فصل: سورة العصر

صباحاً 10 :15
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
13
السبت
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفتع، موبخاً من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال، معنفاً من أثر دنياه على أخراه، مقسماً بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر، فمن غلب عليه الروح شكر، ومن غلب عليه الطبع- وهم الأكثر- كفر فقال‏:‏ ‏{‏والعاديات‏}‏ أي الدواب التي من شأنها أن تجري بغاية السرعة، وهي الخيل التي ظهورها عز وبطونها كنز، وهي لرجل وزر ولرجل أجر، فمن فاخر بها ونادى بها أهل الإسلام وأبطره عزها حتى قطع الطريق وأخاف الرفيق كانت له شراً، ومن جعلها في سبيل الله كانت له أجراً، ومن حمل عليها ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها وكانت له ستراً، وإنما أقسم بها ليتأمل ما فيها من الأسرار الكبار التي باينت به أمثالها من الدواب كالثور مثلاً والحمار ليعلم أن الذي خصها بذلك فاعل مختار واحد قهار، فالقسم في الحقيقة به سبحانه‏.‏

ولما كانت دالة على الضابحات بالالتزام، قال ناصباً به أو ب «تضبح» مقدراً‏:‏ ‏{‏ضبحاً *‏}‏ والضبح صوت جهير من أفواهها عند العدو الشديد، ليس بصهيل ولا حمحمة ولا رغاء وهو النفس، وليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وأصله للثعلب واستيعر للخيل، وحكاه ابن عباس رضي الله عنهما فقال‏:‏ أح أح، أو الضبح عدو دون التقريب‏.‏

ولما ذكر عدوها، أتبعه ما ينشأ عنه، فقال عاطفاً بأداة التعقيب لأن العدو بحيث يتسبب عنه ويتعقبه الإيراء‏:‏ ‏{‏فالموريات‏}‏ أي المخرجات للنار بما يصطك من نعلها بالأحجار، لا سيما عند سلوك الأوعار‏.‏

ولما كان الإيراء أثر القدح قال‏:‏ ‏{‏قدحاً *‏}‏ أي تقدح ضرباً بعنف كضرب الزند ليوري النار، ونسب الإيراء إليها لإيجادها صورته وإن لم يكن لها قصد إليه‏.‏

ولما ذكر العدو وما يتأثر عنه، ذكر نتيجته وغايته فقال‏:‏ ‏{‏فالمغيرات‏}‏ أي بإغارة أهلها عليها على العدو والإغارة والركض الشديد لإرادة القتل والنهب‏.‏ ولما كانت الإغارة الكائن عنها الثبور والويل أروع ما تكون في أعقاب الليل قال‏:‏ ‏{‏صبحاً *‏}‏ أي ذات دخول في الصباح‏.‏

ولما كان الأعداء حال الإغارة يكون مختلفاً تارة يميناً وتارة شمالاً وتارة أماماً وتارة وراء بحسب الكر والفر في المصاولة والمحاولة تارة أثر الهارب، وأخرى في مصاولة المقبل المحارب، فينشأ عنها الغبار الكثير لإثارة الهواء له واصطدام بعضه ببعض لتعاكسه بقوة الدفع من قوائمها وما تحركه منه، وكان المقسم به منظوراً فيه إلى ذاته ونتيجة القسم منظوراً فيها إلى الفعل بادئ بدء مع قطع النظر بالأصالة عن الذات، عطف على اسم الفاعل بعد حله إلى أن وصلتها فقال‏:‏ ‏{‏فأثرن به‏}‏ أي بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدة العدو ‏{‏نقعاً *‏}‏ أي غباراً مع الاعناق والصياح والزجر بالعنق حتى صار ذلك الغبار منحبكاً ومنعقداً عليها‏.‏

ولما كان المغير يتوسط الجمع عند اختلال حالهم فيفرق شملهم لأنهم متى افترقوا حصل فيهم الخلل، ومتى اختلفوا تخللهم العدو ففرق شملهم قال‏:‏ ‏{‏فوسطن به‏}‏ أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع ‏{‏جمعاً‏}‏ أي وهو المقصود بالإغارة، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها‏.‏

ولما أقسم بالخيل التي هي أشرف الحيوان كما أن الإنسان المقسم لأجله أشرف ما اتصف منه بالبيان، وتجري به أفكاره كخيل الرهان، وتقدح المعاني تارة مقترنة بأشرف اللمعان، وأخرى بأخس ما يقع به الاقتران، من الزور والبهتان، والإلحاد والطغيان، وتغير منه ثواقب الأذهان، تارة على شبه الخصوم بالبرهان، وأخرى بما يغير به من الشبه الملتبسة في وجوه المعاني الحسان، وينثر تارة المعاني الصحيحة على أهل الطغيان، من ذوي البدع والكفران، وأخرى الفاسدة على حزب الملك الديان، وتتوسط تارة جمع أولي الطغيان، وأخرى جمع أولي الإيمان، وكانت الإغارة في الغالب لأجل قهر المغار عليهم على أموالهم عدواناً إن كان ذلك في غير الجهاد، وإن كانت في الجهاد فقل من يخلص في ذلك الحال، فيكون عمله ليس إلا لله كما أشار إليه الحديث القدسي‏:‏ «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه» قال مجيباً للقسم بذكر المقسم عليه حاكماً على النوع باعتبار عد المخلص لقلته عدماً، مؤكداً لما لهم من تكذيب ذلك فإن كل أحد يتبرأ من مثل هذا الحال‏:‏ ‏{‏إن الإنسان‏}‏ أي هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه ‏{‏لربه‏}‏ أي المحسن إليه بإبداعه ثم إبقائه وتدبيره وتربيته ‏{‏لكنود *‏}‏ أي كفور نكد لسوء المعاملة حيث يقدم بما أحسن به الله إليه من الصافنات الجياد وبما آتاه من قوة الجنان والأركان على ما نهاه عنه، ومصدره الكنود بالضم وهو كفران النعمة، فالمراد هنا- بالتعبير عنه بهذه الصيغة التي هي للمبالغة- من يزدري القليل ولا يشكر الكثير، وينسى كثير النعمة بقليل المحنة، ويلوم ربه في أيسر نقمة، وقال الفضيل بن عياض‏:‏ هو من أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور ضده‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو فقال‏:‏ «إن الإنسان لربه لكنود» أي لكفور، يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازي ولا يحاسب على قليل ذلك وكثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكأنه ما سمع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ ‏{‏وإنه لحب الخير‏}‏ أي المال ‏{‏لشديد‏}‏ لبخيل، ‏{‏وإنه على ذلك لشهيد‏}‏ فإن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله ‏{‏إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور‏}‏ أي ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه ‏{‏إن ربهم بهم يومئذ لخبير‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أمرهم ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏- انتهى‏.‏

