الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم قال: {ولله ما في السموات وما في الأرض} وهو كالتفسير لسعة ملكه وملكه. وفيه أن الذي أمر به من العدل والإحسان إلى اليتامى والنسوان ليس لعجز أو افتقار وإنما يعود فائدة ذلك إلى المكلف لأنه الأحسن له في دنياه وعقباه. ثم بين أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة لم يلحقها نسخ وتبديل، وإن استغناءه تعالى بالنسبة إلى الأمم السالفة كهو بالنسبة إلى الأمم الآتية فقال: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب} أي جنسه ليشمل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف.وقوله: {من قبلكم} إما أن يتعلق بـ {وصينا} أو بـ {أوتوا} وقوله: {وإياكم} عطف على {الذين} ومعنى {أن اتقوا} بأن اتقوا وتكون «أن» المفسرة لأن التوصية في معنى القول. {وإن تكفروا} عطف على {اتقوا} أي أمرناهم وأمرناكم بالتقوى. وقلنا لهم ولكن إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحقه أن يكون مطاعًا في خلقه غير معصى يخشون عقابه ويرجون ثوابه. أو قلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة وغيرهم من يوحده ويعبده ويتقيه {وكان الله} مع ذلك {غنيًا} عن خلقه وعن عباداتهم {حميدًا} في ذاته وإن لم يحمده واحد منهم. ثم كرر قوله: {ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلًا} تقريرًا لأنه أهل أن يتقى وتوكيدًا لاستغنائه عن طاعات المطيعين وسيئات المذنبين. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: {إن يشأ يذهبكم} يعدمكم أيها الناس {ويأت بآخرين} يوجد خلقًا آخرين غير الإنس أو من جنس الإنس {وكان الله} على ذلك الإعدام ثم الإيجاد {قديرًا} بليغ القدرة لم يزل موصوفًا بذلك ولن يزال كذلك. وفي الآية من التخويف والغضب ما لا يخفى. وقيل: الخطاب لأعداء النبي صلى الله عليه وسلم من العرب والمراد بآخرين ناس يوالونه. يروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس» ثم رغب الإنسان فيما عنده من الكرامة فقال: {من كان يريد ثواب الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} فماله يطلب الأخس بالذات مع أنه إذا طلب الأشرف تبعه الأخس. فالتقدير: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ليحصل ربط الجزاء بالشرط {وكان الله سميعا} لأقوال المجاهدين والطالبين {بصيرًا} بمطامح عيونهم ومطارح ظنونهم فيجازيهم على نحو ذلك. ثم بيّن أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله فقال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} مجتهدين في اختيار العدل محترزين عن ارتكاب الميل {شهداء لله} لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو كانت تلك الشهادة وبالًا على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين بأن يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. وفي كلام الحكماء: «إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى». أو المراد الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها وأن يقول: أشهد أنّ لفلان على والدي كذا أو على أقاربي كذا. وإنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لله عكس قوله: {شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18] لأنّ شهادة الله تعالى عبارة عن كونه خالقًا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية قوانين العدل في تلك المخلوقات، والأول مقدم على الثاني.وأما في حق العباد فالعدالة مقدمة على الشهادة تقدم الشرط على المشروط فاعلم {إن يكن} المشهود عليه {غنيًا أو فقيرًا} فلا تكتموا الشهادة طلبًا لرضا الغني أو ترحمًا على الفقير {فالله أولى} بأمورهما ومصالحهما. وكان حق النسق أن لو قيل فالله أولى به أي بأحد هذين إلاّ أنه ثنى الضمير ليعود إلى الجنسين كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الفقير والغني أي بالأغنياء والفقراء يريد بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. قال السدي: اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقر وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلاّ أن يقوم بالقسط في الغني والفقير وأنزل الآية. وقوله: {أن تعدلوا} يحتمل أن يكون من العدل أو من العدول فكأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق. واحتمال آخر وهو أن يراد اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا أي حتى تتصفوا بصفة العدالة لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى. ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر {وأن تلووا} بواوين من لوى يلوي إذا فتل، وبواو واحدة من الولاية والمعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل {أو تعرضوا} عن الشهادة بما عندكم أو إن وليتم إقامة الشهادة أو تركتموها. واعلم أن الإنسان لا يكون قائمًا بالقسط إلاّ إذا كان راسخ القدم في الإيمان فلهذا أردف ما ذكر بقوله: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} وظاهر مشعر بالأمر بتحصيل الحاصل. فالمفسرون ذكروا فيه وجوهًا الأول: {يا أيها الذين آمنوا} في الماضي والحاضر {آمنوا} في المستقبل أي دوموا على الإيمان واثبتوا. الثاني: {يا أيها الذين آمنوا} تقليدًا {آمنوا} استدلالًا. الثالث: {يا أيها الذين آمنوا} استدلالًا إجماليًا {آمنوا} استدلالًا تفصيليًا. الرابع: {يا أيها الذين آمنوا} بالله وملائكته وكتبه ورسله {آمنوا} بأن كنه الله تعالى وعظمته وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا ينتهي إليها عقولكم. الخامس قال الكلبي: إن عبد الله بن سلام وأسدًا وأسيدًا ابني كعب وثعلبة بن قيس وجماعة من مؤمني أهل الكتاب قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فأنزل الله هذه الآية فآمنوا بكل ذلك. وقيل: إن المخاطبين ليسوا هم المسلمين والتقدير: {يا أيها الذين آمنوأ} بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل {آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبجميع الكتب المنزلة من قبل لا ببعضها فقط، لأن طريق العلم بصدق النبي هو المعجز وأنه حاصل في الكل، فالخطاب لليهود والنصارى.أو {يا أيها الذين آمنوا} بالسان {آمنوا} بالقلب فهم المنافقون أو {يا أيها الذين آمنوا} باللات والعزى {آمنوا} بالله فهم المشركون، والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل جنسه. فإن قيل: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورًا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب. وذكر في مراتب الكفر أمورًا خمسة؟ أجيب بأن الإيمان بالثلاثة يلزم منه الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر، لكنه ربما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالثلاثة ثم إنه ينكر الملائكة واليوم الآخر لتأويلات فاسدة، فلما كان هذا الاحتمال قائمًا نص على أن منكر الملائكة والقيامة كافر بالله. فإن قيل: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب في مراتب الكفر عكس الأمر؟ فالجواب أن الكتاب مقدم على الرسول في مرتبة النزول من الخالق إلى الخلق، وأما في العروج فالرسول مقدم على الكتاب. وبوجه آخر الرسول الأول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والرسل عام له ولغيره، فلما خص ذكره أولًا للتشريف جعل ذكره تاليًا لذكر الله لمزيد التشريف ولبيان أفضليته صلى الله عليه وسلم. اهـ.
|