الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (87): {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}{لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافًا مبينًا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله، وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقًا وقيل: للمتقين، وقيل: للمجرمين من أهل الايمان وأهل الكفر {والشفاعة}، على الأولين مصدر المبنى للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن يكون مصدر المبني للمفعول.وقوله تعالى: {الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد، وفسره ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى، وأخرج ابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ الآية وقال: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: «من كان له عني عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدًا عندك تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد»، وأخرج ابن أبي شيبة عن مقاتل أنه قال: العهد الصلاح، وروى نحوه عن السدي. وابن جريج، وقال الليث: هو حفظ كتاب الله تعالى، وتسمية ما ذكر عهدًا على سبيل التشبيه، وقيل: المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن الله عز وجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك، ولا يأبى {عِندَ} الاتخاذ أصلًا فإنه كما يقال: أخذت الإذن في كذا يقال: اتخذته، نعم في قوله تعالى: {عِندَ الرحمن} نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والاخبار تكذبهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته» وجوز ابن عطية أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء ون اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم وبالعهد الوهد بذلك في قوله سبحانه وتعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] وهو خلاف الظاهر جدًا، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضًا. وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدًا، والمراد به الايمان، وإضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلخ أي إلا لمن اتصف بالايمان. وجوز أن يكون الاسثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضًا، وأن يكون المصدر مضافًا لفاعله أو مضافًا لمفعوله. وجوز عليه أيضًا أن يكون المستثنى منه محذوفًا كما سمعت، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضًا، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنًا فإنه يملك أن يشفع له. وقيل: الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان، والمستثنى حينئذ لازم النصف عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند تميم.وجوز الزمخشري أن تكون الواو في {لاَّ يَمْلِكُونَ} علامة الجمع كالتي في أكلوني البراغيث والفاعل {مَنِ اتخذ} لأنه في معنى الجمع. وتعقبه أبو حيان بقوله: لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرًا، وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة، وأيضًا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلًا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أومثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل، وإمما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى. وتعقبه أيضًا ابن المنير بأن فيه تعسفًا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير {اتخذ} كان ذلك إجمالًا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي هي الإيضاح بعد الاجمال والواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال: فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد.وفي عنق الحسناء يستحسن العقد. انتهى.ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولًا باعتبار معناها وثانيًا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر..تفسير الآية رقم (88): {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)}{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} حكاية لجناية القائلين عزيز ابن الله. وعيسى ابن الله. والملائكة بنات الله من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوًا كبيرًا إثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عز وجل بطريق عطف القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وإن لم يذكر صريحًا لظهور الأمر.وقيل: راجع للمجرمين. وقيل: للكافرين. وقيل: للكافرين. وقيل: للضالمين. وقيل: للعباد المدلول عله بذكر الفريقين المتقين والمجرمين. وفيه إسناد ما للبعض إلى الكل مع أنهم لم يرضوه وقد تقدم البحث فيه.وقوله تعالى:.تفسير الآية رقم (89): {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)}{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة، وقيل: لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم إلخ، والإد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه. وقيل: العظيم المنكر والإدة لشدة وأدنى الأمر وآدنى اثقلني وعظم على. وقال الراغب: الاد المنكر فيه جلبة من قولهم: ادت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعًا شديدًا. وقيل: الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرًا عجيبًا أو منكرًا شديدًا لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان عنى فعل فيتعديان تعديته. وقال الطبرسي: هو من باب الحذف والإيصال أي جئتم بشيء إد..