فصل: قاعدة في المحكم والمنسوخ والناسخ والنسخ:

مساءً 6 :17
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مبادئ الأصول


مبادئ الأصول
الإمام عبد الحميد بن باديس
تحقيق الدكتور عمار الطالبي
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 1)
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع
مديرية الإنتاج
مطبعة أحمد زبانة
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 2)
مبادئ الأصول
إملاء الإمام عبد الحميد بن باديس
تحقيق الدكتور عمار الطالبي
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع
الجزائر
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 3)
رقم النشر: 80/ 857
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع
الجزائر، 1980
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 4)
بسم الله الرحمن الرحيم

.تصدير:

يمثل علم الأصول في الثقافة الإسلامية منطق الاستدلال، ومنهج البحث والاستنباط في الشريعة، ولهذا العلم جوانب لغوية فلسفية في لسان العرب وأوضاعه ودلالاته، مما جعله بحق فلسفة للفقه الإسلامي ومنطقا له.
ولا غرو بعد هذا أن يأتي الشيخ مصطفي عبد الرازق (ت1366هـ - 1947م) فيعتبر "الأصول" من أهم مجالات الفكر الفلسفي الإسلامي، الذي بدت فيه أصالة هذا الفكر وإبداعه واستقلاله.
هذا، وقد ألف فيه الإمام الشافعي (ت 204هـ) رسالته المشهورة، ثم تتابع فيه التصنيف إلى يومنا هذا.
ومن أمهات هذا العلم ما ألفه فيه الإمام أحمد بن علي أبو بكر الجصاص (305 - 370هـ) وما صنفه أبو زيد الدبوسي عبيد الله بن عمر، (ت 430هـ)، وكتاب "البرهان" لإمام الحرمين الجويني (ت 478هـ) الذي نعنى منذ عدة سنوات بتحقيقه، وسيصدر
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 5)
قريبا للناس بإذن الله،وكتاب فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين البزدوي (ت482هـ)، وكتاب "المستصفى" للغزالي (ت555هـ) وكتاب الآمدي (ت631هـ)، و"منهاج الوصول إلى علم الأصول" للقاضي البيضاوي (ت685هـ) وكتاب "الموافقات" للشاطبي (ت790هـ) الذي نحا فيه مؤلفه نحوا من الإبداع لم يسبق إليه، وسلك فيه منهجا بين فيه حكمة الشريعة، ومقاصدها الجليلة.
ومن الذين ألفوا في هذا العلم من الجزائريين الإمام الأصولي الشريف محمد بن أحمد التلمساني (710 - 771هـ) الذي وصلنا كتابه "مفتاح الأصول في ابتناء الفروع على الأصول" (1) الذي اشتهر بين علماء إفريقيا الشمالية، وإفريقيا الغربية وفقهائها إلى يومنا هذا.
وكان زعيم الإصلاح في بلادنا الإمام ابن باديس يتولى تدريس هذا العلم خلال نصوص هذا الكتاب ويعلق (2) عليه، ويناقشه مع تلاميذه
__________
1 - نشره الحاج السير أحمدو بيلو رئيس حكومة نيجيريا في ذلك العهد، بإشراف الشيخ أبي بكر محمود قمي قاضي قضاة نيجيريا، دار الكتاب العربي، القاهرة 1382هـ-1962م، وطبع قبل هذا عدة طبعات.
2 - لدي بعض تعليقاته على هذا الكتاب ولعلي أنشرها مع الكتاب المشار إليه.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 6)
وأمام القارئ الكريم رسالة هامة من رسائل الإمام ابن باديس في علم الأصول، اتصل نشاطه العلمي فيها بنشاط أسلافه من القدماء، فأحيا بها البحث العلمي، والنظر في الأصول، وفي المنهج، ولم يكتفي بالفروع كما هو ديدن الفقهاء المتأخرين الذين اقتصروا على الجزئيات، ولم يلتفتوا إلى الكليات التي تنبني عليها إلا قليلا.
عثرت على هذه الرسالة عند أحد تلاميذ الإمام في مدينة قسنطينة ألا وهو الأستاذ محمد العربي بن صالح الحركاتي البنعيسي كان قد أملاها (3) ابن باديس على تلاميذه سنة 1356هـ (1938م).
أحاط فيها صاحبها على وجازتها بأهم مطالب هذا العلم ومسائله.
وأردنا بنشر هذه المخطوطة النادرة أن نحيي بها ذكرى ابن باديس الأربعين لعل همما تبعث في هذا السبيل لنشر أصول الثقافة الإسلامية، والاهتمام بهذا العلم الجوهري من علوم المسلمين، الذي كاد ينقطع درسه في هذا القطر المجاهد من أقطار الإسلام.
ولعل الله ييسر لنا فيما يستقبل من أيامنا تحليل هذه الرسالة، وبيان مجمل ما اشتملت عليه من
__________
3 - وأود أن أشكر للأستاذ محمد العربي تكرمه بالإذن لي بنقل هذه الرسالة ونشرها.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 7)
مسائل هذا العلم، الذي هو أداة المجتهد في حركة التجديد، وسلاحه في تأصيل ما يعرض للمسلمين في عصرنا هذا من مشكلات تدعو للاجتهاد والجهاد. نسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا وأن ينير سبيلنا في كل عمل ينال رضاه.
الجزائر: الخميس 3جمادي الأولى عام 1400هـ.
د. عمار طالبي.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 8)
كتاب مبادئ الأصول
إملاء الأستاذ العلامة الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس أبقاه الله لنفع الأنام.
1 - علم الأصول: معرفة القواعد التي يعرف بها كيف تستفاد أحكام الأفعال من أدلة الأحكام فانحصر الكلام في أربعة أبواب.