ولما كان إقدام الإنسان على الظلم عجباً، فإذا كان يشهد على نفسه بالظلم كان أعجب، قال مؤكداً لما لأكثر الخلق قبل البعث والمحاققة من إنكار كفرانه‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي الإنسان ‏{‏على ذلك‏}‏ أي الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه ‏{‏لشهيد *‏}‏ لأنه مقر إذا حوقق بأن جميع ما هو فيه من إحسان ربه وبأن ربه نهاه عن المخالفة، أو أنه لا أمر عنده منه بما فعل، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتحرك بحركة يمكن أن يكرهها الملك الذي هو في خدمته ولا شيء له إلا منه بغير إذنه، وأنه إن تحرك بغير ذلك كان كافراً لإحسانه مستحقاً لعقابه، لا يقدر على إنكار شيء منه‏.‏

ولما كان من العجائب أن يكفر أحد إحسان المنعم، وهو شاهد على نفسه، ذكر الحامل له على ذلك حتى هان عليه فقال‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم ‏{‏لحب‏}‏ أي لأجل حب ‏{‏الخير‏}‏ أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيراً ‏{‏لشديد *‏}‏ أي بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأن منفعته في الدنيا وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه وهو معرض عن الدين حيث كانت منفعته آجلة غائبة مع علمه بأن المعرّف بما يرضى من خدمة ربه الحاث عليها الداعي إليها فهو لحب عبادة الله ضعيف متقاعس، وكان حبه الخير يقتضي عنه الشكر الذي يتقاضى الزيادة، ولا يتخيل أن شديداً عامل في الحب لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها، وإنما ذلك المتقدم دليل على المعمول المحذوف‏.‏

ولما كان المال فانياً لا ينبغي لعاقل أن يعلق أمله به فضلاً عن أن يؤثرة على الباقي، نبهه على ذلك بتهديد بليغ، فقال مسبباً عن ذلك معجباً، موقفاً له على ما يؤول إليه أمره‏:‏ ‏{‏أفلا يعلم‏}‏ أي هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه‏.‏

ولما كان الحب أمراً قلبياً، لا يطلع عليه إلا عالم الغيب، وكان البعث من عالم الغيب، وكان أمراً لا بد منه، وكان المخوف مطلق كونه، لم يحتج إلى تعيين الفاعل، فبنى للمفعول قوله مهدداً مؤذناً بأنه شديد القدرة على إثارة الخفايا، معلقاً بما يقدره ما يؤول إليه أمره من أن الله يحاسبه ويجازيه على أعماله، وأنه لا ينفعه مال ولا غيره، ولا ينجيه إلا ما كان من أعماله موافقاً لأمر ربه مبنياً على أساس الإيمان واقعاً بالإخلاص‏:‏ ‏{‏إذا بعثر‏}‏ أي أثير بغاية السهولة وأخرج وفرق ونظر وفتش بغاية السهولة‏.‏

ولما كان الميت قبل البعث جماداً، عبر عنه بأداة ما لا يعقل فقال‏:‏ ‏{‏ما في القبور *‏}‏ أي أخرج ما فيها من الموتى الذين تنكر العرب بعثهم فنشروا للحساب، أو من عظامهم ولحومهم وأعصابهم وجلودهم وجميع أجسامهم، وقلب بعضه على بعض حتى أعيد كل شيء منه على ما كان عليه، ثم أعيدت إليه الروح، فكان كل أحد على ما مات عليه‏.‏

ولما كان المخوف إنما هو ما يتأثر عن البعث من الجزاء على الأعمال الفاسدة قال‏:‏ ‏{‏وحصل‏}‏ أي أخرج وميز وجمع فعرف أنه معلوم كله بغاية السهولة كما أشار البناء للمفعول ‏{‏ما في الصدور *‏}‏ أي من خير أو شر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال، وهذا يدل على أن النيات يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها‏.‏

ولما كان علم ما في الصدور أمراً باهراً للعقل، قال جامعاً نظراً إلى المعنى لما عبر عنه بالإفراد بالنظر إلى اللفظ، لأن العلم بالكل يلازمه العلم بالبعض بخلاف العكس مؤكداً إشارة إلى أنه مما لا يكاد يصدق، معللاً للجملة المحذوفة الدالة على الحساب‏:‏ ‏{‏إن ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بخلقهم وزرقهم وتربيتهم وجعلهم أقوياء سويين ‏{‏بهم‏}‏ قدم هذا الجار والمجرور لا للاختصاص، بل للاشارة إلى نهاية الخبر‏.‏ ولما كانت الخبرة للإحاطة بالشيء ظاهراً وباطناً، وكان يلزم من الخبرة بالشيء بعد كونه بمدد طوال الخبرة به حال كونه من باب الأولى قال‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة ‏{‏لخبير *‏}‏ أي محيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم، فكيف بظواهرها جواهر وأعراضاً، أقوالاً وأفعالاً، خفية كانت أو ظاهرة، سراً كانت أو علانية، خيراً كانت أو شراً، ومن المعلوم أن فيها الظلم وغيره، ومنهم المحسن وغيره، فلأجل علمه سبحانه بذلك غاية العلم يحاسبهم لئلا يقع ما ينافي الحكمة وهو أن تستوي الحسنة والسيئة، فالقصد بالقيد وتقديم الظرف الإبلاغ في التعريف بأنه سبحانه وتعالى محيط العلم بذلك كما إذا قيل لك‏:‏ تعرف فلاناً‏؟‏ فقلت‏:‏ ولا أعرف إلا هو، فإن قصدك بذلك أن معرفتك به في غاية الإتقان، لا نفي معرفة غيره، وفيه إشعار بأن كل أحد يعرف غاية المعرفة في ذلك اليوم أنه سبحانه وتعالى عالم بأحواله لا ذهول له عن شيء من ذلك كما يقع في هذه الدار من أن الإنسان يعمل أشياء كثيرة وهو غافل عن أن ربه سبحانه مطلع عليه فيها، ولو نبه لعلم، فلإحاطته سبحانه وتعالى بجميع أحوالهم كان عالماً بأن الإنسان لربه لكنود، وقد رجع آخرها إلى أولها، وتكفل مفصلها بشرح مجملها- والله الهادي للصواب‏.‏

سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته فقال‏:‏ ‏{‏القارعة *‏}‏ أي الصيحة أو القيامة، سميت بها لأنها تقرع أسماع الناس وتدقها دقاً شديداً عظيماً مزعجاً بالأفزاع، والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار، والأشياء الثابتة بالانتثار‏.‏

ولما كانت تفوق الوصف في عظم شأنها وجليل سلطانها، عبر عن ذلك وزاده عظماً بالإلهام والإظهار في موضع الإضمار مشيراً بالاستفهام إلى أنها مما يستحق السؤال عنه على وجه التعجيب والاستعظام فقال‏:‏ ‏{‏ما القارعة‏}‏ وأكد تعظيمها إعلاماً- بأنه مهما خطر ببالك من عظمها فهي أعظم منه فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ أي وأيّ شيء أعلمك وإن بالغت في التعرف، وأظهر موضع الإضمار لذلك فقال‏:‏ ‏{‏ما القارعة *‏}‏ أي أنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثله‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ «أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور» كان ذلك مظنة لأن يسأل‏:‏ متى ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ يوم القيامة الهائل الأمر، الفظيع الحال، الشديد البأس، والقيامة هي القارعة، وكررت تعظيماً لأمرها كما ورد في قوله تعالى ‏{‏الحاقة ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1- 2‏]‏ وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فغشيهم من اليم ما غشيهم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 78‏]‏ ثم زاد عظيم هوله إيضاحاً بقوله تعالى ‏{‏يوم يكون الناس كالفراش المبثوث‏}‏ والفراش ما تهافت في النار من البعوض، والمبثوث‏:‏ المنتشر ‏{‏وتكون الجبال كالعهن المنفوش‏}‏ والعهن‏:‏ الصوف المصبوغ، وخص لإعداده للغزل إذ لا يصبغ لغيره بخلاف الأبيض فإنه- لا يلزم فيه ذلك، ثم ذكر حال الخلق في وزن الأعمال وصيرورة كل فريق إلى ما كتب له وقدر- انتهى‏.‏

ولما ألقى السامع جميع فكره إلى تعرف أحوالها، قال ما تقديره‏:‏ تكون ‏{‏يوم يكون‏}‏ أي كوناً كأنه جبلة ‏{‏الناس‏}‏ أي الذين حالهم النوس على كثرتهم واختلاف ذواتهم وأحوالهم ومراتبهم ومقاديرهم وانتشارهم بعد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور ‏{‏كالفراش‏}‏ أي صغار الجراد لأنها تتفرش وتتهافت على النار، أو هو طير غير ذلك لا دم له، يتساقط في النار وليس ببعوض ولا ذباب، وقال حمزة الكرماني‏:‏ شبههم بالفراش التي تطير من هنا ومن هنا ولا تجري على سمت واحد وهي همج يجتلبها السراج، وقال غيره‏:‏ وجه الشبه الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما تتطاير الفراش، وكثرة التهافت في النار وركوب بعضهم بعضاً- وموج بعضهم في بعض من شدة الهول كما قال تعالى ‏{‏كأنهم جراد منتشر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏المبثوث *‏}‏ أي المنتشر المتفرق‏.‏

ولما كانت الجبال أشد ما تكون، عظم الرهبة بالإخبار بما يفعل بها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وتكون الجبال‏}‏ على ما هي عليه من الشدة والصلابة وأنها صخور راسخة ‏{‏كالعهن‏}‏ أي الصوف المصبغ لأنها ملونة كما قال تعالى‏:‏

‏{‏ومن الجبال جدد بيض وحمر‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏ أي وغير ذلك ‏{‏المنفوش *‏}‏ أي المندوف المفرق الأجزاء الذي ليس هو بمتلبد شيء منه على غيره، فتراها لذلك متطايرة في الجو كالهباء المنثور حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمتاً‏.‏

ولما كان اليوم إنما يوصف لأجل ما يقع فيه، سبب عن ذلك قوله مفصلاً لهم‏:‏ ‏{‏فأما من ثقلت‏}‏ أي بالرجحان‏.‏ ولما كانت الموزونات كثيرة الأنواع جداً، جمع الميزان باعتبارها فقال‏:‏ ‏{‏موازينه *‏}‏ أي مقادير أنواع حسناته باتباع الحق لأنه ثقيل في الدنيا واجتناب الباطل، والموزون الأعمال أنفسها تجسداً وصحائفها ‏{‏فهو‏}‏ بسبب رجحان حسناته ‏{‏في عيشة‏}‏ أي حياة تتقلب فيها، ولعله ألحقها الهاء الدالة على الوحدة- والمراد العيش- ليفهم أنها على حالة واحدة- في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا ‏{‏راضية *‏}‏ أي ذات رضى أو مرضية لأن أمه- جنة عالية ‏{‏وأما من خفت‏}‏ أي طاشت ‏{‏موازينه *‏}‏ أي بأن غلبت سيئاته أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا ‏{‏فأمه‏}‏ أي التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض‏:‏ أم- لأنها تقصد لذلك، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأم، وكذا المسكن، وهو يفهم أنه مخلوق منها غلب عليه طبع الشيطان لكون العنصر الناري أكثر أجزائه، وعظمها بالتنكير والتعبير بالوصف المعلم بأنه لا قرار لها فقال‏:‏ ‏{‏هاوية *‏}‏ أي نار نازلة سافلة جداً فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً وهو في عيشة ساخطة، فالآية من الاحتباك، ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً، وذكر الأم ثانياً دليلاً على حذفها أولاً‏.‏

ولما كانت مما يفوت الوصف بعظيم أهوالها وشديد زلزالها، جمع الأمر فيها فقال منكراً أن يكون مخلوق يعرف وصفها‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ أي وأيّ شيء أعلمك وإن اشتد تكلفك ‏{‏ما هيه *‏}‏ أي الهاوية لأنه لم يعهد أحد مثلها ليقيسها عليه، وهاء السكت إشارة إلى إن ذكرها مما يكرب القلب حتى لا يقدر على الاسترسال في الكلام أو إلى- أنها مما ينبغي للسامع أن يقرع بهذا الاستفهام عنها سمعه فيسكت لسماع الجواب وفهمه غاية السكوت ويصغي غاية الإصغاء‏.‏

