فصل: باب ما يجري من غير ابن آدم مجرى بني آدم في الإخبار عنه

مساءً 5 :19
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الصاحبي ***


باب جمع شيئين في الابتداء بهما

وجمع خَبَريهما، ثم يُرَدَّ إلى كل مبْتَدَأ به خبرُهُ

من ذلك قول القائل‏:‏ إني وإيّاكَ على عَدْل أو على جَوْر فجَمَعَ شيئين في الابتداء وجمع الخَبَرين‏.‏ ومراده‏:‏ إني على عدلٍ وإيَّاكَ على جَوْر‏.‏ وهذا في كلامهم وأشعارهم كثير‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

كانّ قلوبَ الطَّيْر رَطْبَـًا ويابـسـًا *** لَدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي

أراد‏:‏ كأنّ قلوبَ الطير رَطبًا العنَّاب ويابسًا الحَشفُ‏.‏ ومن هذا في القرآن‏:‏ ‏{‏وإنَّا وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضَلال مِبين‏}‏ معناه‏:‏ وإنَّا على هدى وإيَّاكم في ضلال‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند اللهِ وكفرتم به وشَهدَ شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستْتَكبَرْتم‏}‏ ومثله ‏{‏وزُلْزِلوا حتّى يقول الرسول والذين أمنوا معه مَتىَ نصرُ الله ألا إنّ نَصرَ اللهِ قريب‏}‏ قَالوا‏:‏ لَمّا لم يَصْلح أني قول الرسول متى نصر الله كان التأويل‏:‏ وزُلزلوا حتى قال المؤمنون متى نصر الله فقال الرسول ألا إنّ نصرَ الله قريب‏.‏ رُدَّ كلّ كلام إلى من صَلَح أن يكون له‏.‏ ومن الباب قوله ذي الرُّمّة‏:‏

ما بالُ عينِكَ منها الماءُ يَنٍسكِبُ *** كأنّه من كُلَى مَفرِيَّة سَـرَبُ

وَفْرَاءَ غَرْفِيَّه أثْأى خَوَارِزُها *** مُشَلْشِلٌ ضَيعتْه بينها الكُتـبُ

فمعنى البيتين‏:‏ كأنه من كلى مَفرّيَةٍ وَفْراءَ غَرْفِيَّة أثأى خَوَارِزُها سَرَبٌ مُشَلشِلٌ ضَيَّعَتْه بينها الكتب‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ومن رحمتهِ جعل لكم الليلَ لتَسْكنوا فيه والنهارَ لتَبْتَغوا من فضله‏}‏ المعنى‏:‏ جَعَلَ لكم الليلَ لتَسْكنوا فيه والنهارَ لتَبْتَغوا من فضله‏.‏ ومن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تَطْرُدِ الذينَ يَدعونَ ربَّهم بالغداةِ والعشِيّ يريدونَ وَجهُهُ ما عليكَ من حِسابِهم من شيء وما حسابكَ عليهم من شيء فتطرُدَهم فتكون من الظالمين‏}‏ تأويله والله أعلم‏:‏ ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطرُدهم فتكون من الظالمين‏.‏ قال ومن هذا الباب قول امرئ القيس‏:‏

فلا وأبيكِ ابنةَ العامـريّ *** لا يدَّعي القومُ أنّي أفِـرْ

تَمِيمُ بنُ مُرٍّ وأشياعُـهـا *** وكِنْدةُ حَوْلي جميعًا صُبُرْ

معناه‏:‏ لا يدَّعي القوم تميمٌ وأشياعها أنّي أفِرْ وكِندةُ حولي‏.‏

باب التقديم والتأخير

من سُنن العرب تقديمُ الكلام وهو في المعنى مُؤخّر، وتَأخِيرُهُ وهو في المعنى مُقَدَّم‏.‏ كقول ذي الرُّمة‏:‏

ما بالُ عينِيكَ منها الماءُ يَنْسكبُ ***

أراد‏:‏ ما بالك عينك ينسكب منها الماء‏.‏ وقد جاء مثلُ ذلك في القرآن قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ فَزِعوا فلا فَوْتَ وأُخِذوا من مكان قريب‏}‏ تأويله والله أعلم‏:‏ ولو ترى إذ فزعوا وأخِذوا من مكان قريب فلا فوتَ‏.‏ لأنّ لا فوت يكون بعد الأخذ‏.‏ ومن ذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديثُ الغاشِيَة‏}‏ - يعني القيامَة – ‏{‏وجوهُ يومئذ خاشعة‏}‏ وذلك يوم القيامَة ثم قال‏:‏ ‏{‏عامِلَةٌ ناصِبَةٌ‏}‏ والنَّصَبُ والعملُ يكونان في الدنيا، فكأنه إذًا على التقديم والتأخير معناه‏:‏ وجوهٌ عاملة ناصبَةٌ في الدنيا، يومئذ - أي يومَ القيامة - خاشِعة‏.‏ والدليل على هذا قوله جلّ اسمه‏:‏ ‏{‏وجوهٌ يومئذ ناعِمَة‏}‏‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فلا تُعْجِبْكَ أموالُهمُ ولا أولادُهم إنما يُريد الله ليُعَذّبَهم بها في الحياة الدُّنيا‏}‏ المعنى‏:‏ لا تُعجبْك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا‏.‏ وكذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فألْقِه إليهم ثم تَوَلَّ عنهم فانْظُرْ ماذا يَرْجِعون‏}‏ معناه‏:‏ فأَلقِهِ إليهم فانْظُرْ ماذا يرجعون ثم تَوَلَّ عنهم‏.‏ ومن ذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا يُنادَوْن لَمَقْتُ اللهِ أكْبَرُ من مقتكم أنفُسكم إذ تُدعَوْن إلى الإيمان فتكفرون‏}‏ تأويله‏:‏ لَمَقْتُ الله إياكم في الدنيا حينَ دُعيتم إلى الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم إذا دعيتم إلى الحساب وعند ندمِكم على ما كان منكم‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سَبَقَتْ من رَبّك لَكانَ لِزَامًا وأجَلٌ مسمى‏}‏ فأجَلٌ معطوف على كلمةٌ، التأويل‏:‏ ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجَلٌ مسمّىً - أرادَ الأجَل المضروبَ لهم وهي الساعة - لكان العذاب لازمًا لهم‏.‏

باب الاعتراض

ومن سُنن العرب أن يعترِضَ بين الكلام وتمامِهِ كلامٌ، ولا يكون هذا المعترِضُ إلا مُفيدًا‏.‏ ومثال ذلك أن يقولَ القائِل‏:‏ اعْمَلْ - واللهُ ناصري - ما شيئتَ إنما أراد‏:‏ اعمَل ما شيئتَ‏.‏ واعتَرَضَ بينَ الكلامين ما اعترضَ قال الشّمّاخ‏:‏

لولا ابنُ عفّانَ والسلطان مُرْتَقبٌ *** أوردتُ فجًّا من اللَّعْباءِ جُلْمُودي

قوله‏:‏ والسلطان مرتقب معتَرِض بين قوله‏:‏ لولا ابنُ عفّانَ وقلوه‏:‏ أوردتُ‏.‏ ومن ذلك في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏واتلُ عليهم نبأ نُوح إذا قالَ لقومه يا قومِ إن كانَ كَبُر عليكم مُقامِي وتَذْكِيري بآيات الله‏}‏ - فعلى الله توكلتُ- ‏{‏فأجمِعوا أمْرَكم‏}‏ إنما أراد‏:‏ إن كانَ كبر عليكم مَقامي وتذكيري بآيات الله فاجمِعوا أمركم‏.‏ واعترَضَ بينهما قول‏:‏ فعلى الله توكلت‏.‏ ومثله قول الأعشى‏:‏

