الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/وَقَالَ شيخ الإِسلام: الناس في القراءة خلف الإمام متنازعون في الوجوب والاستحباب: فقيل تكره مطلقاً، كما هو قول أبي حنيفة، وغيره. وقيل: بل تجب بالفاتحة مطلقا كما هو قول الشافعي في الجديد، وغيره. وهو قول ابن حزم، وزاد لا تشرع بغير ذلك بحال. وقيل: بل تجب بها في صلاة السر فقط، كقوله القديم. والإمام أحمد ذكر إجماع الناس على أنها لا تجب في صلاة الجهر. والجمهور على أنها لا تجب ولا تكره مطلقا، بل تستحب القراءة في صلاة السر، وفي سكتات الإمام بالفاتحة وغيرها، كما هو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وأما إذا لم يكن للإمام سكتات فقرأ فيها. فهل تكره القراءة، أم تستحب بالفاتحة؟ فيه قولان. فمذهب أحمد وجمهور أصحابه أنها تكره بالفاتحة وغيرها، واختار طائفة أنها تستحب / حينئذ بالفاتحة، وهو اختيار جدي، وهو قول الليث، والأوزاعي. وحجة هذا القول شيئان: أحدهما: أن في قراءتها خروجًا من الاختلاف في وجوبها، فإنه إذا لم يقرأ، ففي صحة صلاته خلاف، بخلاف ما إذا قرأ فإنما يفوته الاستماع حين قراءتها فقط. الثاني: الحديث الذي في السنن حديث عبادة: (إذا كنتم ورائي ـ أو وراء الإمام ـ فلا تقرؤوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) وهو حجة الموجبين. وهؤلاء يقولون: النهي إنما هو حال استماع قراءة الإمام فقط، فأما في غير ذلك، فالقراءة مشروعة. فعلم أنه يستثني الفاتحة حال النهي عن غيرها، وهذا يفيد قراءتها حال استماع الجهر. ثم هنا ثلاثة أقوال: قيل: إنها واجبة، وإنه لا يقرأ بغيرها بحال. كما قاله ابن حزم. وقيل: بل هي واجبة، والنهي عن القراءة بغيرها حال الجهر، فلا يفيد النهي مطلقاً. وقيل: بل يفيد استثناء قراءتها من النهي، والاستثناء من النهي/ لا يفيد الوجوب. وقوله: (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، تعليل بوجوب قراءتها في الصلاة. فإن كونها ركناً اقتضي أن تستثني في هذه الحال للمأموم، وإن لم تكن مفروضة عليه، كفرائض الكفايات إذا قام بها طائفة سقط بها الفرض ثم قام بها آخرون فإنه يقال: هي فرض على الكفاية، وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير؛ ولهذا يقال: الجنازة تفعل في أوقات النهي؛ لأنها فرض، وإن فعلت مرة ثانية في أصح الوجهين؛ لأنها تفعل فرضاً في حق هؤلاء، وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير. وقراءة الفاتحـة هي ركن، وللمأموم أن يجتزئ بقراءة إمامه، وله أن يسقطها بنفسه. وهـذا كما في صدقة الفطر التي يتحملها الإنسان عن غيره، كصدقة الزوجة، فإنها هل تجب على الزوج ابتداء، أو تحملاً؟ على وجهين: أصحهما: أنها تحمل، فلو أخرجتها الزوجـة لجاز، فتكـون الزوجـة مخـيرة بين أن تخرجها، وبين أن تلزم الزوج بإخراجها، فلو أخرجـها الزوج ثم أخرجتها هي، ولم تعتـد بذلك الإخراج، لكان. لكن الإمام لابد له مـن قراءة، وهـو يتحمل القـراءة عن المأموم. فالقراءة الواحدة تجزي عن إمامه وعنه، وإن قرأ هـو عـن نفسـه فحسن، كسائر فروض الكفايات، لكن هذا فرض عين على الأئمة. /وأما الذين كرهوا القراءة في حال استماع قراءة الإمام مطلقاً، وهم الجمهور، فحجتهم قوله تعالى: ومن أجاب عن هذا بأن الآية مخصوصة بغير حال قراءة الفاتحة، فجوابه من وجوه: أحدها: ما ذكره الإمام أحمد من إجماع الناس على أنها نزلت في الصلاة وفي الخطبة، وكذلك قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا). وأيضاً: فالمستمع للفاتحة هو كالقارئ؛ ولهذا يؤمن على دعائها. وقال: (إذا أمَّن القارئ فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وأما الإنصات المأمور به حال قراءة الإمام، فهو من باب المتابعة للإمام، فهو فاعل للاتباع المأمور به، أي بمقصود القراءة، وإذا قرأ الفاتحة ترك المتابعة المأمور بها بالإنصات، وترك الإنصات المأمور به في القرآن، ولم يعتض عن هذين الأمرين إلا بقراءة الفاتحة التي حصل المقصود منها باستماعه قراءة الإمام، وتأمينه عليها. وكان قد ترك الإنصات المأمور به إلى