فصل: الباب الثالث من المقالة التاسعة فيما يكتب في عقد الذمة وما يتفرع على ذلك:

صباحاً 9 :47
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الثاني من المقالة التاسعة في الدفن:

والمراد به دفن ذنوب من يكتب له حتى لم تر بعد؛ وفيه فصلان:

.الفصل الأول في أصله وكونه مأخوذاً عن العرب:

والأصل فيه ما ذكره في التعريف: أن العرب إذا جنى أحد منهم جناية، وأراد المجني عليه العفو عما وقع، فالتعويل في الصفح فيها على الدفن. قال في التعريف: وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان، وهو مقر بما أهاجك عليه؛ ويعدد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبفي منها بقية؛ ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفيرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة؛ ثم يرد تراب الحفيرة إليها حتى يدفنها بيده.
قال: وهو كثير متداول بين العرب، ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به؛ إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة، بل يكتفى بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين؛ ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفت بها آثار الطلائب.

.الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة التاسعة فيما يكتب في الدفن عن الملوك:

قال في التعريف: صورته أن يكتب بعد البسملة: هذا دفن لذنوب فلان، من الآن لا تذكر ولا يطالب بها، ولا يؤاخذ بسببها، اقتضته المراحم الشريفة السلطانية الملكية الفلانية، ضاعف الله تعالى حسناتها وإحسانها: وهي ما بدا من الذنوب لفلان من الجرائم التي ارتكبها، والعظائم التي احتقبها، وحصل العفو الشريف عن زللها، وقابل الإحسان العميم بالتغمد سوء عملها؛ وهي: كذا وكذا وتذكر دفناً لم تبق معه لمطالب بشيء منه مطمع، ولا في إحيائه رجاء وفي غير ما وارت الأرض فاطمع، وتصدق بها سيدنا ومولانا السلطان الأعظم ويذكر ألقابه واسمه- تقبل الله صدقته- وعفا عنها، وقطع الرجاء باليأس منها، وأبطل منها كل حق يطلب، وصفح منها عن كل ذنب كان به يستذنب، ودفنها تحت قدمه، ونسيها في علم كرمه، وخلاها نسياً منسياً لا تذكر في خفارة ذممه، وجعله بها مقيماً في أمن الله تعالى إلى أن يبعث الله تعالى خلقه، ويتقاضى كما يشاء حقه، لا يتعقب في ذا الأمان متعقب، ولا ينتهي إلى أمد له نظر مترقب، لا ينبش هذا الدفين، ولا يوقف له على أثر في اليوم ولا بعد حين، ولا يخشى فيه صبر مصابر، ولا يقال فيه: إلا وهبها كشيء لم يكن أو كنازح به الدار أو من غيبته المقابر. ورسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي الفلاني- أعلاه الله تعالى وشرفه، وغفر به لكل مذنب ما أسلفه- أن يكتب له هذا الكتاب بما عفي له عنه وحفر له ودفن، وأصبح بعمله غير مرتهن، ودفن له فيه دفن العرب، وقطع في التذكر له أرب كل ذي أرب، ودرس في القبور الدوارس، وغيب مكانه فيما طمر في الليالي الدوامس.
وسبيل كل واقف على هذا الكتاب- وهو الحجة على من وقف عليه، أو بلغه خبره، أو سمعه أو وضح له أثره- أن يتناسى هذه الوقائع، ويتخذها فيما تضمنته الأرض من الودائع، ولا يذكر منها إلا ما اقتضاه حلمنا الذي يؤمن معه التلف، وعفونا الذي شمل وعفا الله عما سلف.
قال في التثقيف: ولم أكن رأيت شيئاً من هذا ولا وجدته مسطوراً إلا في كتابة التعريف. قال: والذي أعتقده أنه لم يكتب به قط، وإنما الرجل بسعة فضله وفضيلته، أراد أن يرتب هذه النسخة لاحتمال أن يؤمر بكتابة شيء من هذا المعنى، فلا يهتدي الكاتب إلى ما يكتبه. ثم قال: على أنه كرر فيها ذكر السلطان مرتين، والثالثة قال: رسم بالأمر الشريف، فهي على غير نحو من النظام المعهود والمصطلح المعروف، بحكم أن فيها أيضاً توسعاً كثيراً في العبارة والألفاظ التي تؤدي كلها معنى واحداً. قال: وكان الأولى بنا اختصار ذلك وعدم كتابته، لكننا أردنا التنبيه على ما أشار إليه، ليكون هذا الكتاب مستوعباً لجميع ما ذكر، مما يستعمل ومما لا يستعمل.
قلت: ما قاله في التثقيف: كلام ساقط صادر عن غير تحقيق؛ فإنه لا يلزم من عدم اطلاعه على شيء كتب في هذا المعنى ولا سطر فيه أن لا يكون مسطوراً لأحد في الجملة. وماذا عسى يبلغ اطلاع المطلع فضلاً عن غيره؟ وإن كان صاحب التعريف هو الذي ابتكر ذلك، كما أشار إليه في التثقيف: فنعمت السجية الآتية بمثل ذلك مما لم يسبق إليه. وأما إنكاره تكرير ذكر السلطان فيها، فلا وجه له بعد انتظام الكلام وحسن ما أتى به في التعريف سواء كان فيه مبتكراً أو متبعاً أو منتزعاً له من الأصل السابق.
وأحسن ما يكتب في ذلك في تأمين العربان: لأنه إنما أخذ عنهم؛ فإذا صدر إليهم شيء يعرفونه ويجري على قواعدهم التي يألفونها، تلقوه بالقبول، واطمأنت إليه قلوبهم، ووقع منهم أجل موقع؛ وبالله المستعان.