فإنْ يُمْسِ عندي الهَمُّ والسيبُ والعَشا *** فقد بِنَّ مِنّي والسِّـلام تَـفَـلَّـقُ

بأشجع أخَّاذٍ عل الدَّهر حُـكـمَـهُ *** فَمِنْ أيّ ما تَجْني الحوادثُ أفْـرَقُ

أرادَ‏:‏ بِنَّ مني بأشجَعَ‏.‏ والسِّلام تَفَلَّقُ اعتراض‏.‏ ومثل هذا في كتاب الله جل ثناؤه وإشعارِ العرب كثير، وإنما نذكر من الباب رَسْمًا‏.‏

باب الإيماء

العرب تُشيرُ إلى المعنى إشارة وتوميءُ إيماءً دون التصريح، فيقول القائل‏:‏

لو انَّ لي مَن يَقبَل مَشْورتي لأشرْ *** تُ وإنما يَحثُّ السّامع على قبولِ المَشُورَة

وهو في أشعارهم كثير قال الشاعر‏:‏

إذا غَرَّدَ المُكَّاءُ في غيرِ رَوْضَةٍ *** فوَيْلٌ لأهل الشَّاءِ والحمُـراتِ

أومَأ إلى الجدْب، وذلك أن المُكَّاء يَأْلَفُ الريَاضَ، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة‏.‏ ومنه قول الأفْوَهِ‏:‏

إنّ بـنـي أوْدٍ هُـمُ مـا هُـمُ *** للحَرْب أو للجَدْب عامَ الشُّموسْ

أومأ بقوله‏:‏ الشموس إلى الجدب وقلة المطر والغيم، أي إنّ كلَّ أيّامهم شموس بلا غيم‏.‏ ويقولون‏:‏ هو طويلُ نِجادِ السيّف إنما يريدون طولَ الرَّجُل‏.‏ وغَمْرُ الرّداء يومِئون إلى الجواد‏.‏ وفِدًا له ثَوْبي و هو واسع جَيبِ الكُمّ إيماءً إلى البَذْل‏.‏ وطَرِبُ العِنان يومئون إلى الخِفَّة والرَّشاقة‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقُل رَّبِّ أعُوذُ بكَ من هَمَزاتِ الشياطين وأعوذُ بكَ ربِّ أن يَحْضُرون‏}‏ هذا إيماؤٌ إلى ‏{‏أن يُصيبوني بسؤ‏}‏ وذلك أن العرب تقول‏:‏ اللَّبَن محضور أي‏:‏ تُصيبه الآفات‏.‏

باب إضافة الفعل إلى من وقع به ذلك الفعل

ومن سُنن العرب إضافةُ الفعل إلى من يقع به ذلك الفعل‏.‏ يقولون‏:‏ ضربُ زيدًا وأعطيتُه بعدَ ضَرْبِهِ - كذا فينسب الضربَ إلى زيد وهو واقع به‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ألم غُلبتِ الرومُ‏}‏ - فالغَلَبة واقعة بهم من غيرهم ثم قال – ‏{‏وهم من بعد غَلَبِهم سَيَغْلِبون‏}‏ فأضافَ الغَلبَ إليهم، وإنما كان كذا لأن الغَلبَ وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم لوقوعه بهم‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏وآتى المالَ على حُبِّه‏}‏ ‏{‏ويُطعِمون الطّعامَ على حُبّه‏}‏ فالحب في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال، وهو في الحقيقة لصاحب الطعام وصاحب المال‏.‏ ومثله ‏{‏ولِمنْ خاف مقامَ رَبّه‏}‏ و‏{‏ذلك لمن خاف مقامي‏}‏ أي مَقامَه بين يَديَّ‏.‏ ومثله قول طَرَفَة‏:‏

وبَرْكٍ هُجودٍ قد أثارَتْ مُخَافتي ***

فأضاف المخافة إلى نفسه وإنما المخافة للبَرْك‏.‏

باب ما يجري من غير ابن آدم مجرى بني آدم في الإخبار عنه

من سنن العرب أن تُجْري المَواتَ وما لا يَعْقِل في بعض الكلام مجرى بني آدم‏.‏ فيقولون في جمع أرض ‏"‏أرضون‏"‏ وفي جمع كره كُرون‏"‏ وفي جمع إرة إرون وفي جمع ظُبَةِ السيفِ ظبُون وينشدون‏:‏

يَرَى الرّاؤنَ بالشَّفَرات منها *** كنارِ أبي حُباحبَ والظُّبينا

ويقولون‏:‏ لِقِيتُ منه الأقْوَرِينَ وأصابتْني منه الأمَرُّون ومضتْ له سِنون ويتعدَّون هذا إلى أكثر منه فيقول الجَعْدِي‏:‏

تَمَزَّزْتُها والدّيكُ يدعو صَباحهُ *** إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فتصوَّبوا

وقال الله جل ذكره‏:‏ ‏{‏في فَلَك يَسْبَحون‏}‏ و‏{‏ولقد علمتَ ما هؤلاء ينطِقون‏}‏ و‏{‏إني رأيت أحدَ عشر كوكبًا والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين‏}‏ و‏{‏يا أيُّها النملُ ادخُلوا مساكِنَكُم‏}‏ و‏{‏ولو كان هؤلاءِ آلهةً وَرَدُوها‏}‏ ويقولون في جمع بُرَة بُرِين‏.‏ وأكثر من قول النابغة قول القائل‏:‏

إذا أشرفَ الديكُ يدعو بعضَ أُسْرَتِهِ *** إلى الصَّباح وهم قومٌ مَـعـازِيلٌ

فجعل له أسرة وسماهم قومًا‏.‏

باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء وهم يريدونه كلُّه

من سنن العرب الاقتصارُ على ذكر بعض الشيء وهم يُريدونه كلهن فيقولون‏:‏ قعد على صَدْر راحلته ومضى‏.‏ ويقول قائلهم‏:‏

الواطِئينَ على صُدورِ نعالهم ***

وذكر بعضُ أهل اللغة في هذا الباب قولَ لَبِيد‏:‏

أو يرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حمامُها ***

وإنه أراد كلاُّ وذكروا في هذا الباب قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم‏}‏ وقال آخرون مِن هذه للتبعيض لأنهم أمِروا بالغَضِّ عما يحرُم النَّظرُ إليه‏.‏ ومن الباب ‏{‏يحَذِّرُكم الله نفسَه‏}‏ إي إيّاه‏.‏ ومنه ‏{‏تَعلَم ما في نفسي‏}‏ ومنه قوله‏:‏

يومًا بِأجُوَدَ نائلًا مـنـه إذا *** نَفْسُ البخيل تجَهَّمَتْ سُؤالَها

ومنه ‏{‏ويَبْقى وجهُ ربِّكَ‏}‏‏.‏

و‏:‏ تواضَعَتْ سورُ المدينة و‏:‏ رأت مَرّ السنين أخّذْنَ مِنّي و‏:‏ طُولُ الليالي أسرعَتْ في نقضي و‏:‏ صَرف المَنايا بالرّجال تقلَّبُ وقال الجَعْدي‏:‏

