الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)} ولما كان أعجب من ذلك أن هذا الذي خلقه التراب ذكراً خلق منه أنثى، وجعلهما شبهي السماء والأرض ماء ونبتاً وطهارة وفضلاً، قال: {ومن آياته} أي على ذلك؛ ولما كان إيجاد الأنثى من الذكر خاص لم يكن إلا مرة واحدة كالخلق من التراب، عبر بالماضي فقال: {أن خلق لكم} أي لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد، وفي تقديم الجار دلالة على حرمة التزوج من غير النوع، والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل في قوله: {من أنفسكم} أي جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام {أزواجاً} إناثاً هن شفع لكم {لتسكنوا} مائلين {إليها} بالشهوة والألفة، من قولهم: سكن إليه- إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها. ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الألفة قال: {وجعل} أي صير بسبب الخلق على هذه الصفة {بينكم مودة} أي معنى من المعاني يوجب أن لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من محبة الأذى، وإنما كان هذا معناه لأن مادة «ودد» مستوياً ومقلوباً تدور على الاتساع والخلو من الدو والدوية بتشديد الواو وهي الفلاة، والود والوداد قال في القاموس: الحب، وقال أبو عبد الله القزاز ونقله عنه الإمام عبد الحق في واعيه: الأمنية، تقول وددت أن ذاك كان، وذاك لاتساع مذاهب الأماني، وتشعب أودية الحب، وفي القاموس: ودان: قرية قرب الأبواء وجبل طويل قرب فيد، والمودة: الكتاب- لاتساع الكلام فيه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الود خلو عن إرادة المكروه، فإذا حصل إرادة الخير وإيثاره كان حياً، من لم يرد سواه فقد ود ومن أراد خيراً فقد أحب، والود أول التخلص من داء أثر الدنيا بما يتولد لطلابها من الازدحام عليها من الغل والشحناء، وذلك ظهور لما يتهياً له من طيب الحب، فمن ود لا يقاطع، ومن أحب واصل وآثر، والودود هو المبرأ من جميع جهات مداخل السور ظاهره وباطنه. ولما كان هذا المعنى الحسن لا يتم إلا بإرادة الخير قال: {ورحمة} أي معنى يحمل كلاًّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير، ودفع الضير، لكن لما كانت إرادة الخير قد تكون بالمن ببعض ما يكره جمع بين الوصفين، وهما من الله، والفرك- وهو البغض- من الشيطان. ولما كان ذلك من العظمة بمكان يجل عن الوصف، أشار إليه بقوله مؤكداً لمعاملتهم له بالإعراض عما يهدي إليه معاملة من يدعي أنه جعل سدى من غير حكمة، مقدماً الجار إشارة إلى أن دلالته في العظم بحيث تتلاشى عندها كل آية، وكذا غيره مما ان هكذا على نحو {وما نريهم من آية إلا وهي أكبر من أختها} [الزخرف: 48]: {إن في ذلك} أي الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع {لآيات} أي دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته. ولما كان هذا المعنى مع كونه دقيقاً يدرك بالتأمل قال: {لقوم} أي رجال أو في حكمهم، لهم قوة وجد ونشاط في القيام بما يجعل إليهم {يتفكرون*} أي يستعملون أفكارهم على القوانين المحررة ويجتهدون في ذلك. ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى، المخلوقين من الأرض، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة، وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متقدماً على عكس ما كان في الإنسان، أتبعه ذكرهما بادئاً بما هو كالذكر فقال مشيراً- بعد ما ذكر من آيات الأنفس- إلى آيات الآفاق: {من آياته} أي الدالة على ذلك، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجاداً مستمراً على حالة واحدة، عبر بالمصدر فقال: {خلق السماوات} على علوها وإحكامها {والأرض} على اتساعها وإتقانها. ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة، قال تعالى ذاكراً من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره، وتكوينه وتدبيره: {واختلاف ألسنتكم} أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة، لا حد ولا رخاوة، ولا لكنة ولا فصاحة، ولا إسهاب ولا وجازة، وغير ذلك من صفات النطق وأحواله، ونعوته وأشكاله، وأنتم من نفس واحدة، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة. ولما كان لون السماء واحداً، وألوان الأراضي يمكن حصرها، قال: {وألوانكم} أي اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف، ولضاعت المصالح، وفاتت المنافع، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض، فإن كان للسماء فلونها واحد، وإن كان للأرض فلون أهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم. وأما الألسنة فأمرها أظهر. ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه {لآيات} أي دلالات عدة واضحة جداً على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطبائع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية، ومع بعدها مضمحلة متلاشية {للعالمين*} كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم، وفي رواية حفص عن عاصم بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته، ففيه إشارة إلى أنهم عدم، فلا تبكيت أوجع منه. ولما ذكر المقلة والمظلة ومن فيهما، وبعض صفاتهم اللازمة، ذكر ما ينشأ عن كل من ذلك من الصفات المفارقة فقال: {ومن آياته} أي على ذلك وغيره من أنواع القدرة والعلم {منامكم} أي نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً. ولما كان الليل محل السكن والراحة والنوم، ذكر ما جعل من نوم النهار أيضاً لأن ذلك أدل على الفعل بالاختبار فقال: {بالّيل والنهار} أي الناشئين عن السماوات والأرض باختلاف الحركات التي تنشأ إلا عن فاعل مختار وانقطاعكم بالنوم عن معاشكم وكل ما يهمكم وقيامكم بعد منامكم أمراً قهرياً لا تقدرون على الانفكاك عن واحد منهما أصلاً {وابتغاؤكم} أي طلبكم بالجد والاجتهاد {من فضله} بالمعاش فيهما، فالآية من الاحتباك: دل ذكر النوم على القيام منه، ودل الابتغاء على الانقطاع عنه، حذف نهاية الأول وبداية الثاني {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط، والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء مع المفاوتة في التحصيل {لآيات} أي عديدة على القدرة والحكمة لا سيما البعث. ولما كانت هذه الآيات في دلالتها على ما تشير إليه من البعث والفعل بالاختيار دقيقة لا يستقل العقل بها دون توقيف من الدعاة لأنه قد يسند النوم والابتغاء إلى العباد والا يتجاوز عن ذلك إلى الخالق إلا الأفراد من خلص العباد، وكان النائم يقوم صافي الذهن فارغ السر نشيط البدن. قال: {لقوم يسمعون*} أي من الدعاة النصحاء سماع من انتبه من نومه فجسمه مستريح نشيط وقلبه فارغ عن مكدر للنصح مانع من قبوله، أو المعنى: لقوم هم أهل للسمع بأن يكونوا قد تنبهوا من رقادهم، فرجعوا عن عنادهم، إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات فهو نائم لا مستيقظ. فهو غير متأهل لأن يسمع.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر والخافقين، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين الترغيب والترهيب فقال: {ومن آياته} ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع البصر عند أول رؤية، وكان يتجدد في حين دون حين، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه فقال: {يريكم البرق} أي على هيئات وكيفيات طالما شاهدتموها تارة تأتي يما يضر وتارة بما يسر، ولذلك قال معبراً بغاية الإخافة والإطماع لأن الغايات هي المقصودة بالذات: {خوفاً} أي للإخافة من الصواعق المحرقة {وطمعاً} أي وللاطماع في المياه الغدقة، وعبر بالطمع لعدم الأسباب الموصلة إليه. ولما كان البرق غالباً من المبشرات بالمطر، وكان ما ينشأ عن الماء أدل شيء على البعث، أتبعه شرح ما أشار إليه به من الطمع فقال: {وينزّل} ولما كان إمساك الماء في جهة العلو في غاية الغرابة، قال محققاً للمراد بالإنزال من الموضع الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه {من السماء ماء}. ولما جعل سبحانه ذلك سبباً لتعقب الحياة قال: {فيحيي به} أي الماء النازل من السماء خاصة لأن أكثر الأرض لا تسقى بغيره {الأرض} أي بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان، ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم، وكان إحياؤها به متكرراً، فكان كأنه دائم، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة حذف الجار قائلاً: {بعد موتها} أي بيبسه وتهشمه {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي القدر {لآيات} لا سيما على القدرة على البعث. ولما كان ذلك ظاهراً كونه من الله الفاعل بالاختيار لوقوعه في سحاب دون سحاب وفي وقت دون آخر وفي بلد دون آخر، وعلى هيئات من القوة والضعف والبرد والحر وغير ذلك من الأمر، وكان من الوضوح في الدلالة على البعث بمكان لا يخفى على عاقل قال: {لقوم يعقلون*}. ولما كان جميع ما مضى من الآيات المرئيات ناشئاً عن هذين الخلقين العظيمين المحيطين بمن أنزلت عليهم هذه الآيات المسموعات بياناً لمن أشكل عليه أمر الآيات المرئيات، ذكر أمراً جامعاً للكل وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من العقل المختوم به ما قبل فقال: {ومن آياته} أي على تمام القدرة وكمال الحكمة. ولما كانت هذه الآية في الثبات لا في التجدد، أتى بالحرف الدال على المصرف ليسلخ الفعل عن الاستقبال، وعبر بالمضارع لأنه لا بد من إخراجهما عن هذا الوضع فقال: {أن تقوم} أي تبقى على ما تشاهدون من الأمر العظيم بلا عمد {السماء} أفرد لأن السماء الأولى لا تقبل النزاع لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ للكل لأنه جنس {والأرض} على ما لهما من الجسامة والثقل المقتضي للهبوط {بأمره} لا بشيء سواه. ولما لم يبق في كمال علمه وتمام قدرته شبهة، قال معبراً بأداة التراخي لتدل- مع دلالتها على ما هي له- على العظمة، فقال دالاً على أن قدرته على الأشياء كلها مع تباعدها على حد سواء، وأنه لا فرق عنده في شمول أمره بين قيام الأحياء وقيام الأرض والسماء {ثم إذا دعاكم} وأشار إلى هوان ذلك الأمر عنده بقوله: {دعوة من الأرض} على بعد ما بينها وبين السماء فضلاً عن العرش، وأكد ذلك بكونه مثل لمح البصر أو هو أقرب فقال معبراً بأداة الفجاءة: {إذا أنتم تخرجون*} أي يتجدد لكم هذا الوصف بعد اضمحلالكم بالموت والبلى، ويتكرر باعتبار آحادكم من غير تلبث ولا مهلة أصلاً، إلا أن يترتب على الأفضل فالأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» كما دعاكم منها أولاً إذا خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، وأعرى هذه مما ختم به الآيات السالفة تنبيهاً على أنها مثل الأولى قد انتهت في الظهور، ولا سيما بانضمامها إلى الأولى التي هي أعظم دال عليها إلى حد هو أضوأ من النور، كما تأتي الإشارة إليه في آية «وهو أهون عليه». ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من الإنس والجن، ذكر قهره للكل فقال: {وله} أي وحده بالملك الأتم {من في السماوات والأرض} أي كلهم، وأشار إلى الملك بقوله: {كلٌّ له} أي وحده. ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد الفرد دون عكسه جمع في قوله: {قانتون*} أي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرف بوجه ما إلا بإذنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مطيعون طاعة الإرادة وإن عصوا أمره في العبادة- نقله عنه البغوي وغيره ورجحه الطبري وهو معنى ما قلت. ولما كان هذا معنى يشاهده كل أحد في نفسه مع ما جلى سبحانه من عرائس الآيات الماضيات، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال: {وهو} أي لا غيره {الذي يبدأ الخلق} أي على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال: {ثم يعيده} أي بعد أن يبيده. ولما كان من المركوز في فطر جميع البشر أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه قال: {وهو} أي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة {أهون عليه} خطاباً لهم بما الفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها. ولما كان هذا إثماً هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر، ولا في قدرته أولى من الآخر، قال مشيراً إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك: {وله} أي وحده {المثل الأعلى} أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص، واستولى على كل رتبة كمال، وهو أمره الذي أحاط بكل مقدور، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم، كما تقدم في البقرة في شرح المثل {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]. ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال: {في السماوات والأرض} اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما، وقد قالوا: إن المراد بالمثل هنا الصفة، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول: الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا: فلان جلس على سرير الملك، بمعنى: استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] مثلناه بما لو قهر سلطان أعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا «محق سيفه أعداءه» فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته، وإذا قيل: تجري بأعيننا، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا «هو في غاية اليقظة» فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم، ولذلك قال تعالى: {وهو} أي وحده {العزيز} أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان {الحكيم*} أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر، فكان عدم هذا الموجود خيراً من وجوده وأحكم.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} ولما بان من هذا أنه المتفرد في الملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة، اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله: {ضرب لكم} أي بحكمته في أمر الأصنام وبيان إبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير: {مثلاً} مبتدئاً {من أنفسكم} التي هي أقرب الأشياء إليكم، فأنتم لما تذكرون به أجدر بأن تفهموه. ولما كان حاصل المثل أنه لا يكون مملوك كمالك، وكان التقرير أقرب إلى التذكير وأبعد عن التنفير، قال منكراً موبخاً مقرراً: {هل لكم} أي يا من عبدوا مع الله بعض عبيده {من ما} أي من بعض ما {ملكت أيمانكم} أي من العبيد أو الإماء الذين هم بشر مثلكم، وعم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله: {من شركاء} أي في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء، ونبه على ما في إيجاد الرزق ثم قسمته بين الخلق وغير ذلك من شؤونه بقوله: التفاتاً بعد طول التعبير بالغيبة التي قد يتوهم معها بعد- إلى التلكم بالنون الدال مع القرب على العظمة ولذة الإقبال بالمخاطبة: {فيما رزقناكم} أي لما لنا من العظمة من مال أو جاه مع ضعف ملككم فيه. ولما كانت الشركة سبباً لتساوي الشريكين في الأمر المشترك قال: {فأنتم} أي معاشر الأحرار والعبيد. ولما كان ربما توهم أن «من شركاء» صفة لأولاد من سراريهم، قدم الصلة دفعاً لذلك فقال: {فيه} أي الشيء الذي وقعت فيه الشركة من ذلك الرزق خاصة لا غيره من نسب أو حسب ونحوهما أو خفة في بدن أو قلب أو طول في عمر ونحوها، وأما أولادهم من السراري فربما ساووهم في ذلك وغيره من النسب ونحوه، والعبيد ربما ساووهم في قوة البدن وطول العمر أو زادوا {سواء} ثم بين المساواة التي هي أن يكون حكم أحد القبيلين في المشترك على السواء كحكم الآخر لا يستبد أحدهما عن الآخر بشيء بقوله: {تخافونهم} أي معاشر السادة في التصرف في ذلك الشيء المشترك. ولما كانت أداة التشبيه أدل، أثبتها فقال: {كخيفتكم أنفسكم} أي كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه، فظهر أن حالكم في عبيدكم مثل له فيمن أشركتموهم به موضح لبطلانه، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن يستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه بخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون؟. ولما كان هذا المثال، في الذروة من الكمال، كان السامع جديراً بأن يقول: جل ألله! ما أعلى شأن هذا البيان! هل يبين كل شيء هكذا؟ فقال: {كذلك} أي مثل هذا البيان العالي {نفصل} أي نبين، لأن الفصل هو الميز وهو البيان، وذلك على وجه عظيم- بما أشار إليه التضعيف مع التجديد والاستمرار: {الآيات} أي الدلالات الواضحات. ولما كان البيان لا ينفع المسلوب قال: {لقوم يعقلون*} إشارة إلى أنهم إن لم يعملوا بمقتضى ذلك كانوا مجانين، لأن التمثيل يكشف المعاني بالتصوير والتشكيل كشفاً لا يدع لبساً، فمن خفي عليه لم يكن له تمييز. ولما كان جوابهم قطعاً: ليس لنا شركاء بهذا الوصف، كان التقدير، فلم تتبعوا في الإشراك بالله دليلاً، فنسق عليه: {بل} وكان الأصل: اتبعتم، ولكنه أعرض عنهم، إيذاناً بتناهي الغضب للعناد بعد البيان، وأظهر الوصف الحامل لهم على ذلك تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {اتبع} أي بتكليف أنفسهم خلاف الفطرة الأولى {الذين ظلموا} أي وضعوا الشيء في غير موضعه فعل الماشي في الظلام {أهواءهم} وهو ما يميل إليه نفوسهم. ولما كان اتباع الهوى قد يصادف الدليل، وإذا لم يصادف وكان من عالم رده عنه علمه قال: {بغير علم} إشارة إلى بعدهم في الضلال لأن الجاهل يهيم على وجهه بلا مرجح غير الميل كالبهيمة لا يرده شيء، وأما العالم فربما رده علمه. ولما كان هذا ربما أوقع في بعض الأوهام أن هذا يغير إرادته سبحانه، دل بفاء السبب على أن التقدير: وهذا ضلال منهم بإرادة الله، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى: {فمن يهدي} أي بغير إرادة الله، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال له فقال: {من أضل الله} الذي له الأمر كله، ودل بواو العطف على أن التقدير: ليس أحد يهديهم لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن أسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله: {وما لهم} وأعرق في النفي فقال: {من ناصرين*} أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من الخذلان وأسر الشيطان، ومما يسببه من النيران، ونفى الجميع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه، أو لأنه ورد جواباً لنحو {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون} [مريم: 81] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون ودل على نفي الواحد {لا تجزي نفس عن نفس} [البقرة: 123]، و{أن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] و{فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق: 10] في أمثالها. ولما تحررت الأدلة، وانتصبت الأعلام، واتضحت الخفايا، وصرحت الإشارات، وأفصحت ألسن العبارات، أقبل على خلاصة الخلق، إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، فقال مسبباً عن ذلك ممثلاً لإقباله واستقامته وثباته: {فأقم وجهك} أي قصدك كله {للدين} أي نصباً بحيث تغيب عما سواه، فلا تلتفت عنه أصلاً فلا تنفك عن المراقبة، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره، وقوم له وجهه. ثم عرض بجلافة أهل الضلال وغشاوتهم، وكثافتهم وغباوتهم، وجمودهم وقساوتهم، بقوله: {حنيفاً} أي حال كونك ميالاً مع الدليل هيناً ليناً نافذ الصبر نير البصيرة ساري الفكر سريع الانتقال طائر