.الباب الثالث من المقالة التاسعة فيما يكتب في عقد الذمة وما يتفرع على ذلك:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول في بيان رتبة هذا العقد:

ومعناه وأصله من الكتاب والسنة وما ينخرط في سلك ذلك أما رتبته، فإنه دون الأمان بالنسبة إلى الإمام؛ وذلك أنه إنما يقرره بعوض يأخذه منهم، بخلاف الأمان.
وأما معناه، فقد قال الغزالي في الوسيط: إنه عبارة عن التزام تقريرهم في ديارنا، وحمايتهم، والذب عنهم ببذل الجزية أو الإسلام من جهتهم.
وأما الأصل فيه: فمن الكتاب قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}. فجعل الجزية غاية ما يطلب منهم، وهو دليل تقريرهم بها.
ومن السنة ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وجه معاذ بن جبل إلى اليمن. قال: «إنك سترد على قوم معظمهم أهل كتاب فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا فاعرض عليهم الجزية وخذ من كل حالم ديناراً، فإن امتنعوا فاقتلهم» فجعل القتل بعد الامتناع عن أداء الجزية يدل على تقريرهم بها أيضاً.
وقد قرر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصارى الشام بإيالتهم على شروط اشترطوها في كتاب كتبوا به إليه، مع زيادة زادها.
قال الإمام الحافظ جمال الدين أبو صادق محمد، ابن الحافظ رشيد الدين أبي الحسين يحيى، بن علي، بن عبد الله القرشي في كتابه المرسوم بالزبد المجموعة في الحكايات والأشعار والأخبار المسموعة: أخبرنا الشيخ الففيه أبو محمد عبد العزيز بن عبد الوهاب بن إسماعيل الزهري المالكي وغير واحد من شيوخنا إجازة، قالوا: أنبأنا أبو الطاهر إسماعيل بن مكي بن إسماعيل الزهري، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي قراءة عليه، قال: أخبرنا قاضي القضاة الدامغاني، أخبرنا محمد، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد التجيبي فيما قرأت عليه، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن زياد الأعرابي بمكة سنة أربعين وثلثمائة، أخبرنا محمد بن إسحاق أبو العباس الصفار، أخبرنا الربيع بن تغلب أبو الفضل، أخبرنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثوري، والوليد بن روح، والسري بن مصرف، يذكرون عن طلحة بن مصرف، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: كتبت لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها: ديراً ولا كنيسة، ولا نخفي ما كان منها في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال نطمعهم، ولا نؤوي في منازلنا ولا كنائسنا جاسوساً، ولا نكتم غشاً للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركاً، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نمنع من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم: في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نتكنى نكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم ديننا حيث ما كنا، وأن نشد زنانيرنا على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا ولا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج سعانين ولا باعوثا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما يجري عليه سهام المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.
قال عبد الرحمن: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: ولا نضرب أحداً من المسلمين. شرطنا على ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان. فإن نحن خالفنا عن شيء مما شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
وفي رواية له من طريق أخرى: أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب.
وفيها: - وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمه.
وفيها: - وأن لا نظهر صليباً أو نجساً في شيء من طرق المسلمين وأسواقهم.
وفيها: - وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم.
قال أبو صادق المقدم ذكره: ومما ذكره أهل التاريخ أن الحاكم الفاطمي أمر اليهود والنصارى إلا الجبابرة بلبس العمائم السود، وأن يحمل النصارى في أعناقهم من الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال، وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشب على وزن صلبان النصارى، وأن لا يركبوا شيئاً من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، وأن لا يستخدموا أحداً من المسلمين، ولا يركبوا حماراً لمكار مسلم، ولا سفينة نويتها مسلم، وأن يكون في أعناق النصارى- إذا دخلوا الحمام- الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل: ليتميزوا بها من المسلمين، وأفرد حمامات اليهود والنصارى عن حمامات المسلمين ونهوا عن الاجتماع مع المسلمين في الحمامات، وخط على حمامات النصارى صور الصلبان، وعلى حمامات اليهود صور القرامي.
قال: وذلك بعد الأربعمائة. ثم قال: ولقد أحسن فيما فعل بهم، عفا الله عنا وعنه، ورزقنا من ينظر في أمورنا وأمورهم بالمصلحة.

