الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
.تفسير الآيات (102- 111): {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ} والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب {إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجُب، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بيوسف، {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله {مِنْ أَجْرٍ}: جعل وجزاء {إِنْ هُوَ} يعني القرآن والوحي {إِلاَّ ذِكْرٌ}: عِظة وتذكير {لِّلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ} وكم قول فيه عِظة وعبرة ودلالة {فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها. الحرث بن قدّامة عن عكرمة أنّه قرأ: والأرضُ يمرون عليها رفعاً، عن محمّد بن عمر قال: سمعت عمرو بن وائل يقرأ: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات} قطعاً، {والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} رفعاً، أبو حمزة الثمالي عن السدي: أنّه قرأ والأرضَ يمرون عليها نصباً، وقرأ: يمرون على الأرض، وعن ابن مجاهد قال: حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة، حدّثنا سفيان قال: وقرأ عبدالله: {وكأيّن من آية في السماوات والأض يمشون عليها}. {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} عكرمة في قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: من إيمانهم إذا سُئِلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سُئِلوا مَن نزّل القطر؟ قالوا: الله، ثمّ هُم يُشركون، وروى جابر عن عكرمة وعامر، في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قالا: يؤمنون بالله أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون مَن دونه، وهذا قول أكثر المفسّرين. وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيّك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي: فأجب يا الله لولا أن بكراً دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجاً يأتونك، وكانت تلبية حرمهم: خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديماً عمّروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش: اللهمّ لبيّك، لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا: نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني على الطريق الناجي نحن نعادي جئنا إليك حادي. فأنزل الله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} يعني في التلبية. وقال: لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا: فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية. عطاء: هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22] وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} [يونس: 12] وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. وقال بعض أهل المعاني: معناه وما يؤمن أكثرهم باللهِ إلاّ وهم مشركون قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} [ق: 36] يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشاً. وقال وهب: هذه في وقعة الدُخَان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا: ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} والعود لا يكون، إلاّ بعد ابتداء والله أعلم {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} قال ابن عباس: مُجللة، مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره قوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]: قتادة: وقيعة، الضحّاك: يعني الصواعق والقوارع {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} القيامة {بَغْتَةً} فجأة، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بقيامها، ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم. {قُلْ} لهُم يا محمّد {هذه} الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها {سبيلي} سُنّتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع: دعوتي، الضحّاك: دعائي، مقاتل: ديني، نظيره قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] أي دينه، {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} على يقين، يقال: فلان مستبصر في كذا أي مستيقن {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} آمن بي وصدّقني فهو أيضاً يدعو إلى الله، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال: أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله. وقيل: معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة، يقول: كما أنّي على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضاً، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. {وَسُبْحَانَ الله} أي وقل: سبحان الله تنزيهاً له عمّا أشركوا {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ}: يا محمّد {إِلاَّ رِجَالاً} لا ملائكة، {نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم. {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك {فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أخبر بأمر الأُمم المكذّبة من قبلهم، فيعتبروا {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} يقول جلّ ثناؤه: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن نُنْجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خيرٌ، فترك ما ذكرنا، آنفاً لدلالة الكلام عليه، وأُضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] وقولهم: عامٌ الأوّل، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر: وقال الشاعر: يعني عرفاناً. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يؤمنون {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} اختلف القُرّاء في قوله: {كُذِبُواْ} فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وأبي عبدالرحمن السلمي وعكرمة الضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي اسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، وعبدالله بن مسلم وابن يسار، واختارها الكسائي وأبي عبيدة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخفّفة وهي قراءة عائشة وهرقل الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبدالله بن كثير وعبدالله بن الحارث وأبي رجاء والحسن. وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويتْ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب. وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري: قال صنعت طعاماً فدعوتُ ناساً من أصحابنا منهم: سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال: فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم. قال: فقال الضحّاك: ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا. وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنَّت الرُسُل أنّهم قد كُذِبوا فيما وجدوا من النُصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرُسُل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرُنا، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر: أي أيقّنوا. وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرُسُل ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} وهذا معنى قول عائشة. وقرأ مجاهد {كُذِبُوا} بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان: أحدهما: حتى إذا استيأس الرسل أن يُعذَب قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرُسُل قد كذبوا جاء الرُسل نصرنا، والثاني: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل، والله أعلم. {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ القوم المجرمين} يعني المشركين، واختلف القرّاء في قوله فنُجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأُخرى فقرأ: فنجّي بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم يُسمَّ فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن مُحيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعاً، وعلى قراءة الباقين نصباً. