فصل: تفسير الآيات (60- 74):

صباحاً 10 :8
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (60- 74):

{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}
أخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال: حدَّثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال: حدّثنا محمد بن الفضيل قال: حدّثنا أبو أُسامة قال: حدّثني ملك بن مغول قال: سمعت عبد الرَّحْمن بن سعيد الهمداني ذكر أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: «لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه».
وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدَّثنا محمد بن حامد قال: حدَّثنا محمد بن الجهم قال: حدَّثنا عبد الله بن عمرو قال: أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرَّحْمن بن سعيد بن وهب عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال: «لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلّي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه».
{أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا} يعني إليها {سَابِقُونَ} كقوله: {لما نُهوا عنه} و{لما قالوا} ونحوهما، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية: سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات.
{وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني إلاّ ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} يعني اللوح المحفوظ {يَنطِقُ بالحق} يبيّن بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر، وقيل: هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يعني يوفّون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
ثمَّ ذكر الكفار فقال عزَّ من قائل {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} عمى وغفلة {مِّنْ هذا} القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا {مِّن دُونِ ذلك} يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه، قيل: وهي قوله: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ}.
{هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} لابد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة.
{حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} يعني اغنياءهم ورؤساءهم {بالعذاب} قال ابن عباس: بالسيوف يوم بدر، وقال الضحّاك: يعني الجوع وذلك حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقدّ والأولاد».
{إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يضجّون ويجزعون ويستغيثون، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرّع كما يفعل الثور، قال الشاعر:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ** وكان النكير أن تضيف وتجأرا

يصف بقره. وقال أيضاً:
يراوح من صلوات المليك ** فطوراً سجوداً وطوراً جؤارا

{لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرّعكم.
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ} أدباركم {تَنكِصُونَ} تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى، مكذّبين بها كارهين لها {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، وهو كناية عن غير مذكور {سَامِراً} نصب على الحال يعني أنّهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت، ووحّد سامراً وهو بمعنى السمّار لأنّه وضع موضع الوقت، أراد: تهجرون ليلاً، كقول الشاعر:
من دونهم إنْ جئتهم سمراً ** عزف القيان ومجلس غمر

فقال: سمراً لأن معناه: إنْ جئتهم ليلاً وهم يسمرون، وقيل: واحد ومعناه الجمع كما قال: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] ونحوه.
{تَهْجُرُونَ} قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش، وذكر أنّهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان:
أحدهما: تعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن والإيمان وترفضونها.
والآخر: يقولون سوءاً وما لا يعلمون، من قولهم: هجر الرجل في منامه إذا هذى.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ} يتدبّروا {القول} القرآن {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} فأنكروه وأعرضوا عنه، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل، يعني: بل جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به، وروي هذا القول عن ابن عباس.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} محمداً وأنّه من أهل الصدق والأُمانة. {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له، {بَلْ} محمد {جَآءَهُمْ بالحق} بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتبع الحق} يعني الله سبحانه {أَهْوَآءَهُمْ} مرادهم فيما يفعل {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} ببيانهم وشرفهم يعني القرآن.
{فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ} على ما جئتهم به {خَرْجاً} أجراً وجعلاً وأصل الخرج والخراج الغلّة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض.
وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب.
قال الله سبحانه: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} رزقه وثوابه {خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} عادلون، مائلون، ومنه الريح النكباء.

.تفسير الآيات (75- 98):

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} قحط وجدب {لَّلَجُّواْ} لتمادوا {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب} يعني القتل والجوع {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ} خضعوا، وأصله طلب السكون {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}.
قال ابن عباس: لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلّى سبيله فلحق باليمامة، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة وأخذ الله قريشاً بسنيّ الجدب حتى أكلوا العِلهز، «فجاء أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُنشدك بالله والرحم أليس تزعم أنك بُعثت رحمة للعالمين؟ فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: يوم بدر، وقال مجاهد: القحط، وقيل: عذاب النار في الآخرة. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} متحيّرون، آيسون من كلّ خير.
{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون * قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ} هذا الوعد {وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ} ووعد آباءنا من قبلنا قومٌ ذكروا أنّهم انبياء لله فلم يُرَ له حقيقة.
{إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين * قُل} يا محمد مجيباً لهم {لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بدَّ لهم من ذلك، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أنّ من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحيائهم بعد موتهم؟.
{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}.
قرأه العامة: لله، ومثله ما بعده فجعلوا الجواب على المعنى دون اللفظ كقول القائل للرجل: من مولاك؟ فيقول: لفلان، أي أنا لفلان وهو مولاي وأنشد:
وأعلم أنّني سأكون رمساً ** إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم ** فقال المخبرون لهم وزير

