الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
في ذكر مواطن هؤلاء البربر بإفريقية والمغرب اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه اسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق ولفظ المشرق كذلك بإضافته إلى جهة المغرب فكل مكان من الأرض مغرب بالإضافة إلى جهة المشرق ومشرق بالإضافة إلى جهة المغرب إلا أن العرب قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة وأقطار مخصوصة. وعرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها ومعمورها وخرابها وجبالها وبحارها ومساكن أهلها مثل بطليموس ورجار صاحب صقلية المنسوب إليه الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الأرض والبلدان وأمثالهم: أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار. فحده من جهة المغرب بحر المحيط وهو عنصر الماء وسمي محيطاً لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب. ويسمى أيضاً البحر الأخضر لتلونه غالباً بالخضرة ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض فيكون مظلماً. ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه منعقدة هنالك متراكمة وتسميه الأعاجم: بحر أوقيانوس يعنون والله أعلم ما نعني نحن بالعنصر. ويسمونه أيضاً بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية. وهو بحر كبير غير منحصر لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسمو الرياح هنالك ولنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه. والبحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم فتبعث الريح من الأماكن وغاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية. فإذا علم أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا وبما خرج من ريح إلى ريح ريح بحسب مقصوده وجهته. وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر ومنبعث الريح وإن كان معروفاً فيه فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك. وأيضاً فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم والأبخرة كما قلف فيهلك فلهذا كان راكبه على غرر وخطر. فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا أزمور وأنفى وأسفى وهي من مدن الغرب وحواضره. وعليه أيضاً مسجد ماسة وبلدتا كاوصت ونول من بلاد السوس وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم وتنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول ولا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه. وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي والمتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس ويسمى هذا الخليج الزقاق وعرضه ثمانية أميال فما فوقها. وكانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر. ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشام وثغوره وما إليها مثل أنطالية وأنطاكية والعلايا وطرسوس والمصيصة وطرابلس وصور والإسكندرية. ولذلك سمي البحر الشامي. وهو إذاً خرج من الخليج ينفسح في ذهابه عرضاً. وأكثر انفساحه إلى جهة الشمال ولا يزال انفساحه ذلك متصاعداً إلى الشمال إلي أن ينتهي إلى غايته. وطوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة. وفيه جزائر ميورقة ومنرقة وياسة وصقلية وأقريطش وسردانية وقبرص. وأما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد. ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد عن الجنوب وتارة يرجع إلى الشمال. واعترض ذلك بعروض البلدان التي بساحله وذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه الشمال على أفقه. وهو أيضاً بعد ما بين سمت رؤوس أهله ودائرة معدل النهار. والسبب في ذلك أن الأرض كروية الشكل والسماء من فوقها مثلها. وأفق البلد هو فرق ما يرى وبين ما لا يرى من السماء ومن الأرض. والفلك ذو قطبين إذا ارتفع أحدهما على رؤوس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم والعمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمال أكثر وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه. فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي. والمار على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة ومن السماء المقابل لها ما لم يكن يظهر فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال وينقص كلما رجع إلى الجنوب. فعرض سبتة وطنجة التي هي على زقاق هذا البحر وخليجه - له - ودقائق. ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان - لد - ونصف فتزيد في الجنوب فيكون عرض وهران - لب - أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس - لج - ودقائق. ولهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس وسبتة. وصار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب. ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس والجزائر - له - على مثل سمته الأول عند منبعثه من الزقاق. ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية وتونس - يوم - على مثل سمت غرناطة ومرية ومالقة. ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس وقابس - له - على مثل السمت الأول بطنجة وسبتة. ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة - لج - على مثل سمت فاس وتوزر فيكون عرض الإسكندرية - لا - على مثل مراكش وأغمات. ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشام. وهكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية ولسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية. وينتهي بسواحل عرض هذا البحر في انفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل إفريقية وجنوة من العدوة الشمالية والبلاد الساحلية من المغرب الأقصى والأوسط وإفريقية من لدن الخليج حيث منبعثة كلها عليه مثل طنجة وسبتة وبادس وعساسة وهنين ووهران والجزائر وبجاية وبونة وتونس وسوسة والمهدية وصفاقس وقابس وطرابلس وسواحل برقة والإسكندرية. هذا وصف هذا البحر الرومي الذي هو حد المغرب من جهة الشمال. وأما حده من جهة القبلة والجنوب فالرمال المتهيلة الماثلة حجزاً بين بلاد السودان وبلاد البربر. وتعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدىء من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر. فهنالك ينقطع وعرضه ثلاث مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد ريغ ووراءه من جهة الجنوب بعض بلاد الجريدية ذات نخيل وأنهار معدودة في جملة بلاد المغرب مثل بلاد بودة وتمنطيت فى قبلة المغرب الأقصى وتسايبت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغدامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار ينتهي وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية - منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حد المغرب من جهة الجنوب. ومن دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في الغرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال. ويسمى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الذي وصفناه آنفاً بسائط وقفار أكثر نباتها الشجر وفيما يلي التلول منها ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار. ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والغيرى فويان وغيرهما بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف ودرعة أيضاً وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت القصور أيضاً بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبله الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلي قبلة بجاية بلد واحد مستبحر العمران كثير النخل وفي سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب. وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع. ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستبحرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار إفريقية وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض إفريقية لما غزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الوحات قبلة برقة. ذكرها المسعودي فى كتابه. وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعاً ولا مرعى إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه. ومن ورائه مجالات المتلثمين كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان. وما بين بلاد هذه والجبال التي هي سياج التلول بسائط متلون مزاجها تارة بمزاج التلول وتارة بمزاج الصحراء بهوائها ومياهها ومنابتها. وفيها القيروان وجبل أوراس معترض وسطها. وبلاد الحضنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب والتل. وفيها مقرة والمسيلة وفيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو وقبلة فاس معترض في تلك البسائط. هذا حد المغرب من جهة القبلة والجنوب. وأما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات. فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن هابط على سمت الشمال وبانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم والسويس ويبقى بينهم من هنالك وبين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين. وينقطع عند السويس والقلزم. وبعده عن مصر في جهة الشرق ثلاثة أيام. هذا آخر المغرب عندهم ويدخل فيه إقليم مصر وبرقة. وكان المغرب عندهم جزيرة أحاطت بها البحر من ثلاث جهاتها كما تراه. وأما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة وإنما يختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد. وهذا الذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم. فأما المغرب الأقصى منه وهو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط. وجبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن وبرغواطة وغمارة. وآخر غمارة بطوية مما يلي غساسة ومعهم عوالم من صنهاجة ومطغرة وأوربة وغيرهم يحيط به البحر الكبير من غربيه والرومي من شماليه والجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن من جانب القبلة وجبال تازى من جهة الشرق. لأن الجبال أكثر ما هي وأكثف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها. فكانت جبال المغرب لذلك أكثر وساكنها من المصامدة في الأغلب وقيل من صنهاجة. وبقيت البسائط من الغرب مثل أزغاو وتامستا وتادلا ودكالة. واعتمرها الظواى من البربر الطارئين عليه من جشم ورياح فغص المغرب بساكنه من أمم لا يحصيهم إ لا خالقهم وصار كأنه جزيرة وبلد واحد أحاطت به الجبال والبحار وقاعدته لهذا العهد فاس وهي دار ملكه. ويمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع وهو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه ويعظم مده إلى البحر فينتهي إلى سبعين ميلاً أو ما يقاربها ومصبه في البحر الكبير عند أزبور. ومنبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر ويتساهل إلى بسيط المغرب. وينبع منها أيضاً نهر آخر وينحدر إلى القبلة. ويمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج. وصناعة استخراجه من شجره وهي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره وبها يسمى هذا النهر ويجاورها إلى أن يغوص في الرمل قبلة بلاد السوس. وأما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهر عظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة تازى ويصب في البحر الرومي عند غساسة. وعليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في القديم. ويسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط ويجاورهم هنالك وفي سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة إخوة مكناسة. وينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهباً إلى القبلة مشرقاً بعض الشيء ويقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى بودة ثم بعدها إلى تمنطيت ويسمى لهذا العهد كير وعليه قصورها. ثم يمر إلى أن يصب في القفار ويروغ في قفارها ويغور في رمالها وهو موضع مغامه قصور ذات نخل تسمى وركلان. وفي شرق بوده مما وراء العرق قصور تسابيت من قصور الصحراء. وفي شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلثمائة أو أكثر في واد واحد فينحدر من المغرب إلى المشرق وفيها أمم من قبائل زناتة. وأما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة. كان لمغراوة وبني يفرن. وكان معهم مديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطماطة. ثم صار من بعدهم لبني ومانوا وبني يلومي. ثم صار لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين وقاعدته لهذا العهد تلمسان وهي دار ملكه ويجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر ومتيجة والمرية وما يليها إلى بجاية وقبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة. ويمر في وادي شلف بني واطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء. ويدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد. ثم يمر مغرباً ويجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا وغيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كليتوا ومستغانم. وينبع من فوهته نهر آخر يذهب مشرقاً من جبل راشد ويمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر وأما بلاد بجاية وقسطنطينة فهي دار زواوة وكنامة وعجيسة وهوارة وهي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال وفيها بقاياهم. وأما إفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فيح كانت دياراً لنفزاوة وبني يفرن ونفوسة ومن لا يحصى من قبائل البربر. وكانت قاعدتها القيروان وهي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم وبني يفرن وهوارة مغلوبون تحت أيديهم. وقد تبدو معهم ونسوا رطانة الأعاجم وتكلموا بلغات العرب وتحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم. وقاعدتها لهذا العهد تونس وهي دار ملكها ويمر فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها ويصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت. وأما برقة فدرست معالمها وخربت أمصارها وانقرض أمرها. وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارا للواتة وهوارة وغيرهم من البربر. وكانت بها الأمصار المستبحرة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها فعادت يباباً ومفاوز كأن لم تكن والله أعلم
