فصل: تفسير الآيات رقم (241- 251)

صباحاً 9 :51
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏224- 228‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم‏}‏ العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه‏.‏ تقول فلان عرضة دون الخير، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أوعبادة ثم يقول‏:‏ أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي حاجزاً لما حلفتم عليه، وسمي المحلوف عليه يميناً بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام ‏"‏ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ‏"‏ وقوله ‏{‏أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس‏}‏ عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس‏.‏ واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً، ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق «أن تبروا» بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا «واللّه سميعٌ» لأيمانكم «عليمٌ» بنياتكم‏.‏

‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره، ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلافه، والمعنى لا يعاقبكم «بلغو» اليمين الذي يحلفه أحدكم، وعند الشافعي رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو «لا والله» و«بلى والله»‏.‏ ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم‏}‏ ولكن يعاقبكم ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس، وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد، والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا، وقلنا‏:‏ المؤاخذة هنا مطلقة‏.‏ وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض ‏{‏والله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ حيث لم يؤاخذكم باللغو في «أيمانكم»‏.‏

‏{‏لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ‏}‏ يقسمون وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه و«من» في ‏{‏مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم ‏{‏تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏}‏ أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا ب «يؤلون» لأن آلى يعدّى ب «على» يقال آلى فلان على امرأته، وقول القائل «آلى فلان من امرأته» وهم توهمه من هذه الآية‏.‏ ولك أن تقول عدّي ب «من» لما في هذا القسم من معنى البعد فكأنه قيل‏:‏ يبعدون من نسائهم ‏{‏فَإِن فَآءُوا‏}‏ في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث شرع الكفارة ‏{‏وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق‏}‏ بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة ‏{‏فَإِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لإِيلائه ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعند الشافعي رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب‏.‏

وقلنا قوله‏:‏ «فإن فاءوا»‏.‏ «وإن عزموا» تفصيل لقوله «للذين يؤلون» من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول‏:‏ أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول‏.‏ ‏{‏والمطلقات‏}‏ أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء‏.‏ ‏{‏يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ‏}‏ خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء «رحمك الله» أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها‏.‏ وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بخلاف الفعلية‏.‏ وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص‏.‏

‏{‏ثلاثة قُرُوءٍ‏}‏ جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام ‏"‏ دعي الصلاة أيام أقرائك ‏"‏ وقوله ‏"‏ طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ‏"‏ ولم يقل طهران‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار، ولأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة، ولأنه لو كان طهراً كما قال الشافعي لانقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقص العدد عن الثلاثة، لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده، وإذا طلقها في آخر الحيض فذا غير محسوب من العدة عندنا، والثلاث اسم خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه‏.‏ ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرئ‏.‏ وانتصاب «ثلاثة» على أنه مفعول به أي يتربصن مضي ثلاثة قروء أو على الظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء، وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ من الولد أو من دم الحيض أو منهما، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض قد طهرت استعجالاً للطلاق، ثم عظم فعلهن فقال ‏{‏إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر‏}‏ لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ‏}‏ البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع ‏{‏أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ‏}‏ أي أزواجهن أولى برجعتهن، وفيه دليل أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء حيث سماه زوجاً بعد الطلاق ‏{‏فِي ذلك‏}‏ في مدة ذلك التربص، والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقاً في الرجعة ‏{‏إِنْ أَرَادُواْ‏}‏ ‏{‏إصلاحا‏}‏ لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ‏}‏ ويجب لهن من الحق على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له‏.‏

والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال ‏{‏وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏ زيادة في الحق وفضيلة بالقيام بأمرها وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع أو بالإنفاق وملك النكاح ‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ لا يعترض عليه في أموره ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يأمر إلا بما هو صواب وحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏229- 232‏]‏

‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏ الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع، والإرسال دفعة واحدة‏.‏ ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله ‏{‏ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا في أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة في طهر واحد، لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق لأنه وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر وإلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى، لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد‏.‏ وقيل‏:‏ قالت أنصارية‏:‏ إن زوجي قال‏:‏ لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت «الطلاق مرتان» أي الطلاق الرجعي مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ برجعة، والمعنى فالواجب عليكم إمساك بمعروف ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة‏.‏ وقيل‏:‏ بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث‏.‏ ونزل في جميلة وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها وقد أعطاها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ‏}‏ أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون ‏{‏أن تَأخُذُواْ مِمَّآ آتَيتُمُوهُنَّ شَيْئاً‏}‏ مما أعطيتموهن من المهور ‏{‏إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ أيها الولاة، وجاز أن يكون أول خطاب للأزواج وآخره للحكام ‏{‏أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت ‏{‏فِيمَا افتدت بِهِ‏}‏ فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر‏.‏ «إلا أن يخافا» حمزة على البناء للمفعول وإبدال «ألا يقيما» من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو «خيف زيد تركه إقامة حدود الله»‏.‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودَ الله‏}‏ أي ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك ‏{‏فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏ فلا تجاوزوها بالمخالفة ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون‏}‏ الضارون أنفسهم‏.‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ مرة ثالثة بعد المرتين، فإن قلت الخلع طلاق عندنا وكذا عند الشافعي رحمه الله في قول، فكأن هذه تطليقة رابعة‏.‏ قلت‏:‏ الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة، وهذه بيان لتلك أي فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا ‏{‏فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ‏}‏ من بعد التطليقة الثالثة ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ حتى تتزوج غيره‏.‏ والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج، وفيه دليل على أن النكاح ينعقد بعبارتها، والإصابة شرطت بحديث العسيلة كما عرف في أصول الفقه، والفقه فيه أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصاً لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع عن ارتكابه ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ الزوج الثاني بعد الوطء ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ على الزوج الأول وعليها ‏{‏أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج ‏{‏إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ولم يقل إن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيّنُهَا‏}‏ وبالنون‏:‏ المفضل ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ يفهمون ما بين لهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها، والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها‏.‏ يقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهى به أجل‏.‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ أي فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة، وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏ مفعول له أو حال أي مضارين، وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطوّل العدة عليها فهو الإمساك ضراراً ‏{‏لّتَعْتَدُواْ‏}‏ لتظلموهن أو لتلجئوهن إلى الافتداء ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ يعني الإمساك للضرار ‏{‏فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ بتعريضها لعقاب الله ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا‏}‏ أي جدوا بالأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً‏.‏ يقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازئ ‏{‏واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بالإسلام وبنبوة محمد عليه السلام ‏{‏وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة‏}‏ من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها ‏{‏يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ بما أنزل عليكم وهو حال ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما امتحنكم به ‏{‏واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ من الذكر والاتقاء والاتعاظ وغير ذلك وهو أبلغ وعد ووعيد‏.‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على افتراق البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة، وفي الأولى الرجعة وذا يكون في العدة ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ فلا تمنعوهن‏.‏ العضل‏:‏ المنع والتضييق ‏{‏أَن يَنكِحْنَ‏}‏ من أن ينكحن ‏{‏أزواجهن‏}‏ الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن، وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء، والخطاب للأزواج الذي يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً ولا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج، سموا أزواجاً باسم ما يؤول إليه‏.‏ أو للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجاً لهن، سموا أزواجاً باعتبار ما كان‏.‏ نزلت في معقل ابن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول‏.‏