.الباب الأول: في أفعال المكلفين:

2 - من مقتضى عبودية العبد لربه أن يكون مطيعا له في جميع أحواله مما يفعله بجوارحه الظاهرة أو بجوارحه الباطنة، وذلك بأن يجري على مقتضى طلب الله وإذنه فيفعل ما طلب منه فعله، ويترك ما طلب منه تركه، ويختار فيما أذن له في فعله
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 9)
وتركه، إذ كل فعل من أفعاله لا بد أن يكون مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مأذونا في فعله وتركه.

.الباب الثاني: في أحكام الله تعالى:

3 - كل فعل من أفعال المكلف الظاهرة والباطنة لابد أن يكون قد تعلق به حكم من أحكام الله تعالى لأن الإنسان لم يخلق عبثا ولم يترك سدى، وحكم الله تعالى هو طلبه أو إذنه أو وضعه.
والطلب إما للفعل وإما للترك، وهو في كليهما إما على سبيل التحتيم وإما على سبيل الترجيح.
فما كان طلبا للفعل على سبيل التحتيم فهو الإيجاب.
وما كان طلبا [للفعل] على سبيل الترجيح فهو الندب أو الاستحباب.
وما كان طلبا للترك على سبيل التحتيم فهو الحظر والتحريم.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 10)
وما كان طلبا على سبيل الترجيح فهو الكراهية.
وإذنه في الفعل والترك هو الإباحة، وإنما سمي الطلب والإذن حكما، والحكم إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه.
لأن الإيجاب إذا تعلق بالفعل ثبت له هذا الوصف وهو الوجوب، فيقال فيه: واجب.
ولأن الاستحباب والندب إذا تعلق بالفعل ثبت له هذا الوصف وهو الاستحبابية والمندوبية فيقال فيه: مستحب ومندوب.
ولأن التحريم والحظر إذا تعلق بالفعل ثبت له هذا الوصف وهو الحرمة والمحظورية، فيقال فيه: حرام ومحظور.
ولأن الكراهية إذا تعلقت بالفعل ثبت له هذا الوصف وهو المكروهية فيقال فيه: مكروه.
ولأن الإذن والإباحة إذا تعلق بالفعل ثبت له هذا الوصف وهو المأذونية والإباحة فيقال فيه: مأذون فيه ومباح.
وتسمى هذه الأحكام أحكاما تكليفية لما في تحصيل المطلوب من الكلفة.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 11)

.الوضع:

4 - وأما وضعه تعالى:
فهو جعله الشيء سببا يلزم من وجوده الوجود.
ومن عدمه العدم لذاته، كدخول الوقت لوجوب الصلاة وصحتها.
أو شرطا يلزم من عدم (1) العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، كالوضوء لصحتها.
أو مانعا يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجوده وجود ولا عدم لذاته، كالوضوء لصحتها.
وإنما سمي هذا الوضع حكما لأن ما وضعه الله سببا ثبتت له السببية.
وما وضعه شرطا ثبتت له الشرطية.
وما وضعه مانعا ثبتت له المانعية.
__________
1 - كذا في الأصل، والظاهر أنه: (عدمه)
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 12)
وتسمى هذه الأحكام الثلاثة وضعية نسبة للوضع والجعل.

.تفريق ما بينهما / ما يفترقان فيه:

5 - أن الحكم التكليفي متعلقه فعل المكلف من حيث طلبه والإذن فيه.
وإن الحكم الوضعي متعلقه الأشياء التي تجعل شروطا وأسبابا وموانع، سواء كانت من فعل المكلف [كالوضوء] شرطا في الصلاة، أو لم تكن كدخول الوقت سببا في وجوبها، وأن متعلق الحكم التكليفي يطالب المكلف بتحصيله لأنه فعله.
وأن متعلق الحكم الوضعي لا يطالب المكلف بتحصيله إذا لم يكن من فعله كدخول الوقت ومرور الحول، ويطالب بتحصيله إذا كان من فعله كالطهارة واستقبال القبلة، ويكون الفعل حينئذ متعلقا للحكمين باعتبارين.