.الطرف الثاني في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذمة معرفة الكاتب بعقد الذمة:

واعلم أن ما يحتاج الكاتب إليه من ذلك يرجع إلى ثمانية أمور:
الأمر الأول- فيمن يجوز أن يتولى عقد الذمة من المسلمين؛ ويختص ذلك بالإمام أو نائبه في عقدها؛ وفي آحاد الناس خلاف، والأرجح أنه لا يصح منه لأنه من الأمور الكلية، فيحتاج إلى نظر واجتهاد.
الأمر الثاني- معرفة من تعقد له الذمة. ويشترط في المعقود له: التكليف والذكورة والحرية؛ فلا تعقد لصبي ولا مجنون ولا امرأة ولا عبد، بل يكونون تبعاً، حتى لا تجب على أحد منهم الجزية، وفيمن ليس أهلاً للقتال: كالشيخ الكبير والزمن خلاف، والأصح صحة عقدها له. ويعتبر في المعقود له أيضاً أن يكون زاعم التمسك بكتاب: كاليهودي يزعم تمسكه بالتوراة، والنصراني يزعم تمسكه بالتوراة والإنجيل جميعاً؛ وفي المتمسك بغير التوراة والإنجيل: كصحف إبراهيم وزبور داود خلاف، والأصح جواز عقدها له، وكذلك المجوس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». والسامرة إن وافقت أصولهم أصول اليهود، عقد لهم وإلا فلا. وكذلك الصابئة إن وافقت أصولهم أصول النصارى، ولا يعقد لزنديق، ولا عابد وثن، ولا من يعبد الملائكة والكواكب. ثم إذا كملت فيه شروط العقد فلا بد من قبوله العقد. ولو قال: قررني بكذا فقال: قررتك، صح. ولو طلبها طالب من الإمام وجبت إجابته.
الأمر الثالث- معرفة صيغة العقد: وهي ما يدل على معنى التقرير من الإمام أو نائبه، بأن يقول: أقررتكم أو أذنت لكم في الإقامة في دارنا على أن تبذلوا كذا وكذا وتنقادوا لحكم الإسلام.
الأمر الرابع- المدة التي يعقد عليها. ويعتبر فيها أن تكون مطلقة بأن لا يقيدها بانتهاء، أو بما شاء المعقود له من المدة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أقركم ما أقركم الله» إنما ورد في المهادنة لا في عقد الذمة.
الأمر الخامس- معرفة المكان الذي يقرون فيه؛ وهو ما عدا الحجاز، فلا يقرون في شيء من بلاد الحجاز: وهي مكة، والمدينة، واليمامة، ومخاليفها- يعني قراها-: كالطائف بالنسبة إلى مكة، وخيبر بالنسبة إلى المدينة، ونحو ذلك. وسواء في ذلك القرى والطرق المتخللة بينها. ويمنعون من إقامة في بحر الحجاز، بخلاف ركوبه للسفر. وليس لهم دخول حرم مكة لإقامة ولا غيرها، إذ يقول تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}. فلو تعدى أحد منهم بالدخول ومات ودفن في الحرم، نبش وأخرج منه ما لم يتقطع، فإن تقطع ترك. وقيل: تجمع عظامه وتخرج؛ وعليه يدل نص الشافعي رضي الله عنه في الأم.