أو للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين ‏{‏إِذَا تراضوا بَيْنَهُم‏}‏ إذا تراضى الخطاب والنساء ‏{‏بالمعروف‏}‏ بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط، أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا‏.‏ والخطاب في ‏{‏ذلك‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد ‏{‏يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر‏}‏ فالموعظة إنما تنجع فيهم ‏{‏ذلكم‏}‏ أي ترك العضل والضرار ‏{‏أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ‏}‏ أي لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر وأفضل وأطيب ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما في ذلك من الزكاء والطهر ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏233- 240‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏‏}‏

‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ خبر في معنى الأمر المؤكد ك ‏{‏يَتَرَبَّصْنَ‏}‏ وهذا الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار، أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع ‏{‏حَوْلَيْنِ‏}‏ ظرف ‏{‏كَامِلَيْنِ‏}‏ تأمين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول‏:‏ أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ بيان لمن توجه إليه الحكم أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة‏.‏ والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ‏}‏ الهاء يعود إلى اللام الذي بمعنى «الذي»، والتقدير‏:‏ وعلى الذي يولد له وهو الوالد، و«له» في محل الرفع على الفاعلية ك «عليهم» في ‏{‏المغضوب عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ وإنما قيل «على المولود له» دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار، ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله‏:‏ ‏{‏واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف‏}‏ بلا إسراف ولا تقتير، وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ وجدها أو قدر إمكانها‏.‏ والتكليف إلزام ما يؤثره في الكلفة‏.‏ وانتصاب «وسعها» على أنه مفعول ثانٍ ل «تكلف» لا على الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين‏.‏

‏{‏لاَ تُضَارَّ‏}‏ مكي وبصري بالرفع على الإخبار ومعناه النهي وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول وأن يكون الأصل «تضارر» بكسر الراء أو «تضارر» بفتحها‏.‏ الباقون «لا تضار» على النهي والأصل «تضارر» أسكنت الراء الأولى وأدغمت في الثانية فالتقى الساكنان ففتحت الثانية لالتقاء الساكنين ‏{‏والدة بِوَلَدِهَا‏}‏ أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعدما ألفها الصبي أطلب له ظئر أو ما أشبه ذلك ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}‏ أي ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه‏.‏ وإذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أي لا تضر والدة ولدها فلا تسيء غذاءه وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد‏.‏

وإنما قيل «بولدها» و«بولده» لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وذلك الوالد ‏{‏وَعَلَى الوارث‏}‏ عطف على قوله «وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن» وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وعلى وارث الصبي عند عدم الأب «مثل ذلك» أي مثل الذي كان على أبيه في حياته من الرزق والكسوة‏.‏ واختلف فيه؛ فعند ابن أبي ليلى‏:‏ كل من ورثه، وعندنا‏:‏ من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه «وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك»، وعند الشافعي رحمه الله‏:‏ لا نفقة فيما عدا الولاد‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا‏}‏ يعني الأبوين ‏{‏فِصَالاً‏}‏ فطاماً صادراً ‏{‏عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ‏}‏ بينهما ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ في ذلك زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد، والتشاور استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته، وذكره ليكون التراضي عن تفكر فلا يضر الرضيع، فسبحان الذي أدب الكبير ولم يهمل الصغير واعتبر اتفاقهما، لأن للأب النسبة والولاية وللأم الشفقة والعناية‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏ أي لأولادكم عن الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ استرضع منقول من أرضع، يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي معدّى إلى مفعولين أي أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم‏}‏ إلى المراضع ‏{‏مَّا ءاتَيْتُم‏}‏ ما أردتم إيتاءه من الأجرة‏.‏ أتيتم مكي من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 61‏]‏ أي مفعولاً، والتسليم ندب لا شرط للجواز ‏{‏بالمعروف‏}‏ متعلق ب «سلمتم» أي سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور ‏{‏واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها‏.‏

‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ‏}‏ تقول توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وافياً تاماً أي تستوفى أرواحهم ‏{‏وَيَذَرُونَ‏}‏ ويتركون ‏{‏أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ‏}‏ أي وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أي يعتددن، أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعدهم للعلم به‏.‏ وإنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ في الجملة التي وقعت خبراً‏.‏ «يتوفون»‏:‏ المفضل أي يستوفون آجالهم ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ أي وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهاباً إلى الأيام تقول صمت عشراً ولو ذكرت لخرجت من كلامهم ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ فإذا انقضت عدتهن ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أيها الأئمة والحكام ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ‏}‏ من التعرض للخاطب ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالوجه الذي لا ينكره الشرع ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ عالم بالبواطن‏.‏

‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء‏}‏ الخطبة الاستنكاح، والتعريض أن تقول لها إنك لجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إني أريد أن أتزوجك‏.‏ والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك‏:‏ لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا‏:‏

وحسبك بالتسليم مني تقاضيا

فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض ‏{‏أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن ‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا‏}‏ جماعة لأنه مما يسر أي لا تقولوا في العدة إني قادر على هذا العمل ‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏ وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا‏.‏ و«إلا» متعلق ب «لا تواعدوهن» أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح‏}‏ من عزم الأمر وعزم عليه‏.‏ وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح، أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث ‏"‏ لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل ‏"‏ وروي لمن لم يبيت الصيام أي ولا تعزموا على عقدة النكاح ‏{‏حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ‏}‏ حتى تنقضي عدتها‏.‏ وسميت العدة كتاباً لأنها فرضت بالكتاب يعني حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أي غايته ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ من العزم على ما لا يجوز ‏{‏فاحذروه‏}‏ ولا تعزموا عليه ‏{‏واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجلكم بالعقوبة‏.‏

ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهراً ولا جامعها ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ لا تبعة عليكم من إيجاب مهر ‏{‏إِن طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ شرط، ويدل على جوابه «لا جناح عليكم» والتقدير‏:‏ إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم ‏{‏مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ما لم تجامعوهن، و«ما» شرطية أي إن لم تمسوهن «تماسوهن»‏:‏ حمزة وعلي حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين ‏{‏أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر، وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصف مهر المثل بل تجب المتعة، والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله «وإن طلقتموهن» إلى قوله «فنصف ما فرضتم» فقوله «فنصف ما فرضتم» إثبات للجناح المنفي ثمة ‏{‏وَمَتِّعُوهُنَّ‏}‏ معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعوهن‏.‏