ولما هوّلها بما ذكر، أتبعها ما يمكن البشر معرفته من وصفها فقال ‏{‏نار حامية *‏}‏ أي قد انتهى حرها، هذا ما تتعارفونه بينكم، وأما التفاصيل فأمر لا يعلمه إلا الله تعالى، وهذا نهاية القارعة، فتلاؤم الأول للآخر واضح جداً وظاهر- والله أعلم‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ولما أثبت في القارعة أمر الساعة، وقسم الناس فيها إلى شقي وسعيد، وختم بالشقي، افتتح هذه بعلة الشقاوة ومبدأ الحشر لينزجر السامع عن هذا السبب ليكون من القسم الأول، فقال ما حاصله‏:‏ انقسمتم فكان قسم منكم هالكاً لأنه ‏{‏ألهكم‏}‏ أي أغفلكم إلا النادر منكم غفلة عظيمة عن الموت الذي هو وحده كاف في البعث على الزهد فكيف بما بعده ‏{‏التكاثر *‏}‏ وهو المباهاة والمفاخرة بكثرة الأعراض الفانية من متاع الدنيا‏:‏ المال والجاه والبنين ونحوها مما هو شاغل عن الله، فكان ذلك موجباً لصرف الهمة كلها إلى الجمع، فصرفكم ذلك إلى اللهو، فأغفلكم عما أمامكم من الآخرة والدين الحق وعن ذكر ربكم وعن كل ما ينجيكم من سخطه، أو عن المنافسة في الأعمال الموصلة إلى أعلى الدرجات بكثرة الطاعات، وذلك كله لأنكم لا تسلمون بما غلب عليكم من الجهل الذي سببه شهوة النفس وحب الراحة فخفت موازينكم، وحذف هذا الشيء الملهو عنه لتعظيمه والدلالة على أنه ليس غيره مما يؤسف على اللهو عنه‏.‏

ولما كانوا ينكرون البعث، ويعتقدون دوام- الإقامة في القبور، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لا بد منه ولا مرية فيه، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال، فقال‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن ‏{‏زرتم المقابر *‏}‏ أي بالموت والدفن، فكنتم فيها عرضة للبعث لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم لأن دار العمل فاتت كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالموت كما أن الزائر معرض للرجوع إلى داره وحل قراره، فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت لكان كافياً فكيف والأمر أعظم من ذلك‏؟‏ فإن الموت مقدمة من مقدمات العرض، قال أبو حيان‏:‏ سمع بعض الأعراب الآية فقال‏:‏ بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم، وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأها ثم قال‏:‏ ما أرى المقابر إلا زيارة، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته، إما إلى الجنة أو إلى النار‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألهى عن ذكرها، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال‏:‏ ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما يعضد ذلك وهو قوله ‏{‏كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كلا لو تعلمون علم اليقين‏}‏ وحذف جواب «لو» والتقدير‏:‏ لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» الحديث، وقوله تعالى «لترون الجحيم» جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد إلى آخر السورة- انتهى‏.‏

ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفه لأن من المعلوم قطعاً أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم، وكان العقلاء المنتفعون بالكون في غاية التظالم، وكان الحكيم لا يرضى أصلاً أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضاً ثم لا يحكم بينهم ولا ينظر في مصالحهم علم قطعاً أنه يبعثه ليحكم بينهم لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم، وقد وعد بذلك وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فثبت ذلك ثبوتاً لا مرية فيه ولا مزيد عليه، وكان الحال مقتضياً لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه وأقبل على ما لا يعنيه، فقال سبحانه معبراً بأم الروادع، وجامعة الزواجر والصوادع‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ارتدعوا أتم ردع وانزجروا أعظم زجر عن الاشتغال بما لا يجدي، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ولم تخلقوا لذلك، إنما خلقتم لأمر عظيم، فهو الذي يهمكم فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم- فكنتم لاهين كمن كان يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروغ وعلل النحو وغيرها وترك ما هو أهم منه مما لا عيش له إلا به‏.‏

ولما كان الردع لا يكون إلا عن ضار يجر وبالاً وحسرة، دل على ذلك بقوله استئنافاً‏:‏ ‏{‏سوف‏}‏ أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر ‏{‏تعلمون *‏}‏ أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت ويجر حزنه الفوت من عاقبة ذلك ووباله‏.‏

ولما كان من الأمور ما لو شرح شأنه على ما هو عليه لطال وأدى إلى الملال، دل على أن شرح هذا الوعيد مهول بقوله مؤكداً مع التعبير بأداة التراخي الدالة على علو الرتبة‏:‏ ‏{‏ثم كلا‏}‏ أي ارتدعوا ارتداعاً أكبر من ذلك لأنه ‏{‏سوف تعلمون *‏}‏ أي يأتيكم العلم من غير شك وإن تأخر زمنه يسيراً بالبعث‏.‏

ولما كان هذا أمراً صادعاً، أشار إلى أنه يكفي هذه الأمة المرحومة التأكيد بمرة، فقال مردداً للأمر بين تأكيد الردع ثالثاً بالأداة الصالحة له ولأن تكون لمعنى- حقاً كما يقوله ائمة القراءة‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي- ليشتد ارتداعهم عن التكاثر فإنه أساس كل بلاء فإنكم ‏{‏لو تعلمون‏}‏ أيها المتكاثرون‏.‏

ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله‏:‏ ‏{‏علم اليقين *‏}‏ أي لو يقع لكم علم على- وجه اليقين مرة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم، فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون- فحذف هذا الجواب بعد حذف المفعول للتفخيم فهو إشارة إلى أنه لا يقين غيره، والمعنى أن أعمالكم أعمال من لا يتيقنه، قال الرازي‏:‏ واليقين مركب الأخذ في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة، وأول خطوة الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلم قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الإلهاء أولاً وحذف سببه وهو الجهل لدلالة الثاني عليه، وذكر ثانياً العلم الذي هو الثمرة وحذف ما يتسبب عنه من عدم اللهو الذي هو ضد الأول، وزاد في التفخيم لهذا الوعيد بإيضاح المتوعد به بعد إبهامه مع قسم دل عليه بلامه، فقال‏:‏ ‏{‏لترون‏}‏ أي بالمكاشفة وعزتنا، ولا يصح أن يكون هذا جواباً لما قبله لأنه محقق ‏{‏الجحيم *‏}‏ أي النار التي تلقى المعذبين بها بكراهة وتغيظ وعتو وشديد توقد، فالمؤمن يراها وينجو منها سواء خالطها أم لا والكافر يخلد فيها‏.‏