فأجاب المخفوض بمرفوع لأن معنى الكلام: فقال السائلون: مَن الميّت؟ فقال المخبرون: الميّت وزير، فأجاب عن المعنى. وقال آخر:
إذا قيل من ربّ المزالف والقرى ** وربّ الجياد الجرد قيل لخالد

وقال الأخفش: اللام زائدة يعني الله، وقرأ أهل البصرة كلاهما الله بالألف، وهو ظاهر لا يحتاج إلى التأويل، وهو في مصاحف أهل الأمصار كلّها لله إلاّ في مصحف أهل البصرة فإنه الله الله، فجرى كلٌّ على مصحفه، ولم يختلفوا في الأول أنّه لله لأنّه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف وهو جواب مطابق للسؤال في {لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} فجوابه لله.
{أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الله فتطيعونه {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ملكه وخزائنه {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} يعني يؤمن من يشاء ولا يؤمن من أخافه {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} قال أهل المعاني: معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون.
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} أي تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق} الصدق {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} فانفرد به لتغالبوا، فعلا بعضهم على بعض وغلب القوىّ منهم الضعيف.
{سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} من الكذب {عَالِمِ الغيب والشهادة} بالجر، ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو على نعت الله، غيرهم: بالرفع على الابتداء أو على معنى هو عالم.
وروى رؤيس عن يعقوب أنّه كان إذا ابتدأ رفع وإذا وصل خفض.
{فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ * قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين} فلا تهلكني بهلاكهم، والفاء في قوله: {فَلاَ} جواب لأمّا لأنّه شرط وجزاء.
{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب فجعلناه لهم {لَقَادِرُونَ}.
{ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} يعني بالخلّة التي هي أحسن {السيئة} أَذاهم وجفاهم يقول: أعرض عن أذاهم واصفح عنهم، نسختها آية القتال.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فنجزيهم به {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ} استجير بك {مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} أي نزغاتهم عن ابن عباس، الحسن: وساوسهم، مجاهد: نفخهم ونفثهم، ابن زيد: خنقهم الناس.
وقال أهل المعاني: يعني دفعهم بالإغواء إلى المعاصي، والهمز: شدّة الدفع، ومنه قيل للحرف الذي يخرج من هواء الفم للدفع همزة.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} في شيء من أُموري.

.تفسير الآيات (99- 111):