والمتعة درع وملحفة وخمار ‏{‏عَلَى الموسع‏}‏ الذي له سعة ‏{‏قَدَرُهُ‏}‏ مقداره الذي يطيقه‏.‏ قدره فيهما‏:‏ كوفي غير أبي بكر وهما لغتان ‏{‏وَعَلَى المقتر‏}‏ الضيق الحال‏.‏ ‏{‏قَدَرُهُ‏}‏ ولا تجب المتعة عندها إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات ‏{‏متاعا‏}‏ تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة ‏{‏حَقّاً‏}‏ صفة ل «متاعاً» أي متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً ‏{‏عَلَى المحسنين‏}‏ على المسلمين، أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع‏.‏ وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام «من قتل قتيلاً فله سلبه» وليس هذا الإحسان هو التبرع بما ليس عليه إذ هذه المتعة واجبة‏.‏

ثم بين حكم التي سمى لها مهراً في الطلاق قبل المس فقال ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ «أن» مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الحر أي من قبل مسكم إياهن ‏{‏وَقَدْ فَرَضْتُمْ‏}‏ في موضع الحال ‏{‏لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ مهراً ‏{‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ‏}‏ يريد المطلقات‏.‏ و«أن» مع الفعل في موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل‏:‏ فعليكم نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر‏.‏ والفرق بين الرجال «يعفون» «والنساء «يعفون» أن الواو في الأول ضميرهم والنون علم الرفع، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ‏}‏ عطف على محله ‏{‏الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ هو الزوج كذا فسره علي رضي الله عنه وهو قول سعيد ابن جبير وشريح ومجاهد وأبي حنيفة والشافعي على الجديد رضي الله عنهم، وهذا لأن الطلاق بيده فكان بقاء العقد بيده، والمعنى أن الواجب شرعاً هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل تفضلاً، وعند مالك والشافعي في القديم هو الولي‏.‏ قلنا‏:‏ هو لا يملك التبرع بحق الصغيرة فكيف يجوز حمله عليه‏؟‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له، وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل‏}‏ التفضل ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض ‏{‏إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم على تفضلكم‏.‏

‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات‏}‏ داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ بين الصلوات أي الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط‏.‏ وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل‏.‏ وهي صلاة العصر عند أبي حنيفة رحمه الله وعليه الجمهور لقوله عليه السلام يوم الأحزاب ‏"‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب ‏"‏ وفي مصحف حفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» ولأنها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار، وفضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم‏.‏ وقيل‏:‏ صلاة الظهر لأنها في وسط النهار، أو صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، أو صلاة الغرب لأنها بين الأربع والمثنى، ولأنها بين صلاتي مخافتة وصلاتي جهر، أو صلاة العشاء لأنها بين وترين، أو هي غير معينة كليلة القدر ليحفظوا الكل‏.‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ‏}‏ في الصلاة ‏{‏قانتين‏}‏ حال أي مطيعين خاشعين أو ذاكرين الله في قيامكم‏.‏ والقنوت أن تذكر الله قائماً أو مطيلين القيام ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره ‏{‏فَرِجَالاً‏}‏ حال أي فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام ‏{‏أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ وحداناً بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ فإذا زال خوفكم ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ فصلوا صلاة الأمن ‏{‏كَمَا عَلَّمَكُم‏}‏ أي ذكراً مثل ما علمكم ‏{‏مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏ من صلاة الأمن‏.‏

‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم‏}‏ بالنصب شامي وأبو عمرو وحمزة وحفص أي فليوصوا وصية عن الزجاج‏.‏ غيرهم بالرفع أي فعليهم وصيةٌ ‏{‏متاعا‏}‏ نصب بالوصية لأنها مصدر أو تقديره متعوهن متاعاً ‏{‏إِلَى الحول‏}‏ صفة ل «متاعاً» ‏{‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏ مصدر مؤكد كقولك «هذا القول غير ما تقول»، أو بدل من «متاعاً» والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك مشروعاً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏ إلى قوله ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ والناسخ متقدم عليه تلاوة ومتأخر نزولاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏‏.‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏‏.‏ ‏{‏فَإِنْ خَرَجْنَ‏}‏ بعد الحول ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ‏}‏ من التزين والتعرض للخطاب ‏{‏مِن مَّعْرُوفٍ‏}‏ مما ليس بمنكر شرعاً ‏{‏والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ‏}‏ فيما حكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏241- 251‏]‏

‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏‏}‏

‏{‏وللمطلقات متاع‏}‏ أي نفقة العدة ‏{‏بالمعروف حَقّا‏}‏ نصب على المصدر ‏{‏عَلَى المتقين * كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ هو في موضع الرفع لأنه خبر «لعل»، وإن أريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكورة وهي على سبيل الندب

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب ‏{‏إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ من قرية قيل‏:‏ واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم ‏{‏وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏ في موضع النصب على الحال، وفيه دليل على الألوف الكثيرة لأنها جمع كثرة وهي جمع ألف لا آلف ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏ مفعول له ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ‏}‏ أي فأماتهم الله، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة، وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل الله ‏{‏ثُمَّ أحياهم‏}‏ ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وفضائه، وهو معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم، ولما كان معنى قوله «فقال لهم الله موتوا» فأماتهم كان عطفاً عليه معنى ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم، أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ذلك‏.‏ والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله وهو قوله‏.‏

‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ فحرض على الجهاد بعد الإعلام لأن الفرار من الموت لا يغني، وهذا الخطاب لأمة محمد عليه السلام أو لمن أحياهم ‏{‏واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما يضمرونه ‏{‏مِنْ‏}‏ استفهام في موضع رفع بالابتداء ‏{‏ذَا‏}‏ خبره ‏{‏الذى‏}‏ نعت ل «ذا» أو بدل منه ‏{‏يُقْرِضُ الله‏}‏ صلة الذي سمى ما ينفق في سبيل الله قرضاً لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد، سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله فيدفعه إليه‏.‏ والقرض القطع ومنه المقراض، وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده وأنه يجزيهم عليه لا محالة ‏{‏قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ بطيبة النفس من المال الطيب، والمراد النفقة في الجهاد لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله ويحتاج فيه إلى المال حيث على الصدقة ليتهيأ أسباب الجهاد ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ بالنصب‏:‏ عاصم على جواب الاستفهام‏.‏

وبالرفع‏:‏ أبو عمر ونافع وحمزة وعلي عطفاً على «يقرض»، أو هو مستأنف أي فهو يضاعفه‏.‏ «فيضعفه»‏:‏ شامي‏.‏ «فيضعفه»‏:‏ مكي‏.‏ ‏{‏أَضْعَافًا‏}‏ في موضع المصدر ‏{‏كَثِيرَةٍ‏}‏ لا يعلم كنهها إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ الواحد بسبعمائة‏.‏ ‏{‏والله يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ‏}‏ يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة‏.‏ و«يبصط» حجازي وعاصم وعلي ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ فيجازيكم على ما قدمتم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ‏}‏ الأشراف لأنهم يملأون القلوب جلالة والعيون مهابة ‏{‏مِن بَنِى إسراءيل‏}‏ «من» للتبعيض ‏{‏مِن بَعْدِ موسى‏}‏ من بعد موته و«من» لابتداء الغاية ‏{‏إِذْ قَالُواْ‏}‏ حين قالوا ‏{‏لِنَبِىّ لَّهُمُ‏}‏ هم شمعون أو يوشع أو اشمويل ‏{‏ابعث لَنَا مَلِكًا‏}‏ أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره ‏{‏نقاتل‏}‏ بالنون والجزم على الجواب ‏{‏فِى سَبِيلِ الله‏}‏ صلة نقاتل ‏{‏قَالَ‏}‏ النبي ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏ «عسيتم» حيث كان‏:‏ نافع‏.‏ ‏{‏إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ شرط فاصل بين اسم «عسى» وخبره وهو ‏{‏أَلاَّ تقاتلوا‏}‏ والمعنى‏:‏ هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون، فأدخل «هل» مستفهماً عما هو متوقع عنده، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه ‏{‏قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله‏}‏ وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه ‏{‏وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا‏}‏ الواو في «وقد» للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال‏}‏ أي أجيبوا إلى ملتمسهم ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ أعرضوا عنه ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ‏}‏ وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ‏}‏ هو اسم أعجمي كجالوت وداود، ومنع من الصرف للتعريف والعجمة ‏{‏مَلِكًا‏}‏ حال ‏{‏قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا‏}‏ أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له ‏{‏وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ‏}‏ الواو للحال ‏{‏وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال‏}‏ أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير لا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام، والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين، وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً‏.‏

وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت ‏{‏قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ‏}‏ الطاء في «اصطفاه» بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه‏.‏ ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة فقال ‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً‏}‏ مفعول ثانٍ ‏{‏فِي العلم والجسم‏}‏ قالوا‏:‏ كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه‏.‏ والبسطة السعة والامتداد، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدري غير منتفع به، وأن يكون جسيماً لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب‏.‏ ‏{‏والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء‏}‏ أي الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة ‏{‏والله واسع‏}‏ أي واسع الفضل والعطاء على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت‏.‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت‏}‏ أي صندوق التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون‏.‏ ‏{‏فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ سكون وطمأنينة ‏{‏وَبَقِيَّةٌ‏}‏ هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة ونعلا موسى وعمامة هارون عليهما السلام ‏{‏مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون‏}‏ أي مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما ‏{‏تَحْمِلُهُ الملائكة‏}‏ يعني التابوت وكان رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، والجملة في موضع الحال وكذا «فيه سكينة»‏.‏ «ومن ربكم» نعت ل «سكينة» و«مما ترك» نعت ل «بقية» ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين‏.‏

‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ‏}‏ خرج ‏{‏بالجنود‏}‏ عن بلده إلى جهاد العدو و«بالجنود» في موضع الحال أي مختلطاً بالجنود وهم ثمانون ألفاً، وكان الوقت قيظاً وسألوا أن يجري الله لهم نهراً ‏{‏قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم‏}‏ مختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر ‏{‏بِنَهَرٍ‏}‏ وهو نهر فلسطين ليتميز المحقق في الجهاد من المعذر ‏{‏فَمَن شَرِبَ مِنْهُ‏}‏ كرعاً ‏{‏فَلَيْسَ مِنّي‏}‏ فليس من أتباعي وأشياعي ‏{‏وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ‏}‏ ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه ‏{‏فَإِنَّهُ مِنّى‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ مدني وأبو عمرو‏.‏

واستثنى ‏{‏إِلا مَنِ اغترف‏}‏ من قوله «فمن شرب منه فليس مني» والجملة الثانية في حكم المتأخرة عن الاستثناء إلا أنها قدمت للعناية ‏{‏غُرْفَةً بِيَدِهِ‏}‏ «غرفة»‏:‏ حجازي وأبو عمرو بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف ومعناه الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكرع، والدليل عليه ‏{‏فَشَرِبُواْ مِنْهُ‏}‏ أي فكرعوا ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ‏}‏ وهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَهُ‏}‏ أي النهر ‏{‏هُوَ‏}‏ طالوت ‏{‏والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ أي القليل ‏{‏قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم‏}‏ أي لا قوة لنا ‏{‏بِجَالُوتَ‏}‏ هو جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد وكان في بيضته ثلثمائة رطل من الحديد ‏{‏وَجُنودِهِ قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله‏}‏ يوقنون بالشهادة‏.‏ قيل‏:‏ الضمير في «قالوا» للكثير الذين انخذلوا والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه‏.‏ وروي أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش ‏{‏كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ‏}‏ «كم» خبرية وموضعها رفع بالابتداء ‏{‏غَلبَت‏}‏ خبرها ‏{‏فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله‏}‏ بنصره ‏{‏والله مَعَ الصابرين‏}‏ بالنصر‏.‏

‏{‏وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ‏}‏ خرجوا لقتالهم ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ‏}‏ أصبب ‏{‏عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ على القتال ‏{‏وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا ‏{‏وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ أعنا عليهم ‏{‏فَهَزَمُوهُم‏}‏ أي طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ بقضائه ‏{‏وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ‏}‏ كان بيشا أو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى الله إلى نبيهم أن داود هو الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له‏:‏ إنك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجه طالوت بنته، ثم حسده وأراد قتله ثم مات تائباً ‏{‏وآتاه الله الملك‏}‏ في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود ‏{‏والحكمة‏}‏ والنبوة ‏{‏وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء‏}‏ من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس‏}‏ هو مفعول به ‏{‏بَعْضُهُمْ‏}‏ بدل من «الناس» «دفاع»‏:‏ مدني مصدر دفع أو دافع ‏{‏بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض‏}‏ أي ولولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل، أو ولولا أن الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد ‏{‏ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين‏}‏ بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح ‏{‏تِلْكَ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏آيَاتُ الله‏}‏ يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبي ‏{‏نَتْلُوهَا‏}‏ حال من آيات الله، والعامل فيه معنى الإشارة، أو آيات الله بدل من «تلك» «ونتلوها» الخبر‏.‏ ‏{‏عَلَيْكَ بالحق‏}‏ باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك ‏{‏وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏252- 257‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الرسل‏}‏ إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام ‏{‏فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان‏.‏ ثم بين ذلك بقوله ‏{‏مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله‏}‏ أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ‏}‏ مفعول أول ‏{‏درجات‏}‏ مفعول ثانٍ أي بدرجات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف أو أكثر، وأكبرها القرآن لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر‏.‏ وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد، والمتميز الذي لا يلتبس‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من أولي العزم من الرسل ‏{‏وَءَاتَيْنَا عِسَى ابن مَرْيَمَ البينات‏}‏ كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك ‏{‏وأيدناه بِرُوحِ القدس‏}‏ قويناه بجبريل أو بالإنجيل ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل‏}‏ أي ما اختلف لأنه سببه ‏{‏الذين مِن بَعْدِهِم‏}‏ من بعد الرسل ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ المعجزات الظاهرات ‏{‏ولكن اختلفوا‏}‏ بمشيئتي‏.‏ ثم بين الاختلاف فقال ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ‏}‏ بمشيئتي‏.‏ يقول الله أجريت أمور رسلي على هذا، أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا‏}‏ كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي، وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء أن لا يقتتلوا فاقتتلوا ‏{‏ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ أثبت الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم‏}‏ في الجهاد في سبيل الله، أو هو عام في كل صدقة واجبة ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ‏}‏ أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه ‏{‏وَلاَ خُلَّةٌ‏}‏ حتى يسامحكم أخلاؤكم به ‏{‏وَلاَ شفاعة‏}‏ أي للكافرين، فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه ‏{‏والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم، أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون‏.‏

«لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة»‏:‏ مكي وبصري ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ «لا» مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو «الله» ‏{‏الحى‏}‏ الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ‏{‏القيوم‏}‏ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ‏}‏ نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور ‏{‏وَلاَ نَوْمٌ‏}‏ عن المفضل‏:‏ السنة ثقل في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً، وقد أوحى إلى موسى عليه السلام‏:‏ قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا‏.‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ ملكاً وملكاً ‏{‏مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ‏}‏ من معلومه يقال في الدعاء «اللهم اغفر علمك فينا» أي معلومك ‏{‏إِلاَّ بِمَا شَاءَ‏}‏ إلا بما علم ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض‏}‏ أي علمه ومنه الكراسة لتضمنها العلم والكراسي العلماء، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ أو ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك أو عرشه كذا عن الحسن، أو هو سرير دون العرش في الحديث ‏"‏ ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ‏"‏ أو قدرته بدليل قوله ‏{‏وَلاَ يَئُودُهُ‏}‏ ولا يثقله ولا يشق عليه ‏{‏حِفْظُهُمَا‏}‏ حفظ السموات والأرض ‏{‏وَهُوَ العلى‏}‏ في ملكه وسلطانه ‏{‏العظيم‏}‏ في عزه وجلاله أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به العظيم، المتصف بالصفات التي تليق به، فهما جامعان لكمال التوحيد‏.‏ وإنما ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف لأنها وردت على سبيل البيان؛ فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره‏.‏ وإنما فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد، منه ما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

‏"‏ من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي ‏"‏ وقال ‏"‏ ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ‏"‏ وقال ‏"‏ من قرأ آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح ‏"‏ وقال ‏"‏ من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح، وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي‏:‏ آية الكرسي وأول «حم المؤمن» إلى ‏{‏إِلَيْهِ المصير‏}‏ ‏"‏ لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذاكراً له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد‏.‏

‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏ أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو إخبار في معنى، النهي، ورُوي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال‏:‏ والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري‏:‏ يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر‏؟‏ فنزلت فخلاهما‏.‏ قال ابن مسعود وجماعة‏:‏ كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال ‏{‏قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي‏}‏ قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت‏}‏ بالشيطان أو الأصنام ‏{‏وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك‏}‏ تمسك ‏{‏بالعروة‏}‏ أي المعتصم والمتعلق ‏{‏الوثقى‏}‏ تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون ‏{‏لاَ انفصام لَهَا‏}‏ لا انقطاع للعروة، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لإقراره ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ باعتقاده‏.‏

‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم ‏{‏يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات‏}‏ من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها ‏{‏إِلَى النور‏}‏ إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ مبتدأ والجملة وهي ‏{‏أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت‏}‏ خبره ‏{‏يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏ وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك، أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة ‏{‏أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏‏.‏ ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏258- 271‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ‏}‏ في معارضته ربوبية ربه‏.‏ والهاء في «ربه» يرجع إلى إبراهيم أو إلى الذي حاج فهو ربهما ‏{‏أَنْ آتاه الله الملك‏}‏

لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك، وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أوحاج وقت أن أتاه الله الملك ‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ نصب ب «حاج» أو بدل من «أن آتاه» إذا جعل بمعنى الوقت ‏{‏إبراهيم رَبّيَ‏}‏ «رب»‏:‏ حمزة ‏{‏الذى يُحِْيى وَيُمِيتُ‏}‏ كأنه قال له‏:‏ من ربك‏؟‏ قال‏:‏ ربي الذي يحيي ويميت ‏{‏قَالَ‏}‏ نمرود ‏{‏أَنَاْ أُحْيِى وَأُمِيتُ‏}‏ يريد أعفو عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد إبراهيم عليه السلام ما لا يتأتى فيه التلبيس على الضعفة حيث ‏{‏قَالَ إبراهيم‏}‏ عليه السلام ‏{‏فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب‏}‏ وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الأولى كانت لازمة، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد وقتل آخر، كلمه من وجه لا يعاند، وكانوا أهل تنجيم، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال‏:‏ إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون ‏{‏فَبُهِتَ الذى كَفَرَ‏}‏ تحير ودهش ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي لا يوفقهم وقالوا‏:‏ إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله تعالى صرفه عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان يدعي الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره‏.‏ ومعنى قوله «أنا أحيي وأميت» أن الذي ينسب إليه الإحياء والإماتة أنا لا غيري، والآية تدل على إباحة التكلم في علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال‏:‏ «ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه»‏.‏ والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضاً، ولو لم يكن مباحاً لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام، ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل على ذلك، وذا لا يكون إلا بعد المنظارة كذا في شرح التأويلات‏.‏

‏{‏أَوْ كالذى مَرَّ‏}‏ معناه أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة «لم تر» عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب، أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره‏:‏ أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر‏.‏ وقال صاحب الكشف‏:‏ فيه الكاف زائدة و«الذي» عطف على قوله «إلى الذي حاج» عن الحسن أن المار كان كافراً بالبعث لانتظامه مع نمرود في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي «أنى يحيي» والأكثر أنه عزير أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام و«أنى يحيي» اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياة واستعظام لقدرة المحيي ‏{‏على قَرْيَةٍ‏}‏ هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وهي التي خرج منها الألوف ‏{‏وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ ساقطة مع سقوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان وكل مرتفع عرش ‏{‏قَالَ أنى يُحْىِ‏}‏ أي كيف ‏{‏هذه‏}‏ أي أهل هذه ‏{‏الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏ أي أحياه ‏{‏قَالَ‏}‏ له ملك ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ بناء على الظن، وفيه دليل جواز الاجتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس «يوماً»، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال «أو بعض يوم» ‏{‏قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ‏}‏ روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأن لامها هاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت‏.‏

يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون‏.‏ «لم يتسن» بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏وانظر إلى حِمَارِكَ‏}‏ كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه، أو وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ‏}‏ فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه‏.‏ وقيل‏:‏ الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك‏.‏ قيل‏:‏ أتى قومه راكباً حماراً وقال‏:‏ أنا عزير فكذبوه فقال‏:‏ هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرأ التوراة ظاهر أحد قبل عزير فذلك كونه آية‏.‏ وقيل‏:‏ رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب ‏{‏وانظر إِلَى العظام‏}‏ أي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ‏{‏كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب‏.‏ «ننشرها» بالراء‏:‏ حجازي وبصري نحييها «ثمّ نكسوها» أي العظام «لحماً» جعل اللحم كاللباس مجازاً «فلمّا تبيّن له» فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير ‏{‏قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ‏}‏ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم «ضربني وضربت زيداً» ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعني أمر إحياء الموتى‏.‏