ولما كان هذا توعداً على التكاثر لأنه يقتضي الإعراض عن الآخرة فيوقع في غمرات البلايا الكبار، أكد فقال مفخماً له بحرف التراخي‏:‏ ‏{‏ثم لترونها‏}‏ وعزة الله، ورقي العلم عن رتبة الأول فقط فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عين اليقين *‏}‏ أي الرؤية التي هي نفس اليقين، وذلك هو المعاينة بغاية ما يكون من صفاء العلم لكونه لا ريبة فيه فإن المشاهدة أعلى أنواع العلم، قال الرازي‏:‏ وهو المغني بالاستدراك عن الاستدلال، وعن الخبر بالعيان، وخرق الشهود حجاب- العلم- انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون هذا الثاني بالملامسة والدخول، فالمؤمن وارد والكافر خالد‏.‏

ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال، فقال مفخماً بأداة التراخي‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد أمور طويله عظيمة مهولة جداً ‏{‏لتسئلن‏}‏ وعزتنا ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ ترون الجحيم ‏{‏عن النعيم *‏}‏ أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير فلم يخرج عن السرف، فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس وإليه يشير حديث أبي هرير رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ضاف أبا الهيثم بن التيهان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمهم بسراً ورطباً وسقاهم ماء بارداً وبسط لهم بساطاً في ظل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه‏:‏ ظل بارد ورطب طيب وماء بارد» وقد يكون للكمال فيكون من أعلام النبوة كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها‏:‏ أي نعيم وإنما هما الأسودان‏:‏ التمر والماء، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، قال‏:‏ «إن ذلك سيكون» له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب، لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح فكيف بالمكروه فكيف ثم كيف بالمحرم‏؟‏ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال‏؟‏ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب‏؟‏ فكيف إذا جر إلى العذاب‏؟‏ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته، في نذاراته وبشاراته- والله أرحم‏.‏

سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما كانت لذة هذه الدنيا الظاهرة التنعم بما فيها من المتاع، وكان الإنسان مسؤولاً بما شهد به، ختم التكاثر عن ذلك النعيم متوعداً برؤية الجحيم، فكان ساكن هذه الدار على غاية الخطر، فكان نعيمه في غاية الكدر، قال دالاًّ على ذلك بأن أكثر الناس هالك، مؤكداً بالقسم والأداة لما للأغلب من التكذيب لذلك إما بالمقال أو بالحال‏:‏ ‏{‏والعصر *‏}‏ أي الزمان الذي خلق فيه أصله آدم عليه الصلاة والسلام وهو في عصر يوم الجمعة كما ورد في الحديث الصحيح في مسلم، أو الصلاة الوسطى أو وقتها الذي هو زمان صاحب هذا الشرع الذي مقداره فيما مضى من الزمان بمقدار وقت العصر من النهار أو بعضه، أو زمان كل أحد الذي هو الخلاصة بالنسبة إليه تنبيهاً له على نفاسته إشارة إلى اغتنام إنفاقه في الخير إشفاقاً من الحشر، أو وقت الأصيل لأنه أفضله بما يحويه من الفراغ من الأشغال واستقبال الراحة والحصول على فائدة ما أنفق فيه ذلك النهار، وبما دل عليه من طول الساعة وربح من كان له فيها بضاعة باختتام الأعمال وتقوض النهار، والدال على البعث، أو جميع الدهر الذي أوجد فيه سبحانه وتعالى المخلوقات وقدر فيه المقدورات بما ظهر فيه من العجائب الدالة على ما لله تعالى من العز والعظمة الداعي إلى صرف الهمة إليه وقصرها عليه‏:‏ ‏{‏إن الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الذي هو أشرف الأنواع لكونه في أحسن تقويم كما أن العصر خلاصة الزمان، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء ‏{‏لفي خسر *‏}‏ أي نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعصارهم في أغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر والإعراض عن الغائب والاغترار بالفاني أعم من أن يكون الخسر قليلاً أو جليلاً بحسب تنوع الناس إلى أكياس وأرجاس، فمن كان كافراً كان في كفران، ومن كان مؤمناً عاصياً كان في خسران إن كان بالغاً في المعصية وإلا كان في مطلق الخسر، وهو مدلول المصدر المجرد، وفي هذا إشارة إلى العلم بالاحتياج إلى إرسال الرسل لبيان المرضي لله من الاعتقادات والعبادات إيماناً وإسلاماً وإدامة لذلك ليكون فاعله من قبضة اليمين وتاركه من أصحاب الشمال‏.‏

وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ وتضمن ذلك الإشارة إلى قصور نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه وفلاحه، وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع ‏{‏إنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ أخبر سبحانه أن ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال ‏{‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏}‏ فالقصور شأنه، والظلم طبعه، والجهل جبلته، فيحق أن يلهيه التكاثر، ولا يدخل الله عليه روح الإيمان ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ إلى آخرها، فهؤلاء الذين

‏{‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏ انتهى‏.‏

ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكل لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك، وكان فيهم من خلصه الله سبحانه وتعالى مما طبع عليه الإنسان بجعله في أحسن تقويم، وحفظه عن الميل مع ما فيه من النقائص، استثناهم سبحانه وتعالى لأنهم قليل جداً بالنسبة إلى أهل الخسر فقال دالاًّ بالاستثناء على أن النفوس داعية إلى الشر مخلدة إلى البطالة واللهو، فالمخلص واحد من ألف كما في الحديث الصحيح ‏{‏إلا الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات، والبشارة لمن فعل ذلك بشرطه بالنجاة من الخسر‏.‏

ولما كان الإنسان حيواناً ناطقاً، وكان كمال حيوانيته في القوة العملية للحركة بالإرادة لا بمقتضى الشهوة القاسرة البهيمية قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعملوا‏}‏ أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان ‏{‏الصالحات‏}‏ أي هذا الجنس، وهو اتباع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات كالصلاة والعادات كالبيع فكانوا بهذا مسلمين بعد أن كانوا مؤمنين فاشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية فلم يلقهم شيء من الخسر‏.‏

ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر- إلا بتكميل غيره، وحينئذ يكون وارثاً لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل، وكان الدين لا يقوم، وإذا قام لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشئ عن نور القلب، ولا يتأتى ذلك إلا بالاجتماع، قال مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة تنبيهاً على عظمه‏:‏ ‏{‏وتواصوا‏}‏ أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت، وهو كل ما حكم الشرع بصحته فلا يصح بوجه نفيه من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك، فكانوا محسنين، والتكميل في القوة العملية باجتلاب الخيور‏.‏