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}
{حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت} يعني هؤلاء المشركين، وذلك حين ينقطع عن الدنيا ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.
{قَالَ رَبِّ ارجعون} ولم يقل ارجعني وهو خطاب الواحد على التعظيم كقوله: {إنّا نحن} فخوطب على نحو هذا كما ابتدأ بلفظ التعظيم.
وقال بعضهم: هذه المسألة إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحه، وإنما ابتدأ الكلام بخطاب الله سبحانه لأنهم استغاثوا أولاً بالله سبحانه ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا.
{لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} صنعت {كَلاَّ} أي لا يرجع إليها، وهي كلمة ردع وزجر {إِنَّهَا} يعني سؤاله الرجعة {كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} ولا ينالها.
روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدما إلى الله عزَّ وجلّ، وأمّا الكافر فيقول: {رَبِّ ارجعون} الآية».
{وَمِن وَرَآئِهِمْ} أمامهم {بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي حاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا عن مجاهد، ابن عباس: حجاب، السدّي: أجل، قتادة: بقيّة الدنيا، الضحّاك وابن زيد: ما بين الموت إلى البعث، أبو أمامة: القبر، وقيل: الإمهال لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما كانوا يفتخرون.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}.
قال أبو العالية: هو كقوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10].
وقال ابن جريج: معنى الآية لا يُسأل أحد يومئذ شيئاً بنسب ولا يتساءلون، لا يمتّ إليه برحم، واختلف المفسّرون في المراد بقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} أىّ النفختين عنى؟ فقال ابن عباس: هي النفخة الأُولى.
أخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه قال: حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب قال: حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرَّحْمن بن أبي عوف قال: حدَّثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحّراني قال: حدَّثنا محمد بن سلمة بن أبي عبد الرحيم قال: حدّثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، قوله سبحانه {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فهذه في النفخة الاولى {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68] {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُون} [الصافات: 27].
وقال ابن مسعود: هي النفخة الثانية. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدَّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدَّثنا يزيد بن موهب الرملي قال: حدَّثنا عيسى بن يونس عن هارون بن أبي وكيع قال: سمعت زاذان أبا عمر يقول: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجالس، فناديته، يا عبد الله بن مسعود من أجل أنّي رجل أعجمي أدنيتَ هؤلاء وأقصيتني؟ فقال: ادنُ، فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس، فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأوّلين الآخرين ثمَّ ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له قِبَله حقّ فليأتِ إلى حقّه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحقّ على أبيها أو على زوجها أو على ابنها أو على أُختها، ثم قرأ ابن مسعود {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}
قال: فيقول الله سبحانه: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: ربّ فنيت الدنيا، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله فأعطوا كلّ إنسان بقدر طلبته، فإن كان ولياً لله عزَّ وجل وفضلت له من حسناته مثقال حبّة من خردل ضاعفها حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. وإن كان شقيّاً قالت الملائكة: ربّ فنيتْ حسناته وبقي طالبون، فيقول: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكّوا له صكاً إلى النار.
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ} تسفع {وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عابسون عن ابن عباس، وقال غيره: الكلوح أن تتقلص الشفتان عن الإنسان حتى تبدو الأسنان.
قال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيّظ بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
قال الأعشى:
وله المقْدم لا مثل له ** ساعة الشدق عن الناب كلح

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدَّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق المسوحي قال: حدَّثنا يحيى الحماني قال: حدَّثنا ابن مبارك عن سعيد بن يزيد أبي شجاع عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزَّ وجلّ {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: «تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته».
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} التي كتبت علينا، قرأ أهل الكوفة غير عاصم: شقاوتنا بالألف وفتح الشين، غيرهم: شِقوتنا بغير ألف وكسر الشين وهما لغتان، وهي المضرّة اللاحقة في العاقبة، والسعادة هي المنفعة اللاحقة في العاقبة.
{وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} عن الهدى {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي من النار {فَإِنْ عُدْنَا} لما تكره {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيجابون بعد ألف سنة {اخسئوا فِيهَا} أي ابعدوا، كما يقال للكلب: اخسأ إذا طُرد وأُبعد {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} في رفع العذاب فإنّي لا أرفعه عنكم ولا أخفّفه عليكم، وقيل: هو دلالة على الغضب اللازم لهم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثم لا يتكلّمون بعدها إلاّ الشهيق والزفير ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يُفهمون ولا يَفهَمون.
{إِنَّهُ} هذه الهاء عماد وتسمّى أيضاً المجهولة {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} قرأ أهل المدينة والكوفة إلاّ عاصماً بضم السين ههنا وفي سورة ص، الباقون: بكسرها.
قال الخليل وسيبويه: هما لغتان مثل قول العرب: بحر لُجيٌّ ولِجّي، وكوكب دُرّي ودِرِي، وكُرسي وكِرسي.
وقال الكسائي والفرّاء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل، ولم يختلفوا في سورة الزخرف أنّه بالضم لأنّه بمعنى التسخير والاستعباد إلاّ ما روي عن ابن محيص أنّه كسره قياساً على سائره وهو غير قوىّ.
{حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ذكري {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} نظيره قوله سبحانه {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29].
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} على استهزائكم بهم في الدنيا، والجزاء: مقابلة العمل بما يستحقّ عليه من ثواب أو عقاب.
{أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} قرأ حمزة والكسائي: إنهم بكسر الألف على الاستيناف، والباقون: بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون، ويُحتمل أن يكون نصباً بوقوع الجزاء عليه أنّي جزيتهم اليوم الفوز بالجنة.