الخاطر، ثم بين أن هذا الأمر في طبع كل أحد وإن كانوا فيه متفاوتين كما تراهم إذا كانوا صغاراً أسهل شيء انقياداً، ولكنه لما يكشف لهم الحال في كثير من الأشياء عن أن انقيادهم كان خطأ يصيرون يدربون أنفسهم على المخالفة دائماً حتى تصير لبعضهم طبعاً تجريبياً فيصير أقسى شيء وأجمده بعد أن كان أسهل شيء وأطوعه، وأكثر ما يكون هذا من قرناء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، ولهذا نهى أن يوعد الطفل بما لا حقيقة له: روى أحمد وابن أبي الدنيا من طريق الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال المنذري: ولم يسمع منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لصبي: تعال هاك! ثم لم يعطه فهي كذبة»، ولأبي داود والبيهقي وابن أبي الدنيا عن مولى عبد الله بن عامر- قال ابن أبي الدنيا: زياد عن عبد الله بن عامر- أن أمه رضي الله عنها قالت له: تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال: أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة»، فقال مبيناً لهم صحة دينه بأمر هو في أنفسهم، كما بين بطلان دينهم بأمر هو في أنفسهم: {فطرت الله} أي الزم فطرة الملك الذي لا رادَّ لأمره، وهي الخلقة الأولى التي خلق عليها البشر والطبع الأول، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في بيان العقل في هذه الآية: أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله تعالى بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه، أعني أنها كالمتضمنة فيه لقرب استعداده للإدراك- انتهى، ثم أكد ذلك بقوله: {التي فطر الناس} أي كل من له أهلية التحرك {عليها} كلهم الأشقياء والسعداء، وهي سهولة الانقياد وكرم الخلق الذي هو في الصورة فطرة الإسلام، وتحقيق ذلك أن المشاهد من جميع الأطفال سلامة الطباع وسلاسة الانقياد لظاهر الدليل، ليس منهم في ذلك عسر كما في الكبار إن تفاوتوا في ذلك، فالمراد بالفطرة قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، كما تجد الأخرس يدرك أمر المعاد إدراكاً بيناً، وله فيه ملكة راسخة، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد بن منيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة»- وفي رواية للبخاري: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» فلذلك الجدع والوسم وشق الأذن ونحو ذلك مثالٌ للأخلاق التي يتعلمها الطفل ممن يعامله بها من الغش والكذب وغير ذلك، وكذا حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في مسلم في صفة النار والنسائي في فضائل القرآن وأبي داؤد الطالسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي» حنفاء كلهم «وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وآمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانه» ولكن الشيطان لا يتمكن إلا بإقدار الله له في الحال بما يخلق في باطن المخذول من الباعث وفي الماضي من الطبائع التي هيأه بها لمثل ذلك كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه في الصحيح عن علي رضي الله تعالى عنه: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وآية سبحان {كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84] وذلك أنه لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد كتب أهل الجنة وأهل النار، فلا يزاد فيهم ولا ينقص، قالوا: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فالكتاب حجة عليهم، لأن مبناه على أن فلاناً من أهل النار لكونه لم يعمل كذا وكذا، فأرادوا أن يجعلوه حجة لهم فاعلموا أن في ذلك أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن هو العلة الموجبة في حكم الربوبية وهو العلم، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية وهو العمل، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم، عولموا بذلك ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان، ونظير ذلك أمران: الرزق المقسوم مع الأمر بالمكسب، والأجل المحتوم مع المعالجة بالطب، فالمغيب فيهما علة موجبة والظاهر سبب مخيل، وقد اصطلح خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك بالباطن- ذكر معناه الرازي في اللوامع عن الخطابي. ولما كانت سلامة الفطرة الأولى أمراً مستمراً، قال: {لا تبديل} ولعظم المقام كرر الاسم الأعظم فقال: {لخلق الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، لا يقدر أحد أن يجعل طفلاً في أول أمره خبيث الفطرة لا ينقاد لما يقاد إليه ولا يستسلم لمن يريبه، وكلما كبر وطعن في السن رجع لما طبع عليه من كفر أو إيمان، أو طاعة أو عصيان، أو نكر أو عرفان، قليلاً قليلاً، حتى ينساق إلى ذلك عند البلوغ أو بعده، فإن مات قبل ذلك الجوزي بما كان الله يعلمه منه أنه يعمله طبعياً ويموت عليه كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام صح الخبر بأنه طبع على الكفر، ولا يعذب بما يكون عارضاً منه ويعلم أنه سيكون لو كان كأبوي الغلام لما وقع التصريح به من أنه لو عاش لأرهقهما ظغياناً وكفراً، فقد علم منهما الكفر حينئذ فلم يؤاخذا به لأنه عارض لا طبعي، فالعبرة بالموت، ومن طبع على شيء لم يمت على غيره، فحقق هذا تعلم أنه لا تنافي بين شيء من النصوص لا من الكتاب ولا من السنة- والله الهادي. ولما كان الميل مع الدليل كيفما مال أمراً لا يكتنه قدره ولا ينال إلا بتوفيق من الله، أشار إلى عظمته بقوله: {ذلك} أي الأمر العظيم وهو الاهتزاز للدليل واتباع ما يشير إليه ويحث عليه {الدين القيِّم} الذي لا عوج فيه {ولكن أكثر الناس} قد تدربوا في اتباع الأهوية لما تقدم من الشبه فصاروا بحيث {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلاً حتى يميزوا الحق من الباطل لما غلب عليهم من الجفاء.
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)} ولما كان من الناس من منّ الله عليه بأن كان في هذا الميدان، وسمت همته إلى مسابقة الفرسان، فلما رأى أنه لم يلتفت إليه، ولم يعول أصلاً عليه، كادت نفسه تطير، وكانت عادة القوم أن يخاطبوا القوم لمخاطبة رئيسهم تعظيماً له وحثاً لهم على التحلي بما خص به، جُبرت قلوبهم وشرحت صدورهم فبينت لهم حال من ضمير «أقم» أو من العامل في «فطرت» إعلاماً بأنهم مرادون بالخطاب، مشار إليهم بالصواب، فقال: {منيبين} أي راجعين مرة بعد مرة بمجاذبة النفس والفطرة الأولى {إليه} تعالى بالنزوع عما اكتسبتموه من رديء الأخلاق إلى تلك الفطرة السليمة المنقادة للدليل، الميالة إلى سواء السبيل. ولما لم يكن بعد الرجوع إلى المحبة إلا الأمر بلزومها خوفاً من الزيغ عنها دأب المرة الأولى. قال عاطفاً على {فأقم}: {واتقوه} أي خافوا أن تزيغوا عن سبيله يسلمكم في أيدي أولئك المضلين، فإذا خفتموه فلزمتموها كنتم ممن تخلى عن الرذائل {وأقيموا الصلاة} تصيروا ممن تحلى بالفضائل- هكذا دأب الدين أبداً تخلية ثم تحلية: أول الدخول إلى الإسلام التنزيه، وأول الدخول في القرآن الاستعاذة، وهو أمر ظاهر معقول، مثاله من أراد أن يكتب في شيء إن مسح ما فيه من الكتابة انتفع بما كتب، وإلا أفسد الأول ولم يقرأ الثاني- والله الموفق. ولما كان الشرك من الشر بمكان ليس هو لغيره، أكد النهي عنه بقوله: {ولا تكونوا} أي كوناً ما {من المشركين} أي لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه فإنه «من تشبه بقوم فهو منهم» وهو عام في كل شرك سواء كان بعبادة صنم أو نار أوغيرهما، أو بالتدين بما يخالف النصوص من أقوال الأحبار والرهبان وغير ذلك. ولما كانوا يظنون أنهم على صواب، نصب لهم دليلاً على بطلانه بما لا أوضح منه، ولا يمكن أحداً التوقف فيه، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشيء متصفاً بنفي شيء وإثباته في حالة واحدة فقال مبدلاً: {من الذين فرقوا} لما فارقوا {دينهم} الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين من سواهم، وهو معنى {وكانوا} أي بجهدهم وجدهم في تلك المفارقة المفرقة {شيعاً} أي فرقاً متحالفين، كل واحدة منهم تشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق. ولما كان هذا أمراً يتعجب من وقوعه، زاده عجباً بقوله استئنافاً: {كل حزب} أي منهم {بما لديهم} أي خاصة من خاص ما عندهم من الضلال الذي انتحلوه {فرحون*} طناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم. ولما حصل من هذا القطع من كل عاقل أن أكثر الخلق ضال، فكان الحال جديراً بالسؤال، عن وجه الخلاص من هذا الضلال، أشير إليه أنه لزوم الاجتماع، وبين ذلك في جملة حالية من فاعل «فرحون» فقال تعالى: {وإذا} وكان الأصل: مسهم، ولكنه قيل لأنه أنسب بمقصود السورة من قصر ذلك على الإنسان كما هي العادة في أكثر السور أو غير ذلك من أنواع العالم: {مس الناس} تقوية لإرادة العموم إشارة إلى كل من فيه أهلية النوس وهو التحرك، من الحيوانات العجم والجمادات لو نطقت ثم اضطربت لتوجهت إليه سبحانه ولم تعدل عنه كما أنها الآن كذلك بألسنة أحوالها، فهذا هو الإجماع الذي لا يتصور معه نزاع {ضر دعوا ربهم} أي الذي لم يشاركه في الإحسان إليهم أحد في جميع مدة مسهم بذلك الضر- بما أشار إليه الظرف حال كونهم {منيبين} أي راجعين من جميع ضلالاتهم التي فرقتهم عنه {إليه} علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، هذا ديدن الكل لا يخرم عنه أحد منهم في وقت من الأوقات، ولا في أزمة من الأزمات، قال الرازي في اللوامع في أواخر العنكبوت: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء. ولما كان كل واقع في شدة مستبعداً كل استبعاد الخلاص منها قال: {ثم} بأداة العبد {إذا أذاقهم} مسنداً الرحمة إليه تعظيماً للأدب وإن كان الكل منه. ولما كان السياق كله للتوحيد، فكانت