الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (8- 22): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ويريدون أن يغيظوهم ويوهموهم في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته، {وينتجون} حمزة وهو بمعنى الأول {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} يعني أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك يا محمد. والسام الموت والله تعالى يقول: {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} النمل: 59)، {ياأيها الرسول} [المائدة: 67]، {ياأيها النبى} [الأحزاب: 1] {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} أي يقولون فيما بينهم لو كان نبياً لعاقبنا الله بما نقوله فقال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذاباً {يَصْلَوْنَهَا} حال أي يدخلونها {فَبِئْسَ المصير} المرجع جهنم. {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين والظاهر أنه خطاب للمؤمنين {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي إذا تناجيتم فلا تشبهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر {وتناجوا بالبر} بأداء الفرائض والطاعات {والتقوى} وترك المعاصي {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر {إِنَّمَا النجوى} بالإثم والعدوان {مِنَ الشيطان} من تزيينه {لِيَحْزُنَ} أي الشيطان وبضم الياء: نافع {الذين ءامَنُواْ وَلَيْسَ} الشيطان أو الحزن {بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بعلمه وقضائه وقدره {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان. {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس} (في المجلس) توسعوا فيه، {فِى المجالس} عاصم ونافع والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه. وقيل: هو المجلس من مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]. مقاتل في صلاة الجمعة {فافسحوا} فوسعوا {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر غير ذلك {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} انهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير {فَانشُزُواْ} بالضم فيهما: مدني وشامي وعاصم غير حماد {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ} بامتثال أوامره وأوامر رسوله {والذين أُوتُواْ العلم} والعالمين منهم خاصة {درجات والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وفي الدرجات قولان: أحدهما في الدنيا في المرتبة والشرف، والآخر في الآخرة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صلى الله عليه وسلم: «عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة» وعنه صلى الله عليه وسلم «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وعن ابن عباس رضي الله عنهما: خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه. وقال صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم» وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فات من أدرك العلم. وعن الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال، والعلوم أنواع فأشرها أشرفها معلوماً. {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول} إذا أردتم مناجاته {فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} أي قبل نجواكم وهي استعارة ممن له يدان كقول عمر رضي الله عنه: من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته {ذلك} التقديم {خَيْرٌ لَّكُمْ} في دينكم {وَأَطْهَرُ} لأن الصدقة طهرة {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} ما تتصدقون به {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في ترخيص المناجاة من غير صدقة. قيل: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل: ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ. وقال علي رضي الله عنه: هذه آية من كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مسائل فأجابني عنها. قلت: يا رسول الله ما الوفاء؟ قال: «التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قلت: وما الفساد؟ قال: الكفر والشرك بالله قلت: وما الحق؟ قال: الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك قلت: وما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة قلت: وما عليّ؟ قال: طاعة الله وطاعة رسوله قلت: وكيف أدعو الله تعالى؟ قال: بالصدق واليقين قلت: وماذا أسأل الله؟ قال: العافية قلت: وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال: كل حلالاً وقل صدقاً قلت: وما السرور؟ قال: الجنة قلت: وما الراحة؟ قال: لقاء الله فلما فرغت منها نزل نسخها». {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} ما أمرتم به وشق عليكم {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه {فَأَقِمُواْ الصلاوة وَءَاتُواْ الزكاوة وَأَطِعُواْ الله وَرَسُولِهُ} أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وهذا وعد ووعيد. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم} كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] وينقلون إليهم أسرار المؤمنين {مَّا هُم مّنكُمْ} يا مسلمون {وَلاَ مِنْهُمْ} ولا من اليهود كقوله: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143] {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي يقولون والله إنا لمسلمون لا منافقون {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون منافقون {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} نوعاً من العذاب متفاقماً {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة. {اتخذوا أيمانهم} الكاذبة {جَنَّةُ} وقاية دون أموالهم ودمائهم {فَصَدُّواْ} الناس في خلال أمنهم وسلامتهم {عَن سَبِيلِ الله} عن طاعته والإيمان به {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وعدهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم كقوله {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} [النحل: 88] {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} من عذاب الله {شَيْئاً} قليلاً من الإغناء {أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أي لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا على ذلك {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ} في الدنيا {على شَئ} من النفع أو يحسبون أنهم على شيء من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا هاهنا {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة. {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} استولى عليهم {فأنساهم ذِكْرَ الله} قال شاه الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان} جنده {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون}. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأذلين} في جملة من هو أذل خلق الله تعالى لا ترى أحداً أذل منهم {كتاب الله} في اللوح {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} بالحجة والسيف أو بأحدهما {إِنَّ الله قَوِىٌّ} لا يمتنع عليه ما يريد {عَزِيزٌ} غالب غير مغلوب. {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ} هو مفعول ثان ل {تَجِدُ} أو حال أو صفة ل {قَوْماً} وتجد بمعنى تصادف على هذا {مَنْ حَادَّ الله} خالفه وعاداه {وَرَسُولُهُ} أي من الممتنع أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في الزجر عن مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم. وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} وبقوله {أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي أثبته فيها وبمقابلة قوله {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان} بقوله {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} أي بكتاب أنزله فيه حياة لهم، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان أي بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها. وقال سهل: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ويظهر له من نفسه العداوة، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن، ومن أجاب مبتدعاً لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب. {وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ} بتوحيدهم الخالص وطاعتهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} أنصار حقه ودعاة خلقه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب الآمنون من كل مرهوب. .سورة الحشر: .تفسير الآيات (1- 10): {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السماوات وَمَا في الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} رُوي أن هذه السورة نزلت بأسرها في بني النضير، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالف أبا سفيان عند الكعبة فأمر صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة، ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات. {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} يعني يهود بني النضير {مِن ديارهم} بالمدينة. واللام في {لأَِوَّلِ الحشر} تتعلق ب {أَخْرَجَ} وهي اللام في قوله تعالى: {ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} [الفجر: 24] وقولك جئته لوقت كذا. أي أخرج الذين كفروا عند أول الحشر. ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشأم وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشأم، أو هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، أو آخر حشرهم حشر يوم القيامة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: من شك أن المحشر بالشأم فليقرأ هذه الآية، فهم الحشر الأول وسائر الناس الحشر الثاني. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خرجوا: «امضوا فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر» قتادة: إذا كان آخر الزمان جاءت نار من قبل المشرق فحشرت الناس إلى أرض الشأم وبها تقوم عليهم القيامة. وقيل: معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله} أي ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله. والفرق بين هذا التركيب وبين النظم الذي جاء عليه أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً ل(أَن) وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغازاتهم، وليس ذلك في قولك (وظنوا أن حصونهم تمنعهم). {فأتاهم الله} أي أمر الله وعقابه وفي الشواذ {فآتاهم الله} أي فآتاهم الهلاك {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه رضاعاً. {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} الخوف {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين} {يُخْرِبُونَ} أبو عمرو. والتخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم، والخَرُبة الفساد وكانوا يخرّبون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا تبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديّار، والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج. وأما المؤمنون فداعيهم إلى التخريب إزالة متحصنهم وأن يتسع لهم مجال الحرب. ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه {فاعتبروا ياأولى الأبصار} أي فتأملوا فيما نزل بهؤلاء والسبب الذي استحقوا به ذلك فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم، وهذا دليل على جواز القياس {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} الخروج من الوطن مع الأهل والولد {لَعَذَّبَهُمْ في الدنيا} بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة {وَلَهُمْ} سواء أجلوا أو قتلوا {فِى الآخرة عَذَابُ النار} الذي لا أشد منه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} أي إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم {شَاقُّواْ الله} خالفوه {وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله} ورسوله {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} هو بيان ل {مَا قَطَعْتُمْ} ومحل {ما} نصب ب {قَطَعْتُمْ} كأنه قيل: أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} لأنه في معنى اللينة، واللينة: النخلة من الألوان وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها. وقيل: اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين {قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله} فقطعها وتركها بإذن الله {وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ} جعله فيئاً له خاصة {مِنْهُمْ} من بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم على ذلك والركاب الإبل، والمعنى فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلاً ولا ركاباً ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم لأنه على ميلين من المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم على حمار فحسب {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} يعني أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة منهم لفقرهم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وإنما لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها غير أجنبية عنها، بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة، وزيف هذا القول بعض المفسرين وقال: الآية الأولى نزلت في أموال بني النضير وقد جعلها الله لرسوله خاصة، وهذه الآية في غنائم كل قرية تؤخذ بقوة الغزاة، وفي الآية بيان مصرف خمسها فهي مبتدأة {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً} {تَكُونُ دُولَةً} يزيد على (كان) التامة والدولة والدولة ما يدول للإنسان أي يدور من الجد. ومعنى قوله {لاَ يَكُونَ دُولَةً} {بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به {وَمَا ءاتاكم الرسول} أي أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء {فَخُذُوهُ} فاقبلوه {وَمَا نهاكم عَنْهُ} عن أخذه منها {فانتهوا} عنه ولا تطلبوه {واتقوا الله} أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأجود أن يكون عاماً في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه. {لِلْفُقَرَاء} بدل من قوله {وَلِذِى القربى} والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وإن كان المعنى لرسول الله إن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل: {المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم} بمكة، وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين لأن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال {يَبْتَغُونَ} حال {فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً} أي يطلبون الجنة ورضوان الله {وينصرون الله ورسوله} أي ينصرون دين الله ويعينون رسوله {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} في إيمانهم وجهادهم {والذين} معطوف على المهاجرين وهم الأنصار {تَبَوَّءوا الدار} توطنوا المدينة {والإيمان} وأخلصوا الإيمان كقوله: أو وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه. {مِن قَبْلِهِمُ} من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان. وقيل: من قبل هجرتهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم، ونزل من كانت له امرأتان عن إحديهما حتى تزوج بها رجل من المهاجرين. {وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ} ولا يعلمون في أنفسهم طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره والمحتاج إليه يسمي حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه. وقيل: حاجة حسداً مما أعطي المهاجرون من الفيء حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم به. وقيل: لا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا فحذف المضافان {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فقر وأصلها خصاص البيت وهي فروجه، والجملة في موضع الحال أي مفروضة خصاصتهم. روي أنه نزل برجل منهم ضيف فنوّم الصبية وقرّب الطعام وأطفأ المصباح ليشبع ضيفه ولا يأكل هو. وعن أنس: أهدى لبعضهم رأس مشوي وهو مجهود فوجهه إلى جاره فتداولته تسعة أنفس حتى عاد إلى الأول. أبو زيد قال لي شاب من أهل بلخ: ما الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ بل إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الظافرون بما أرادوا. الشح اللؤم وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، وأما البخل فهو المنع نفسه. وقيل: الشح أكل مال أخيك ظلماً، والبخل منع مالك. وعن كسرى: الشح أضر من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح. {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} عطف أيضاً على {المهاجرين} وهم الذين هاجروا من بعده. وقيل: التابعون بإحسان. وقيل: من بعدهم إلى يوم القيامة. قال عمر رضي الله عنه: دخل في هذا الفيء كل من هو مولود إلى يوم القيامة في الإسلام، فجعل الواو للعطف فيهما. وقرئ {لِلَّذِينَ} فيهما {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} قيل: هم المهاجرون والأنصار. عن عائشة رضي الله عنها: أمروا بأن يستغفروا لهم فسبوهم {وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ} حقداً {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} يعني الصحابة {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} وقيل لسعيد بن المسيب: ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال: أقول ما قولنيه الله وتلى هذه الآية. ثم عجب نبيه بقوله:
|