فصل: سورة الأعراف:

صباحاً 0 :54
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
20
السبت
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة الأعراف:

وهي مائتان وست آيات.
روى أبو أمامة عن أُبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم له شفيعاً يوم القيامة».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 10):

{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}
{المص} روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: {المص} قسم أقسم الله عزّ وجلّ، وقال عطاء بن أبي رباح: هو من ثناء الله سبحانه على نفسه، أبو صالح عن ابن عباس: اسم من أسماء الله تعالى، أبو الضحى عن ابن عباس: أنا الله أفصل وقال وهي هجاء موضوع، قتادة: اسم من أسماء القرآن. وقيل: اسم السورة، مجاهد: فواتح افتتح الله بها كتابه، الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى إذا وصلها كانت اسماً.
وقال أبو روق: أنا الله الصادق، سعيد بن جبير: أنا الله أصدق، محمد بن كعب: إلاّ أن افتتاح اسمه أحد أول آخر، واللام افتتاح اسمه لطيف، والميم افتتاح اسمه مجيد وملك، والصاد افتتاح اسمه صمد وصادق أحد وصانع المصنوعات.
ورأيت في بعض التفاسير معنى {المص}: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الإنشراح: 1] وقيل: هي حروف هجاء مقطّعة، وقيل: هي حساب الجمل، وقيل: هي حروف اسم الله الأعظم، وقيل: هي حروف تحوي معاني كثيرة، وقيل: الله بها خلقه على مراده كلّه من ذلك، وموضعه رفع بالأبتداء وكتاب خبره كأنّه قال: {المص} حروف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ}، وقيل: كتاب خبر ابتدأ في هذا كتاب.
وقيل رفع على التقديم والتأخير، يعني أُنزل كتاب إليك وهو القرآن {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} قال أبو العالية: ضيق، وقال مجاهد: تَنك، وقال الضحاك: إثمّ، وقال مقاتل: فلا يكن في قلبك شك في القرآن. إنّه من الله، وقيل: معناه لا اطبق قلبك بإنذار من أرسلتك بإنذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه إياه {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي عظة لهم وموعظة، وموضعه رفع مردود على الكتاب.
وقيل: هو نصب على المصدر تقديره ويذكر ذكرى. ويجوز أن يكون في موضع الخفض على معنى لتنذر في موضع خفض، والمعنى الإنذار والذكرى، وأمّا ذكرى فمصدر فيه ألف التأنيث بمنزلة دعوت دعوى ورجعت رجعى إلاّ أنّه اسم في موضع المصدر.
{اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} أي قل لهم: اتبعوا ولا تتبعوا من دونه أولياء.
قرأ العامّة بالعين من الاتباع، وروى عاصم الجحدري عن أبي الشيخ ومالك بن دينار «ولا تبتغوا» بالغين المعجمة أي لا تطلبوا {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} بالعذاب وموضع {كم} الرفع بالابتداء وخبره في {أهكلناها} وإن شئت نصبته برجوع الهاء، {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتاً} ليلا كما يأتِ بالعساكر {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} يعني نهاراً في وقت القائلة وقائلون نائمون ظهيرة، ومعنى الآية: {أو هم قائلون} يعني: إن من هذه القرى ما أُهلكت ليلا ومنها ما أُهلكت نهاراً وإنّما حذفوها لاستثقالهم نسقاً على نسق، هذا قول الفراء، وجعل الزجاج بمعنى أو التحيّر والإباحة تقديره: جاءهم بأسنا مرّة ليلا ومرّة نهاراً {فَمَا كَانَ دَعْوَ اهُمْ} أي قولهم ودعاؤهم مثل قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} قال الشاعر:
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي ** بدعواك من مذل بها فتهون