العناية باستحضار المعبود باسمه وضميره أتم قال: {منه} مقدماً ضميره دالاً بتقديم الجار على الاختصاص وأن ذلك لا يقدر عليه غيره، وقال: {رحمة} أي خلاصاً من ذلك الضر، إشارة إلى أنه لو أخذهم بذنوبهم أهلكهم، فلا سبب لإنعامه سوى كرمه، ودل على شدة إسراعهم في كفران الإحسان بقوله معبراً بأداة المفاجأة: {إذا فريق منهم} أي طائفة هي أهل لمفارقة الحق {بربهم} أي المحسن إليهم دائماً، المجدد لهم هذا الإحسان من هذا الضر {يشركون*} بدل ما لزمهم من أنهم يشكرون فعلم أن الحق الذي لا معدل عنه الإنابة في كل حال إليه كما أجمعوا في وقت الشدائد عليه، وأن غيره مما فرقهم ضلال، لا يعدله قبالاً ولا ما يعدله قبال. ولما كان هذا الفعل مما لا يفعله إلا شديد الغباوة أو العناد، وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، ربا بهم عن منزلة البله إلى ما الجنون خير منه تهكماً بهم فقال: {ليكفروا بما} ولفت الكلام إلى مظهر العظمة فقال: {آتيناهم} أي من الرحمة التي من عظمتها أنه لا يقدر عليها غيرنا أمناً من أن يقعوا في شدة اخرى فنهلكهم بما أغضبونا، أو توسلاً بذلك إلى أن نخلصهم متى وقعوا في أمثالها، فلما أضل عقولهم وأسفه آراءهم!. ولما كان فعلهم هذا سبباً لغاية الغضب، دل عليه بتهديده ملتفتاً إلى المخاطبة بقوله: {فتمتعوا} أي بما أردتم فيه بالشرك من اجتماعكم عند الأصنام وتواصلكم بها وتعاطفكم، وسبب عن هذا التمتع قوله: {فسوف تعلمون*} أي يكون لكم بوعد لا خلف فيه علم فتعرفون إذا حل بكم البلاء وأحاط بكم جميعاً المكروه هل ينفعكم شيء من الأصنام أو من اتخذتم عنده يداً بعبادتها ووافقتموه في التقرب إليها. ولما بكتهم بقوله: {هل لكم مما ملكت أيمانكم} ووصل به ما تقدم أنه في غاية التواصل، عاد له ملتفتاً إيذاناً بالتهاون بهم إلى مقام الغيبة إبعاداً لهم عن جنابه حيث جلى لهم هذه الأدلة واستمروا في خطر إغضابه بقوله: {أم أنزلنا} بما لنا من العظمة {عليهم سلطاناً} أي دليلاً واضحاً قاهراً {فهو} أي ذلك السلطان لظهور بيانه {يتكلم} كلاماً مجازياً بدلالته وإفهامه، ويشهد {بما} أي بصحة الذي {كانوا} أي كوناً راسخاً {به} أي خاصة {يشركون *} بحيث لم يجدوا بدّاً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذه العبارة تدل على أنهم لازموا الشرك ملازمة صيرته لهم خلقاً لا ينفك.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم، ولا دليل عقلي ظاهر، ولا أمر من الله قاهر، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً، بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول، لمح هنا، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة، والدلالة الشهودية المستقرة، فقال عاطفاً على {وإذا مس} دالاً على خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول: {وإذا} معبراً بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال: {أذقنا} وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال: {الناس رحمة} أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا {فرحوا بها} أي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها، ناسين شكر من أنعم بها، وقال: {وإن} بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجوداً، وقال: {تصبهم} غير مسند لها إليه تأديباً لعباده وإعلاماً بغزير كرمه {سيئة} أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه. ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها: {بما قدمت أيديهم} أي من المخالفات، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها {إذا هم} أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا له من ملابس الكرم {يقنطون*} أي فاجاؤوا البأس، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً، ولذلك أنكر عليه عدم الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير: ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال، قائلاً: {أولم يروا} أي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررة، فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر، والسياق لذم القنوط الذي يكفي في بقية المشاهدة لاختلاف الأحوال، بخلاف الزمر التي مقصودها الدلالة على صدق الوعد الكافي فيه مطلق العلم. ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمال، لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال: {أن الله} بجلاله وعظمته {يبسط الرزق} أي يكثره {لمن يشاء} أي من عباده منهم ومن غيرهم {ويقدر} أي يضيق، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا، بل كان حالهم الصبر في البلاء، والشكر في الرخاء، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء، فقد عرف من حالهم أنهم متقيدون دائماً بالحالة الراهنة. يغلطون في الأمور المتكررة المشاهدة، فلا عجب في تقيدهم في إنكار البعث بهذه الحياة الدنيا. ولما لم يغن أحد منهم في استجلاب الرزق قوته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله، ولا ضره ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته، وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً كما قال بعضهم: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً أشار سبحانه إلى عظمته بقوله، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن تحصيلها إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية {لآيات} أي دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة، وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن {لقوم} أي ذوي همم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه {يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر، والاعتماد في الرزق على من قال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] أي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق، لأن «أفضل العبادة انتظار الفرج» بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه، وهو القدير العليم. ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأن الاكتراث بها لا يزيدها، والتهاون بها لا ينقصها، فصار ذلك لا يفيد إلا تعجيل النكد بالكد والنصب، وكان مما تقدم أن السيئة من أسباب المحق، سبب عنه الإقبال على إنفاقها في حقوقها إعراضاً عنها وإيذاناً بإهانتها وإيقاناً بأن ذلك هو استيفاؤها واستثمارها واستنماؤها، فقال خاصاً بالخطاب أعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره لأن ذلك أوقع في نفوس الأتباع، وأجدر بحسن القبول منهم والسماع: {فآت} يا خير الخلق! {ذا القربى حقه} بادئاً به لأنه أحق الناس بالبر، صلة للرحم وجوداً وكرماً {والمسكين} سواء كان ذا القربى أو لا {وابن السبيل} وهو المسافر كذلك، والحق الذي ذكر لهما الظاهر أنه يراد به النفل لا الواجب، لعدم ذكر بقية الأصناف، ودخل الفقير من باب الأولى. ولما أمر بالإيتاء، رغب فيه فقال: {ذلك} أي الإيتاء العالي الرتبة {خير} ولما كان سبحانه أغنى الأغنياء فهو لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه لا رياء فيه، قال معرفاً أن ذلك ليس قاصراً على من خص بالخطاب بل كل من تأسى به نالته بركته {للذين يريدون} بصيغة الجمع، ولما كان الخروج عن المال في غاية الصعوبة، رغب فيه بذكر الوجه الذي هو أشرف ما في الشيء المعبر به هنا عن الذات وبتكرير الاسم الأعظم المألوف لجميع الخلق فقال: {وجه الله} أي عظمة الملك الأعلى، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم على كل ما سواه فيخلصون له {وأولئك} العالو الرتبة لغناهم عن كل فان {هم} خاصة {المفلحون*} أي الذين لا يشوف فلاحهم شيء من الخيبة، وأما غيرهم فخائب، أما إذا لم ينفق فواضح، وأما من أنفق على وجه الرياء بالسمعة والرياء فإنه خسر ماله، وأبقى عليه وباله، وأما من أنفق على وجه الرياء الحقيقي فقد صرح به تعريفاً بعظيم فحشه صارفاً الخطاب عن المقام الشريف الذي كان مقبلاً عليه، تعريفاً بتنزه جنابه عنه، وبعد تلك الهمة العلية والسجايا الطاهرة النقية منه، إلى جهة من يمكن ذلك منهم فقال: {وما آتيتم} أي جئتم أي فعلتم- في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب، أو أعطيتم- في قراءة غيره بالمد {من ربا} أي مال على وجه الربا المحرم أو المكروه، وهو أن يعطي عطية ليأخذ في ثوابها أكثر منها، وكان هذا مما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، وكره لعامة الناس. وعلى قراءة ابن كثير بالقصر المعنى: وما جئتم به من إعطاء بقصد الربا {ليربوا} أي يزيد ويكثر ذلك الذي أعطيتموه أو فعلتوه، أو لتزيدوا أنتم ذلك- على قراءة المدنيين ويعقوب بالفوقانية المضمومة، من: أربى {في أموال الناس} أي تحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها، فهو كناية عن أن الزيادة التي يأخذها المربي من أموالهم لا يملكها أصلاً {فلا يربوا} أي يزكوا وينمو {عند الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وكل صفات الكمال، وكل ما لا يربو عند الله فهو غير مبارك بل ممحوق لا وجود له، فإنه إلى فناء وإن كثر {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]. ولما ذكر ما زيادته نقص، أتبعه ما نقصه زيادة فقال: {وما آتيتم} أي أعطيتم للإجماع على مدة لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة {من زكاة} أي صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من مواد الخبث، وأخلاقكم من الغل والدنس. ولما كان الإخلاص عزيزاً، أشار إلى عظمته بتكريره فقال: {تريدون} أي بها {وجه الله} خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات. ولما كان الأصل: فأنتم، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته، وأن المخاطب بالإيتاء كثير، والعامل قليل وجليل، فقال: {فأولئك} ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم {هم} أي خاصة {المضعفون*} أي الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك الحفظ والبركة، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشرة أمثال إلى ما لا حصر له كما يقال: مقو وموسر ومسمن ومعطش- لمن له قوة ويسار وسمن في إبله وعطش ونحو ذلك.