ولما كان الإنسان ميالاً إلى النقصان، فكان فاعل ذلك الإحسان معرضاً للشنآن من أهل العدوان، وهم الأغلب في كل زمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتواصوا‏}‏ لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ ‏{‏بالصبر‏}‏ أي الناشئ عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل والنفي له والمحق وعلى ما يحصل بسبب ذلك من الأذى باجتناب الشرور إلى الممات الذي هو سبب موصل إلى دار السلام، فكانوا مكملين للقوة العملية حافظين لما قبلها من العلمية، وذلك هو حكمة العبادات فإن حكمة الشيء هي الغاية والفائدة المقصودة منه، وهي هنا أمران‏:‏ خارج عن العامل وهو الجنة، وداخل قائم به وهو النور المقرب من الحق سبحانه وتعالى، واختير التعبير بالوصية إشارة إلى الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعمال اللين بغاية الجهد، والصبر هو خلاصة الإنسان وسره وصفاوته وزبدته وعصارته، الذي لا يوصل إليه إلا بضغط الإنسان لنفسه وقسرها على أفعال الطاعة وقهرها على لزوم السنة والجماعة حتى يصير الصبر لها بالتدريب عادة وصناعة، فقد عانق آخرها أولها، وواصل مفصلها موصلها، وهي أربع عشرة كلمة تشير إلى أن في السنة الرابعة عشرة من النبوة يكون الإذن في الجهاد الذي هو رأس الأمر بالمعروف بالفعل لإظهار الحق وهي سنة الهجرة التي تم فيها بدره، وعم نوره وقدره، وجم عزه ونصره، فإذا ضممت إليها أربع كلمات البسملة كانت موازية في العدد لسنة خمس من الهجرة، وكان فيها غزوة بدر الموعد وغزوة الأحزاب، وقد وقع فيهما أتم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ممن وافقه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لإظهار الحق والصواب، فإنهم في بدر خذلوا من ركب عبد القيس أو من نعيم بن مسعود وموافقة المنافقين وخوفوا حتى كاد يعمهم الرعب والفشل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم

«والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» وأنزل الله فيها ‏{‏الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ الآيات، وفي الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأسفرت عاقبة الصبر فيها عما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابهم‏:‏ «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» فإذا ضممت إليها الضمائر الأربعة أشارت إلى سنة تسع، وقد كانت فيها غزوة تبوك وهي غزوة العسرة لما كان فيها من الشدة التي أسفرت عاقبة الصبر فيها عن إقبال الوفود، بفخامة العز والجدود وتواتر السعود، بلطف الرحيم الودود، وبذلك كان نور الوجود، وتواتر الفضل والجود من الإله المعبود- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خيار الوجود‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لما بين الناجين من قسمي الإنسان في العصر، وختم بالصبر، حصل تمام التشوف إلى أوصاف الهالكين، فقال مبيناً لأضلهم وأشقاهم الذي الصبر على أذاه في غاية الشدة ليكون ما أعد له من العذاب مسلاة للصابر‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏ أي هلاك عظيم جداً ‏{‏لكل همزة‏}‏ أي الذي صار له الهمز عادة لأنه خلق ثابت في جبلته وكذا ‏{‏لمزة *‏}‏ والهمز الكسر كالهزم، واللمز الطعن- هذا أصلهما، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة‏:‏ الهمزة الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه عليه ويهمز به، واللمزة الذي يعيب الناس سراً- انتهى‏.‏ وقال البغوي‏:‏ وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف، والذي دل على الاعتياد صيغة فعل بضم وفتح كما يقال ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به، والفعلة بالسكون للمفعول وهو الذي يهمزه الناس ويلمزونه، وقرئ بها وكأنه إشارة إلى من يتعمد أن يأتي بما يهمز به ويلمز به فيصير مسخرة يضحك منه- والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال سبحانه وتعالى ‏{‏إن الإنسان لفي خسر‏}‏ أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره، وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره، واعتماده على ما جمعه من المال ظناً أنه يخلده وينجيه، وهذا كله هو عين النقص، الذي هو شأن الإنسان، وهو المذكور في السورة قبل، فقال تعالى ‏{‏ويل لكل همزة لمزة‏}‏ فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده، والهمزة العياب الطعان واللمزة مثله، ثم ذكر تعالى ماله ومستقرة بقوله‏:‏ ‏{‏لينبذن في الحطمة‏}‏ أي ليطرحن في النار جزاء له على اغتراره وطعنه- انتهى‏.‏

ولما كان الذي يفعل النقيصة من غير حاجة تحوجه إليها أقبح حالاً وكان المتمول عندهم هو الرابح، وهم يتفاخرون بالربح ويعدون الفائز به من ذوي المعالي، قال مقيداً ل «كل» بالوصف مبيناً الخاسر كل الخسارة‏:‏ ‏{‏الذي جمع‏}‏ ولما كان مطلق الجمع يدل على الكثرة جاء التشديد في فعله لأبي جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي، وخلت تصريحاً بما علم تلويحاً ودلالة على أن المقصود به من جعل الدنيا أكبر همه، والتخفيف لمن عداهم اكتفاء بأصل مدلوله بخلاف عدد، فإن مجرده يكون لما قل، ولهذا أجمعوا على التضعيف فيه‏:‏ ‏{‏مالاً‏}‏ أي عظيماً، وأكد مراد الكثرة بقوله‏:‏ ‏{‏وعدده‏}‏ أي جعله بحيث إذا أريد عدده طال الزمان فيه وكثر التعداد، أو ادخره وأمسكه إعداداً لما ينوبه في هذه الدنيا المنقضية، وزاده قيداً آخر في بيان حاله فقال‏:‏ ‏{‏يحسب‏}‏ لقلة عقله ‏{‏أن ماله‏}‏ أي ذلك الذي عدده ‏{‏أخلده *‏}‏ أي أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا، فأحب ذلك المال كما يحب الخلود، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنه عمل- بانهماكه في المعاصي والإعراض عن الله عز وجل والإقبال على التوسع في الشهوات والأعراض الزائلات- عمل من يظن أنه لا يموت، ويجوز أن يكون استئنافاً، وفيه تعريض بأنه لا يفيد الخلد إلا الأعمال الصالحة المسعدة في الدار الآخرة‏.‏