مذل رجله إذا خدرت {إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ} عذابنا إلاّ أن قالوا {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} مسيئين آثمين ولأمره مخالفين أقرّوا على أنفسهم.
روى ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما هلك قوم حتّى يعذروا من أنفسهم. قال: قلت: كيف يكون ذلك؟ فقرأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} الآية».
{فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} يعني الأُمم عن إجابتهم الرسل {وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} عن تبليغ الأُمم {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} قال ابن عباس: ينطق لهم كتاب أعمالهم يدلّ عليه قوله: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] الآية.
{وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} عن الرسل فيما يُلقون وعن الأُمم فيما أجابوا {والوزن يَوْمَئِذٍ} يعني السؤال {الحق} قال مجاهد: والقضاء يومئذ العدل، وقال آخرون: أراد به دون وزن الأعمال وذلك أن الله عزّ وجلّ ينصب الميزان له يدان وكفّان يوم القيامة يوزن أعمال العباد خيرها وشرها فيثقل مرّة ميزان الحسنات لنجاة مَنْ يريد نجاته. ويخفّف مرّة ميزان الحسنات علامة هلاك مَنْ يُريد هلاكه.
فإن قيل: ما الحكمة في وزن أعمال العباد والله هو العالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إياه وبعده قلنا أربعة أشياء: أحدهما: امتحان الله تعالى عباده بالإيمان به في الدنيا، والثاني: جعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في العقبى.
والثالث: تعريف الله عزّ وجلّ للعباد ما عند الله من جزاء على خير وشر، والرابع: إلقائه الحجّة عليه.
ونظيره قوله: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] الآية فأخبر ما تأتي الأعمال ونسخها مع علمه بها ما ذكرناه من المعاني والله أعلم.
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال مجاهد: حسناته {فأولئك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} إلى قوله تعالى: {يِظْلِمُونَ} يجحدون قال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول الله تعالى «يا جبرائيل زن بينهم فردَّ بعضهم على بعض» قال: وليس ثمّ ذهب ولا فضّة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال.
قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأمّا المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفّة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئاته فيوضع عمله في الجنّة يعرفها بعمله فذلك قوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنّة إذا أنصرفوا إليها من أهل الجنّة إذا أنصرفوا إلى منازلهم.
وأمّا الكفّار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفّة الميزان وهي الباطل فيخفّ وزنه حتّى يقع في النار ثمّ يقال للكافر: إلحق بعملك.
فإن قيل: كيف تصح وزن الأعمال وهي غراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الاعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة.
يدلّ عليه حديث عبد الله بن عمر، وقال: يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثمّ خرج له تسعة وتسعون سجلاًّ كلّ سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفّة ثمّ يُخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم يوضع في الكفّة الأُخرى فيرجّح خطاياه وذنوبه، ونظير هذه الآية قوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47].
فإنّ قيل: لِما جمعه وهو ميزان واحد.
قيل: يجوز أن يكون أعظم جميعاً ومعناه واحد كقوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] {ياأيها الرسل} [المؤمنون: 51] وقال الأعشي:
ووجه نقي اللون صاف يزيّنه ** مع الجيد لبّات لها ومعاصم

أراد لبّة ومعصماً.
وقيل: أراد به الأعمال الموزونة.
وقيل: الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلّق به.
وقيل: جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلاّ باجتماعهما.
وقيل: الموازين أصله: ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل، وميزان يفرّق بين الحلال والحرام وهو العلم، وميزان يفرّق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة، وبالله التوفيق.
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض} ملّكناكم في الأرض ووطّأنا لكم وجعلنّاها لكم قراراً {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} يعيشون بها أيام حياتكم من المأكل والمشرب والمعايش جمع المعيشة الياء من الأصل فلذلك لا تهمز {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فيما صنعت إليكم.

.تفسير الآيات (11- 18):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} قال ابن عباس: خلقنا أصلكم وأباكم آدم {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في أرحام أُمهاتكم قال قتادة والربيع والضّحاك والسدي: أمّا خلقناكم فآدم وأمّا صوّرناكم فذرّيّته. قال مجاهد: خلقنا آدم ثمّ صوّرناكم في ظهر آدم.
وقال عكرمة: خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء قال عطاء: خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوروا في الأرحام.
وقال يمان: خلق الإنسان في الرحم ثمّ صوّره ففتق سمعه وبصره وأصابعه، فإن قيل: ما وجه قوله: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} وإنّما خلقنا بعد ذلك وثمّ يوجب الترتيب والتراخي. كقول القائل: قمت ثمّ قعدت لا يكون القعود إلاّ بعد القيام.
قلنا: قال قوم: على التقديم والتأخير، قال يونس: الخلق والتصوير واحد [......] إلينا، كما نقول: قد ضربناكم وإنّما ضربت سيّدهم، قال الأخفش: ثمّ بمعنى الواو ومجازه: قلنا، كقول الشاعر:
سألت ربيعة من خيرها ** أباً ثم أُماً فقالت لمّه

أراد أباً وأُمّا.
{فسجدوا} يعني الملائكة {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} لآدم فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} قال بعضهم: لا زائدة وإن صلة تقدير الكلام: ما منعك السجود لآدم، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزّ وجلّ: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95].
قال الشاعر:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه ** وللهو داع دائب غير غافل

أراد: أن أُحبُّة.
وقال آخر:
فما ألوم البيض أن لا تسخروا ** لما رأيتي الشمط القفندرا

وقال آخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ** نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله

أراد: أبى جوده البخل.
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بعضهم يكره القالا، وتناول في المنع بمعنى القول، لأن القول والفعل يمنعان، وتقديره: من قال لك لا تسجد. قال بعضهم: معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال: أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد.
{إِذْ أَمَرْتُكَ} قال إبليس مجيباً له {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} لأنّك {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} والنار خير وأفضل واصفى وأنور من الطين قال ابن عباس: أوّل مَنْ قاس إبليس. فأخطأ القياس فمَنْ قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس.
وقال ابن سيرين: أوّل مَنْ قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس.
وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين، لأن الطين أفضل من النار من وجوه:
أحدها: إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحُلم والحياء والصبر، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والاصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق.
والثاني: إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.
والثالث: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة ناراً وفي النار تراباً.
والرابع: إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لإعدائه وليس التراب سبباً للعذاب.
والخامس: إنّ الطين يُسقى من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
فقال الله له: {قَالَ فاهبط مِنْهَا} أي من الجنّة، وقيل: من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنّما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلاّ لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها مَنْ يخرج منها {فَمَا يَكُونُ لَكَ} فليس لك أن {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} في الجنّة، وليس ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء متكبر ولا بخلاف أمر الله عزّ وجلّ {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك {قَالَ أَنظِرْنِي} أخرّني واجلني وأمهلني ولا تمتني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} المؤخّرين.
ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر، فقال: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي}. اختلفوا في ما قال: فبعضهم قال: هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثمّ ابتدأ فقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} فقيل: هو ما الجزاء يعني فإنّك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن، وقيل: هو ما المصدر في موضع القسم تقديره: بإغوائك إياي لأقعدن كقوله: {بِمَا غَفَرَ لِي} [يس: 27] يعني بغفران ربّي.
وقوله أغويتني أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني، من قول العرب غوى الفصيل يعني غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات. قال الشاعر:
معطفة الأثناء ليس فصيلها ** برازئها دراً ولا ميّت غوى