.الأحكام الشرعية في الخطابات الإلهية:

6 - كل حكم من أحكام الله تعالى فهو مستفاد من خطاب من الخطابات الموجهة إلينا.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 13)
وما تضمن منها حكما تكليفيا فهو خطاب تكليف.
وما تضمن حكما وضعيا فهو خطاب وضع، وقد تضمن الخطاب الحكمين معا.
أمثلة ذلك:
فمن قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [2] عرفنا الحكم الذي هو الإيجاب للصلاة.
ومن قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [3] عرفنا الحكم الذي هو التحريم [للزنا].
ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الماشي للصلاة أنه: «تكتب له بكل خطوة حسنة وتمحى عنه بالأخرى سيئة» (4) عرفنا الحكم الذي هو استحباب كثرة الخطى إلى المساجد.
ومن قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
__________
2 - ورد هذا في آيات كثيرة أولها في البقرة آية 43 وآخرها في المزمل آية 20 فهي واردة في 16 آية.
3 - الإسراء 32.
4 - البخاري: باب الصلاة، مسلم: باب الصلاة أبو داود: باب الصلاة. وأخرج مسلم في باب المساجد ومالك في النداء: (أن يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة).
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 14)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [5] عرفنا الحكم الذي هو كراهة الحلف على الامتناع من الصدقة.
ومن قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [6] عرفنا الحكم الذي هو الإذن في الانتشار.
ومن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [7] عرفنا الحكم الذي وضعه تعالى دخول الوقت سببا لإقامة الصلاة.
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» [8] عرفنا الحكم الذي هو وضعه تعالى الوضوء شرطا في الصلاة.
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم» [9] عرفنا الحكم
__________
5 - النور/ 22.
6 - الجمعة/ 15.
7 - الإسراء/ 78.
8 - أخرجه البخاري في باب الوضوء. ومسلم في باب الطهارة. والترمذي في باب الطهارة. وأبو داود في باب الطهارة. وأحمد ابن حنبل في باب الطهارة.
9 - أخرجه البخاري في باب الحيض.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 15)
الذي هو وضعه تعالى الحيض مانعا من الصلاة والصوم.
ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [10] الآية عرفنا الحكم الذي هو إيجاب الوضوء، وعرفنا الحكم الذي هو وضعه تعالى الوضوء شرطا في الصلاة فاشتمل الخطاب على الحكم التكليفي والوضعي معا.

.تتميم وتقسيم:

7 - ينقسم الحكم أيضا إلى: عزم وترخيص.
فما كان حكما ابتدائيا عاما في جميع الأحوال فهو عزم، والفعل الذي تعلق به يسمى عزيمة كإيجاب الصلاة والصوم وتحريم الخمر.
وما كان حكما سهلا شرع بعد حكم صعب في حالة خاصة لأجل العذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فهو ترخيص، والفعل الذي تعلق به يسمى
__________
10 - المائدة/ 6.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 16)
رخصة، كقصر الصلاة والفطر في [السفر]، والمسح على الخف، وإساغة الغصة بالخمر.

.تصحيح وإبطال:

8 - وينقسم أيضا إلى: تصحيح وإبطال:
التصحيح: الحكم بالصحة في العبادات وعقود المعاملات استيفاء العقد والعبادات للشروط المعتبرة فيه شرعا، وسلامته من الموانع بحيث يقع على الوجه المشروع، وما تعلقت به الصحة منها صحيح، وإبطال الحكم لإبطال العقد أو العبادة.
والبطلان والفساد هو اختلال العبادة أو العقد لتخلف شرط أو وجود مانع بحيث تكون العبادة أو العقد وقعت على غير الوجه المشروع، وما تعلق به منهما فهو باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» [11] رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.
__________
11 - أخرجه البخاري في باب الاعتصام والبيوع وابن ماجة وابن حنبل.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 17)

.مقتضيات الحكم:

.9 - الحاكم هو الله تعالى:

وكل حاكم من الخلق فإنما يكون حاكما شرعا إذا كان يحكم بحكم الله يتحراه ويقصده، لقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [12] {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [13] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} -إلى- {اللَّهُ} [14]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [15].

.المحكوم فيه:

10 - هو فعل المكلف الظاهر والباطن: ولم يكلف الله العباد إلا بما في مقدورهم ولا حرج عليهم فيه [فلا] تكليف بغير المقدور كقيام المقعد للصلاة، ولا بما فيه حرج كقيام المريض لها، لقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [16]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
__________
12 - الأنعام/57.
13 - المائدة/49.
14 - لتحكم بين الناس بما أراك الله- النساء/105
15 - المائدة/47.
16 - البقرة/286.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 18)
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [17]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [18].