جَزِعتَ وقد نالَتْكَ حَدُّ رماحـنـا *** بِقوهاءَ يُثِني ذِكْرها في المحافِلِ

باب الاثنين يعبر عنهما بهما مرّة وبأحدهما مرة

قال أبو زكرياء الفرّاء‏:‏ العرب تقول‏:‏ رأيته بعيني‏.‏ وبعينَيَّ والدارُ في يدِي وفي يدَيَّ‏.‏ وكل اثنين لا يكاد أحدُهما ينفرد فهو على هذا المثال مثل‏:‏ اليدين‏.‏ والرِّجلين قال الفرزدقِ‏:‏

فلو بَخِلَتْ يدايَ بهاو ضنَّتْ *** لكان عليَّ للقدَر الخِـيارُ

فقال‏:‏

ضَنْت بعد قوله يداي ***

وقال‏:‏

وكأنّ بالعينَيْن حَبّ قَرنْفُل *** أو سُنْبلًا كُحِلَتْ به فانْهلُّتِ

وقال‏:‏

إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى *** بصحراءِ فَلْجٍ ظلَّـتـا تَـكِـفـانِ

باب الحمل

هذا باب يترك حكم ظاهر لفظه لأنه محمول على معناه‏.‏ ويقولون‏:‏ ثلاثة أنْفُس والنفس مؤنّثة لأنّهم حملوه على الإنسان‏.‏ ويقولون‏:‏ ثلاث شخوص لأنهم يحملون ذلك على أنهنّ نساء و‏:‏

فإن كلابًا هذه عَشْرُ أبْطنٍ

يذهبون إلى القبائل‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏السماءُ منْفطرٌ‏}‏ حُمِل على السَّقْف‏.‏ وهذا يتَّسِع جدًا‏.‏ وقد ذُكر في هذا الباب ما تقدم ذكره من قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏مستهزئون الله يستهزئ بهم‏}‏ وهذا في باب المحاذاة أحسن‏.‏ ومن الحَمْل قوله‏:‏ ‏{‏أنا رسولُ ربِّ العالمينَ‏}‏ قال أبو عبْيدَة أرادَ الرّسالة‏.‏ ومن الباب قوله جلّ وعزّ‏:‏ ‏{‏سعيرًا‏}‏ - والسعير مذكّر ثم قال – ‏{‏إذا رأتْهم‏}‏ فحمله على النار‏.‏ وقوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏فأحيينا به بلدة مَيْتًا‏}‏ حمله على المكان‏.‏ ولهذا نظائِرُ كثيرة‏.‏

باب من ألفاظ الجمع والواحد والاثنين

من الجمع الذي لا واحدَ له من لفْظه العالَمُ‏.‏ والأنامُ‏.‏ والرّهط‏.‏ والنّفَر‏.‏ والمَعْشر‏.‏ والجنْد‏.‏ والجْيش‏.‏ والنّاس‏.‏ الغَنَم‏.‏ والنَّعَم‏.‏ والإبل‏.‏

وربّما كان للواحد لفظ ولا يجيء الجمع بذلك اللفظ نحو قولنا‏:‏ امُرُؤُ‏.‏ وامْرَءان‏.‏ وقوم وامْرَأة‏.‏ وامْرَأتان‏.‏ ونسوة‏.‏

ومن الاثنين اللذِيْن لا واحد لهما لفظًا قولهم كِلا وكِلْتا‏.‏ واثنان‏.‏ والْمِذْرَوان‏.‏ وعَقَله بِثَنايَيْن‏.‏ وجاء يضرب أصْدرَيْه‏.‏ وازْدَرَيْه‏.‏ ودَوالَيْه مِن التَّداول ولَبَّيْكَ‏.‏ وسَعْدَيْكَ‏.‏ وحنَانَيْك وقد قيل‏:‏ إن واحدِ حنانيك حَنانٌ وينشد‏:‏

فقالت حَنانٌ ما أتى بِكَ ها هنا *** أذو نَسبٍ أمْ أنتَ بالحيِّ عارف

باب ما يجري من كلامهم مجرى التهكم والهزء

يقولون الرجل يُسْتَجهَل يا عاقل‏!‏ ويقول شاعرهم‏:‏

فقلتُ لِسَيِّدنـا يا حَـلِـي *** مُ إنكَ لم تَأْسَ أسْوًا رَفِيقا

ومن الباب أتاني فَقَرَيْته جفَاءً وأعْطَيتُهُ حرمانًا قوله‏:‏

ولم يكونوا كأقوامٍ علمتـهـم *** يَقْرونَ ضيفَهمُ الْملويَّةَ الجُدُدا

يعني‏:‏ السِّياط‏.‏ ويقول الفرزدقِ‏:‏

قَريْنَاهم المأثورَةَ الْبِيضَ ***

وقال عمرو‏:‏

قَرَيْناكمْ فعجَّلْنا قِـراكـمْ *** قبَيْلَ الصُّبح مِرْداةً طَحونا

ومن الباب حكايةً عنهم‏:‏ ‏{‏إنّك لأنت الحليم الرشيد‏}‏

باب الكف

ومن سنن العرب الكفُّ‏.‏ وهو أن يكفَّ عن ذِكْر الخَبر اكتفاءً بما يدلّ عليه الكلام‏.‏ كقول القائل‏:‏

وَجدِّكَ لو شيءٌ أتانا رسولـه *** سِواكَ ولكِن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا

المعنى‏:‏ لو أتانا رسولُ سِواكَ لدفَعناه‏.‏

وقال آخر‏:‏

إذا قلتُ سِيري نحوَ ليلى لعـلَّـهـا *** جرى دونَ ليلى مائلُ القَرْن أعضبُ

وترك خبر لعلّها‏.‏ وقال‏:‏

فمَن لَه في الطَّعْنِ والضِّرابِ *** يلمع في كفيَّ كالشِّـهـاب

أي‏:‏ مَن له في سيف‏.‏

ومنه قوله جلّ وعزّ في قِصة فرعون‏:‏ ‏{‏أفلا تبصرون‏}‏ أم أراد‏:‏ أم تبصرون‏.‏ وما يقرب من هذا الباب قوله‏:‏

تضِيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كأنها *** مَنارَةُ مُمْسَى رَاهبٍ متَبَتِّلِ

أراد‏:‏ سُرُج منارة‏.‏

باب الإعارة

العرب تُعير الشيء ما ليس له‏.‏ فيقولن‏:‏ مَرَّ بينَ سمعِ الأرض وبَصَرِها ويقول قائلهم‏:‏

كذلك فعلهُ والناسُ طُـرًّا *** بكفِّ الدهر تقتلُهم ضُروبًا

فجعل للدهر كفًّا‏.‏

ويقولون‏:‏

ثأَرتُ المِسْمَعَيْن وقلت بوّأ *** بقتلِ أخي فزَارةَ والخِيارِ

قال الأصمعي‏:‏ لم يكن واحد منهما مِسَمعًا وإنما كان عامرًا وعبدَ الملك ابني مالك بن مِسْمع فأعارهما اسمَ جدّهما‏.‏ ومثله الشَّعْثمان لم يكن اسم أحدهما شَعْثما وإنما أُعيرا اسم أبيهما شعثم ومثله المهَالِبَة والأشعرون‏.‏