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله، ولا خير إلا فيما يختاره الله، فكان ذلك مزهداً في زيادة الاعتناء بطلب الدنيا، بين ذلك بطريق لا أوضح منه فقال: {الله} أي بعظيم جلاله لا غيره {الذي خلقكم} أي أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً. ولما كان الرزق موزعاً بين الناس بل هو ضيق على كثرته عن كثير منهم، فكان رزق من تجدد- لا سيما إن كان ابناً لفقير- مستبعداً، أشار إليه بأداة البعد فقال: {ثم رزقكم} ولما كانت إماتة المتمكن من بدنه وعقله وقوته وأسباب نبله عجيبة، نبه عليها بقوله: {ثم يميتكم} ولما كان كل ذلك في الحقيقة عليه هيناً، وكان الإحياء بعد الإماتة إن لم يكن أهون من الإحياء أول مرة كان مثله وإن استبعدوه قال: {ثم يحييكم}. ولما استغرق بما ذكر جميع ذواتهم وأحوالهم، وكان الشريك من قام بشيء من العمل أو المعمول فيه، وكان من المعلوم أنه ليس لشركائهم في شيء من ذلك نوع صنع، قال منكراً عليهم: {هل من} ولما كان إشراكهم بما أشركوا لم تظهر له ثمرة إلا في أنهم جعلوا لهم جزءاً من أموالهم، عبر بقوله: {شركائكم} أي الذين تزعمونهم شركاء {من يفعل من ذلكم} مشيراً إلى علو رتبته بأداة البعد وخطاب الكل. ولما كان الاستفهام الإنكاري التوبيخي في معنى النفي، قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قل جداً: {من شيء} أي يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه. ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا: لا وعزتك! ما لهم ولا لأحد منهم في شيء من ذلك من فعل، أشار إلى عظيم ما ارتكبوه بما أنتجه هذا الدليل، فقال معرضاً عنهم زيادة في التعظيم والعظمة، منزهاً لنفسه الشريفة منها على التنزيه ببعد رتبته الشماء من حالهم: {سبحانه} أي تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك، فإن ذلك نقص عظيم. ولما كان من أخبر بأنه فعل شيئاً أو يفعله كالإماتة والإحياء بالبعث وغيره لا يحول بينه وبينه المقاوم من شريك ونحوه، قال: {وتعالى} أي علواً لا تصل إليه العقول، كما دلت عليه صيغة التفاعل، وجرت قراءة حمزة والكسائي بالخطاب على الأسلوب الماضي، وأذنت قراءة الباقين بالغيب بالإعراض للغضب في قوله معبراً بالمضارع إشارة إلى أن العاقل من شأنه أنه لا يقع منه شرك أصلاً، فكيف إذا كان على سبيل التجدد والاستمرار: {عما يشركون*} في أن يفعلوا شيئاً من ذلك أو يقدروا بنوع من أنواع القدرة على أن يحولوا بينه وبين شيء مما يريد ليستحقوا بذلك أن يعظموا نوع تعظيم، فنزهوه وعظموه بالبراءة من كل معبود سواه. ولما بين لهم سبحانه من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا، فلم يفعلوا، أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا، استعطافاً للتوبة فقال: {ظهر الفساد} أي النقص في جميع ما ينفع الخلق {في البر} بالقحط والخوف ونحوهما {والبحر} بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه قبل. وقال البغوي: البر البوادي والمفاوز، والبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية، قال عكرمة: العرب تسمي المصر بحراً. ثم بين سببه بقوله: {بما} ولما أغنى السياق بدلالته على السيئات عن الافتعال قال: {كسبت} أي عملت من الشر عملاً هو من شدة تراميهم إليه وإن كان على أدنى الوجوه بما أشار إليه تجريد الفعل كأنه مسكوب من علو، ومن شدة إتقان شره كأنه مسبوك. ولما كان أكثر الأفعال باليد، أسند إليها ما يراد به الجملة مصرحاً بعموم كل ما له أهلية التحرك فقال: {أيدي الناس} أي عقوبة لهم على فعلهم. ولما ذكر علته البدائية، ثنى بالجزائية فقال: {لنذيقهم} أي بما لنا من العظمة في رواية قنبل عن ابن كثير بالنون لإظهار العظمة في الإذاقة للبعض والعفو عن البعض، وقراءة الباقين بالتحتانية على سنن الجلالة الماضي؛ وأشار إلى كرمه سبحانه بقوله: {بعض الذي عملوا} أي وباله وحره وحرقته، ويعفو عن كثير إما أصلاً ورأساً، وإما المعاجلة به ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا، أو إلى الآخرة، والمراد الجزاء بمثل أعمالهم جزاء لها تعبيراً عن المسبب بالسبب الذي أتوه إلى الناس فيعرفوا إذا سلبوا المال مقدار ما ذاق منهم ذلك الذي سلبوه، وإذا قتل لهم حميم حرارة ما قاسى حميم ما قتلوه، ونحو ذلك مما استهانوه لما أتوه إلى غيرهم من الأذى البالغ وهم يتضاحكون ويعجبون من جزعه ويستهزؤون غافلين عن شدة ما يعاني من أنواع الحرق هو ومن يعز عليه أمره، ويهمه شأنه، ويده قد غلها عن المساعدة العجز، وقصرها الضعف والقهر؛ ثم ثلث بالعلة الغائية فقال: {لعلهم يرجعون*} أي ليكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى رجوعه عن فعل مثل ذلك خوفاً من أن يعاد لهم بمثل ذلك من الجزاء. ولما كان الإنسان- لنقصه في تقيده بالجزئيات- شديد الوقوف مع العقل التجربي، وكان علمهم بأيام الماضين ووقائع الأولين كافياً لهم في العظة للرجوع عن اعتقادهم، والتبري من عنادهم، وكانوا- لما لم يروا آثارهم رؤية اعتبار، وتأمل وادكار، عدوا ممن لم يرها، فنبه سبحانه على ذلك بالاحتجاب عنهم بحجاب العزة، أمراً له صلى الله عليه وسلم بأن يأمرهم بالسير للنظر، فقال تأكيداً لمعنى الكلام السابق نصحاً لهم ورفقاً بهم: {قل} أي لهؤلاء الذي لا همّ لهم إلا الدنيا، فلا يعبرون فيما ينظرون من ظاهر إلى باطن: {سيروا} وأشار إلى استغراق ديار المهلكين كل حد ما حولهم من الجهات كما سلف فقال: {في الأرض} فإن سيركم الماضي لكونه لم يصحبه عبرة عدم. ولما كان المراد الانقياد إلى التوحيد، وكان قد ذكرهم بما أصابهم على نحو ما أصاب به الماضين قال: {فانظروا} بفاء التعقيب، ولما كان ما أحله بهم في غاية الشدة، عرفهم بذلك، فساق مساق الاستفهام تخويفاً لهم من إصابتهم بمثله فقال: {كيف} ولما كان عذابهم مهولاً، وأمرهم شديداً وبيلاً، دل عليه بتذكير الفعل فقال: {كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كان المراد طوائف المعذبين، وكانوا بعض من مضى، فلم يستغرقوا الزمان، بعض فقال: {من قبل} أي من قبل أيامكم أذاقهم الله وبال أمرهم، وأوقعهم في حفائر مكرهم. ولما كان هذا التنبيه كافياً في الاعتبار، فكان سامعه جديراً بأن يقول: قد تأملت فرأيت آثارهم عظيمة، وصنائعهم مكينة، ومع ذلك فمدنهم خاليه وبيوتهم خاوية، قد ضربوا بسوط العذاب، فعمهم الخسار والثياب، فما لهم عذبوا، فأجيب بقوله: {كان أكثرهم مشركين*} فلذلك أهلكناهم ولم تغنِ عنهم كثرتهم، وأنجينا المؤمنين وما ضرتهم قلتهم. ولما كانوا مع كثرة مرورهم على ديارهم، ونظرهم لآثارهم، وسماعهم لأخبارهم، لم يتعظوا، أشير إلى أنهم عدم، بصرف الخطاب عنهم، وتوجيهه إلى السامع المطيع، فقال مسبباً عما مضى من إقامة الأدلة والوعظ والتخويف: {فأقم} أي يا من لا يفهم عنا حق الفهم سواه، لأنا فضلناه على جميع الخلق {وجهك} أي لا تلفته أصلاً {للدين القيِّم} الذي لا عوج فيه بوجه، بل هو عدل كله، من التبري من الأوثان إلى التلبس بمقام الإحسان، فالزمه واجعله بنصب عينك لا تغفل عنه ولا طرفة عين، لكونه سهلاً فيما تسبب الإعانه عليه في الظاهر بالبيان الذي ليس معه خفاء، وفي الباطن بالجبل عليه حتى أنه ليقبله الأعمى والأصم والأخرس، ويصير فيه كالجبل رسوخاً. ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً، أعاد التخويف لحفظ أهلها، فقال ميسراً الأمر بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار، بشرط الاتصال بالموت: {من قبل} وفك المصدر للتصريح فقال: {أن يأتي يوم} أي عظيم، وهو يوم القيامة، أو الموت، وأشار إلى تفرده سبحانه في الملك بقوله: {لا مرد له} ولفت الكلام في رواية قنبل من مظهر العظمة إلى أعظم منه لاقتضاء المقام ذلك وأظهر في رواية الباقين لئلا يتوهم عود الضمير إلى الدين فقال: {من الله} وإذا لم يرده هو لوعده بالإتيان به، وهو ذو الجلال والإكرام، فمن الذي يرده. ولما حقق إتيانه، فصل أمره مرغباً مرهباً، فقال: {يومئذ} أي إذ يأتي {يصدعون*} أي تتفرق الخلائق كلهم فرقة قد تخفى على بعضهم- بما أشار إليه الإدغام، فيقولون: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار. ولما كان المعنى أنهم فريق في الجنة وفريق في السعير، بين ذلك ببيان عاقبة سببه في جواب من كأنه قال: إلى أين يتفرقون؟ قائلاً: {من كفر} أي منهم فعلم شيئاً {فعليه} أي لا على غيره {كفره} أي وباله، وعلى أنفسهم يعتدون ولها يهدمون فيصيرون في ذلك اليوم إلى النار التي هم بها مكذبون، ومن كان عليه كفره الذي أوبقه إلى الموت، فلا خلاص له فيما بعد الفوت، ووحد الضمير رداً له على لفظ من نصاً على أن كل واحد مجزيّ بعمله لا المجموع من حيث هو مجموع، وإفهاماً لأن الكفرة قليل وإن كانوا أكثر من المؤمنين، لأنهم لا مولى لهم، ولتفرق كلمتهم {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} [الحشر: 14] ولأنه لا اجتماع بين أهل النار ليتأسى بعضهم ببعض، بل كل منهم في شغل شاغل عن معرفة ما يتفق لغيره {ومن عمل صالحاً} أي بالإيمان وما يترتب عليه، وأظهر ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على {من كفر} وبشارة بأن أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً، لأن الله مولاهم فهو يزكيهم ويؤيدهم، وفي جمع الجزاء مع إفراد الشرط ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد بأنه ينفع نفسه وغيره، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأقل ماينفع والديه وشيخه في ذلك العمل، وعبر بالنفس ليدل- بعد الدلالة على إرادة العامل ومن شايعه حتى كان بحكم اتحاد القصد إياه- على أن العمل الصالح يزكي النفوس ويطهرها من رذائل الأخلاق، فقال: {فلأنفسهم} أي خاصة أعمالهم ولهم خاصة عملهم الصالح ولأنفسهم {يمهدون} أي يسوون ويوطئون منازل في القبور والجنة، بل وفي الدنيا فإن الله يعزهم بعز طاعته، والآية من الاحتباك: حذف أولاً عدوانهم على أنفسهم لما دل عليه من المهد، وثانياً كون العمل خاصاً بهم لما دل عليه من كون الكفر على صاحبه خاصة، وأحسن من هذا أن يقال: ذكر الكفر الذي هو السبب دليلاً على الإيمان ثانياً، والعمل الصالح الذي هو الثمرة ثانياً دليلاً على العمل السيء أولاً.