غير بدل، ففاته هذا الواجب، ولم يعتض عنه إلا ما حصل مقصوده بدونه. ومعلوم أنه إذا دار / الأمر بين تفويت أحد أمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما، كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه. وأيضاً، فلو لم يكن المستمع كالقارئ، لكان المستحب حال جهره بغير الفاتحة أن يقرأ المأموم. فلما اتفق المسلمون على أن المشروع للمأموم حال سماع القراءة المستحبة أن يستمع ولا يقرأ، علم أنه يحصل له مقصود القراءة بالاستماع، وإلا كان المشروع في حقه التلاوة، بل أوجبوا عليه الإنصات حال القراءة المستحبة. فالإنصات حال القراءة الواجبة أولى. وأما الحديث، فقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره، ولفظ الحديث الذي في الصحيحين ليس فيه إلا قول مطلق. وأيضا، فإن صح حمل على الإمام الذي له سكتات، يقرر ذلك أن لفظه ليس فيه عموم، فإنه قد روي أنه قال: (إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بأم الكتاب)، وهذا استثناء من النهي لهم عن القراءة خلفه. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان، كما روي ذلك سَمرة وأبي بن كعب. كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين، والدعاء الذي روى أبو هريرة في هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة، فكيف إذا قرأ بعضها في سكتة، وبعضها في سكتة أخري. فحينئذ، لا يكون في قوله: (إذا كنتم ورائي فلا تقرؤوا إلا بأم القرآن)، دليل على أنه يقرأ بها في حال الجهر. /فإن هذا استثناء من النهي فلا يفيد إلا الإذن المطلق، بمعني أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها، لا يمكن قراءتها في حال سكتاته. يؤيـد هـذا أن جمهور المنازعـين يسلمون أنـه في صـلاة السـر يقرأ بالفاتحـة وغيرهـا، ويسلمون أنه إذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة في سكتات الإمام قرأ، وأن البعيد الذي لا يسمع يقرأ بالفاتحة، وبما زاد، فحينئذ، يكون هذا النهي خاصاً فيمن صلى خلفه في صلاة الجهر. واستثناء قراءة الفاتحة لإمكان قراءتها في سكتاته. يبين هذا أن لفظ الحديث في الصحيحين من رواية الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن). وفي رواية: (بفاتحة الكتاب). وأما الزيادة فرواها عن عبادة بن الصامت، قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم)، قلنا: نعم، يا رسول الله. قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، والدارقطني، وقال: إسناده حسن. /ورواها عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فالتبست عليه القراءة. فلما انصرف أقبل علينا بوجهه، وقال: (هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟) فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: (فلا، وأنا أقول: ما لي أنازع القرآن، فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن). رواه أبو داود، واللفظ له والنسائي والدارقطني. وله أيضاً: (لا يجوز صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب) وقال: إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات. ففي هذا الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم: هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان قد أمرهم بذلك، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم، لم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم، ولم يكن يحتاج إلى استفهامه. فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر، ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون، نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب، وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر، سواء كان بالفاتحة أو غيرها، فالعلة متناولة للأمرين، فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباهسا على الإمام منهي عنه. /وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الإمام واجبة، أو مستحبة، فيثقلون القراءة على الإمام، ويلبسونها عليه، ويلبسون على من يقاربهم الإصغاء والاستماع الذي أمروا به، فيفوتون مقصود جهر الإمام، ومقصود استماع المأموم. ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها، ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرؤون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع، فلا يكون فيه فائدة لقوله: (إذا أمن فأمنوا). ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه، ولا استمعه أحد منهم، إلا أن يقال: إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرؤون، وهم لا يوجبون السكوت الذي يسع قدر القراءة، وإنما يستحبونه. فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه، ولو كانت القراءة على المأموم واجبة، لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتاً فيه ذكر، أو سكوتاً محضا، ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم. يحقـق ذلك أنه قد أوجـب الإنصات حـال قـراءة الإمام، كما في صحيح مسـلم عن أبي موسي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: (أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا). ورواه من حديث أبي هريرة ـ أيضاً ـ قال: قال رسول الله / صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا). رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي. قيل لمسلم بن الحجاج: حديث أبي هريرة هو صحيح، يعني: (إذا قرأ فأنصتوا) قال: عندي صحيح. قيل له:لم لا تضعه هاهنا؟ ـ يعني في كتابه ـ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا. إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه، يعني من طريق أبي هريرة لم يجمع عليها، وأجمع عليها من رواية أبي موسي، ورواها من طريق أبي موسي مسلم. ولم يروها مسلم من طريق أبي هريرة. وعن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقـراءة فقال: (هل قرأ؟) ـ يعني أحداً منا آنفًا ـ قال رجل: نعم، يا رسول الله. قال: (إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟) فانتهي الناس عن القراءة معه صلى الله عليه وسلم، فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن. قال أبو داود سمعت محمد بن يحيي بن فارس قال قوله: فانتهي الناس عن القراءة، إلى آخره. من قول الزهري، وروي البخاري نحو ذلك، فقد قال البيهقي: ابن أُكَيمَة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث / وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري، وجواب ذلك من وجوه: أحدها: أنه قد قال فيه أبو حاتم الرازي: صحيح الحديث، حديثه مقبول، وتزكية أبي حاتم هو في الغاية. وحكى عن أبي حاتم البُستي أنه قال: روي عنه الزهري، وسعيد بن أبي هلال، وابن ابنه عمرو بن مسلم بن عمارة بن أُكَيمَة بن عمر. الثاني: أن يقال: ليس في حديث ابن أُكَيمَة إلا ما في حديث عبادة الذي اعتمده البيهقي، ونحوه. من أنهم قرؤوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم. وأنه قال: (ما لي أنازع القرآن). الثالث: إن حديث ابن أُكَيمَة رواه أهل السنن الأربعة، فإذا كان هذا الحديث هو مسلم بصحة متنه، وأن الحديث الذي احتج به والذي احتج به منازعوه قد اتفقا على هذه الرواية، كان ما اتفقا عليه معمولا به بالاتفاق، وما في حديثه من الزيادة قد انفرد بها من ذلك الطريق، ولم يروها إلا بعض أهل السنن، وطعن فيها الأئمة، وكانت الزيادة المختلف فيها أحق بالقدح في الأصل المتفق على روايته. وأما قوله: فانتهي الناس، فهذا إذا كان من كلام الزهري كان تابعاً، فإن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله / صلى الله عليه وسلم، وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان، فجزم الزهري بهذا من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعد ما كانوا يفعلونه، وهذا يؤيد ما تقدم ذكره، ويوافق قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ولم يستثن فاتحة ولا غيرها. وتحقق أن تلك الزيادة إما ضعيفة الأصل، أو لم يحفظ راويها لفظها، وأن معناها كان مما يوافق سائر الروايات، وإلا