الأمر السادس- معرفة ما يلزم الإمام لهم بعد عقد الذمة. إذ عقد لهم الإمام الذمة فينبغي أن يكتب أسماءهم ودينهم وحلاهم، وينصب على كل جمع عريفاً: لمعرفة من أسلم منهم، ومن مات ومن بلغ من صبيانهم، ومن قدم عليهم أو سافر منهم، وإحضارهم لأداء الجزية، أو شكوى من تعدى الذمي عليه من المسلمين ونحو ذلك؛ وهذا العريف هو المعبر عنه في زماننا بالديار المصرية بالحاشر. ثم يجب الكف عنهم بأن لا يتعرض متعرض لأنفسهم ولا لأموالهم، ويضمن ما أتلف منها، ولا تراق خمورهم إلا أن يظهروها، ولا تتلف خنازيرهم إذا أخفوها، ولا يمنعون التردد إلى كنائسهم؛ ولا ضمان على من دخل دار أحد منهم فأراق خمره وإن كان متعدياً بالدخول، وأوجب أبو حنيفة عليه الضمان. ويجب ذب الكفار عنهم ما داموا في دارنا، بخلاف ما إذا دخلوا دار الحرب.
الأمر السابع- معرفة ما يطلب منهم إذا عقد لهم الذمة. ثم المطلوب منهم ستة أشياء: منها: الجزية: وهي المال الذي يبذلونه في مقابلة تقريرهم بدار السلام.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية: وهي مأخوذة من الجزاء: إما بمعنى أنها جزاء لتقريرهم في بلادنا، وإما بمعنى المقابلة لهم على كفرهم.
وقد اختلف الأئمة في مقدارها: فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنها مقدرة الأقل، وأقلها دينار أو اثنا عشر درهماً نقرة في كل سنة على كل حالم، ولا يجوز الاقتصار على أقل من الدينار؛ وغير مقدرة الأكثر، فتجوز الزيادة على الأقل برضا المعقود له. ويستحب للإمام المماكسة: بأن يزيد عليهم بحسب ما يراه. ونقل ابن الرفعة عن بعض أصحاب الشافعي أنه قدر على العقد غاية لم يجز أن ينقص عنها. ويستحب أن يفاوت فيها: فيأخذ من الفقير ديناراً، ومن المتوسط دينارين، ومن الغني أربعة دنانير.
وذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف: أغنياء، يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهماً. وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهماً. وفقراء يؤخذ منهم اثنا عشر درهماً. فجعلها مقدرة الأقل والأكثر، ومنع من اجتهاد الإمام ورأيه فيها.
وذهب مالك إلى أنه لا يتقدر أقلها ولا أكثرها، بل هي موكولة إلى الاجتهاد في الطرفين.
ومنها: الضيافة: فيجوز للإمام بل يستحب أن يشترط على غير الفقير منهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين زيادة على الجزية، ويعتبر ذكر مدة الإقامة وأن لا تزيد على ثلاثة أيام، وكذلك يعتبر ذكر عدد الضيفان من فرسان ورجالة، وقدر طعام كل واحد وأدمه، وقدر العليق وجنس كل منهما، وجنس المنزل.
ومنها: الانقياد لأحكامنا؛ فلو ترافعوا إلينا أمضينا الحكم بينهم برضا خصم واحد منهم، ونحكم بينهم بأحكام الإسلام.