«قال اعلم» على لفظ الأمر‏:‏ حمزة وعلي أي قال الله له اعلم أو هو خاطب نفسه‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى‏}‏ بصرني ‏{‏كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏ موضع «كيف» نصب ب «تحيي» ‏{‏قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ وإنما قال له «أو لم تؤمن» وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين‏.‏ و«بلى» إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري‏.‏ واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك أراد طمأنينة القلب ‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير‏}‏ طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ وبكسر الصاد‏:‏ حمزة أي أملهن واضممهن إليك ‏{‏ثُمَّ اجعل على كُلِ ّجَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا‏}‏ ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة‏.‏ «جزأ» بضمتين وهمز‏:‏ أبو بكر ‏{‏ثُمَّ ادعهن‏}‏ قل لهن تعالين بإذن الله ‏{‏يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏}‏ مصدر في موضع الحال أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن‏.‏ وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك، وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال عل كل جبل ربعاً من كل طائر، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها ‏{‏واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريده ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة، ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله، وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال‏:‏

‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله‏}‏ لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ‏}‏ أو مثلهم كمثل باذر حبة ‏{‏أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ‏}‏ المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء‏.‏ ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، على أن التمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض، والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء ‏{‏والله يضاعف لِمَن يَشَاء‏}‏ أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين، أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء‏.‏

«يضعّف»‏:‏ شامي و«يضعّف»‏:‏ مكي ‏{‏والله واسع‏}‏ واسع الفضل والجود ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنيات المنفقين‏.‏ ‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا‏}‏ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها ‏{‏وَلا أَذًى‏}‏ هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه‏.‏ ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ أي ثواب إنفاقهم ‏{‏وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من بخس الأجر ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ من فوته، أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوت الثواب‏.‏ وإنما قال هنا‏:‏ «لهم أجرهم» وفيما بعد «فلهم أجرهم» لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة‏.‏

‏{‏قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ رد جميل ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل ‏{‏خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى‏}‏ وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة ‏{‏والله غَنِىٌّ‏}‏ لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ عن معاجلته بالعقوبة وهذا وعيد له‏.‏

ثم أكد ذلك بقوله ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى كالذى‏}‏ الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير إبطالاً مثل إبطال الذي ‏{‏يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر‏}‏ أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة، ورئاء مفعول له ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ‏}‏ مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب ‏{‏فَأَصَابَهُ وَابِلٌ‏}‏ مطر عظيم القطر ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه ‏{‏لاَّ يَقْدِرُونَ على شَئ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا، أو الكاف في محل النصب على الحال أي لا تطلبوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق‏.‏ وإنما قال «لا يقدرون» بعد قوله «كالذي ينفق» لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين‏}‏ ما داموا مختارين الكفر‏.‏

‏{‏وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه‏.‏

و«من» لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت، والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ‏}‏ بستان ‏{‏بِرَبْوَةٍ‏}‏ مكان مرتفع، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً «بربوة»‏:‏ عاصم وشامي ‏{‏أَصَابَهَا وَابِلٌ فَئَاتَتْ أُكُلُهَا‏}‏ ثمرتها «أكلها»‏:‏ نافع ومكي وأبو عمرو ‏{‏ضِعْفَيْنِ‏}‏ مثلي ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل ‏{‏فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا الله تعالى زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص‏.‏ الهمزة في ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ‏}‏ للإنكار ‏{‏أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ‏}‏ بستان ‏{‏مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ‏}‏ لصاحب البستان ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏مِن كُلّ الثمرات‏}‏ يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها، أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات‏.‏ ‏{‏وَأَصَابَهُ الكبر‏}‏ الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر، والواو في ‏{‏وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء‏}‏ أولاد صغار للحال أيضاً، والجملة في موضع الحال من الهاء في «أصابه» ‏{‏فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ‏}‏ ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود ‏{‏فِيهِ‏}‏ في الإعصار وارتفع ‏{‏نَّارٌ‏}‏ بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار ‏{‏فاحترقت‏}‏ الجنة، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة ‏{‏كذلك‏}‏ كهذا البيان الذي بين فيما تقدم ‏{‏يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ في التوحيد والدين ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فتنتبهوا‏.‏

‏{‏تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ من جياد مكسوباتكم، وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة ‏{‏وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض‏}‏ من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير‏:‏ ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث‏}‏ ولا تقصدوا المال الرديء ‏{‏مِنْهُ تُنفِقُونَ‏}‏ تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة ‏{‏وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ‏}‏ وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم ‏{‏إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ‏}‏ إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك «أغمض فلان عن بعض حقه» إذا غض بصره، ويقال للبائع «أغمض» أي لا تستقص كأنك لا تبصر‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ‏}‏ عن صدقاتكم ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ مستحق للحمد أو محمود‏.‏

‏{‏الشيطان يَعِدُكُمُ‏}‏ في الإنفاق ‏{‏الفقر‏}‏ ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، والوعد يستعمل في الخير والشر ‏{‏وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء‏}‏ ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل ‏{‏والله يَعِدُكُم‏}‏ في الإنفاق ‏{‏مَّغْفِرَةً مّنْهُ‏}‏ لذنوبكم وكفارة لها ‏{‏وَفَضْلاً‏}‏ وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو وثواباً عليه في الآخرة ‏{‏والله واسع‏}‏ يوسع على من يشاء ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بأفعالكم ونياتكم‏.‏ ‏{‏يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء‏}‏ علم القرآن والسنة، أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به، والحكيم عند الله هو العالم العامل ‏{‏وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ‏}‏ «ومن يؤت»‏:‏ يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة ‏{‏فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏ تنكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير‏.‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ وما يتعظ بمواعظ الله إلا ذوو العقول السليمة أو العلماء العمال، والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ‏}‏ في سبيل الله أو في سبيل الشيطان ‏{‏أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ‏}‏ في طاعة الله أو في معصيته ‏{‏فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ‏}‏ لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه ‏{‏وَمَا للظالمين‏}‏ الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور ‏{‏مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه‏.‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ‏}‏ فنعم شيئاً إبداؤها و«ما» نكرة غير موصولة ولا موصوفة، والمخصوص بالمدح «هي»‏.‏ فنعما «هي» بكسر النون وإسكان العين‏:‏ أبوعمرو ومدني غير ورش‏.‏ وبفتح النون وكسر العين‏:‏ شامي وحمزة وعلي‏.‏ وبكسر النون والعين‏:‏ غيرهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء‏}‏ وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ فالإخفاء خير لكم‏.‏ قالوا‏:‏ المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل، والمتطوع إن أراد أن يقتدي به كان إظهاره أفضل‏.‏ ‏{‏وَيُكَفّرْ‏}‏ بالنون وجزم الراء‏:‏ مدني وحمزة وعلي‏.‏ بالياء ورفع الراء‏:‏ شامي وحفص‏.‏ وبالنون والرفع‏:‏ غيرهم‏.‏ فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط، ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله‏.‏ ‏{‏عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ والنون على معنى نحن نكفر ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الإبداء والإخفاء ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ عالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏272- 282‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب ‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك إلى الله ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ من مال ‏{‏فَلأَِنفُسِكُمْ‏}‏ فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ‏{‏وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله‏}‏ وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله، أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ ولا تنقصون كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ أي لم تنقص‏.‏