باب أفعل في الأوصاف لا يراد به التفضيل

يقولون‏:‏ جَرَى له طائرٌ أشأم ويقول شاعرهم‏:‏

هي الهَمُّ لو أنّ ا لنوى أصْقبَتْ بها *** ولكنّ كَرًّا في رَكوبَةَ أعْـسَـرُ

وقال الفرزدق‏:‏

إن الذي سمكَ السماءَ بني لنا *** عِزًّا دعائمهُ أعزُّ وأطـولُ

وقال أبو ذُؤَيْبِ‏:‏

ما لي أحِنّ إذا جِمالُك قرِّبَتْ *** وأصدُّ عنكِ وأنتِ مني أقرب

وقال‏:‏

بُثَيْنَةُ من آل النساء وإنـمـا *** يكنّ لأدنى لا وِصالَ لغائب

ويقولون‏:‏ إن من هذا الباب قولَه جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏وهو أهْونُ عليه‏}‏‏.‏

باب نفي الشيء جملة من أجل عدمه كمال صفته

قال الله جلّ وعزّ في صفة أهل النار‏:‏ ‏{‏لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏ فنفى عنه الموتَ لأنه ليس بموت مُرِيح ونفى عنه الحياةَ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة‏.‏ وهذا في كلام العرب كثير، قال أبو النَّجْم‏:‏

يُلْقِينَ بالخَبارِ والأجـارعِ *** كلَّ جَهيضٍ لَيِن الأكارِعِ

ليسَ بِمِحْفوظ ولا بضائع ***

فقال‏:‏ ليس بمحفوظ؛ لأنه ألقي في صحراء‏.‏ ولا بضائع؛ لأنه موجود في ذلك المكان وإن لم يوجد فيه‏.‏

ومنه قوله‏:‏

بلهاء لم تحفظ ولم تضيع ***

وقال‏:‏

وقد أجُوبُ البَلـد الْـبَـرَاحـا *** الْمَرْمَرِيسَ القَفْرةَ الصَحْصَاحا

بالقوم لا مرْضَى ولا صِحاحا ***

ومن هذا الباب أو قريبٌ منه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبْصرون‏}‏ ومنه ‏{‏ولقد علموا لَمَن اشْتَراهُ ما له في الآخرة من خَلاق‏}‏ فأثبت علمًا ثم قال – ‏{‏ولِبْئسَ ما شَرَوا به أنفُسَهُم لو كانوا يَعلمون‏}‏ لما كان علمًا لم يعملوا به كانوا كأنهم لا يعلمون‏.‏ ومن الباب قول مسكين‏:‏

أعُمى إذا ما جارتي خرجَتْ *** حتى يواري جارتي السِّتْرُ

وأصَمّ عما كان بينـهـمـا *** سمعي وما بالسمع من وَقْرُ

جعل نفسَه أعمى أصَمَّ لمّا لم ينظر ولم يسمع‏.‏ وقال آخر‏:‏

وكلامٌ بسـيِّئ قـد وُقِـرَتْ *** أذنيَ عنه وما بي من صَمَمِ

وقريب من هذا الباب قوله جلّ وعزّ‏:‏ ‏{‏وتَرى الناسَ سُكارى وما هو بسُكارى‏}‏ أي ما هم بسُكارى مشروبٍ وكلن سُكارى فَزَع وَوَلهٍ‏.‏ ومن الباب قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لا يَنطِقون ولا يؤذَن لهم فيعتَذِرون‏}‏ وهم قد نطقوا بقولهم‏:‏ ‏{‏يا لَيْتَنا نُرَدُّ‏}‏ لكنهم نطقوا بما لم يَنفع فكأنهم لم ينطِقوا‏.‏

باب الشرط

الشرط على ضربين‏:‏ شرطٌ واجبٌ إعماله كقول القائل‏:‏ إن خرج زيدٌ خرجتُ‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فإن طِبنَ لكن عن شيء منه نفسًا فكُلُوه هَنِيئًا مريئًا‏}‏ والشرط الآخر مذكور إلا أنه غيرُ مَعْزوم عليه ولا محتوم، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فال جُناحَ عليهم أن يَتَراجعا إن ظَنّا أن يقيما حدودَ الله‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إن ظَنّا‏}‏ شرط لإطلاق المراجعة‏.‏ فلو كان محتومًا مفروضًا لما جاز لهما أن يتراجعا إلاّ بعد الظنّ ‏{‏أن يقيما حدود الله‏}‏‏.‏ فالشرط ها هنا كالمَجاز غير المعزوم‏.‏ ومثله قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فذَكِّرْ إن نَفَعَتِ الذِّكْرى‏}‏ لأن الأمر بالتذكير واقع في كلّ وقت‏.‏ وللتذكير واجب نفع أو لم ينفع، فقد يكون بعض الشروط مَجازًا‏.‏

باب الكناية

الكناية لها بابان‏:‏

الباب الأول من الكناية

أن يُكنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسينًا للفظ أو إكرامًا للمذكور، وذلك كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقالوا لجلودهم لِمَ شَهدْتم علينا‏}‏ قالوا‏:‏ إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان‏.‏ وكذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولكن لا تواعِدُوهنَّ سِرًّا‏}‏ إنه النكاح‏.‏ كذلك‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائِط‏}‏ والغائط‏:‏ مطمَئِن من الأرض‏.‏ كل هذا تحسين اللفظ والله جلّ ثناؤه كريم يكُنِي كما قال في قصة عيسى وأمه عليهما السلام‏:‏ ‏{‏ما المسيح بنُ مريمَ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُّسلُ وأُمّه صِدّيِقة كانا يأكلان الطّعامَ‏}‏ كنايةٌ عما لا بدّ لآكل الطعام منه‏.‏

الكنايةُ التي للتبجيل قولهم‏:‏ أبو فلان صيانة لاسمه عن الابتذال‏.‏

والكُنى مما كان للعرب خصوصًا‏.‏ ثم تشبَّه غيرهم بهم في ذَلِكَ‏.‏

الباب الثاني من الكناية

الاسم يكون ظاهرًا مثل‏:‏ زيد‏.‏ وعمرْو‏.‏ ويكون مَكْنّيًا وبعض النحويين يسميه مضمَرًا، وذلك مثل هو‏.‏ وهي‏.‏ وهما‏.‏ وهنَّ‏.‏

وزعم بعضُ أهل العربية أن أول أحوال الاسم الكناية، ثم يكون ظاهرًا‏.‏ قال‏:‏ وذلك أن أوّل حال المتكلم أن يخبر عن نفسه ومخاطَبِهِ فيقول‏:‏ أنا‏.‏ وأنت وهذان لا ظاهر لهما‏.‏ وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنْى عنها مرة‏.‏

والكناية متصلة منفصلة ومسْتجِنَّة‏.‏ فالمتصلة التاء في حملتُ‏.‏ وقمتُ‏"‏ والمنفصلة قولنا‏:‏ إياهُ أردْتُ‏.‏ والمستجنَّة قولنا‏:‏ قام زيدٌ فإذا كَنَيْنا عنه قلنا قام فَتَسَتَّر الاسم في الفعل‏.‏

وربما كني عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يؤفَك عنه‏}‏ أي يؤفك عن الدين أو عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏.‏ قال أهل العلم‏:‏ وإنما جاز هذا لأنه قد جرى الذّكر في القرآن‏.‏ قال حاتم‏:‏

أمَاويَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفـتـى *** إذا حَشرَجَتْ يومًا وضاقَ بها الصدْرُ

فكنى عن النفس فقال حشرجت‏.‏

ويقولون‏:‏

إذا اغُبرَّ أُفْقٌ وهَبَّتْ شَمالًا ***

أضمرَ الريح ولم يجرِ لها ذكر‏.‏

ويكنى عن الشيئين والثالثة بكناية الواحد‏.‏ فيقولون‏:‏ هو أنْتَنُ الناس وأخْبَثُه وهذا لا يكون إلا فيما يقال هو أفعل، قال الشاعر‏:‏

شَرُّ يومَيها وأشقاهُ لهـا *** رَكِبتْ عَنزٌ بِحمْلٍ جَملا

ولم يقل‏:‏ أشقاهما وتكون الكناية متصلة باسم وهي لغيره، كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سُلالَة من طين‏}‏ - فهذا آدم عليه السلام ثم قال – ‏{‏جعلناه نُطْفة‏}‏ فهذا لِوَلده لأن آدم لم يُخلق من نُطفة‏.‏ ومن هذا الباب قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لا تَسْأَلوا عن أشياءَ إنْ تُبدَ لكم تَسؤْكم‏}‏ قيل‏:‏ إنها نزلت في ابن حُذَافَة حين قال للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏:‏ من أبي‏؟‏ فقال‏:‏ حُذافة‏.‏ وكان يَسبُّ به فساؤَهُ ذلك، فنزلت‏:‏ ‏{‏لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكُم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الحج حين قال القائل‏:‏ أفي كلّ عام مرةً‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تَسألوا عنها‏}‏ يريد أن تسألوا عن أشياء أُخرَ من أمر دينكم وديناكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال‏:‏ ‏{‏قد سألها‏}‏ فهذه الهاء من غير الكنايتين لأن معناها‏:‏ قد طلبها، والسؤال ها هنا طلب، وكذلك كقول عيسى عليه السلام حين سألوه المائدةَ، وكقول موسى عليه السلام حين قالوا‏:‏ ‏{‏أرِنا الله جَهرَة‏}‏ فالسؤال ها هنا طلب والكناية مُبتدأةٌ‏.‏

وربما كُني عن الجَماعة كناية والحد كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قُلْ أرأيْتم إنْ أخذَ اللهُ سمعَكم وأبصاركم وخَتَم على قلوبكم مَنْ إله غيرُ الله يَأيتكم به‏}‏ أراد والله أعلم‏:‏ بهذا الذي تقدّم ذكره‏.‏

باب الشيء يأتي مرة بلفظ المفعول ومرة بلفظ الفاعل والمعنى واحد

تقول العرب‏:‏ هو مُدَجِّج‏.‏ ومدَجَّج وعبدٌ مكاتِب‏.‏و مكاتَب وشَأوٌ مُغرِّب‏.‏ ومُعرَّب وسجن مُخيِّس ومُخيَّس ومكان عامِر‏.‏ ومَعْمور ومَنزِل آهِل‏.‏ ومَأهول ونُفِستِ المرأةَ ونَفِسَتْ ولا يَنْبَغي لك‏.‏ ولا يُنْبَغي لك وعنيتُ به وعَنيتُ‏.‏ قال

عانٍ بأُخراها طويلُ الشُّغْلِ

ورْهِصَتِ الدّابة‏.‏ ورَهِصَتْ وسُعِدوا‏.‏ وسعَدوا وزُهي علينا‏.‏ وزَهَى‏.‏

باب الزيادة في حروف الفعل للمبالغة

وقد مضى في الأسماء مثله

العرب تَزيد في حروف الفعل مبالغة، فيقولون‏:‏ حلا الشيء فإذا انتهى قالوا‏:‏ احُلّوْلَى ويقولون اقْلوْلَى على فراشه وينشدون‏:‏

واقْلَوْلَيْنَ فوقَ المضاجِع ***

وقرأ ابنُ عباس‏:‏ إلا أنه تَثْنَوْنِي صدورُهم على هذا الذي قلناه من المبالغة‏.‏

باب الخصائص

للعرب كلام بألفاظ تختص به مَعانٍ لا يجوز نقلها إلى غيرها، يكون في الخير والشرّ والحَسَن وغيره وفي الليل والنهار وغير ذلك‏.‏ ومن ذلك قولهم‏:‏ مَكانَكَ قال أهلُ العلم‏:‏ هي كلمة وُضِعتْ على الوعيد، قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏مَكانَكم أنتم وشرَكاؤكم‏}‏ كأنّه قيل لهم انتظِروا مكانَكم حتى يُفْصَل بينكم‏.‏ ومن ذلك قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏:‏ «مَا حَمَلَكم على أن تَتابعوا في الكذِب كما يَتَتَابُع الفَراشُ في النار» قال أبو عبيدة‏:‏ هو التهافت، وم نسمعه إلا في الشرّ‏.‏ ومن ذلك أولى له وقد فسّرناه‏.‏ ومن ذلك‏:‏ ظَلَّ فلان يفعل كذا إذا فعله نهارًا‏.‏ وبات يفعل كذا إذا فعله ليلًا‏.‏ ومن ذلك ما أخبرني به أبو الحسن علي بن إبراهيم قال سمعت أبا العباس المبرّد يقول‏:‏ التَّأويب سيرُ النهار لا تعريج فيه والإسآد سيرُ الليل لا تعريس فيه‏.‏ ومن الباب جُعلوا أحاديث أي‏:‏ مُثِلَ بهم، ولا يقال في الخير‏.‏ ومنه‏:‏ ‏"‏لا عدوانَ إلا على الظالمين‏"‏ ومن الخصائص في الأفعال قولهم‏:‏ ظننتني وحسِبتُني‏.‏ وخِلْتني لا يقال إلا فيما فيه أدنى شك، ولا يقال ضَرَبتني‏.‏

ولا يكون التَّأْبين إلا مدحَ الرجل ميتًا‏.‏ ويقال غضبتُ به إذا كان ميتًا‏.‏ والمسَاعاة الزِّنا بالإماء خاصة‏.‏ والراكب راكب البعير خاصة‏.‏ وألَجَّ الجملُ وخَلأَت الناقة وحزَنَ الفرس ونَفَشَتِ الغنم ليلًا وهَمَلتْ نهارًا‏.‏ وقال الخيلي‏:‏ اليَعْمَلَه من الإبل اسم اشتق من العَمَل ولا يقال غلا للإناث قال‏:‏ والنعتُ وصف الشيء بما فيه من حَسَن إلاّ أن يتكلّف متكلف فيقول هذا نعتُ سوءٍ فأما العرب العاربة فإنها تقول‏:‏ للشيء نعت يريدون به التتمة‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ليلةٌ ذات أزِيز أي قُرّ شديد‏.‏ ولا يقال يومٌ ذو أزيز‏.‏

