الذي يجرى كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن مجاهد: المثل الأعلى: قول لا إله إلا اللّه، ومعناه: وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية. ويعضده قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا منْ أَنْفُسكُمْ} وقال الزجاج: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، أي: قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل. يريد: التفسير الأوّل.

.[سورة الروم: آية 28].

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا منْ أَنْفُسكُمْ هَلْ لَكُمْ منْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ منْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فيه سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخيفَتكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلكَ نُفَصّلُ الْآيات لقَوْمٍ يَعْقلُونَ (28)}.
فإن قلت: أي فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى: {منْ أَنْفُسكُمْ} {ممَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ منْ شُرَكاءَ}؟ قلت: الأولى للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب.
شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. ومعناه: هل ترضون لأنفسكم- وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد- أن يشارككم بعضهم {في ما رَزَقْناكُمْ} من الأموال وغيرها تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفصلة بين حرّ وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ كَذلكَ أي مثل هذا التفصيل نُفَصّلُ الْآيات أي نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها، ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟.

.[سورة الروم: آية 29].

{بَل اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بغَيْر علْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ منْ ناصرينَ (29)}.
الَّذينَ ظَلَمُوا أي أشركوا، كقوله تعالى: إنّ الشرك لظلم عظيم بغَيْر علْمٍ أي اتبعوا أهواءهم جاهلين، لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه. وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من خذله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له، فمن يقدر على هداية مثله. وقوله وَما لَهُمْ منْ ناصرينَ دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان.

.[سورة الروم: الآيات 30- 32].

{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا فطْرَتَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه ذلكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ (30)}.
فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين فقوّم وجهك له وعدّله، غير ملتفت عنه يمينا ولا شمالا، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه، مقبلا به عليه. وحَنيفًا حال من المأمور. أو من الدين فطْرَتَ اللَّه أي الزموا فطرة اللّه. أو عليكم فطرة اللّه. وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله مُنيبينَ إلَيْه ومنيبين: حال من الضمير في: الزموا. وقوله وَاتَّقُوهُ وَأَقيمُوا. وَلا تَكُونُوا معطوف على هذا المضمر. والفطرة: الخلقة. ألا ترى إلى قوله لا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه والمعنى: أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، مساوقا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بى غيرى» وقوله عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه» لا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه أي ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير. فإن قلت: لم وحد الخطاب أولا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولا، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص منَ الَّذينَ بدل من المشركين فَرَّقُوا دينَهُمْ تركوا دين الإسلام. اهـ.