الجار في ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الصدقات للفقراء ‏{‏الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ لاشتغالهم به ‏{‏ضَرْبًا فِى الأرض‏}‏ للكسب‏.‏ وقيل‏:‏ هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى‏.‏ ‏{‏يَحْسَبُهُمُ الجاهل‏}‏ بحالهم‏.‏ «يحسبهم» وبابه‏:‏ شامي ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة‏.‏ والباقون بكسر السين‏.‏ ‏{‏أَغْنِيَاء مِنَ التعفف‏}‏ مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة ‏{‏تَعْرِفُهُم بسيماهم‏}‏ من صفرة الوجوه ورثاثة الحال ‏{‏لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافًا‏}‏ إلحاحاً‏.‏ قيل‏:‏ هو نفي السؤال والإلحاح جميعاً كقوله‏:‏

على لا حب لا يهتدي بمناره

يريد نفي المنار والاهتداء به‏.‏ والإلحاح هو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه وفي الحديث ‏"‏ «إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف ‏"‏ وقيل‏:‏ معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ لا يضيع عنده‏.‏

‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ هما حالان أي مسرين ومعلنين يعني يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار‏:‏ عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية‏.‏ أو في علي رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم، تصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية‏.‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين يَأْكُلُونَ الربا‏}‏ هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال‏.‏ وكتب «الربوا» بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكواة، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع‏.‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ‏}‏ إذا بعثوا من قبورهم ‏{‏إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان‏}‏ أي المصروع لأنه تخبط في المعاملة فجوزي على المقابلة‏.‏ والخبط‏:‏ الضرب على غير استواء كخبط العشواء ‏{‏مِنَ المس‏}‏ من الجنون وهو يتعلق ب «لا يقومون» أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع، أو ب «يقوم» أي كما يقوم المصروع من جنونه، والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف‏.‏ وقيل‏:‏ الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض ‏{‏ذلك‏}‏ العقاب ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ ولم يقل «إنما الربا مثل البيع» مع أن الكلام في الربا لا في البيع، لأنه جيء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع‏.‏ ‏{‏وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا‏}‏ إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فأنى يتماثلان ودلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه ‏{‏فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ‏}‏ فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا ‏{‏فانتهى‏}‏ فتبع النهي وامتنع ‏{‏فَلَهُ مَا سَلَفَ‏}‏ فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم ‏{‏وَأَمْرُهُ إِلَى الله‏}‏ يحكم في شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به ‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏ إلى استحلال الربا عن الزجاج أو إلى الربا مستحلاً ‏{‏فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين لأن من أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق‏.‏

‏{‏يَمْحَقُ الله الربا‏}‏ يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ‏{‏وَيُرْبِى الصدقات‏}‏ ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه، وفي الحديث ما نقصت زكاة من مال قط‏.‏

‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ عظيم الكفر باستحلال الربا ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ متمادٍ في الإثم بأكله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ قيل‏:‏ المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا‏}‏ أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها‏.‏ روي أنها نزلت في ثقيف‏.‏ وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ كاملي الإيمان فإن دليل كماله امتثال المأمور به‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ فاعلموا بها من أذن بالشيء إذا علم، يؤيده قراءة الحسن فأيقنوا‏.‏ «فآذنوا»‏:‏ حمزة وأبو بكر غير ابن غالب‏.‏ فأعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب الله ورسوله لأن هذا أبلغ، لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله‏.‏ وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف‏:‏ لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ‏{‏وَإِن تُبتُمْ‏}‏ من الارتباء ‏{‏فَلَكُمْ رُءُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ‏}‏ المديونين بطلب الزيادة عليها ‏{‏وَلاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ بالنقصان منها‏.‏

‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ‏}‏ وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار ‏{‏فَنَظِرَةٌ‏}‏ فالحكم أوفى لأمر نظرة أي إنظار ‏{‏إلى مَيْسَرَةٍ‏}‏ يسار‏.‏ «ميسرة»‏:‏ نافع وهما لغتان ‏{‏وَأَن تَصَدَّقُواْ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ عاصم، أي تتصدقوا برؤوس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم‏.‏ وبالتشديد‏:‏ غيره‏.‏ فالتخفيف على حذف إحدى التاءين، والتشديد على الإدغام ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ في القيامة، وقيل‏:‏ أريد بالتصديق الإنظار لقوله عليه السلام ‏"‏ لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ‏"‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه‏.‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏}‏ «ترجعون»‏:‏ أبو عمرو فرجع لازم ومتعدٍ‏.‏ قيل‏:‏ هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال‏:‏ ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً أو أحداً وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات ‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ‏}‏ أي جزاء ما كسبت ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بنقصان الحسنات وزيادة السيئات‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ‏}‏ أي إذا داين بعضكم بعضاً‏.‏ يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج، وإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى أجل مسمى ليرجع الضمير إليه في قوله ‏{‏فاكتبوه‏}‏ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال‏.‏

وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود، والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر للندب‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به السلم وقال‏:‏ لما حرم الله الربا أباح السلف‏.‏ وعنه‏:‏ أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية، وفيه دليل على اشتراط الأجل في السلم ‏{‏وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم‏}‏ بين المتداينين ‏{‏كَاتِبٌ بالعدل‏}‏ هو متعلق ب «كاتب» صفة له أي كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص، وفيه دليل على أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً ديناً حتى يكتب ما هو متفق عليه ‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ ولا يمتنع واحد من الكتاب ‏{‏أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله‏}‏ مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب ‏{‏فَلْيَكْتُبْ‏}‏ تلك الكتابة لا يعدل عنها ‏{‏وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق‏}‏ ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به فيكون ذلك إقراراً على نفسه بلسانه‏.‏ والإملال والإملاء لغتان ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ وليتق الله الذي عليه الدين ربه فلا يمتنع عن الإملاء فيكون جحوداً لكل حقه ‏{‏وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً‏}‏ ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء فيكون جحوداً لبعض حقه ‏{‏فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا‏}‏ أي مجنوناً لأن السفه خفة في العقل أو محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف ‏{‏أَوْ ضَعِيفًا‏}‏ صبياً ‏{‏أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ‏}‏ لعي به أو خرس أو جهل باللغة ‏{‏فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ‏}‏ الذي يلي أمره ويقوم به ‏{‏بالعدل‏}‏ بالصدق والحق ‏{‏واستشهدوا شَهِيدَيْنِ‏}‏ واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين ‏{‏مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏ من رجال المؤمنين‏.‏ والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة عندنا ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا‏}‏ فإن لم يكن الشهيدان ‏{‏رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏ فليشهد رجل وامرأتان وشهادة الرجال مع النساء تقبل فيما عدا الحدود والقصاص ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏ ممن تعرفون عدالتهم، وفيه دليل على أن غير المرضي شاهد ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى‏}‏ لأجل أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى ‏{‏إن تضل إحداهما‏}‏ على الشرط «فتذكر» بالرفع والتشديد‏:‏ حمزة كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ «فَتُذْكِر» بالنصب‏:‏ مكي وبصري من الذّكرُ لا من الذَّكر ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏ لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم، وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن، فالأوّل للفرض والثاني للندب ‏{‏وَلاَ تَسْئَمُواْ‏}‏ ولا تملوا قال الشاعر‏:‏