فلا يمكن تغيير الأصول الكلية الثابتة في الكتاب والسنة في هذا الأمر المحتمل. والله أعلم. وتمام القول في ذلك يتضح بما رواه مسلم في صحيحه عن عمـران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اســم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: (أيكم قرأ؟) أو (أيكم القارئ؟) قال رجل: أنــا، فقــال: (قد ظننت أن بعضكم خالجنيها). ففي هذا الحديث أن منهم من قــرأ خلفه في صلاة الســر بزيادة على الفاتحة، ومع ذلك لم ينههم عن ذلك، وذلك إقرار منه لهم على القراءة خلفه بالزيادة على الفاتحة في صلاة السر، خلافا لمن قال لا يقرأ خلفه بحال، أو لا يقرأ بزيادة على الفاتحة. وقوله:(قد ظننت أن بعضكم خالجنيها) ليس فيه نهي عن أصل/ القراءة،وإنما يفهم منه، أنه لا ينبغي للمأموم أن يرفع حسه بحيث يخالج الإمام، كما يفعل بعض المأمومين، وكما قد يفعل الإمام. كما قال أبو قتادة: كان يسمعنا الآية أحيانا. وفيه ـ أيضاً ـ: دليل على أنه لم يأمرهم بالقراءة خلفه في السر، لا بالفاتحة، ولا غيرها. إذ لو كان أمرهم بذلك لم ينكر القراءة خلفه، وهو لم ينكر قراءة سورة معينة، بل قال: (أيكم قرأ؟) أو: (أيكم القارئ؟)، بل من المعلوم في العادة أن القارئ خلفه لم يقرأ بسبح إلا بعد الفاتحة، فهذا يدل على أنه لا تجب القراءة على المأموم في السر، لا بالفاتحة ولا غيرها. كما يدل على ذلك حديث أبي بكر لما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة حين ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف، ثم رجع يقرأ من حيث انتهي أبو بكر، وكما في حديث أبي بكرة الذي رواه البخاري في صحيحه لما ركع دون الصف، ثم دخل في الصلاة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصا ولا تعد). ولو كانت قراءة الفاتحة فرضاً على المأموم مطلقاً لم تسقط بسبق، ولا جهل. كما أن الأعرابي المسيء في صلاته قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، وأمر الذي صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة. /وأيضاًً، فتحمل الإمام القراءة عن المأموم لا يمنع أن يكون للمأموم أن يقرأ فيأتي هو بالكمال في ذلك، فإن ذلك خير من السكوت الذي لا استماع معه، وهذا أمر معلوم متيقن من الشريعة أن القارئ للقرآن أفضل من الساكت الذي لا يستمع قراءة غيره، وهو داخل في قوله: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). فكراهة هذا العمل الصالح الذي يحبه الله ورسوله لا وجه له أصلا، وهذا بخلاف المستمع فإن استماعه يقوم مقام قراءته. ودليل ذلك اتفاقهم على أنه مأمور حال القراءة المستحبة بالإنصات إما أمر إيجاب، وإما أمر استح باب، وأنه مكروه لهم القراءة حال الاستماع، فلولا أن الاستماع كالقراءة، بل وأفضل: لم يكن مأموراً بالإنصات منهياً عن القراءة، فإن الله لا يأمر بالأدنى وينهى عن الأفضل. ومما يؤيد ذلك قوله في حديث عبادة: (فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت بالقراءة، إلا بأم القرآن). فإنما نهاهم عن القراءة إذا جهر، وكذلك قول الزهري: فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. /وهـذا المفسـر يقيـد المطلق في اللفـظ الآخر. قال: (تقرؤون خلف إمامكم؟) قلنا: نعم، قـال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) يعني في الجهر. ويبين ـ أيضاً ـ ما رواه أحمد في المسـند عن عبد الله بن مسعود قال: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (خلطتم على القـرآن). فهذا لا يكـون في صـلاة جهـر، أو في صـلاة سـر رفع المأموم فيها صـوته حتى سمعـه الإمـام، وإلا فالمأموم الذي يقرأ سراً في نفسه لا يخلط على الإمام، ولا يخلـط عليه الإمـام، بخلاف المأموم الذي يقرأ حال قراءة الإمام، فإن الإمام قطعاً يخلط عليه، حتى أن مـن المأمـومين مـن يعيد الفاتحة مرات لأن صوت الإمام يشغله قطعاً. بل إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل المأموم يخلط عليه ويلبس ويخالج الإمام، فكيف بالإمام في حال جهره مع المأموم، والمأموم يلبس على المأموم حال