قال ابنُ دُرَيْد أشَّ القومُ وتأسَّسُوا إذا قام بعضهم إلى بعض للشر لا للخير‏.‏ ومن ذلك جَزَزْتُ الشاةُ وحَلَقْتُ العَنزَ لا يكون الحَلق في الضَّأن ولا الجّزّ في المِعزَى وخفضت الجارية ولا يقال في الظلام وحقب البعد إذا لم يَستقم بولُه لقصد، ولا يَحْقب إلا الجمل‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ أبْلَمَتِ البَكْرة إذا وَرِمَ حياؤُها لا يكون إلا للبَكرة‏.‏ وعَدَنتِ الإبل في الحمض لا تَعْدُن إلا فيه‏.‏ ويقال‏:‏ غَطَّ البعيرُ هَدَرَ ولا يقال في الناقة‏.‏ ويقال‏:‏ ما أطيبَ قداوةَ هذا الطعام أي‏:‏ ريحَهُ ولا يقال ذلك غلا في الطبيخِ والشِّواء‏.‏ ولَقَعَه بِبَعْرَة ولا يقال بغيرها‏.‏ وفعلتُ ذاك قبل عَيْرٍ وما جَرَى لا يتُكلَّم به إلا في الواجب، لا يقال‏:‏ سأفعله قبلَ عير وما جرى‏.‏ ومن الباب ما لا يقال إلا في النفي كقولهم‏:‏ ما بها أرِمٌ أي ما بها أحد‏.‏ وهذا كثير فيه أبواب قد صنّفها العلماء‏.‏

باب نظم للجرب لا يقوله غيرهم

يقولون‏:‏ عاد فلانٌ شيخًا وهو لم يكن شيخًا قط‏.‏ وعادَ الماءُ آجنًا وهو لم يكن آجنًا فيعود‏.‏ ويقول الهُذّلِي‏:‏

قد عادَ رَهْبًا رَذّيًا طائِشّ القَدَمِ ***

وقال‏:‏

قطعتُ الدَهرَ في الشَّهَوات حتّى *** أعادتني عَسِيفًا عـبـدَ عـبـدِ

ومن هذا في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يُخرِجونَهم من النّور إلى الظلمات‏}‏ وهم لم يكونا في نور قط‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏يُرَدّ إلى أرْذَلِ العُمُر‏}‏ وهو لم يَكن في ذلك قط‏.‏ وقال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏حتّى عادَ كالعُرْجُونَ القديم‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏عاد‏}‏ ولم يكن عُرْجونًا قبلُ

باب إخراجهم الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك

يقولون‏:‏ ‏"‏فلانٌ كريم غير أنه شريف‏"‏ و ‏"‏كريم غير أن له حَسَبًا‏"‏ وهو شيء تنفَرِدُ فيه العرب‏.‏ قال‏.‏

ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سُيوفَهم *** بهن فُلُول من قِراع الكتائِبِ

وقال‏:‏

فتىً كَمَلَتْ أخلاقُه غير أنُـه *** جوادٌ فما يُبقيِ من المال باقيا

وهو كثير‏.‏

باب الإفراط

العرب تُفرِط في صفة الشيء مُجاوَزَةً للقَدْر اقتدارًا على الكلام كقوله‏:‏

بِخَيْلٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَراته *** ترى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّدًا لِلْحوافِرِ

ويقولون‏:‏

لما أتى خبَرَ الزُّبيْر تواضَعَتْ *** سور المدينة والجبال الخشع

و‏:‏

بكى حارِثُ الجولان من هُلْكِ ربّه ***

ويقولون‏:‏

لَوْ انَّك تُلْقِي حَنْظَلًا فَوْقَ بَيْضِنـا *** تَحَدْرَجَ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ويقولون‏:‏

ضَرَبتُه فِي الملتقى ضَرْبةً *** فزال عن مَنْكِبِهِ الكاهـلُ

فَصارما بَيْنَهمـا رَهْـوةً *** يمشي بِهَا الرَّامِح والنّابِلُ

باب نفي في ضمنه إثبات

تقول العرب‏:‏ ‏"‏لَيْسَ بحُلو ولا حامضٍ‏"‏ يريدون أنه جَمَعَ من ذا وذا‏.‏ وَفِي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لا شرقِيَّة ولا غَرْبيّة‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ لا شرقيّة تضحى للشرق ولا غربية لا تضحى للشرق لكنها شرقية غربيّة يصيبها ذا وذا‏:‏ الشرق والغرب‏.‏

باب الاشتراك

معنى الاشتراك‏:‏ أن تكون اللفظة محتملة لمعنيين أَوْ أكثر، كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فاقْذِفيه فِي اليمّ، فَلْيُلْقِهِ اليمّ بالساحل‏}‏ فقوله‏:‏ ‏"‏فَلْيُلْقِهِ‏"‏ مشترك بَيْنَ الخبر وبين الأمر، كَأَنَّه قال‏:‏ فاقذفيه فِي اليم يُلْقِهِ اليم‏.‏ ومحتمل أن يكون اليمُّ أمر بإلقائه‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ ‏"‏أرأيت‏"‏ فهو مرّةً للاستفتاء كقولك‏:‏ ‏"‏أرأيت إن صلى الإمام قاعدًا كيْفَ يُصَلّي مَن خلفه‏؟‏‏"‏‏.‏ ويَكون مرّةً للتنبيه ولا يقتضي مفعولًا، قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏أَراَيتَ إن كذَّب وتولّى ألم يعلم بأنّ اللهَ يرى‏}‏‏.‏ ومن الباب قوله‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وحيدًا‏}‏ فهذا مشترك محتمل أن يكون لله جلّ ثناؤه لأنه انفرد بخَلْقِهِ، ومحتمل أن يكون‏:‏ خَلقتُه وحيدًا فريدًا من ماله وولَده‏.‏

باب ما يسميه بعض المحدّثين الاستطراد

وذلك أن يشبّه شيء ثُمَّ يمرّ المتكلم فِي وصف المشبّه، كقول الشاعر حين شبّه ناقتَه فقال‏:‏

كَأَنِّي ورَحْلِيَ إذَا رُعْتُـهـا *** عَلَى جَمْزَى جازِئٍ بالرِّمالِ

فشبّه ناقته بثور ومضى فِي وصف الثّور، ثُمَّ نقل الشبه إِلَى الحمار فقال‏:‏

أَوْ أصْحَمٍ حامٍ جَرامِيزَه *** حَزَابِيَةٍ حَيدَى بالدِّحالِ

ومر فِي صفة العَيْر إِلَى آخر كلمته‏.‏

وَقَدْ قيل‏:‏ فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من هَذَا النظم قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذِّكر لما جاءهم‏}‏ وَلَمْ يجر للذِّكر خبر، ثُمَّ قال‏:‏ ‏{‏وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بَيْن يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏}‏ وجواب‏:‏ ‏{‏إن الَّذِين كفروا‏}‏ قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏أولئك يُنادَوْنَ من مكان بعيد‏}‏‏.‏

باب الإتباع

للعرب الأتْباع - وهو أن تُبْبَعَ الكلمةُ الكلمةَ عَلَى وزنها أَوْ روِيّا إشباعًا وتأكيدًا‏.‏ ورُوي أن بعض العرب سُئِل عن ذَلِكَ فقال‏:‏ هو شيءٌ نَتدبر بِهِ كلامنا‏.‏ وذلك قولهم‏:‏ ‏"‏ساغِبٌ لاغِب‏"‏ و ‏"‏هو خَبٌّ ضَبّ‏"‏ و ‏"‏خَرابٌ يَباب‏"‏‏.‏ وَقَدْ شاركَتْ العَجَمُ العربَ فِي هَذَا الباب‏.‏

