فصل: تفسير الآيات (38- 45):

صباحاً 6 :45
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (29- 37):

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} يداومون على تلاوة القرآن {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} أي مسرين النفل ومعلنين الفرض يعني لا يقتنعون بتلاوته عن حلاوة العمل به {يَرْجُونَ} خبر {إنّ} {تجارةً} هي طلب الثواب بالطاعة {لَّن تَبُورَ} لن تكسد يعني تجارة ينتفى عنها الكساد وتنفق عند الله {لِيُوَفّيَهُمْ} متعلق ب {لَّن تَبُورَ} أي ليوفيهم بنفاقها عنده {أُجُورَهُمْ} ثواب أعمالهم {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم أو بتضعيف حسناتهم أو بتحقيق وعد لقائه. أو {يَرْجُونَ} في موضع الحال أي راجين. واللام في {لِيُوَفّيَهُمْ} تتعلق ب {يَتْلُونَ} وما بعده أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق لهذا الغرض وخبر {إنّ} {إِنَّهُ غَفُورٌ} لفرطاتهم {شَكُورٍ} أي غفورٌ لهم شكور لأعمالهم أي يعطي الجزيل على العمل القليل {والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} أي القرآن. و{من} للتبيين {هُوَ الحق مُصَدّقاً} حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه من الكتب {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} فعلمك وأبصر أحوالك ورآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي حكمنا بتوريثه {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الإنتماء إلى أفضل رسله. ثم رتبهم على مراتب فقال: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} وهو المرجأ لأمر الله {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} [التوبة: 100] الآية وقال بعده: {وَءَاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] الآية وقال بعده: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ الله} [التوبة: 106] الآية. والحديث فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وعنه عليه السلام: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة» رواه أبو الدرداء.
والأثر فعن ابن عباس رضي الله عنهما: السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقول السلف فقد قال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما.
وقال الحسن البصري: الظالم من رجحت سيئاته، والسابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون، وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده فإنه قال: {فَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمُ} {وَمِنْهُمُ} والكل راجع إلى قوله {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور. وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل: إنما قدمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربه. وقيل: إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة. وقال سهل: السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل. وقال أيضاً: السابق الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل: الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل: الظالم من أخذ الدنيا حلالاً كانت أو حراماً، والمقتصد من يجتهد أن لا يأخذها إلا من حلال، والسابق من أعرض عنها جملة. وقيل: الظالم طالب الدنيا، والمقتصد طالب العقبي، والسابق طالب المولى {بِإِذُنِ الله} بأمره أو بعلمه أو بتوفيقه {ذلك} أي إيراث الكتاب {هُوَ الفضل الكبير*جنات عَدْنٍ} خبر ثان ل {ذلك} أو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر {يَدْخُلُونَهَا} أي الفرق الثلاثة {يَدْخُلُونَهَا}: أبو عمرو {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} جمع أسورة جمع سوار {مّن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} أي من ذهب مرصع باللؤلؤ {ذَهَبٍ} بالنصب والهمزة: نافع وحفص عطفاً على محل {مِنْ أَسَاوِرَ} أي يحلون أساور ولؤلؤاً {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} لما فيه من اللذة والزينة.
{وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} خوف النار أو خوف الموت أو هموم الدنيا {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} يغفر الجنايات وإن كثرت {شَكُورٌ} يقبل الطاعات وإن قلت {الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} أي الإقامة لا نبرح منها ولا نفارقها يقال أقمت إقامة ومقاماً ومقامة {مِن فَضْلِهِ} من عطائه وإفضاله لا باستحقاقنا {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب ومشقة {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} إعياء من التعب وفترة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {لغُوبٌ} بفتح اللام وهو شيء يلغب منه أي لا نتكلف عملاً يلغبنا {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} جواب النفي ونصبه بإضمار (أن) أي لا يقضى عليهم بموت ثانٍ فيستريحوا {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} من عذاب نار جهنم {كذلك} مثل ذلك الجزاء {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} {يجزى كُلَّ كَفُورٍ}: أبو عمرو {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثون فهو يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة، واستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث {رَبَّنَا} يقولون ربنا {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} أي أخرجنا من النار ردنا إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر ونطع بعد المعصية فيجاوبون بعد فدر عمر الدنيا {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} يجوز أن يكون {ما} نكرة موصوفة أي تعميراً يتذكر فيه من تذكر وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم.
ثم قيل: هو ثمان عشرة سنة. وقيل: أربعون. وقيل: ستون سنة {وَجَاءكُمُ النذير} الرسول عليه السلام أو المشيب وهو عطف على معنى {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ} لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه إخبار كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير {فَذُوقُواْ} العذاب {فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} ناصر يعينهم.