ولما كان هذا الحسبان لشدة وهيه وبيان ضعفه لا يحتاج إلى إقامة دليل على فساده، اكتفى فيه بأداة الردع الجامعة لكل زجر فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يكون ما حسبه لأنه لا يكون له ما لا يكون لغيره من أمثاله بل يموت كما مات كل حي مخلوق‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فما الذي يفعل به بعد الموت‏؟‏ قال مقسماً دالاًّ باللام الداخلة على الفعل على القسم‏:‏ ‏{‏لينبذن‏}‏ أي ليطرحن بعد موته طرح ما هو خفيف هين جداً على كل طارح كما دل عليه التعبير بالنبذ وبالبناء للمفعول ‏{‏في الحطمة *‏}‏ أي الطبقة من النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر وتهشم بشدة وعنف كل ما طرح فيها فيكون أخسر الخاسرين، وعبر بها في مقابلة الاستعداد بالمال الحامل على الاستهانة بالخلق، قال الأستاد أبو الحسن الحرالي‏:‏ فلمعنى ما يختص بالحكم يسمي تعالى باسم من أسمائها من نحو جهنم فيما يكون مواجهة ومن نحو الحطمة فيما يكون جزاء لقوة قهر واستعداد بعدد، ونحو ذلك في سائر أسمائها، وعظم شأنها سبحانه وتعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ أي وأيّ شيء أعلمك ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الخلق ‏{‏ما الحطمة‏}‏ أي ما الدركة النارية التي سميت هذا الاسم لهذه الخاصية فإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها، ثم فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏نار الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي عدل المشركون عنه إلى شركائهم، فعظمة هذه النار من عظمته، وانتقامه من نقمته ‏{‏الموقدة *‏}‏ أي التي وجد وتحتم إيقادها بإيقاده، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقده‏؟‏ فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً‏.‏

ولما وصف الهامز الهازم، وصف الحاطم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏التي‏}‏ ولما كان لا يطلع على أحوال الشيء إلا من قبله علماً قال‏:‏ ‏{‏تطلع‏}‏ اطلاعاً شديداً ‏{‏على الأفئدة *‏}‏ جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدة ذكائه، فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بالغاً، سمي بذلك لشدة توقده، وخص بالذكر لأنه ألطف ما في البدن وأشده تألماً بأدنى شيء من الأذى، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة ومعدن حب المال الذي هو منشأ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة‏.‏

ولما كان الاطلاع على الفؤاد مظنة الموت، وفي الموت راحة من العذاب، أشار إلى خلودهم فيها وأنهم لا يموتون ولا ينقطع عنهم العذاب، فقال مؤكداً لأنهم يكذبون بها‏:‏ ‏{‏إنها‏}‏ وأشار إلى قهرهم وغلبتهم فقال‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ وآذن بسهولة التصرف في تعذيبهم وانقطاع الرجاء من خلاصهم بقوله معبراً باسم المفعول‏:‏ ‏{‏مؤصدة *‏}‏ أي مطبقة بغاية الضيق، من أوصدت الباب- إذا أطبقته‏.‏

ولما كانت عادتهم في المنع من التصرف أن يضعوا خشبة عظيمة تسمى المقطرة فيها حلق توثق فيها الرجل، فلا يقدر صاحبها بعد ذلك على حراك، قال مصوراً لعذابهم بحال من ضمير «عليهم»‏:‏ ‏{‏في‏}‏ أي حال كونهم موثقين في ‏{‏عمد‏}‏ بفتحتين وبضمتين جمع عمود ‏{‏ممددة *‏}‏ أي معترضة كأنها موضوعة على الأرض، فهي في غاية المكنة فلا يستطيع الموثق بها على نوع حيلة في أمرها فهو تأكيد ليأسهم من الخروج بالإيثاق بعد الإيصاد، وهذا أعظم الويل وأشد النكال، فقد رجع آخرها إلى أولها، وكان لمفصلها أشد التحام بموصلها- والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة الفيل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى، ومع كونه شهودياً فللعرب ولا سيما قريش به الخبرة التامة، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله الحسن اتباعه، لما للإنسان من علائق النقصان، وعلائق الحظوظ والنسيان، وقرئ «تر» باسكان الراء، قالوا جداً في إظهار أثر الجازم، وكان السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر، من لم يعتن به ويسارع إلى تعمده لا يدركه حق إدراكه‏.‏

ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ دون أن يقول‏:‏ ما ‏{‏فعل‏}‏ أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل، وفعل الرؤية معلق عن «كيف» لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه، بل ناصبه فعل، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق ‏{‏ربك *‏}‏ أي المحسن إليك ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما- هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام، ويحلها له على أعلى حال ومرام ‏{‏بأصحاب الفيل *‏}‏ أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها، فحسبوا أنها تخلدهم فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط، وأراد أن يصرف إليها- فيما زعم- حج العرب، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً- يعني تغوط ولطخها به، فأغضب ذلك الأشرم فسأل فقيل له‏:‏ نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة- فحلف‏:‏ ليهدمنَّ الكعبة، ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منها فيل عظيم اسمه محمود، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم، فلما دوّخهم دانوا له، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، وقيل‏:‏ بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال‏:‏ قد كنت أعجبتني حين رأيتك، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفي عزكم‏؟‏ فقال‏:‏ أنت وذاك، فرد عليه إبله فساقها ومضى، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول‏:‏

يا رب لا أرجو لهم سواكا *** فامنعهم أن يقربوا قراكا

- وقال‏:‏

لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

جروا جميع تلادهم *** في الفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك فعالجوه فلم تفد فيه حيلة، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول فوجهوه إلى الحرم فبرك، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل، كل طائر منها في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فرمتهم بها، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال- ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم- أي أهل مكة- وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كان عام مولده، وقال حمزة الكرماني‏:‏ وفي رواية‏:‏ يوم مولده، وكأنه كان سبباً لضعفهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم- كما هو مشهور في السير، ومأثور في الخبر، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان، وأن يثرب مهاجره، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بها- ويظهر نبوته‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم، فتعجلوا النقمة، وجعل الله كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، أي جماعات متفرقة، ترميهم بحجارة من سجيل حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم فجعلهم كعصف مأكول، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم- انتهى‏.‏