وحكى عن بعض قبائل طي أنها تقول: أصبح فلان غاوياً أي مريضاً غاراً، وقال محمد بن جرير: أصل الإغواء في كلام العرب تزيين الرجل للرجل الشيء حتّى يحسنه عنده غاراً له.
قال الثعلبي: وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد الراوساني قال: حدثنا عليّ بن سلمة قال: حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسمّ قال: كنت عند طاووس في المسجد الحرام فجاء رجل ممّن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاووس: يقوم أو يقام فقام الرجل فقال لطاووس: تقول هذا الرجل فقيه، فقال إبليس: أفقه منه بقول إبليس ربِ بما أغويتني ويقول: هذا أنا أغوي نفسي.
{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} يعني لأجلسنّ لبني آدم على طريقك القويم وهو الإسلام كما قال أوعجلتم أمر ربّكم يعني عن أمر ربّكم.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: «إن الشيطان قعد لبني آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فعصاه فأسلم ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فإنّما مثل المهاجر كالفرس في الطول. فعصاه وهاجر ثمّ قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال: أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصا له وجاهد».
وعن عون بن عبد الله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} قال: طريق مكّة {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآية قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: {ثم لآتينّهم} من بين أيديهم يقول أشككهم في آخرتهم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أن يُقيم في كتابهم {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} اشتبه عليهم أمر دينهم {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} أُشهّي لهم المعاصي.
روى عطيّة عن ابن عباس قال: أما بين أيديهم فمن قِبل دنياهم وأمّا من خلفهم فإنّه آخرتهم وأمّا من إيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم.
وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنّه لا يعذّب ولا جنّة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنّه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وقال الحكم والسدّي {لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: يعني الدنيا أدعوهم إليها وأُرغبهم فيها وأُزينها لهم. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قِبَل الآخرة أُشككهم وأثبطهم فيها. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الحق أصدهم عنه أبتلكم فيه، وعن شمائلهم من قِبل الباطل أُخففه عليهم وأُزينه لهم وأُرغبهم فيه.
وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، قال ابن جريج: معنى قوله: من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنّهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون.
وقال الكلبي: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قِبل آخرتهم أخبرهم أنّه لا جنّة ولا نار ولا نشور. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قِبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقّاً وأُخوفهم الضيعة على ذرّيتهم.
{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قِبل دينهم فأُبيّن لكلّ قوم ما كانوا يعبدون وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتّى أخرجتهم منه {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} من قِبل الشهوات واللذات فأُزيّنها لهم.
وقال شقيق بن إبراهيم: ما من صباح إلاّ وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أما من بين يدي فأقول: لا تحزن فإنّ الله غفور رحيم، ويقول ذلك {لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82].
وأمّا من خلفي فتخوّفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6].
وأما من قِبَل يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقول والعاقبة للمتقين.
وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللّذات فأقول: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].
{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} قال الله عزّ وجلّ لإبليس {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} أي معيباً والذيم والذأم أشد العيب، وهو أبلغ من الذم، يقال: ذمّه يذمّه ذمّاً فهو مذموم وذائمه يذائمه ذأماً فهو مذؤوم وذامه بذمة ذيماً، مثل سار يسير، فهو مذيم والمدحور المقصي يقال: دَحَره يدحره دحراً إذا أبعده وطرده.
قال ابن عباس: مذؤوم عنه {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} يعني غير مطروداً إذ قال الربيع ومجاهد: مذؤوماً ممقوتاً وروى عطيّة: مذؤوماً مقوتاً، أبو العالية: مذؤوماً مزرياً به.
وقال الكلبي: مذؤوماً ملوماً مدحوراً مقصياً من الجنّة ومن كل خير، وقال عطاء: مذؤوماً ملعوناً.
وقال الكسائي: المذؤوم المقبوح. وقال النضير بن شميل: المذؤوم المحبوس وقال أبان عن ثعلب والمبرّد: المذؤوم المعيب.
قال الأعشى:
وقد قالت قبيلة إذ رأتني ** وإذ لا تعدم الحسناء ذأماً

وقال أُميّة بن أبي الصلب:
قال لإبليس رب العباد ** أخرج رجس الدنيا مذؤماً

{لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من بني آدم {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ} منك ومن ذريتك وكفار ذرية آدم {أَجْمَعِينَ}.