.المحكوم عليه:

11 - وهو المكلف البالغ العاقل المختار دون الصبي والمجنون والمعتوه والمكره.

.المخاطب بالأحكام:

12 - إذا كان الخطاب بحكم وضعي فهو على عمومه للمكلف وغيره، ولهذا ألزم الصبي والمجنون أرش جنايتهما ووجبت الزكاة بملك النصاب في مالهما.
وإن كان الخطاب بحكم تكليفي فهو لخصوص المكلفين.
ثم الخطاب التكليفي إن كان مما يتوقف عليه مصلحة كل فرد توقفا مباشرا توجه لكل فرد، وسمي الخطاب خطابا عينيا ويسمى المطلوب به
__________
17 - البقرة/286.
18 - الحج/78.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 19)
مطلوبا عينيا واجبا كان أو مندوبا، كالصلاة والصوم والحج والصدقة فرضها ونفلها ولا يسقط الطلب فيه عن أحد بقيام غيره به.
وإن كان مما تتوقف عليه مصلحة المجموع، ومصلحة الفرد من حيث أنه جزء من المجموع توجه للمجموع وسمي الخطاب خطابا كفائيا، ويسمى المطلوب به كفائيا واجبا كأن الطلب كطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو مندوبا كإفشاء السلام وتشميت العاطس، ويسقط الطلب عن المجموع إذا قام به بعضهم ويكفي فيه عن كل أحد غيره، ومن هذا القسم جاء قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [19]، {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [20].
__________
19 - آل عمران/104.
20 - منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون- التوبة/122.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 20)

.الباب الثالث: أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس:

.13 - الكتاب:

هو القرآن العظيم وهو الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف المنقولة إلينا بالتواتر المحفوظ بحفظ الله من التبديل والتغيير، وهو أصل الأدلة إذ كلها يرجع إليه، واستدل على حجتها به، فالسنة بيانه، والإجماع لا يكون إلا عن دليل منه أو من السنة.
والقياس لا يكون إلا على أصل ثبت حكمه بالكتاب والسنة والإجماع.

.14 - السنة:

هي ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وهي حجة في دين الله بالإجماع، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [21]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى: {تَأْوِيلًا} [22]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ
__________
21 - الحشر/7.
22 - فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا. النساء/59.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 21)
لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} إلى: {مُبِينًا} [23]، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [24] الآية، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [25].
أو تجيء السنة لبيان الكتاب لقوله تعالى:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل عليهم} [26]، وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (27).
وتستقل بالتشريع لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} [28] الآية.
وقد روى الشيخان أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله.
قال: فبلغ
__________
23 - {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}. الأحزاب/36.
24 - النور/63.
25 - (رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) / النساء/61.
26 - النحل/44.
27 - النحل/64.
28 - الحشر/7.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 22)
ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب. وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال لها: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه [29]. قال الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [30] الآية. فقالت: إني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن. فقال: اذهبي فانظري. قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا، فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا. فقال: أما لو كان ذلك لم أجامعها.

.15 - الإجماع:

هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على حكم شرعي، وهو حجة لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
__________
29 - كذا في الأصل.
30 - الحشر/7.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 23)
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [31].
وهو قسمان:
عملي: نقلته الأمة كلها كالصلاة والصيام.
ونظري: وهو إما أن يكون مبنيا على النظر والاجتهاد عن أدلة قطعية، أو عن أدلة ظنية، وهذا وقوعه ممكن، ولكن معرفته متعذرة لانتشار المجتهدين في الآفاق وكثرة عددهم إلا إجماع الصحابة قبل انتشارهم فمنحصر عدد المجتهدين منهم.

.16 - القياس:

هو إلحاق فرع مجهول [الحكم] بأصل معلوم الحكم في ذلك الحكم لوصف جامع ما بينهما يكون هو سبب الحكم الثابت الأصل، مع انتفاء الفارق بين الأصل والفرع، كإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم للإسكار الجامع ما بينهما الذي هو علة تحريمه.
__________
31 - النساء/ 115.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 24)

.الباب الرابع: في القواعد الأصولية:

.17 - تمهيد:

الأدلة قسمان:
أدلة تفصيلية، وأدلة إجمالية:
فالأول هي آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام.
وسميت تفصيلية لدلالة كل واحد منها على حكم مخصوص لفعل.
والثانية هي القواعد الأصولية، وسميت إجمالية لدخول جملة كثيرة من الأدلة التفصيلية تحت كل واحدة منها، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} دليل تفصيلي في حكم الصلاة، وقاعدة الأمر للوجوب دليل إجمالي، لشموله الأمر الذي في هذه الآية وغيره. وبمعرفة الدليل التفصيلي وما ينطبق عليه من الدليل الإجمالي يستفاد الحكم فيقال مثلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أمر بالصلاة والأمر للوجوب، فأقيموا الصلاة أمر بوجوب الصلاة، فالصلاة واجبة، ومرجع الأدلة التفصيلية الكتاب والسنة وما ذكره الأئمة من الإجماعات والأقيسة، ومرجع الأدلة الإجمالية كتب الأصول.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 25)

.قاعدة في حمل اللفظ:

18 - يحمل اللفظ على حقيقته دون مجاز إلا لقرينة أو دليل يحمل اللفظ على المعنى العرفي للمتكلم، دون المعنى اللغوي أو العرفي لغيره، وتحمل ألفاظ الكتاب والسنة على المعاني الشرعية دون اللغوية أو العرفية غير الشرعية.