.تفسير الآيات (38- 45):

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}
{إِنَّ الله عالم غَيْبِ السماوات والأرض} ما غاب فيهما عنكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} كالتعليل لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كل غيب في العالم. وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه: ذو بطن خارجة جاريةٌ. أي ما في بطنها من الحبل لأن الحبل يصحب البطن. وكذا المضمرات تصحب الصدور وذو موضوع لمعنى الصحبة {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف في الأرض} يقال للمستخلف خليفة ويجمع على خلائف، والمعنى أنه جعلكم خلفاء في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة {فَمَن كَفَرَ} منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله وخسار الآخرة كما قال: {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} وهو أشد البغض {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} هلاكاً وخسراناً {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ} آلهتكم التي أشركتموهم في العباد {الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} {أَرُونِىَ} بدل من {أَرَءَيْتُمْ} أخبروني كأنه قيل: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السماوات} أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات {أَمْ ءاتيناهم كتابا فَهُمْ على بينات مِّنْهُ} أي معهم كتاب من عند الله ينطق أنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب. {بينات} علي وابن عامر ونافع وأبو بكر {بَلْ إِن يَعِدُ} ما يعد {الظالمون بَعْضُهُم} بدل من {الظالمون} وهم الرؤساء {بَعْضًا} أي الأتباع {إِلاَّ غُرُوراً} هو قولهم {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18]. {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع {وَلَئِن زَالَتَآ} على سبيل الفرض {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} ما أمسكهما {مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} من بعد إمساكه. و(من) الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية للابتداء {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدَّا هدًّا لعظم كلمة الشرك كما قال: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض} [مريم: 90] الآية.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} نصب على المصدر أي إقساماً بليغاً أو على الحال أي جاهدين في أيمانهم {لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم} بلغ قريشاً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم أي من الأمة التي يقال فيها هي إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة كما يقال للداهية العظيمة هي إحدى الدواهي {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} أي ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق وهو إسناد مجازي {استكبارا في الأرض} مفعول له وكذا {وَمَكْرَ السيئ} والمعنى وما زادهم إلا نفوراً للاستنكار ومكر السيء، أو حال يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصل قوله ومكر السيء وأن مكروا السيء أي المكر السيء، ثم ومكراً السيء ثم ومكر السيء والدليل عليه وقوله {وَلاَ يَحِيقُ} يحيط وينزل {المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} ولقد حاق بهم يوم بدر وفي المثل: (من حفر لأخيه جباً وقع فيه مكباً) {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتُ الأولين} وهو إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم، والمعنى فهل ينظرون بعد تكذيبك إلا أن ينزل بهم العذاب مثل الذي نزل بمن قبلهم من مكذبي الرسل، جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} بين أن سنته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل سنة لا يبدلها في ذاتها ولا يحولها عن أوقاتها وأن ذلك مفعول لا محالة.
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم {وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ} من أهل مكة {قُوَّةَ} اقتداراً فلم يتمكنوا من الفرار {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ} ليسبقه ويفوته {مِن شَئ} أيّ شيء {فِى السماوات وَفِى الارض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً} بهم {قَدِيراً} قادراً عليهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} بما اقترفوا من المعاصي {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} على ظهر الأرض لأنه جرى ذكر الأرض في قوله {لِيُعْجِزَهُ مِن شَئ في السماوات وَلاَ في الأرض} [فاطر: 44] {مِن دَآبَّةٍ} من نسمة تدب عليها {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} إلى يوم القيامة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} أي لم تخف عليه حقيقة أمرهم وحكمة حكمهم والله الموفق للصواب.

.سورة يس:

.تفسير الآيات (1- 11):

{يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
{يس} عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه يا إنسان في لغة طيء، وعن ابن الحنفية يا محمد، وفي الحديث: «إن الله سماني في القرآن بسبعة أسماء: محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله» وقيل يا سيد. {يَاسِين} بالإمالة: علي وحمزة وخلف وحماد ويحيى {والقرءان} قسم {الحكيم} ذي الحكمة أو لأنه دليل ناطق بالحكمة أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جواب القسم وهو رد على الكفار حين قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلاً} [الرعد: 43] {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر أوصلة ل {المرسلين} أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم أي طريقة مستقيمة وهو الإسلام {تَنزِيلَ} بنصب اللام: شامي وكوفي غير أبي بكر على (اقرأ تنزيل) أو على أنه مصدر أي نزل تنزيل، وغيرهم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل والمصدر بمعنى المفعول {العزيز} الغالب بفصاحة نظم كتابه أو هام ذوي العناد {الرحيم} الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام أولي الرشاد. واللام في {لِتُنذِرَ قَوْماً} متصل بمعنى المرسلين أي أرسلت لتنذر قوماً {مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} {ما} نافية عند الجمهور أي قوماً غير منذر آباؤهم على الوصف بدليل قوله {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} [القصص: 46] {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44]. أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني أي العذاب الذي أنذره آباؤهم كقوله {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] أو مصدرية أي لتنذر قوماً إنذار آبائهم أي مثل إنذار آبائهم {فَهُمْ غافلون} إن جعلت {ما} نافية فهو متعلق بالنفي أي لم ينذروا فهم غافلون وإلا فهو متعلق بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين لّتُنذِرَ}. كما تقول (أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل أو فهو غافل) {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} يعني قوله: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] أي تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.
ثم مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله بقوله {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا فَهِىَ إِلَى الأذقان} معناه فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها {فَهُم مُّقْمَحُونَ} مرفوعة رءوسهم. يقال: قمح البعير فهو قامح إذا روي فرفع رأسه وهذا لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجاً من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحاً {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} بفتح السين: حمزة وعلي وحفص.
وقيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله كالجبل ونحوه فبالضم {فأغشيناهم} فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} الحق والرشاد. وقيل: نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره {وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي سواء عليهم الإنذار وتركه، والمعنى من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار. ورُوي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية على غيلان القدري فقال: كأني لم أقرأها أشهدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: اللهم إن صدق فتب عليه وإن كذب فسلط عليه من لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من عنده فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} أي إنما ينتفع بإنذارك من اتبع القرآن {وَخشِىَ الرحمن بالغيب} وخاف عقاب الله ولم يره {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} وهي العفو عن ذنوبه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي الجنة.