باب الأوصاف الَّتِي لَمْ يسمع لَهَا بأفعال والأفعالِ الَّتِي لَمْ يُوصف بِهَا

قال الخليل‏:‏ ‏"‏ظَبيٌ عَنَبَانٌ‏"‏ أي نشيط، قال‏:‏ وَلَمْ نسمع للعنبان فعلًا، قال‏:‏ ‏"‏يَشُدُّ شد العَنَبان البارح‏"‏ قال‏:‏ و ‏"‏الخَضِيعَةُ‏"‏ صوت يخرج من قُنبِ الدّابّة ولا فعل لَهَا‏.‏ ويقولون فِي التحقير‏:‏ ‏"‏هو دُونٌ‏"‏ ولا فعل لَهُ‏.‏ قال أبو زَيْد‏:‏ يقال للجبان‏:‏ ‏"‏إنه لَمَفْؤدٌ‏"‏ ولا فعل لَهُ‏.‏ قال‏:‏ و ‏"‏الخَبِطة‏"‏ مثل الرَّفَض من اللبن والماء ولا فعل لَهَا‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏أمجَدْتُ الإِبلَ إمجادًا‏"‏ إذَا أنت أشبعْتَها ولا فعل لَهَا فِي هذا‏.‏ و ‏"‏المَزِيّةُ‏"‏ الفضل ولا فعل لَهَا‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ ‏"‏مَا ساءه وناءه‏"‏ تأكيدٌ للأول ولم يعرفوا من ‏"‏ناءه‏"‏ فعلًا، لا يقولون‏:‏ ‏"‏يَنُؤُهُ‏"‏ كما يقال‏:‏ ‏"‏يَسُؤُهُ‏"‏‏.‏

ومن الأفعال الَّتِي لَمْ يُوصَف بِهَا قولُنا‏:‏ ‏"‏ذَرأ الله الخَلْق‏"‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَذْرَؤُكم فِيهِ‏}‏ وَلَمْ يُسمع فِي صفاته جل ثناؤه‏:‏ ‏"‏الذّارِيء‏"‏‏.‏

باب النحت

العرب تَنْحَتُ من كلمتين كلمةً واحدة، وهو جنس من الاختصار، وذلك‏:‏ ‏"‏رجل عَبْشَميّ‏"‏ منسوب إِلَى اسمين، وأنشد الخليل‏:‏

أقول لَهَا ودمعُ العين جارٍ *** ألَمْ تَحْزُنْكِ حَيْعَلةُ المنادي

مكن قوله‏:‏ ‏"‏حَيَّ علي‏"‏‏.‏ وهذا مذهبنا فِي أنّ الأشياء الزائدة عَلَى ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد ‏"‏ضَبَطرٌ‏"‏ وَفِي ‏"‏الصِّلِّدْم‏"‏ إنه من ‏"‏الصَّلد‏"‏ و ‏"‏الصَّدْم‏"‏‏.‏ وَقَدْ ذكرنا ذَلِكَ بوجوهه فِي كتاب مقاييس اللغة‏.‏

باب الإشباع والتأكيد

تقول العرب‏:‏ ‏"‏عَشَرةٌ وعَشَرة فتلك عشرون‏"‏ وذلك زيادة فِي التأكيد ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فصيام ثلاثة أيام فِي الحج وسبعة إذَا رجعتم تِلْكَ عَشَرة كاملة‏}‏ وإنما قال هَذَا لنفي الاحتمال ان يكون أحدهما واجبًا إما ثلاثة وغما سبعة فأُكّد وأزيل التوهّمِ بأن جُمِعَ بَيْنَهما‏.‏ ومن الباب قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولا طائر يَطيرُ بِجَنَاحَيْه‏}‏ إنما ذكر الجَناحين لأن العرب قَدْ تُسمّي الإِسراعَ طيرَانًا، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم‏:‏ «كلَّما سَمعَ هَيْعة طار إليها أخرى»‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏يقولون بألسِنَتهم‏}‏ فذلك الألسنة لأن الناس يقولون‏:‏ ‏"‏قال فِي نفسه كذا‏"‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ويقولون فِي أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول‏}‏ فاعلم أن ذَلِكَ باللسان دون كلام النفس‏.‏

باب الفصل بَيْنَ الفعل والنعت

النعت يؤخذ عن الفعل نحو‏:‏ ‏"‏قامَ فهو قائم‏"‏ وهذا الَّذِي يسمّيه بعض النحويين الدائمَ وبعض يسميه اسمَ الفاعل‏.‏ وتكون لَهُ رتبة زائدة عَلَى الفاعل‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولا تجعلْ يدَكَ مَغلولة إِلَى عُنقِكَ‏}‏ وَلَمْ يقل‏:‏ لا تغلَّ يدك، وذلك أن النعت ألزَمُ، ألا ترى أنا نقول‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربَّه فغوى‏}‏ ولا نقول‏:‏ آدمُ عاصٍ غاوٍ، لأن النعوت لازمة وآدم وإن كَانَ عصى فِي شيء فإنه لَكَ يكن شأنه العصيان فيُسمى بِهِ، فقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لا تجعل يدَكَ مغلولة‏}‏ أي لا تكونَنّ عادَتُك فتكون يدك مغلولةً‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقال الرسول يَا ربّ إن قومي اتخذوا هَذَا القرآن مهجورًا‏}‏ وَلَمْ يقل هَجَرُوا لأن شأنَ القوم كَانَ هجران القرآن وشأنُ القرآن عندَهم أن يُهجَر أبدًا فلذلك قال والله أعلم‏:‏ ‏{‏اتَّخَذوا هَذَا القرآن مهجورًا‏}‏ وهذا قياسُ الباب كله‏.‏

باب الشعر

الشِّعرْ - كلام مَوْزونٌ مُقفّى دَالٌّ عَلَى معنىً‏.‏ ويكون أكثرَ من بيت‏.‏

وإنما قلنا هَذَا لأنّ جائزًا اتِّفاقُ سَطرٍ واحد بوزن يُشبه وزنَ الشِّعر عن غير قصد، فقد قيل‏:‏ إن بعض الناس كتب فِي عنوانه كتاب ‏"‏للأمير المُسَيَّب بن زهير - من عِقالِ بن شبَّةَ بن عِقالِ‏"‏ فاستوى هَذَا فِي الوزن الَّذِي يُسمّى ‏"‏الخفيف‏"‏‏.‏ ولعلّ الكاتب لَمْ يقصد بِهِ شِعْرًا‏.‏

وقد ذكر ناس فِي هَذَا كلمات من كتاب الله جلّ ثناؤه كَرِهْنا ذكرَها، وَقَدْ نزّه الله جلّ ثناؤه كتابه عن شَبه الشِّعر كما نزّه نبيَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قوله‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ فما الحِكمةُ فِي تنزيه الله جلّ ثناؤه نبيَّه عن الشعر‏؟‏ قيل لَهُ‏:‏ أوّل مَا فِي ذَلِكَ حكم الله جلّ ثناؤه بأنّ‏:‏ ‏{‏الشعراء يتَّبِعُهم الغاوون وأنهم فِي كل واد يَهيمُون وأنَّهم يقولون مَا لا يَفْعلون‏}‏ ثُمَّ قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإن كَانَ أفضل المؤمنين إيمانًا وأكثر الصالحين عَمَلًا للصالحات فلم يكن ينبغي لَهُ الشعر بحال، لأن للشعر شرائِط لا يُسمى الإنسان بغيرها شاعرًا، وذلك أن إنسانًا لَوْ عَمِلَ كلامًا مستقيمًا موزونًا يتحرّى فِيهِ الصدق من غير أن يُفْرِط أَوْ يتعدَّى أَوْ َضمينَ أَوْ يأتي فِيهِ بأشياء لا يمكن كونها بتَّةً لما سمّاهُ الناسُ شاعرًا ولكان مَا يقوله مَخْسولًا ساقطًا‏.‏