.قاعدة في الأمر:

19 - صيغة الأمر إذا جاءت للطلب محمولة على الوجوب إلا لقرينة أو دليل، ولا تقتضي فورا ولا تكرارا فلا يعلمان إلا بقرينة أو دليل، والمرة ضرورية للامتثال وتقتضي طلب ما لا يحصل المطلوب إلا به.

.قاعدة في النهي:

20 - صيغة النهي للتحريم إلا لقرينة أو دليل وتقتضي الفور ودوام الترك، وتقتضي فعل ضد من أضداد المنهي عنه.

.قاعدة في الأخذ بالمأمورية والترك للمنهي عنه:

21 - يفعل من المأمور به المستطاع ويترك المنهي عنه جملة لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أمرتكم
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 26)
بشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»
رواه مسلم والنسائي.

.قواعد المفهوم والمنطوق:

22 - كل معنى استفيد من جوهر اللفظ لأنه هو المعنى الذي وضع له اللفظ فهو المنطوق، كالشخص الموصوف بالعلم من لفظة عالم في قولك: إذا سألت فاسأل العالم.
وكل معنى استفيد من ذكر اللفظ وليس اللفظ موضوعا له فهو المفهوم، كالشخص الموصوف بالجهل في المثال المذكور، فإنه يخطر في الذهن عند ذكر العالم لأنه ضد معناه.
والضد يخطر بالبال عند خطور ضده.
كل معنى استفيد من ذكر اللفظ وهو ضد المعنى الذي وضع له اللفظ فإنه يعطي نقيض حكم المنطوق، ويسمى مفهوم المخالفة، لمخالفته للمنطوق في الحكم كما في المثال السابق ويسمى دليل الخطاب.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 27)
وكل معنى استفيد من ذكر اللفظ وليس ضدا للمنطوق فإنه يعطي حكم المنطوق ويسمى مفهوم موافقة.
ثم إن كان مماثلا للمنطوق في الوصف الذي استحق به الحكم كان مفهوما بالمساواة ويسمى لحن الخطاب، كتحريم إتلاف مال اليتيم من تحريم أكله في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [32] لتساويهما في التعدي والظلم والتضييع على اليتيم.
وإن كان أقوى منه في الوصف الذي استحق به الحكم كان مفهوم موافقة بالأحروية ويسمى فحوى خطاب كتحريم الضرب من تحريم قول أف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [33]، لأن الفعل أشد من القول في الإساءة.
__________
32 - النساء.2.
33 - الإسراء/23.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 28)

.أنواع دليل الخطاب:

23 - مفهوم الصفة كقوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [34]
مفهوم الشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [35].
مفهوم الغاية كقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [36].
مفهوم العدد كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [37].
مفهوم الحصر كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق» [38].
__________
34 - النساء/23.
35 - الطلاق/6.
36 - البقرة/230.
37 - النور/4.
38 - أخرجه البخاري في باب الصلاة، ومسلم في باب العتق، وابن ماجة والموطأ في باب الطلاق.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 29)
مفهوم الزمان كقوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [39].
مفهوم المكان كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [40].

.تقييد:

24 - لا يحتج بالمفهوم إذا خرج الكلام مخرج الغالب كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [41].
أو جاء الكلام لتصوير الواقع كقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [42].
أو جاء على حسب ما هو الشأن كقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [43].
__________
39 - البقرة/184.
40 - آل عمران/97.
41 - النساء/23.
42 - آل عمران/130.
43 - البقرة/187.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 30)
أو جاء للتفخيم والتأكيد كقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [44].
وإذا عارضه نص كما في قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [45] فقد ثبت في السنة القولية والفعلية قصر الصلاة مع عدم الخوف.
قاعدة [النص]:
25 - كل ما دل على معنى واحد دون احتمال لغيره فهو نص في ذلك المعنى، كالأعلام وألفاظ الأعداد.

.قاعدة الظاهر:

26 - كل ما دل على معنى واحتمل غيره احتمالا مرجوحا فهو الظاهر الدلالة على ذلك المعنى، ويتعين حمله على ذلك المعنى، كاسم الجنس في معناه الأصلي، والعام في استغراق جميع أفراده.
__________
44 - البقرة/236.
45 - النساء/101.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 31)

.قاعدة المؤول:

27 - كل ما دل على المعنى المرجوح بسبب الدليل فهو المؤول إلى ذلك المعنى الذي صار الآن متعينا كاسم الجنس في غير معناه الأصلي لأجل القرينة والعام في بعض أفراده لأجل المخصص.