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} ولما فرغ من بيان تصدعهم، ذكر علته فقال: {ليجزي} أي الله سبحانه الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانهم لأنه مع المحسنين، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم فقال: {الذين آمنوا} أي ولو على أدنى الوجوه {وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} ولما كانت الأعمال نعمة منه، فكان الجزاء محض إحسان، قال: {من فضله}. ولما كان تنعيمهم من أعظم عذاب الكافرين الذين كانوا يهزؤون بهم ويضحكون منهم، علله بقوله على سبيل التأكيد لدعوى من يظن أن إقبال الدنيا على العصاة لمحبة الله لهم: {إنه لا يحب الكافرين*} أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب، فلا يسويهم بالمؤمنين، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم، فالآية من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملوا السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين، فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكرام المؤمنين هو المقصود بالذات، وهو بعينه إرغام الكافرين، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ. وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر. ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة، بأن قيام السماء والأرض بأمره وأتبع ذلك ما اشتد التحامه به، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود، وهو الرياح، يجعلها سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه، والرياح أيضاً أشبه شيء بالناس، منها النافع نفعاً كبيراً، ومنها الضار ضراً كثيراً، فقال: {ومن آياته} أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجوداً آخر هو زبدة الأمر، ومحط الحكمة، وهو أبدع من هذا الوجود، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم، ويتجلى لفصل القضاء بينهم، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة {أن يرسل الرياح} على سبيل التجدد والاستمرار، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقد تقدم من شرحي لها عند {من يرسل الرياح بشراً} في [النمل: 63] ما فيه كفاية، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع، وكذا إسكانه، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر {مبشرات} أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد ولذة العيش. ولما كان التقدير: ليهلك بها من يشاء من عباده، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر، وما يتبعه من انتشار المفسدات، واضمحلال المصلحات، وطواه لأن السياق لذكر النعم، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه: {وليذيقكم} وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله: {من رحمته} أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة، وصحة الأبدان، وخصب الزمان، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال: {ولتجري الفلك} أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها. ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله: {بأمره} أي بما يلائم من الرياح اللينة، وإذا أراد أعصفها فأغرقت، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف. ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه، عطف على {لتجري} قوله، منبهاً بإعادة اللام إيضاحاً للمعطوف عليه على تعظيم النعمة: {ولتبتغوا} أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله: {من فضله} مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره {ولعلكم} أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم {تشكرون*} ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه، ودفع عنكم من نقمه. ولما كان التقدير: فمن أذاقه من رحمته، ومن كفر أنزل عليه من نقمته، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها «فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة» وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة، ومضارها إن كانت ضارة، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين، وما ينشأ عنها كما ينشأ عنهم. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: البخاري في العلم، ومسلم في المناقب «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» ولما كان الأمر كذلك، عطف على قوله: «ينصر من يشاء» وقوله: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى} أو على ما تقديره تسبيباً عن قوله: {فأقم وجهك للدين القيم}: فلقد أرسلناك بشيراً لمن أطاع بالخير، ونذيراً لمن عصى بالشر، قوله مسلياً لهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأتباعه، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده وصل إلى حالة اليأس، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر: {ولقد أرسلنا} بما لنا من العزة. ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديماً وحديثاً على نصر أوليائه، قال معلماً بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة: {من قبلك} مقدماً له على {رسلاً} أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه، وقال: {إلى قومهم} إعلاماً بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل «إلى قومها». ولما كان إرسال الله سبباً لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال: {فجاءوهم بالبينات} فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين {فانتقمنا} أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة {من الذين أجرموا} لأجرامهم، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان، فخذلناهم وكان حقاً علينا قهر المجرمين، إكراماً لمن عادوهم فينا، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم. ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به، قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال: {وكان} أي على سبيل الثبات والدوام {حقاً علينا} أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه {نصر المؤمنين*} أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها، فليعتد هؤلاء لمثل هذا، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء؟ والآية من الاحتباك: حذف أولاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه.
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)} ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف يشاء وأتبعه آية التسلية والتهديد، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه أو لها مدخل فيه، أتبع ذلك الإعلام بأنه مختص بذلك سبحانه تنبيهاً على عظيم آية الرياح للخص على تدبرها، مؤكداً لأمر البعث ومصرحاً به، فقال ثانياً الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره إلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة: {الله} أي وحده {الذي يرسل} مرة بعد أخرى لأنه المتفرد بالكمال فلا كفوء له: {الرياح} مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة، وفي قراءة الجمهور بالجمع خلافاً لابن كثير وحمزة والكسائي تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد {فتثير سحاباً} لم يكن له وجود. ولما أسند الإثارة إلى الرياح، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقال: {فيبسطه} بعد اجتماعه {في السماء} أي جهة العلو. ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن وأشكاله وألوانه وجميع أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا شرطية فقال: {كيف} أي كما {يشاء} أي في ناحية شاء قليلاً تارة كمسيرة ساعة أو يوم، وكثيراً أخرى كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة تدلك قطعاً على أنه فعله وحده باختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها. ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال، دل عليه بقوله: {ويجعله} أي إذا أراد {كسفاً} أي قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء {فترى} أي بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من أهلية الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه {الودق} أي المطر المتقاطر القريب الواسع {يخرج من خلاله} أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال. ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيراً ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها سبحانه، قال مسبباً عن ذلك مشيراً بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه: {فإذا أصاب} أي الله {به من} أي أرض من {يشاء} ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد أصلاً شيء بقوله: {من عباده} أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم، وهم جديرون بملازمة شكره، والخضوع لأمره، خاصاً لهم بقدرته واختياره، وبين خفتهم بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات، جامعاً رداً على معنى «من» أو على «العباد» لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال: {إذا هم يستبشرون*} أي يظهر عليهم البشر، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين؛ ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله: {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم، وبين رب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار، فقال: {من قبل أن ينزل} أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه {عليهم} ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله: {من قبله} أي الاستبشار سواه من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر {لمبلسين*} أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيراً ويأساً وانقطاعاً، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة. ولما انكشف بذلك الغطاء، وزاحت الشبه، أعرض سبحانه عنهم على تقدير أن يكون «ترى» لمن فيه أهلية الرؤية إيذاناً بأنه لا فهم لهم ملتفتاً إلى خلاصة الخلق الصالح للتلقي عنه قائلاً مسبباً عن ذلك: {فانظر} ولما كان المراد تعظيم النعمة، وأن الرزق أكثر من الخلق، عبر بحرف الغاية إشارة إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال: {إلى آثار} ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال: {رحمت الله} للجامع لمجامع العظة، وأظهر ولم يضمر تنبيهاً على ما في ذلك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار، وتكون الكل من ذلك الماء. ولما كان هذا من الخوارق العظيمة، ولكنه قد تكرر حتى صار مألوفاً، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف يحيي} أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى {الأرض} بإخراج ما ذكر منها. ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائة- على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال: {بعد موتها} بانعدام ذلك. ولما كان هذا دالاً على القدرة على إعادة الموتى ولا بد لأنه مثله سواء، فإن جميع ما لا ينبته الآدميون يتفرق في الأرض بعد كونه هشيماً تذروه الرياح، ويتفتت بحيث يصير تراباً، فإذا نزل عليه الماء عاد كما كان أو أحسن قال: {إن ذلك} أي العظيم الشأن الذي قدر على هذا {لمحيي الموتى} كلها من الحيوانات والنباتات، أي ما زال قادراً على ذلك ثابتاً له هذا الوصف ولا يزال {وهو} مع ذلك {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير*} لأن نسبة القدرة منه سبحانه إلى كل ممكن على حد سواء. ولما كان تكرار مشاهدتهم لمثل هذا الاقتدار لا يفيدهم علماً بالله تعالى، دل على ذلك بقوله، لافتاً الكلام إلى سياق العظمة تنبيهاً على عظيم عفوه سبحانه مع تمام القدرة، مؤكداً له غاية التأكيد، تنبيهاً على أنه ليس من شأن العقلاء عدم الاستفادة بالمواعظ، معبراً بأداة الشك، تنبيهاً على أن إنعامه أكثر من انتقامه، مؤكداً بالقسم لإنكارهم الكفر: {ولئن أرسلنا} بعد وجود هذا الأثر الحسن {ريحاً} عقيماً {فرأوه} أي الأثر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب {مصفراً} قد ذبل وأخذ في التلف من شدة يبس الريح إما بالحر أو البرد {لظلوا} أي لداموا وعزتنا لها يجددون الكفر أبداً وإن كان «ظل» معناه: دام نهاراً، وعبر بالماضي موضع المستقبل نحو «ليظللن والله» تأكيداً لتحقيقه، ولعله عبر بالظلول لأن مدة النوم لا تجديد فيها للكفر، ولذلك أتى فيها بحرف التبعيض حيث قال: {من بعده} أي بعد اصفراره {يكفرون*} بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه إليهم بالإحسان، بعد ما التقت حلقتا البطان، وكان وكان فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا، ولاعند الضراء بالنقمة صبروا، بل لم يزيدوا هناك على الاستبشار، ولا نقصوا هنا شيئاً من تجديد الكفر والإصرار، فلم يزالوا لعدم استبصارهم على الحالة المذمومة، ولم يسبقوا في إزاله النقم، ولا إنالة النعم، فكانوا أضل من النعم.
{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلاً على خفة أحلامهم، وسوء تدبرهم، فإنهم لا للآيات المرئية يعون، ولا للمتلوة عليهم يسمعون، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني، فقال ممثلاً لهم بثلاثة أصناف من الناس، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك: {فإنك} أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفاً مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك {لا تسمع الموتى} أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم، فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب، إسماعاً ينفعهم، لأنه مما اختص به سبحانه، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم {ولا تسمع} أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير {الصم} أي الذين لا سمع لهم أصلاً، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل، فكان التقدير: فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم {الدعاء} إذا دعوتهم، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال: {إذا ولوا} وذكر الفعل ولم يقل: ولت، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلاً، ولذا بنى من فاعله حالاً هي قوله: {مدبرين*}. ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال: {وما أنت بهاد العمي} أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى، فالتقدير: وما أنت تجدد هداية العمي {عن ضلالتهم} إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال- بما أشار إليه التأنيث، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم: خلو بين هذا الرجل وبين الناس، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم، والثالث المنافقون، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ- والله الموفق. ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله: {إن} أي ما {تسمع إلا من يؤمن} أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً {بآياتنا} أي فيه قابلية ذلك دائماً، فهو يذعن للآيات المسموعة، ويعتبر بالآيات المصنوعة، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال: {فهم} أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم {مسلمون} أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد. ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات، تارة في الأجسام، وتارة في القوى، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته، فلانت للأدلة عريكته، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها، فكأنهم ينكرونه، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر: {الله} أي الجامع لصفات الكمال وحده. ولما كان تعريف الموصول ظاهراً غير ملبس، عبر به دون اسم الفاعل فقال: {الذي خلقكم} أي من العدم. ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف، وأضعف ما يكون في أوله قال: {من ضعف} أي مطلق- بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار، ثم ما شاء الله من سن الصبي. ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال: {ثم جعل} عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال: {من بعد} ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول، أظهر ولم يضمر فقال: {ضعف قوة} بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين وأربعين عاماً فلو لا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه {ثم جعل من بعد قوة} في شباب تقوى به القلوب، وتحمى له الأنوف، وتشمخ من جرائه النفوس {ضعفاً} رداً لما لكم إلى أصل حالكم. ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال: {وشيبة} وهي بياض في الشعر ناشئ من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم، وينقص الهمة والعلم، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى. ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي، أنتج ذلك كله- ولا بد- التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال: {يخلق ما يشاء} أي من هذا وغيره {وهو العليم} أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه {القدير*} فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح، وعبارة بعد إشارة. ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره، عطف على قوله أول السورة {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} أو على ما تقديره: فيوم يريد موتكم تموتون، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدمون، قوله: {ويوم تقوم الساعة} أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر، ولذا سميت بالساعة إعلاماً بيسرها عليه سبحانه {يقسم المجرمون} أي العريقون في الإجرام جرياً منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علماً: {ما} أي إنهم ما {لبثوا} في الدنيا والبرزخ {غير ساعة} أي قدر يسير من ليل أو نهار. ولما كان هذا أمراً معجباً لأنه كلام كذب بحيث يؤرث أشد الفضيحة والخزي في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغنٍ شيئاً، استأنف قوله تنبيهاً على أنه الفاعل له: فلا عجب {كذلك} أي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها {كانوا} في الدنيا كوناً هو كالجبلة {يؤفكون*} أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق إلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم، فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة، ودار ودار، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} ولما وصف الجاهلين، أتبعه صفة العلماء فقال: {وقال الذين} وعبر بقوله: {أوتوا العلم} تنبيهاً على شكر من آتاهموه، وبناه للمجهول إشارة إلى تسهيل أخذه عليهم من الجليل والحقير، وأتبعه ما لا يشرق أنواره ويبرز ثماره غيره، فقال: {والإيمان} إشارة إلى تفكرهم في جميع الآيات الواضحة والغامضة مقسمين كما أقسم أولئك محققين مقالهم مواجهين للمجرمين تبكيتاً وتوبيخاً مؤكدين ما أنكر أولئك: {لقد لبثتم في كتاب الله} أي في إخبار قضاء الذي له جميع الكمال الذي كتبه في كتابه الذي كان يخبر به الدنيا {إلى يوم البعث} كما قال تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] وأما تعيين مدة اللبث فأخفاه عن عباده، ولما أعلم القرآن أن غاية البرزخ البعث، وصدق في إخباره، سببوا عن ذلك قوله: {فهذا} أي فتسبب ما كنا نقوله وتكذبوننا فيه، نقول لكم الآن حيث لا تقدرون على تكذيب: هذا {يوم البعث} أي الذي آمنا به وكنتم تنكرونه، قد كان طبق ما كنا نقوله لكم، فقد تبين بطلان قولكم، وكنتم تدعون الخلاص فيه بأنواع من التكاذيب قصداً للمغالبة، فما كنتم صانعين عند حضوره فاصنعوه الآن، تنبيهاً لهم على أنه لا فائدة في تحرير مقدار اللبث في الدنيا ولا في البرزخ، وإنما الفائدة في التصديق بما أخبر به الكتاب حيث كان التصديق نافعاً. ولما كان التقدير: قد أتى كما كنا به عالمين، فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله: {ولكنكم كنتم} أي كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون*} أي ليس لكم علم أصلاً، لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه، والتوصل إليه بأسبابه، فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك اليوم. ولما كان قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [النساء: 173] في أشكالها من الآيات دالاً على أن هذه الدنيا دار العمل، وأن دار الآخرة دار الجزاء، وأن البرزخ هو حائل بينهما، فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، سبب عن ذلك قوله: {فيومئذ} أي إذ تقوم الساعة، وتقع هذه المقاولة {لا ينفع} أي نفعاً ما {الذين ظلموا} أي وضعوا الأمور في غير مواضعها {معذرتهم} وهي ما تثبت عذرهم، وهو إيساغ الحلية في وجه يزيل ما ظهر من التقصير لأنهم لا عذر لهم وإن بالغوا في إثباته، والعبارة شديدة جداً من حيث كانت تعطي أن من وقع منه ظلم ما يوماً ما كان هذا حاله، وهي تدل على أنه تكون منهم معاذير، وترقق كثير، وتذلل كبير، فلا يقبل منه شيء- هذا على قراءة الجماعة بتأنيث الفعل وهي أبلغ من قراءة الكوفيين بتذكيره بتأويل العذر، لأنه إذا لم ينفع الاعتذار الكثير لم ينفع القليل الذي دل عليه المجرد ولا عكس، ويمكن أن يكون قراءة الجمهور متوجهة للكفرة وقراءة الكوفيين للعصاة من المؤمنين، فإن منهم من ينفعه الاعتذار فيعفى عنه، ويشهد لهذا ما ورد في آخر أهل النار خروجاً منها أنه يسأل في صرف وجهه عنها ويعاهد ربه سبحانه أنه لا يسأله غير ذلك، فإذا صرفه عن ذلك رأى شجرة عظيمة فيسأل أن يقدمه إلى ظلها فيقول الله: ألست أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسال؟ فيقول: بلى! يارب! ولكن لا أكون أشقى خلقك- الحديث، وفيه «وربه يعذره» فهذا قد قبل عذره في الجملة، ولا يطلب منه أن يزيل العتب لأن ذلك لا يمكن إلا بالعمل، وقد فات محله، فأتت المغفرة من وراء ذلك كله. ولما كان العتاب من سنة الأحباب قال: {ولا هم} أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها {يستعتبون*} أي يطلب منهم ظاهراً أوباطناً بتلويح أو تصريح أن يزيلوا ما وقعوا فيه مما يوجب العتب، وهو الموجدة عن تقصير يقع فيه المعتوب، لأن ذلك لا يكون إلا بالطاعة وقد فات محلها بكشف الغطاء لفوات الدار التي تنفع فيها الطاعات لكونها إيماناً بالغيب، والعبارة تدل على أن المؤمنين يعاتبون عتاباً يلذذهم. ولما أبانت هذه السورة طرق الإيمان أيّ بيان، وألقت على وجوه أهل الطغيان غاية الخزي والهوان، وكان التقدير: لقد أتينا في هذه السورة خاصة بعد عموم ما في سائر القرآن بكل حجة لا تقوم لها الأمثال، ولم نبق لأحد عذراً ولا شيئاً من إشكال، لكونها ليس لها في وضوحها مثال، عطف عليه قوله صارفاً الكلام إلى مقام العظمة تقبيحاً لمخالفتهم لما يأتي من قبله وترهيباً من الأخذ مؤكداً لأنهم ينكرون أن يكون في القرآن دلالة، ومن أقر منهم مع الكفر فكفره قائم مقام إنكاره: {ولقد ضربنا}. ولما كانت العناية فيها بالناس أكثر، قال: {للناس} فقدمهم في الذكر {في هذا القرآن} أي عامة هذه السورة وغيرها {من كل مثل} أي معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال، في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال. ولما كان المختوم على مشاعرهم منهم لا يؤمنون بشيء. وكان ذلك من أدل دليل على علمه تعالى وقدرته، قال مقسماً تكذيباً لقولهم في الاقتراحات خاصاً من أهل العلم والإيمان رأسهم، دلالة على أن التصرف في القلوب من العظم بمكانة تجل عن الوصف، معبراً بالشرط إعلاماً بأنه سبحانه لا يجب عليه شيء، عاطفاً على نحو: فلم ينفعهم شيء من ذلك: {ولئن جئتهم} أي الناس عامة {بآية} أي دلالة واضحة على صدقك معجزة، غير ما جئتهم به مما اقترحوه ووعدوا الإيمان به مرئية كانت أو مسموعة {ليقولن الذين كفروا} أي حكمنا بكفرهم غلظة وجفاء، ودل على فرط عنادهم بقوله: {إن} أي ما ولما كان التخصيص بالغلظة أشد على النفس، ضم إليه أتباعه تسلية وبياناً لعظيم شقاقهم فقال: {أنتم} أي أيها الآتي بالآية وأتباعه {إلا مبطلون*} أي من أهل العرافة في الباطل بالإتيان بما لا حقيقة له في صورة ما له حقيقة، وأما الذين آمنوا فيقولون: نحن بهذه الآية مؤمنون. ولما كان من أعجب العجب أن من يدعي العقل يصر على التكذيب بالحق، ولا يصغي لدليل، ولا يهتدي لسبيل، قال مستأنفاً في جواب من سأله: هل يكون مثل هذا الطبع؟ ومرغباً في العلم: {كذلك} أي مثل هذا الطبع العظيم جداً، ولما كان كون الشيء الواحد لناس هداية ولناس ضلالة جامعاً إلى العظمة تمام العلم والحكمة، صرف الخطاب عنها إلى الاسم الأعظم الجامع فقال: {يطبع الله} أي الذي لا كفوء له، فمهما أراد كان، عادة مستمرة، ونبه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال: {على قلوب الذين لا يعلمون*} أي لا يجددون- أي لعدم القابلية- العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضىً منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات. ولما كان هذا مذكراً بعظيم قدرته بعد الإياس من إيمانهم، سبب عنه قوله: {فاصبر} أي على إنذارهم مع هذا الجفاء والرد بالباطل والأذى، فإن الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا. ولما كان قد تقدم إليه بأنه لا بد أن يظهر أمره على كل أمر، علله بقوله مؤكداً لأن إنفاذ مثل ذلك في محل الإنكار لعظم المخالفين وكثرتهم مظهراً غير مضمر لئلا يظن التقييد بحيثية الطبع: {إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله في كل ما وعدك به الذي منه نصرك وإظهار دينك على الدين كله ونصر من قارب أتباعك في التمسك بكتاب من كتب الله وإن كان قد نسخ على من لا كتاب له {حق} أي ثابت جداً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان، وتأتي به مطايا الحدثان. ولما كان التقدير: فلا تعجل، عطف عليه قوله: {ولا يستخفنك} أي يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره أو بتفتيرك عن التبليغ، بل كن بعيداً منهم بالغلظة والجفاء والصدع بمر الحق من غير محاباة ما، بعداً لا يطمعون معه أن يحتالوا في خفتك في ذلك بنوع احتيال، وقراءة «يستحقنك» من الحق معناها: أي لا يطلب منك الحق الذي هوالفصل العدل بينك وبينهم أي لا تطلبه أنت، فهو مثل: لا أرينك ههنا تنهى نفسك وأنت تريد نهيه عن الكون بحيث تراه، والنهي في قراءة الجماعة بالثقيلة أشد منه في رواية رويس عن يعقوب بالخفيفة، فقراءة الجماعة مصوبة إلى أصل الدين، أي لا تفعل معهم فعلاً يطمعهم في أن تميل إليهم فيه، وقراءة رويس إلى نحو الأموال فإنه كان يتألفهم بالإيثار بها، ولا شك أنه إذا آثرهم على أكابر المسلمين أطمعهم ذلك في أن يطلبوا أن يميل معهم، وما أفاد هذا إلا تحويل النهي، ولو قيل: لا تخفن معهم، لم يفد ذلك، ولا يقال عكس هذا من أن النهي في الثقيلة أخف لأنه نهي عن الفعل المؤكد فيبقى أصل الفعل. وكذا ما صحبه تأكيد خفيف، وفي الخفيفة غير المؤكد تأكيداً خفيفاً فلا يبقى غير أصل الفعل فهو أبلغ، لأن النون لم تدخل إلا بعد دخول الناهي فلم تفد إلا قوة النهي لا قوة المنهي عنه- والله أعلم. {الذين لا يوقنون} أي أذى الذين لا يصدقون بوعودنا تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون فأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون بنصر الله لأوليائه المؤمنين ولمن قاربهم في التمسك بكتاب أصله صحيح، فهم يبالغون في العداوة والتكذيب حتى أنهم ليخاطرون في وعد الله بنصر الروم على فارس، كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أن ذلك لا يكون، فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهار عن قريب علموا كذبهم عياناً، وعلموا- إن كان لهم علم- أن الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهو صاغرون، ويحشرون وهو داخرون، {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227]، فقد انعطف آخرها على أولها عطف الحبيب على الحبيب، واتصل به اتصال القريب بالقريب، والتحم التحام النسيب بالنسيب.
|