في ذكر ما كان لهذا الجيل قديماً وحديثاً من الفضائل الإنسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز ومعارج السلطان والملك قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده وكثرة قبائلهم وأجيالهم وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى إفريقية والمغرب وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولاً ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانياً من المقامات الحميدة والآثار الجميلة. وما كان لوهياً الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولاً ثم ردتهم ثانياً وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب. قال ابن أبي زيد: إن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب اثنتي عشرة مرة وزحفوا في كلها للمسلمين ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير وقيل بعدها. وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد وما شيدوا من الحصون والآطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريغة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس. ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك. ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بإفريقية. وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف. وما استولى عليه بنو بادين آخراً بإسهام الموحدين وإقطاعهم من بلاد المغرب وما كان لبني مرين في الأجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم مظاهرون لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم. ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولاً للدول وعبيداً للجباية. واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك وإلا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت وزناتة أيضاً حتى أسر أميرهم وزمار بن مولات وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان. ومن بعد ذلك هوارة وصنهاجة وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومدعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكاره والثبات في الشدائد. وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه. فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتبعيه من الأمم وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز وأوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت فى الخلق بالقبض والبسط أحكامهم. وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى: بلكين بن زيري الصنهاجي عامل إفريقية للعيديين ومحمد بن خزر والخير ابنه وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي. وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين يدي دولهم والماهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة وأهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعاصرين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم كل على شاكلته بقوة جمعه. فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدماً وأطولهم فيها يداً وأكثرهم لها جمعاً طارت عنهم في ذلك قبل الملك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر. وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين لأحكام دين الله لصبيانهم والاستفتاء في فروض أعيانهم واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم وتدارس القرآن بين أحيائهم وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم وصياغتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم التماساً في آثارهم وسوءاً للدعاء عن صالحيهم وإغشائهم البحر لفضل المرابطة والجهاد وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم و صحة معتقداتهم ومتين ديانتهم التي كانت ملاكاً لعزهم ومقاداً إلى سلطانهم وملكهم. المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم. ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط وسد الثغور وبذل النفس في الله وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوبن ملكهم ومجالس أحكامهم وقصور عزهم. والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال والضرب على يد أهل الجور واتخاذ المساجد بصحن دورهم وسده خلافتهم وملكهم يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتلين لتلاوة كتاب الله أحزاباً بالعشي والإشراق على الأيام وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة وإنفاق الأموال العريضة. شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم. وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة. ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيب ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب. فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس ذكره عريب بن حميد في تاريخة. ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار الخارج على الشيعة سنة اثنتين وثلثمائة الدائن بدين الخارجية. أخذ العلم بتوزر عن مشيختها ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج وصدق فيه. ثم لقي عماراً الأعمى الصفري النكار. فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله. وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لايغفل. ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة ثم من سوماتة منهم مولده عام عشرة ووفاته عام ثلاثه وثمانين وثلثمائة. كان من البتر من ولد مادغيس هلك على يد عبد الرحمن الناصر. ومنهم أيضاً أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضاً. ومنهم علماء بالنسبة والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم. ومن مشاهير زناتة أيضاً موسى بن صالح الغمري معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة. وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم: من ولاية وكهانة وعلم وسحر وكل نوع من آثار الخليقة. ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت - حواصل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة وينقلون أن حملها كان إثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع كانت ترد فيها على الناس ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خاصة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره.
|