.قاعدة في المبين:

28 - كل لفظ استقل في الدلالة على المراد منه فهو المبين سواء كان نصا أم ظاهرا فيحمل على معناه دون توقف فيه.

.قاعدة في المجمل:

29 - كل لفظ دل على معنى ولم يتعين المراد منه بنفسه فيجب التوقف فيه حتى يتضح المراد منه ببينة.

.أسباب الإجمال:

30 - منها الاشتراك في الوضع كالقرء للطهر والحيض، والنقل الشرعي كالصلاة والزكاة، وصلوحية الوصف للشيئين كالذي يتولى عقدة النكاح من الزوج والولي.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 32)

.قاعدة المبين:

31 - كل ما بان المراد منه بسبب غيره فهو المبين قولا أو فعلا أو غيرهما.

.قاعدة في العام:

32 - كل لفظ استغرق ما صلح له دفعة واحدة من غير حصر فهو العام، ويجب أن يحمل على عمومه لظهوره في العموم حتى يثبت ما يخصصه ببعض أفراده فيخرج منه ما اقتضى الدليل المخصص إخراجه، ويبقى على عمومه فيما عداه.

.صيغ العموم:

33 - أسماء الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» [46]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقت السهام» [47] وكقول السائل: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟
__________
46 - أخرجه البخاري في باب الحرب وأبو داود في باب الإمارة والترمذي في باب الأحكام ومالك في الموطأ باب الأقضية والدارمي في باب البيوع وأحمد بن حنبل.
47 - أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 33)
والموصولات كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [48].
والمعرف بـ"ال" الجنسية الاستغراقية فيه كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [49].
وقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [50].
والنكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام الإنكاري كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» [51]، وقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [52]، وقوله عليه السلام: «من آذى ذميا كنت خصمه يوم القيامة» [54] وقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [55].
__________
48 - البقرة/234.
49 - المائدة/38.
50 - النساء/34.
51 - أخرجه ابن ماجة في باب الزكاة.
52 - الحجرات/14.
53 - أخرجه الشيخان.
54 - النمل/60.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 34)
والمضاف إلى المعرفة عندما يقصد به الاستغراق كقوله عليه السلام: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» [55] وقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [56].

.قاعدة في فرق العام:

34 - كل عام لم يدخله تخصيص فهو العام الباقي على عمومه وإليه ينصرف لفظ العام عند الإطلاق.
وكل عام أريد بلفظه عند استعماله بعض أفراده فهو العام الذي أريد به الخصوص، وهو ضرب من المجاز كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا} [57] إذ لم يرد جميع الناس في الموضعين.
وكل عام أريد به جميع أفراده وأخرج منه بعضها بمختص [58] فهو العام المخصوص.
__________
55 - أخرجه البخاري في الأذان ومسلم والنسائي ومالك وأحمد ابن حنبل.
56 - محمد/33.
57 - آل عمران/173.
58 - كذا في الأصل، والظاهر أنه (بمخصص).
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 35)

.قاعدة في التخصيص:

35 - كل إخراج لبعض أفراد العام من اللفظ العام فهو تخصيص ولا يشمل الأفراد المخرجة حكم العام.

.قاعدة في المخصص وتقسيمه:

36 - كل ما كان به الإخراج المذكور فهو المخصص فإن كان لا يستقل بنفسه فهو المخصص المتصل.
كالاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا بسواء» [59] وقوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [60].
وكالشرط في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [61].
__________
59 – البخاري: «إلا سواء بسواء»، وأخرجه مسلم بلفظ: «مثلا بمثل». وأحمد بن حنبل في مسنده.
60 - التوبة/7.
61 - التوبة/7.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 36)
وكالصفة في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [62].
وكالغاية في قوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [63] فالتخصيص بهذه تخصيص بالمفهوم.
وإن كان مستقلا بنفسه فهو المخصص المنفصل كتخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [64].
وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [65] تخصيصا للكتاب بالكتاب.
وكتخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر» [66] بقوله صلى الله عليه
__________
62 - التوبة/4.
63 - التوبة/4.
64 - البقرة/228.
65 - الطلاق/4.
66 - أخرجه البخاري في الباب 55 وهو باب الزكاة ومسام في باب الزكاة.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 37)
وسلم: «ليس فيما دون النصاب صدقة» [67] تخصيصا للسنة بالسنة.
وكتخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ» [68] لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [69] تخصيصا للسنة بالكتاب.
وكتخصيص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} [70] الآية بقوله عليه السلام: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» [71] تخصيصا للكتاب بالسنة.
وقد يخصص اللفظ بالقياس كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
__________
67 - أخرجه مسلم في الباب5، 6 في الزكاة والنسائي في الزكاة (الباب 21، 23).
68 - أخرجه البخاري والترمذي في باب الطهارة وأحمد بن حبل.
69 - النساء/43.
70 - النساء/41.
71 - أخرجه أحمد بن حنبل والبخاري في باب الحج (باب 44)، ومسلم في باب 26 الفرائض.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 38)
جَلْدَةٍ} [72] خصص منه العبد قياسا على الأمة المخصصة بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [73].