تفسير الآية رقم (90): {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)}{تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} في موضع الفة لـِ {إدَّا} [مريم: 89] أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول، والتفطر على ما ذكره الكثي التشقق مطلقًا، وعلى ما يدل عليه كلام الراغب التشقق طولًا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك، وموارد الاستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر. نعم قيل: إنها تقتضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فإنه يقال: إنا مفطور ولا يقال: ثوب مفطور بل مشقوق، وهو عندي في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السموات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى: {وَتَنشَقُّ الأرض} إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض، والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل في الفعل لأنه الأوفق بالمقام، وقيل: في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو. وابن عامر. وحمزة وأبو بكر عن عاصم. ويعقوب. وأبو بحرية. والزهري. وطلحة. وحميد. واليزيدي. وأبو عبيد {ينفطرن} مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك، وبأنه قد اختير الانفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول {مِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] بالأقاليم ونحوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ووجهه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السموات لكونها مقدسة لم يعص الله تعالى فيها أصلًا نوعًا ما من العصيان لم يكن لها ألف ما بالمعصية ولا كاذلك الأرض فهي تتأثر من عظم المعصية ما لا تتأثر الأرض.وقرأ ابن مسعود {يتصدعن} قال في البحر: وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرًا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى. ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تأييدًا لمن ادعى أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في القاموس من أن الصدع شق في شيء صلب.وقرأ نافع. والكسائي. وأبوحيوة. والأعمش {بالكافرين يَكَادُ} بالياء من تحت {وَتَخِرُّ الجبال} تسقط وتنهد {هَدًّا} نصب على أنه مفعول طملق لتخر لأنه عنى تنهد كما أشرنا إلينا وإليه ذهب ابن النحاس. وجوز أن يكون مفعولًا لا مطلقًا لتنهد مقدرًا. والجملة في موضع الحال، وقيل: هو مصدر عنى المفعول منصوب على الحال من هد المعتدى أي مهدودة. وجوز أن يكون مفعولًا له أي لأنها تنهد على أنه مهد اللازم عنى انهدم ومجيئه لازمًا مما صرح به أبو حيان وهو إمام اللغة. والنحو فلا عبرة ممن أنكره، وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به، وقيل: إنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولًا له، وفي الكلام تقرير لكون ذلك إدًا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة اليء.وفسرها الأخفش هنا. وفي قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] بالإرادة وأنشد شاهدًا على ذلك قول الشاعر:ولا حجة له فيه، والمعنى إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت أجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تتفطر وتنشق وتخر من فظاعتها، وقيل: المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة، وقيل: الكلام كناية عن غضب الله تعالى على قائل تلك الكلمة وأنه لولا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت أفعل ذلك غضبًا لولا حلمي.وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن الشكر فزعت منه السموات والأرض والجبال وجيمع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيمًا لله تعالى وفيه إثبات فهم لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن. وقد تقدم ما يتعلق بذلك. وفي الدر المنثور في الكلام على هذه الآية، أخرج أحمد في الزهد. وابن المبارك. وسعيد بن منصور. وابن أبي شيبة. وأبو الشيخ في العظمة وابن أبي حاتم. والطبراني. والبيهقي في شعب الايمان من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر لله تعالى فإذا قال: نعم استبشر قال عون: أفلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير أسمع وقرأ {وَقَالُواْ} [مريم: 88] الآيات اه وهو ظاهر في الفهم.وقال ابن المنير: يظهر لي في الآية معنى لم أره لغيري وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عز وجل موصوفًا بصفات الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحة بحمده قال تعالى: {تُسَبّحُ لَهُ السموات *السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه: فالمعتقد نسبة الولد إليه عز وجل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله تعالى وتقديسه فاستعير لإبطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق اه.واعترض عليه بأن الموجودات إنما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الأثر على المؤثر والقدرة على المقدور واتقان العمل يدل على العمل والحكمة وأما دلالتها على الوحدانية فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر. ورد بأنها لو لم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالي في «حواشيه» على شرح عقائد النسفي للعلامة الثاني.وقال بعضهم: إنها تدل على عظم شأنه تعالى وأنه لا يشابهه ولا يدانيه شيء فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرًا عز وجل. ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه.ولعل ما أشرنا إليه أولى وأدق، وليس مراد من نسب الولد إليه عز وجل إلا الشرك فتأمل، والجمهور على أن الكلام لبيان بشاعة تلك الكلمة على معنى أنها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتت من بشاعتها. ونحو هذا مهيع للعرب، قال الشاعر: وقال الآخر: وقال الآخر: إلى غير ذلك ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد كما في الآية الكريمة، وقد بين ذلك في محله.
|