وَقَدْ قال بعض العقلاء وسُئِل عن الشعر فقال‏:‏ ‏"‏إن هَزَلَ أضحكَ وإن جَدَّ كَذَبَ‏"‏ فالشاعر بين كَذِب وإِضحاك، فإذ كَانَ كذا فقد نزّه الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن هاتين الخِصْلتين وعن كل أمر دنيء‏.‏

وبعد فإنّا لا نكاد نرى شاعرًا إِلاَّ مادِحًا ضارعًا أَوْ هاجيًا ذا قدع، وهذه أوصاف لا تصلُح لنبي‏.‏ فإن قال‏:‏ فقد يكون من الشِّعر الحُكْمُ كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏:‏ «إن من البيان لسِحْرًا وإن من الشِّعر لحِكمة» أَوْ قال‏:‏ ‏"‏حُكمًا‏"‏ - قيل لَهُ‏:‏ إنما نزّه الله جلّ ثناؤه نبيه عن قِيل الشعرِ لما ذكرناه، فأمّا الحِكمة فقد آتاه الله جلّ ثناؤه من ذَلِكَ القِسْم الأجزَلَ والنَّصيبَ الأوفى الأزكى‏:‏ قال الله جلّ ثناؤه فِي صفة نبيّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏:‏ «ويُزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابِ والحِكمة‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏واذكُرْنَ مَا يُتلى بيوتكنّ من آيات الله والحكمة‏}‏ فآيات الله القرآن، والحكمةُ سُنَّته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏.‏

ومعنىً آخر فِي تنزيه الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قيل الشعر أن أهل العَروض مُجْمِعون عَلَى أنه لا فَرْقَ بَيْنَ صِناعة العروضِ وصناعَة الإيقاع‏.‏ إِلاَّ أن صِناعة الإيقاع تَقسِم الزمانَ بالنَّغَم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة‏.‏ فلما كَانَ الشعر ذا مِيزَان يناسبُ الإيقاعَ، والإيقاعُ ضربٌ من الملاهي لَمْ يصلُح ذَلِكَ لرسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم‏.‏ وَقَدْ قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏:‏ «مَا أنا من دَدٍ ولا دَدٌ ولا دَدٌ مني»‏.‏

والشِّعر ديوانُ العرب، وبه حُفِظت الأنساب، وعُرِفت المآثر، ومنه تُعلِّمت اللغة‏.‏ وهو حُجَّةٌ فيما أشْكَلَ من غريب كتاب الله جلّ ثناؤه وغريب حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحديث صحابته والتابعين‏.‏

وَقَدْ يكون شاعرٌ أشْعَرَ، وشِعْرٌ أحلى أَوْ أظرف‏.‏ فأمّا أن يتَفاوَتَ الأشعار القديمة حَتَّى يتباعد ما بينها فِي الجودة فلا‏.‏ وبشكُلٍّ يُحْتَجّ وإلى كلٍّ يُحتاج‏.‏ فأما الاختيار الَّذِي يراه الناسُ للناس فشَهَوات، كلٌّ مستحسِنٌ شيئًا‏.‏

والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ولا يمدُّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون، ويختلسون ويُعيرون ويستعيرون‏.‏ فأما لحنٌ فِي إعراب أَوْ إزالةُ كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذَلِكَ‏.‏ ولا معنى لفول من يقول‏:‏ إن للشاعر عند الضرورة أن يأتيَ فِي شِعره بما لا يجوز‏.‏ ولا معنى لقول من قال‏:‏

ألم يأتيكَ والأنباء تَنْمي ***

وهذا وإن صحّ وَمَا أشبهه من قوله‏:‏

لما جَفا إخوانُه مصْعَبًا ***

وقوله‏:‏

قِفا عند مِمّا تعرِفان رُبوعُ ***

فكلُّه غلط وخطأ، وَمَا جعل الله الشعراء معصومين يُوَقَّوْن الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وَمَا أبَتْهُ العربية وأصولها فَمَرْدُودُ‏.‏ بَلَى للشاعر إذَا لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ الَّذِي يُريده فِي وزن شعره أن يأتي بما يقوم مقامه بَسْطًا واختِصارًا وإبْدالًا بعد أن لا يكون فيما يأتيه مُخْطِئًا أَوْ لاحنًا، فله أن يقول‏:‏

كالنَّحْلِ فِي ماءِ رُضابِ العَذْبِ ***

وهو يُريد العسَل، وله أن يقول‏:‏

مثل الفَنِيق هَنَأتَهُ بعَصيمِ

و ‏"‏العصيم‏"‏ أثر الهِناء‏.‏ وإنما أراد هَنَأتَه بهِناء‏.‏ وله أن يبسُط فيقول كما قال الأعشى‏:‏

إن تَرْكَبوا فركوب الخيل عادَتُنا *** أَوْ تَنْزِلونَ فإنَّا مَعْشَـرٌ نُـزُل

معناه‏:‏ إن تركبوا رَكِبنا وإن تنزلوا نزلنا، لكن لَمْ يستقم لَهُ إِلاَّ بالبسط وكذلك قوله‏:‏

وإن تسكُني نجدًا فيا حَبَّذا نَجْدُ ***

أراد‏:‏ أن تسكني نجدًا، سكناه فبَسط لما أراد إقامة الشِّعر، أنشدنيها أبي فارس بن زكريّاء قال أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعدان النحوي الهمذاني قال أنشدني أبو نَصْر صاحب الأصمعي‏:‏

لمن دمعَتان لَيسَ لي بِهما عَـهـدُ *** بِحَيثُ التقى الدَّاراتُ والجَرَعُ الكُبدُ

قَضَيْت الغوانـي غـير أنَّ مَـوَدَّةً *** لِذَلْفاءَ ما قضيت أخِرَهـا بـعـدُ

فيا رَبْوَةَ الرَّبْعَـيْن حُـيّيتِ ربـوةً *** عَلَى النأْي مني، واسْتَهَلَّ بكِ الرَّغْدُ

فإن تَدَعي نَجْدًا نَدَعْـهُ ومـن بِـهِ *** وإن تَسكُنِي نجدًا فيا حَبَّـذا نـجْـدُ

وما سوى هَذَا مما ذَكِرَتِ الرُّواةُ أن الشُّعراء غلطوا فِيهِ فقد ذكرناه فِي ‏"‏كتاب خُضارة‏"‏ وهو ‏"‏كتاب نعت الشِّعر‏"‏ وهذا تمام الكتاب الصاحبي أتم الله عَلَى ‏"‏الصاحب‏"‏ الجليل النِّعَم، وأسْبغَ لَهُ المواهِبَ، وسَنَّى لَهُ المَزِيدَ من فضلِهِ، إنه وليُّ ذَلِكَ والقادِرُ عَلَيْهِ‏.‏ وصلى الله تعالى عَلَى نبيه محمد وآله أجمعين‏.‏ وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