الجهر؛ لأنه إذا جهر وحده كان أدني حس يلبس عليه، ويثقل عليه القراءة، فإن لم تكن الأصوات هادئة هدوءاً تاما، وإلا ثقلت عليه القراءة ولبس عليه، وهذا أمر محسوس. ولهذا تجد الذين يشهدون سماع القصائد سماع المكاء والتصدية يشوشون بأدني حس، وينكرون على من يشوش. وكذلك من قرأ القرآن خارج الصلاة، فإنه يشوش عليه بأدني حس، فكيف من يقرأ في الصلاة، ولو قرأ قارئ خارج الصلاة على جماعة وهم لا ينصتون له، بل / يقرؤون لأنفسهم لتشوش عليه. فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل في هذه المسألة، والله أعلم. والأثار المروية عن الصحابة في هذا الباب تبين الصواب، فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام. فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء. رواه مسلم. ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة، وهو عالم أهل المدينة، فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة، لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء. وقوله: مع الإمام، إنما يتناول من قرأ معه حال الجهر. فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا، ولا هذا مع هذا، وكلام زيد هذا ينفي الإيجاب والاستحباب، ويثبت النهي والكراهة. وعن وهب بن كَيسَان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل؛ إلا وراء الإمام. رواه مالك في الموطأ. وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وهو من أعيان تلك الطبقة، وروي مالك ـ أيضاً ـ عن نافع عن عبد الله ابن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم / خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده، فليقرأ. قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام، وابن عمر من أعلم الناس بالسنة، وأتبعهم لها. ولو كانت القراءة واجبة على المأموم، لكان هذا من العلم العام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملاً عاماً، ولكان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر، حتى يتركه مع كونه واجباً عام الوجوب على عامة المصلين، قد بين بيانا عاماً، بخلاف ما يكون مستحباً، فإن هذا قد يخفى. وروي البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت للقرآن، فإن في الصلاة لشغلا، وسيكفيك ذاك الإمام. فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام؛ لأجل الإنصات. والاشتغال به لم ينهه إذا لم يكن مستمعاً كما في صلاة السر، وحال السكتات. فإن المأموم ـ حينئذ ـ لا يكون منصتاً ولا مشتغلا بشيء. وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين، ومبين لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. /وحديث جابر الذي تقدم قد روي مرفوعا،ومسندا، ومرسلا، فأما الموقوف على جابر فثابت بلا نزاع، وكذلك المرسل ثابت بلا نزاع. من رواية الأئمة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). وأما المسند فتكلم فيه. رواه ابن ماجه من حديث جابر الجِعْفِي، عن جابر بن عبد الله. وجابر الجِعْفِي كذبه أيوب، وزائدة، ووثقه الثوري وسعيد. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، ولا كرامة، ليس بشيء. وقال النسائي: متروك. وروي أبو داود عن أحمد أنه قال: لم يتكلم في جابر لحديثه، إنما تكلم فيه لرأيه. قال أبو داود: ليس عندي بالقوي من حديثه، قوله: (فقراءة الإمام له قراءة)، لا تدل على أنه لا يستحب للمأموم القراءة، كما احتج بذلك من احتج به من الكوفيين، فإن قوله: (قراءة الإمام له قراءة)، دليل على أن له أن يجتزئ بذلك، وأن الواجب يسقط عنه بذلك، لا يدل على أنه ليس له أن يقرأ كما في مواضع كثيرة، وله أن يسقط الواجب بفعل غيره، وله أن يفعله هو بنفسه. وكذلك المستحب. وأقصي ما يقدر أن يكون هو كأنه قد قرأ. ثم إن أذكار الصلاة واجبها ومستحبها، إذا فعلها العبد مرة، لم / يكره له أن يفعلها في محلها مرة ثانية لغرض صحيح، مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد الآية الواحدة، كما ردد قوله:
/وَقَال أيضاً: وأما القراءة خلف الإمام: فالناس فيها طرفان، ووسط. منهم: من يكره القراءة خلف الإمام، حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم، سواء في ذلك صلاة السر والجهر، وهذا هو الغالب على أهل الكوفة، ومن اتبعهم: كأصحاب أبي حنيفة. ومنهم: من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة، وإن سمع الإمام يقرأ، وهذا هو الجديد من قولي الشافعي، وقول طائفة معه. ومنهم: من يأمر بالقراءة في صلاة السر، وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر، والبعيد الذي لا يسمع الإمام. وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه؛ إقامة للاستماع مقام التلاوة. وهذا قول الجمهور: كمالك، وأحمد، وغيرهم،/ من فقهاء الأمصار، وفقهاء الآثار. وعليه يدل عمل أكثر الصحابة، وتتفق عليه أكثر الأحاديث. وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم: هل هي مبنية على صلاة الإمام؟ أم كل واحد منهما يصلى لنفسه؟ كما تقدم التنبيه عليه. فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها، ومبنية عليها مطلقاً، حتى أنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام. وأصل الشافعي: أن كل رجل يصلي لنفسه، لا يقوم مقامه لا في فرض ولا سنة؛ ولهذا أمر المأموم بالتسميع، وأوجب عليه القراءة، ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام، إلا في مواضع مستثناة، كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو، وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقاً. وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي، ونحو ذلك. وأما مالك وأحمد: فإنها مبنية عليها من وجه دون وجه. كما ذكرناه من الاستماع للقراءة في حال الجهر، والمشاركة في حال المخافتة، ولا يقول المأموم عندهما: سمع الله لمن حمده، بل يحمد جواباً لتسميع الإمام، كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وهي مبنية عليها. فيما يعذران فيه، دون ما لا يعذران، كما تقدم في الإمامة.
/ فأجاب: القراءة خلف الإمام في الصلاة لا تبطل عند الأئمة ـ رضوان الله عليهم ـ لكن تنازع العلماء أيما أفضل في حق المأموم؟ فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أن الأفضل له أن يقرأ في حال سكوت الإمام: كصلاة الظهر، والعصر، والأخيرتين من المغرب والعشاء، وكذلك يقرأ في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءته. ومذهب أبي حنيفة: أن الأفضل ألا يقرأ خلفه بحال، والسلف ـ رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين ـ منهم من كان يقرأ، ومنهم من كان لا يقرأ خلف الإمام. وأما إذا سمع المأموم قراءة الإمام، فجمهور العلماء على أنه يستمع ولا يقرأ بحال، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم. ومذهب الشافعي أنه يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، ومذهب / طائفة كالأوزاعي وغيره من الشاميين يقرأها استحباباً، وهو اختيار جدنا. والذي عليه جمهور العلماء هو الفرق بين حال الجهر، وحال المخافتة، فيقرأ في حال السر، ولا يقرأ في حال الجهر، وهذا أعدل الأقوال؛ لأن الله تعالى قال:
فأجاب: اختلف الفقهاء فيما تدرك به الجمعة والجماعة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما لا يدركان إلا بركعة، وهو مذهب مالك، / وأحمد في إحدي الروايتين عنه اختارها جماعة من أصحابه، وهو وجه في مذهب الشافعي، واختاره بعض أصحابه أيضاً ـ كأبي المحاسن الرياني، وغيره. والقول الثاني: أنهما يدركان بتكبيرة، وهو مذهب أبي حنيفة. والقول الثالث: أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، والجماعة تدرك بتكبيرة، وهذا القول هو المشهور من مذهب الشافعي، وأحمد. والصحيح هو القول الأول؛ لوجوه: أحدها: أن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئاً من الأحكام، لا في الوقت، ولا في الجمعة، ولا الجماعة، ولا غيرها. فهو وصف ملغي في نظر الشارع، فلا يجوز اعتباره. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الأحكام بإدراك الركعة، فتعليقها بالتكبيرة إلغاء لما اعتبره، واعتبار لما ألغاه، وكل ذلك فاسد فيما اعتبر فيه الركعة، وعلق الإدراك بها في الوقت. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أدرك أحدكم ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب / الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته). وأما ما في بعض طرقه: (إذا أدرك أحدكم سجدة)، فالمراد بها الركعة التامة، كما في اللفظ الآخر. ولأن الركعة التامة تسمي باسم الركوع، فيقال: ركعة. وباسم السجود فيقال: سجدة. وهذا كثير في ألفاظ الحديث، مثل هذا الحديث وغيره. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الإدراك مع الإمام بركعة، وهو نص في المسألة. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة)، وهذا نص رافع للنزاع. الرابع: أن الجمعـة لا تدرك إلا بركعـة، كما أفتي به أصحاب رسـول الله صلى الله عليه وسلم: منهم ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم. ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف. وقد حكى غير واحـد أن ذلك إجماع الصحابة، والتفـريق بين الجمعـة والجماعة غير صحيح؛ ولهذا أبو حنيفـة طـرد أصله، وسـوي بينهما، ولكن الأحـاديث الثابتة وآثار الصحابـة تبطـل مـا ذهب إليه. الخامس: أن ما دون الركعة لا يعتد به من الصلاة، فإنه يستقبلها / جميعها منفرداً، فلا يكون قد أدرك مع الإمام شيئاً يحتسب له به، فلا يكون قد اجتمع هو والإمام في جزء من أجزاء الصلاة يعتد له به، فتكون صلاته جميعاً صلاة منفرد. يوضح هذا أنه لا يكون مدركاً للركعة إلا إذا أدرك الإمام في الركوع، وإذا أدركه بعد الركوع لم يعتد له بما فعله معه، مع إنه قد أدرك معه القيام من الركوع والسجود، وجلسة الفصل، ولكن لما فاته معظم الركعة وهو القيام والركوع ـ فاتته الركعة، فكيف يقال مع هذا أنه قد أدرك الصلاة مع الجماعة، وهو لم يدرك معهم ما يحتسب له به، فإدراك الصلاة بإدراك الركعة، نظير إدراك الركعة بإدراك الركوع؛ لأنه في الموضعين قد أدرك ما يعتد له به، وإذا لم يدرك من الصلاة ركعة، كان كمن لم يدرك الركوع مع الإمام في فوت الركعة؛ لأنه في الموضعين لم يدرك ما يحتسب له به، وهذا من أصح القياس. السادس: أنه ينبني على هذا: أن المسافر إذا ائتم بمقيم وأدرك معه ركعة فما فوقها، فإنه يتم الصلاة، وإن أدرك معه أقل من ركعة، صلاها مقصورة، نص عليه الإمام أحمد في إحدي الروايتين عنه، وهذا لأنه بإدراك الركعة قد ائتم بمقيم في جزء من صلاته، فلزمه الإتمام، وإذا لم يدرك معه ركعة فصلاته صلاة منفرد فيصليها مقصورة. /وينبني عليه ـ أيضاً ـ أن المرأة الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس بقدر ركعة، لزمها العصر، وإن طهرت قبل الفجر بقدر ركعة، لزمها العشاء، وإن حصل ذلك بأقل من مقدار ركعة، لم يلزمها شيء. وأما الظهر والمغرب: فهل يلزمها بذلك؟ فيه خلاف مشهور. فقيل: لا يلزمها وهو قول أبي حنيفة. وقيل: يلزمها وهو مذهب مالك، والشافعي وأحمد، ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف. ثم اختلف هؤلاء فيما تلزم به الصلاة الأولى على قولين: أحدهما: تجب بما تجب به الثانية، وهل هو ركعة. أو تكبيرة؟ على قولين: والثاني: لا تجب، إلا بأن تدرك زمناً يتسع لفعلها، وهو أصح. وقريب من هذا اختلافهم فيما إذا دخل عليها الوقت وهي طاهرة ثم حاضت، هل يلزمها قضاء الصلاة أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يلزمها، كما يقوله مالك، وأبو حنيفة. والثاني: يلزمها، كما يقوله الشافعي، وأحمد. /ثم اختلف الموجبون عليها الصلاة فيما يستقر به الوجوب على قولين: أحدهما: قدر تكبيرة، وهو المشهور في مذهب أحمد. والثاني: أن يمضي عليها زمن تتمكن فيه من الطهارة وفعل الصلاة، وهو القول الثاني في مذهب أحمد، والشافعي. ثم اختلفوا بعد ذلك: هل يلزمها فعل الثانية من المجموعتين مع الأولى؟ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد. والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لا يلزمها شيء، لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيراً جائزاً فهي غير مفرطة. وأما النائم أو الناسي ـ وإن كان غير مفرط أيضاً ـ فإن ما يفعله ليس قضاء، بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر. كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها). وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد بقضاء صلاة بعد وقتها، وإنما وردت السنة بالإعادة في الوقت لمن ترك واجباً من واجبات الصلاة كأمره للمسيء في صلاته بالإعادة لما ترك الطمأنينة المأمور بها، وكأمره لمن صلى خلف الصف منفرداً بالإعادة لما ترك المصافة الواجبة، وكأمره / لمن ترك لمعة من قدمه لم يصبها الماء بالإعادة لما ترك الوضوء المأمور به وأمر النائم والناسي بأن يصليا إذا ذكرا، وذلك هو الوقت في حقهما والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
فأجاب: أما مسابقة الإمام، فحرام، باتفاق الأئمة. لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله. وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، كقوله في الحديث الصحيح: (لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت، تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدنت). وقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، وإذا كبر وسجد، فكبروا، واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك). /وكقوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، وهذا لأن المؤتم متبع للإمام مقتد به، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه، وقدوته. فإذا تقدم عليه، كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله، كما جاء في حديث آخر: (مثل الذي يتكلم والخطيب يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً). ومن فعل ذلك، استحق العقوبة والتعزير الذي يردعه، وأمثاله، كما روي عن عمر: أنه رأي رجلا يسابق الإمام، فضربه. وقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت. وإذا سبق الإمام سهواً، لم تبطل صلاته، لكن يتخلف عنه بقدر ما سبق به الإمام، كما أمر بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن صلاة المأموم مقدرة بصلاة الإمام، وما فعله قبل الإمام سهواً، لا يبطل صلاته؛ لأنه زاد في الصلاة ما هو من جنسها سهواً، فكان كما لو زاد ركوعا أو سجوداً سهواً، وذلك لا يبطل بالسنة والإجماع، ولكن ما يفعله قبل الإمام لا يعتد به على الصحيح؛ لأنه فعله في غير محله؛ لأن ما قبل فعل الإمام ليس وقتاً لفعل المأموم، فصار بمنزلة من صلى قبل الوقت، أو بمنزلة من كبر قبل تكبير الإمام، فإن هذا لا يجزئه عما أوجب الله عليه، بل لابد أن يحرم إذا حل الوقت لا قبله، وأن يحرم المأموم إذا أحرم الإمام، لا قبله. فكذلك المأموم / لابد أن يكون ركوعه وسجوده إذا ركع الإمام وسجد، لا قبل ذلك، فما فعله سابقاً وهو ساه عفي له عنه، ولم يعتد له به، فلهذا أمره الصحابة والأئمة أن يتخلف بمقداره ليكون فعله بقدر فعل الإمام. وأما إذا سبق الإمام عمداً، ففي بطلان صلاته قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره. ومن أبطلها قال: إن هذا زاد في الصلاة عمدا فتبطل، كما لو فعل قبله ركوعا أو سجوداً عمداً. فإن الصلاة تبطل بلا ريب، وكما لو زاد في الصلاة ركوعًا أو سجودًا عمدًا. وقد قال الصحابة للمسابق: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت. ومن لم يصل وحده، ولا مؤتما، فلا صلاة له. وعلى هذا، فعلى المصلي أن يتوب من المسابقة، ويتوب من نقر الصلاة، وترك الطمأنينة فيها، وإن لم ينته فعلى الناس كلهم أن يأمروه بالمعروف الذي أمره الله به، وينهوه عن المنكر الذي نهاه الله عنه. فإن قام بذلك بعضهم وإلا أثموا كلهم. ومن كان قادرا على تعزيره وتأديبه على الوجه المشروع، فعل ذلك، ومن لم يمكنه إلا هجره ـ وكان ذلك مؤثراً فيه ـ هجره، حتى يتوب. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد للَّه، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة، بل هي بدعة. والله أعلم.
|