ومنها: أن لا يركبوا الخيل. ولهم أن يركبوا الحمير بالأكف عرضاً: بأن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد. وفي البغال النفيسة خلاف: ذهب الغزالي وغيره إلى المنع منها والراجح الجواز، إلا أنهم لا يتخذون اللجم المحلاة بالذهب والفضة.
ومنها: أن ينزلوا المسلمين صدر المجلس وصدر الطريق. وإن حصل في الطريق ضيق ألجئوا إلى أضيقه. ويمنعون من حمل السلاح.
ومنها: التمييز عن المسلمين في اللباس: بأن يخيطوا في ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونها، سواء في ذلك الرجال والنساء. والأولى باليهود الأصفر، وبالنصارى الأزرق والأكهب وهو المعبر عنه بالرمادي وبالمجوسي الأسود والأحمر. ويشد الرجال منهم الزنار من غير الحرير في وسطه، وتشده المرأة تحت إزارها، وقيل فوقه. ويميزون ملابسهم عن ملابس المسلمين، وتغاير المرأة لون خفيها: بأن يكون أحدهما أبيض والآخر أسود، ونحو ذلك. ويجعل في عنقه في الحمام جلجلاً أو خاتماً من حديد. وإن كان على رأس أحدهم شعر أمر بجز ناصيته. ويمنعون من إرسال الضفائر كما تفعل الأشراف. ولهم لبس الحرير والعمامة والطيلسان. والذي عليه عرف زماننا في التمييز أن اليهود مطلقاً تلبس العمائم الصفر، والنصارى العمائم الزرق، ويركبون الحمير على البراذع، ويثني أحدهم رجله قدامه، وتختص السامرة بالشام بلبس العمامة الحمراء، ولا مميز يعتادونه الآن سوى ما قدمناه.
ومنها: أنهم لا يحدثون كنيسة ولا بيعة فيما أحدثه المسلمون من البلاد: كالبصرة، والكوفة، وبغداد، والقاهرة، ولا في بلد أسلم أهلها عليها: كالمدينة، واليمن. فإن أحدثوا فيها شيئاً من ذلك نقض، نعم يترك ما وجد منها ولم يعلم حاله، لاحتمال اتصال العمارات به. وكذلك لا يجوز إحداث الكنائس والبيع فيما فتح عنوة، ولا إبقاء القديم منها لحصول الملك بالاستيلاء. أما ما فتح صلحاً بخراج على أن تكون القبة لهم، فيجوز إحداث الكنائس وإبقاء القديمة منها، فإن الأرض لهم. وإن فتحت صلحاً على أن تكون لنا: فإن شرط إبقاء القديمة بقيت وكأنهم استثنوها. ويجوز لهم إعادة المتهدمة منها، وتطيين خارجها دون توسيعها.
؟الأمر الثامن- معرفة ما ينتقض به عهدهم: وينتقض بأمور: ومنها: قتال المسلمين بلا شبهة، ومنع الجزية، ومنع إجراء حكمنا عليهم؛ وكذا الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح، والاطلاع على عورات المسلمين وإنهاؤها لأهل الحرب. وإيواء جاسوس لهم، وقطع الطريق، والقتل الموجب للقصاص، وقذف مسلم، وسب نبي جهراً، وطعن في الإسلام أو القرآن إن شرط عليهم الانتقاض وإلا فلا. أما لو أظهر ببلد الإسلام أو الخمر أو الخنزير أو الناقوس أو معتقده في عزير والمسيح عليهما السلام أو جنازة لهم أو سقى مسلماً خمراً فإنه يعزر.