.قاعدة في المطلق والمقيد:

37 - كل ما دل على فرد أو فردين أو أفراد على سبيل الشيوع بدون قيد فهو المطلق، سواء كان اسما أو فعلا فيحمل على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده.
وكل ما دل على ما ذكر بقيد فهو المقيد، ويجب اعتبار قيده.

.قاعدة في حمل المطلق على المقيد:

38 - مهما اتحدت صورة [74] الإطلاق وصورة [75] التقييد في الحكم إلا وحمل المطلق على المقيد سواء أتحدتا في السبب أم لا.
__________
72 - النور/ 2.
73 - النساء/ 23.
74 - في الأصل: "سورة ".
75 - في الأصل: "سورة ".
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 39)
فالأولى كقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [76]، المفيد المطلوبية ذكر مطلق فحمل على قوله عليه السلام: «تحريمها التكبير» [77] المفيد تقييد الذكر بالتكبير لأن السبب في الصورتين واحد وهو إرادة الدخول في الصلاة. والحكم فيها واحد وهو مطلوبية ما نفتتح به من الذكر.
والثاني كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [78] المفيد تحرير رقبة مطلقا فحمل على قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [79] المفيد تقييدها بالإيمان والحكم في الصورتين واحد وهو مطلوبية تحرير رقبة وإن اختلف السبب، إذ هو في الأولى الظهار وفي الثانية قتل الخطأ. ومهما اختلف الحكم في الصورتين إلا
__________
76 - الأعلى/13.
77 - أخرجه أبو داود في باب الطهارة والترمذي ومالك وابن ماجة وأحمد بن حنبل والدارمي.
78 - المجادلة/3.
79 - النساء/92.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 40)
وامتنع حمل المطلق في إحداهما على المقيد في الأخرى، سواء اتحد السبب أم اختلف. فالأول كقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (80) المفيد مطلوبية صيام الشهرين [بقيد] التتابع مع قوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) (81) المفيد مطلوبية الإطعام بإطلاق فلا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم [فيهما] باعتبار متعلقه. وإن اتحد السبب فيهما وهو الظهار.
والثاني كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مع قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، فإن الحكم في الأولى هو طلب القطع والسبب فيها هو السرقة، والحكم في الثانية هو طلب الغسل والسبب فيها إرادة القيام للصلاة.

.قاعدة في المحكم والمنسوخ والناسخ والنسخ:

39 - كل دليل شرعي من الكتاب والسنة استمر حكمه ولم يرفع جملة بدليل آخر منهما فهو
__________
80 - المجادلة/4.
81 - المجادلة/4.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 41)
المحكم. وكل دليل منهما رفع حكمه جملة بدليل آخر منهما فهو المنسوخ.
وكل دليل منهما رفع به الشرع حكما ثابتا بدليل سابق منهما فهو الناسخ.
فكل رفع لحكم ثابت بدليل متقدم جملة بدليل متأخر لولاه لاستمر الحكم الأول فهو النسخ.

.متى يحكم بالنسخ؟:

40 - يحكم بالنسخ إذا تعارض الدليلان الصحيحان ولم يمكن الجمع بينهما وعلم المتقدم من المتأخر والأقدم الصحيح أو جمع ما بينهما أو توقف.

.صورة النسخ:

41 - يدخل النسخ الأحكام ولا يدخل الأخبار، حكمة النسخ مراعاة المصلحة، وتدريب [الأمة] على تلقي الأحكام والتنبيه على المصالح في التشريع، فقد ينتفع بذلك عند اختيار ما يطبق على الأمة من أقوال أئمة الفتوى والاجتهاد.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 42)

.وجوه النسخ وأقسامه:

42 - ينسخ [الرسم] ويبقى الحكم كآية الرجم، وهي ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)).
وينسخ [الحكم] ويبقى [الرسم] كآية الحول في العدة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [82] الآية.
ونسخ الرسم والحكم كحديث مسلم وغيره: (أنزل عشر رضعات معلومات) [83]، فنسخ بحكم، (بخمس معلومات) [84].
ويكون النسخ إلى بدل كنسخ استقبال بيت المقدس.
وإلى غير بدل كصدقة المناجاة.
ويكون إلى ما هو أخف كآية المصابرة في القتال.
__________
82 - البقرة/240.
83 - أخرجه الدارمي بلفظ: (نزل القرآن بعشر رضعات معلومات)، ومسام في باب الرضاع، ومالك في باب الرضاع.
84 - أخرجه أبو داود في باب النكاح، والدارمي في باب النكاح، ومالك في الموطأ في الرضاع.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 43)
وإلى ما هو أثقل كنسخ التخيير بين الفدية والصوم بتعيين الصوم.
وينسخ الكتاب بالكتاب كآية العدة والمصابرة.
وتنسخ السنة بالكتاب كمسألة القبلة.
وتنسخ السنة بالسنة كحديث: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» [85].
وينسخ الكتاب بالسنة كآية الوصية للوالدين والأقربين بحديث: «لا وصية لوارث» [86].

.تنبيه:

43 - ما ذكر من القواعد يطبق على خصوص الكتاب والسنة ويبقى من السنة فعله صلى الله عليه وسلم وتقريره.
__________
85 - أخرجه مسلم في باب الجنائز والأضاحي، وأبو داود في باب الجنائز والأشربة.
86 - أخرجه البخاري في باب الوصايا، وأبو داود في الوصايا والبيوع، والترمذي والنسائي وابن ماجة في الوصايا.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 44)

.قواعد في أفعاله صلى الله عليه وسلم:

44 - كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه القربة فهو فيه أسوة حسنة للأمة إلا إذا قام الدليل على تخصيصه به (أي في العبادات والمعاملات).
وكل ما فعله صلى الله عليه وسلم على وجه القربة فهو دائر بين الوجوب والاستحباب ويترجح أحدهما بالدليل.
وكل ما واظب عليه فهو أرجح مما فعله مرة أو نحوها.
وكل ما تركه من صور العبادات فليس بقربة.
وكل ما فعله ([للخلقة] البشرية) [87] فليس في نفسه ولا للتأسي ولكن هيئته التي أوقعه عليها هي أفضل هيئة وهي محل الأسوة.
__________
87 - كذا في الأصل.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 45)

.قواعد في تقريره صلى الله عليه وسلم:

45 - كل ما قيل أو فعل بين يديه أو بلغه وأقره فهو على ما أقره عليه.
وكل ما قيل أو فعل في زمانه وكان مشتهرا شهرة يبعد أن تخفى عليه فهو مثل ما فعل بين يديه.

.تنبيه ثان:

46 - تختص السنة عن الكتاب بقواعد تتعلق بها من ناحية ثبوتها لأنها من هذه الناحية ليست على درجة واحدة، بخلاف القرآن فكله متواتر.
فكل حديث صحيح أو حسن، فإنه صالح للاستدلال به في الأحكام.
وكل حديث ضعيف فإنه غير صالح لذلك.
وكل ما ثبت طلب فعله أو تركه بدليل معتبر فإنه يقبل ما جاء للترغيب فيه أو الترهيب منه في حديث ضعيف لم يشتد ضعفه.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 46)

.خاتمة في الاجتهاد والتقليد والاتباع:

47 - الاجتهاد هو بدل الجهد في استنباط الحكم من الدليل الشرعي بالقواعد، وأهله هو المتبحر في علوم الكتاب والسنة ذو الإدراك الواسع لمقاصد الشريعة، والفهم الصحيح للكلام العربي.

.الاتباع والتقليد:

48 - التقليد هو أخذ لقول المجتهد دون معرفة لدليله، وأهله هو من لا قدرة له على فهم الدليل وهم العامة وغير المتعاطين لعلوم الشريعة واللسان.

.الاتباع:

49 - هو أخذ قول المجتهد مع معرفة دليله ومعرفة كيفية أخذه للحكم من ذلك الدليل، حسب القواعد المتقدمة، وأهله هم المتعاطون للعلوم الشرعية واللسانية الذين حصلت لهم ملكة صحيحة فيهما، فيمكنهم عند اختلاف المجتهدين معرفة مراتب الأقوال في القوة والضعف، واختيار ما يترجح منها، واستثمار ما في الآيات والأحاديث من أنواع المعارف
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 47)
المفيدة في إنارة العقول وتزكية النفوس وتقويم الأعمال. ولهذا كان حقا على المعلمين والمتعلمين للعلوم الشرعية واللسانية أن يجروا في تعليمهم وتعلمهم على ما يوصل إلى هذه الرتبة على الكمال.
انتهى هذا الكتاب المبارك يوم 28 ذي القعدة سنة 1356 [88] على يد كاتبه الفقير إلى ربه محمد العربي ابن صالح الحركاتي ثم البنعيسي وفقه الله إلى ما يحبه ويرضاه وأحسن ختامه وجعل الجنة مأواه آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
__________
88: الموافق لـ 30 جانفي 1938.
(النسخة المطبوعة رقم الصفحة: 48)