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولاً لا أبالك يسأم

والضمير في ‏{‏أَن تَكْتُبُوهُ‏}‏ للدين أو الحق ‏{‏صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا‏}‏ على أي حال كان الحق من صغر أو كبر، وفيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير وإنما يقال في الذرعي، ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً أو ‏{‏إِلَى أَجَلِهِ‏}‏ إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب ‏{‏أَقْسَطُ‏}‏ أعدل من القسط وهو العدل ‏{‏عَندَ الله‏}‏ ظرف لأقسط ‏{‏وَأَقْوَمُ للشهادة‏}‏ وأعون على إقامة الشهادة وبنى أفعلا التفضيل أي «أقسط» و«أقوم» من أقسط وأقام مذهب سيبويه ‏{‏وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ‏}‏ وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك، وألف «أدنى» منقلبة من واو لأنه من الدنو ‏{‏إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً‏}‏ عاصم أي إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على «كان» التامة أي إلا أن تقع تجارة حاضرة، أو هي ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخبر ‏{‏تُدِيرُونَهَا‏}‏ وقوله ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ ظرف ل «تديرونها» ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يداً بيد ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا‏}‏ يعني إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً لأنه أحوط وأبعد من وقوع الاختلاف، أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة والأمر للندب ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضي الله عنه «ولا يضارر» وللمفعول لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما «ولا يضارر» والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويلزّا، أولاً يعطي الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد ‏{‏وَإِن تَفْعَلُواْ‏}‏ وإن تضاروا ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ فإن الضرار ‏{‏فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏ مأثم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفة أوامره ‏{‏وَيُعَلّمُكُمُ الله‏}‏ شرائع دينه ‏{‏والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ لا يلحقه سهو ولا قصور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏283- 286‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ‏}‏ أيها المتداينون ‏{‏على سَفَرٍ‏}‏ مسافرين ‏{‏وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان‏}‏ «فرهان»‏:‏ مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن كسقف وسقف وبغل وبغال، ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء‏.‏ ولما كان السفر مظنة لأعواز الكتب والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لا أن السفر شرط تجويز الارتهان‏.‏ وقوله ‏{‏مَّقْبُوضَةٌ‏}‏ يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن ‏{‏فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته‏}‏ دينه‏.‏ وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه‏.‏ وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ في إنكار حقه ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة‏}‏ هذا خطاب للشهود ‏{‏وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ ارتفع «قلبه» ب «آثم» على الفاعلية كأنه قيل‏:‏ فإنه يأثم قلبه، أو بالابتداء و«آثم» خبره مقدم والجملة خبر «إن»‏.‏ وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآثمة لا القلب وحده، لأن كتمان الشهادة أن يضمرها في القلب ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترفاً مكتسباً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ كما تقول «هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي»، ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل‏:‏ فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب، وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من كتمان الشهادة وإظهارها ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء‏.‏ ‏{‏للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ يعني من السوء ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ يكافئكم ويجازيكم ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه، والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور‏.‏

فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا‏؟‏ قيل‏:‏ لا لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ‏"‏ والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني رحمهما الله، والدليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 19‏]‏‏.‏ الآية‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا‏.‏ وفي أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا‏:‏ أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله «آمن الرسول» إلى قوله «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فتعلق ذلك بالكسب دون العزم‏.‏ وفي بعضها أنها نسخت بهذه الآية، والمحققون على أن النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار ‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ‏}‏ برفعهما‏:‏ شامي وعاصم أي فهو يغفر ويعذب، ويجزمهما‏:‏ غيرهم عطفاً على جواب الشرط، وبالإدغام‏:‏ أبو عمرو، وكذا في الإشارة والبشارة‏.‏ وقال صاحب الكشاف‏:‏ مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ، لأن الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف، ولا يجوز إدغام المضاعف، ورواية عن أبي عمر مخطئ مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس في العربية ما يؤذن بجهل عظيم ‏{‏والله على كُلِّ شَئ‏}‏ من المغفرة والتعذيب وغيرهما ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ قادر‏.‏ ‏{‏ءَامَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون‏}‏ إن عطف «المؤمنون» على «الرسول» كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في ‏{‏كُلٌّ‏}‏ راجعاً إلى «الرسول» «والمؤمنون» أي كلهم ‏{‏ءَامَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ووقف عليه، وإن كان مبتدأ كان عليه «كل» مبتدأ ثانياً والتقدير كل منهم و«آمن» خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول، وكان الضمير للمؤمنين ووحد ضمير «كل» في «آمن» على معنى كل واحد منهم آمن‏.‏ و«كتابه»‏:‏ حمزة وعلي يعني القرآن أو الجنس ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ‏}‏ أي يقولون لا نفرق بل نؤمن بالكل ‏{‏بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ «أحد» في معنى الجمع ولذا دخل عليه «بين» وهو لا يدخل إلا على اسم يدل على أكثر من واحد‏.‏ تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ سَمِعْنَا‏}‏ أجبنا قولك ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ أمرك ‏{‏غُفْرَانَكَ‏}‏ أي اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر ‏{‏رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ المرجع، وفيه إقرار بالبعث والجزاء‏.‏

والآية تدل على بطلان الاستثناء في الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر‏.‏

‏{‏لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا‏}‏ محكي عنهم أو مستأنف ‏{‏إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف، كذا في شرح التأويلات‏.‏ وقال صاحب الكشاف‏:‏ الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏ ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر، وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش والنفس تنكمش في الشر وتتكلف للخير ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا‏}‏ تركنا أمراً من أوامرك سهواً ‏{‏أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ودل هذا على جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ خلافاً للمعتزلة لإمكان التحرز عنهما في الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا‏}‏ عبأ يأصر حامله أي يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك ‏{‏كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا‏}‏ كاليهود ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ من العقوبات النازلة بمن قبلنا ‏{‏واعف عَنَّا‏}‏ امح سيئاتنا ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ واستر ذنوبنا وليس بتكرار فالأول للكبائر والثاني للصغائر ‏{‏وارحمنا‏}‏ بتثقيل ميزاننا مع إفلاسنا، والأول من المسخ والثاني من الخسف والثالث من الغرق ‏{‏أَنتَ مولانا‏}‏ سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولي أمورنا ‏{‏فانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ فمن حق المولى أن ينصر عبيده في الحديث «من قرأ آمن الرسول إلى آخره في ليلة كفتاه» وفيه «من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» ويجوز أن يقال‏:‏ قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة لما روي عن علي رضي الله عنه‏:‏ خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يكره ذلك بل يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة، والله أعلم‏.‏