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي في خبر يوسف وأخوته {عِبْرَةٌ} عِظة {لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ} يعني القرآن {حَدِيثاً يفترى} يُختلق {ولكن تَصْدِيقَ} يعني ولكن كان تصديق {الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما قبله من الكتب {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} ممّا يحتاج إليه العباد {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. .سورة الرعد: قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّها مكّيّة إلاّ آيتين، قوله: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا يُصِيْبَهُمْ بِما صَنَعُوا}، وقوله: {ومَن عنده علم الكتاب}. وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وست أحرف وثمان و(...) وخمسون كلمة وثلاث وأربعون آية. سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الرعد أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلِّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله عزّ وجلّ». بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْم .تفسير الآيات (1- 4): {المر} قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة {والذي أُنزِلَ} يعني وهذا القرآن الذي أُنزل {إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} هو {الحق} فاعتصم به واعمل بما فيه، فيكون محلّ الذي رفعاً على الابتداء و{الحقّ} خبره، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة، ويجوز أن يكون محلّ {الذي} خفضاً يعني تلك آيات الكتاب وآياتُ الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ الْحَقّ} يعني ذلك الحقّ. وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول: هذه آيات الكتاب يعني القرآن، ثمّ قال: وهذا القرآن الذي أُنزل إليك من ربّك هو الحقّ، قال الفرّاء: وإنْ شئت جعلت {الذي} خفضاً على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام: أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب، قال الشاعر: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا: إنّ محمّداً يقول القرآن من تلقاء نفسه، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل: {الله الذي رَفَعَ السماوات} وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء، يقال: عمود وعمد مثل أديم وأدم، وعمدان، وكذا مثل رسول ورسل، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد، ومثل إهاب وأُهب، قال النابغة: واختلفوا في معنى الآية فنفى قومٌ العمد أصلا، وقال: رفع السماوات بغير عمد وهو الأقرب الأصوب، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة تدعهما، ولا فوقها علاقة تمسكها، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال: السماء مُقبّبة على الأرض مثل القبر، وقال آخرون: معناه: الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة إلى أوّلها كقول الشاعر: معناه: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر: معناه: آراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد. {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} علا عليه وقد مضى تفسيره، {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي كلّ واحد منهما يجري إلى وقت قُدِّرَ له، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويُخسف القمر وتنكدر النجوم، وقال ابن عباس: أراد بالأجل المُسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها. {يُدَبِّرُ الأمر} قال مجاهد: يقضيه وحده {يُفَصِّلُ الآيات} ينتهيان، {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} بسطها، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالا، واحدتها راسية وهي الثابتة، يقال: إنّما رسيت السفينة، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها، قال الشاعر: قال ابن عباس: كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض، {وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} صنفين وضربين {اثنين}: قال أبو عُبيدة يكون الزوج واحداً واثنين، وهو هاهُنا واحد، قال القتيبي: أراد من كلّ الثمرات لونين حلواً وحامضاً {يُغْشِي اليل النهار إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يستدلّون ويعتبرون {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت؛ لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت. {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفاً على الجنات، وكسرها الآخرون عطفاً على الأعناب. والصنوان جمع صنو، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد، ويتشعب به الرؤس فيصير نخلا، كذا قال المفسرون، قالوا: صنوان مجتمع وغير صنوان متفرق. قال أهل اللغة: نظيرها في كلام العرب، صنوان واحد، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل: شمَّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلاّ بالإعراب؛ وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب. خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده. {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ}. قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر: بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد. وقرأ الباقون: بالتاء لقوله جنات. واختاره أبو عبيد قال: وقال أبو عمرو: مما يصدق التأنيث قوله بعضه على بعض ولم يقل بعضه. {وَنُفَضِّلُ}. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: بالياء رداً على قوله يدبّر ويفضّل ويغني. وقرأها الباقون: بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأُكل. قال الفارسي: والدفل والحلو والحامض. قال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد. عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: سمعت «النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي كرم الله وجهه: الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدةثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} حتى بلغ {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ}». قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعاً متجاورة، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مجاً قيل: إنما هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع، وتقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو. وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلاّ قام من عنده إلاّ في زيادة ونقصان. قال الله عزّ وجلّ {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] {إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
|