ولما قرره بالكيفية تنبيهاً على ما فيها من وجوه الدلالة على مقدمات الرسالة، أشار إلى تلك الوجوه مقدماً عليها تقريراً آخر جامعاً لقصتهم ومعلماً بغصتهم فقال‏:‏ ‏{‏ألم يجعل‏}‏ أي بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش ‏{‏كيدهم‏}‏ أي في تعطيل الكعبة بتخريبها وبصرف الحج إلى كنيستهم على زعمهم وقد كان كيدهم عظيماً غلبوا به من ناوأهم من العرب ‏{‏في تضليل *‏}‏ أي مظروفاً لتضييع عما قصدوا له من نسخ الحج إلى الكعبة أولاً ومن هدمها ثانياً وإبطال وبعد عن السداد وإهمال بحيث صار بكونه مظروفاً لذلك معموراً به لا مخلص له منه، وهذا مشير إلى أن كل من تعرض لشيء من حرمات الله كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو عالم من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصير وقع في مكره، وعاد عليه وبال شره «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وإلى أن من جاهر بالمعصية أسرع إليه الهلاك بخلاف من تستر، وإلى أن الله تعالى يأتي من يريد عذابه من حيث لا يحتسب ليدوم الحذر منه ولا يؤمن مكره ولو كان الخصم أقل عباده، لم يخطر للحبشة ما وقع لهم أصلاً ولا خطر لأحد سواهم أن طيوراً تقتل جيشاً دوّخ الأبطال ودانت له غلب الرجال، يقوده ملك جبار كتيبته في السهل تمشي ورجله على القاذفات في رؤوس المناقب‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمنعهم من الدخول إلى حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الوصول إلى بلده الرسول صلى الله عليه وسلم، عطف عليه أو على «يجعل» معبراً بالماضي لأنه بمعناه وهو أصرح والتعبير به أقعد قوله؛ ‏{‏وأرسل‏}‏ وبين أنه إرسال عذاب بقوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ أي خاصة من بين من كان هناك من كفار العرب، وأشار إلى تحقيرهم وتخسيسهم عن أن يعذبهم بشيء عظيم لكونهم عظموا أنفسهم وتجبروا على خالقهم بالقصد القبيح لبيته فقال تعالى معلماً بأنه سلط عليهم ما لا يقتل مثله في العادة‏:‏ ‏{‏طيراً‏}‏ وهو اسم جمع يذكر على اللفظ، ويؤنث على المعنى، وقد يقع على الواحد، ولذلك قال مبيناً الكثرة ‏{‏أبابيل *‏}‏ أي جماعات كثيرة جداً متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة، أمام كل فرقة منها طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، قال أبو عبيدة‏:‏ يقال‏:‏ جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا، وهو جمع إبالة بالكسر والتشديد وهي الحزمة الكبيرة- شبهت بها الجماعة من الطير في تضامّها، وفي أمثالهم‏:‏ ضغث على إبالة، أي بلية على أخرى‏.‏

ولما تشوف السامع إلى فعل الطير بهم، قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ترميهم‏}‏ أي الطير ‏{‏بحجارة‏}‏ أي عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم، كان كل واحد- منها في نحو مقدار العدسة، في منقار كل طائر منها واحد وفي كل رجل واحد‏.‏

ولما كان الشيء إذا كان مصنوعاً للعذاب كان أشد فعلاً فيه قال‏:‏ ‏{‏من سجيل *‏}‏ أي طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو كما بين في سورة هود عليه الصلاة والسلام، قال حمزة الكرماني‏:‏ قال أبو صالح‏:‏ رأيت تلك الحجارة مخططة بالحمرة‏.‏ ولما تسبب عن هذا المرمى هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله سبحانه وتعالى القادر على ما أراد لأنه الذي خلق الأثر قطعاً لأن مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك، قال‏:‏ ‏{‏فجعلهم‏}‏ أي ربك المحسن إليك بإحسانه إلى قومك لأجلك بذلك ‏{‏كعصف مأكول *‏}‏ أي ورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود ويجوفه لأن الحجر كان يأتي في الرأس فيخرق بما له من الحرارة وشدة الوقع كل ما مر به حتى يخرج من الدبر ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية، أو أكل حبة فبقي صفراً منه أو كتبن أكلته الدواب وراثته، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏ وهذا الإهلاك في إعجابه هو من معاني الاستفهام التقريري في أولها، فقد تعانق طرفاها، والتف أخراها بأولاها- والله أعلم بمراده‏.‏

سورة قريش

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ‏(‏1‏)‏ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏(‏2‏)‏ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

لما كان ما فعله سبحانه- من منع هذا الجيش العظيم- الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له- من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ومحل عظمته الباهرة وعزته والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام وما كان من الوفاء بعظيم خلته- كرامة لقريش عظيمة ظاهره عاجلة حماية لهم عن أن تستباح ديارهم وتسبى ذراريهم لكونهم أولاد خليله وخدام بيته وقطان حرمه ومتعززين به ومنقطعين إليه، وعن أن يخرب موطن عزهم ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه‏:‏ ‏{‏لإيلاف قريش *‏}‏ أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك وهو إيقاعهم الإيلاف وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه، وكان لهم الألف بينهم، فكان بعضهم يألف بعضاً، قوي أمرهم فألفوا غيرهم أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه أي سنوه له وأمروه به، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة ‏{‏فليعبدوا‏}‏ أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة أو لما يوجب الشكر بالعبادة، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئاً يسر سبببه لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز، ويرفع من يشاء وإن ذل، ليثمر اعتقاد ذلك حبه والانقطاع لعبادته والاعتماد عليه في كل نفع ودفع، وقريش ولد النضر ابن كنانة واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع، يقال‏:‏ فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب، وقال البغوي‏:‏ وقال أبو ريحانة‏:‏ سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لم سموا بهذا‏؟‏ فقال‏:‏ لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى، قال‏:‏ وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وأنشد للجمحي‏:‏

وقريش هي التي تسكن البحر بها *** سميت قريش قريشا

سلطت بالعلو في لجة البحر على *** سائر الجيوش جيوشا

وقال الزمخشري‏:‏ هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتعظيم- انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم، فإن القرش- كما تقدم- الجمع، وكان المجمع لهم قصياً، والقرش أيضاً الشديد، وقيل‏:‏ هو من تقرش الرجل- إذا تنزه عن مدانيس الأمور، ومن تقارشت الرماح في الحرب- إذا دخل بعضها في بعض‏.‏

والمادة كلها للشدة والاختلاط، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم‏.‏ وكما أجرى سبحانه وتعلى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الأئمة من قريش» قال العلماء‏:‏ وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة، وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف‏:‏ صرف هذه الأحياء أكثر، وإن جعلتها اسماً للقبائل- يعني فمنعتها- فجائز حسن، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه الفيل أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى بالتين والزيتون، وفي الثانية ألم تر كيف ولئيلاف قريش‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لاخفاء في اتصالهما أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش، وهم سكان الحرم وقطان بيت الله الحرام، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم- انتهى‏.‏

ولما علل بالإيلاف وكان لازماً ومتعدياً، تقول‏:‏ آلفت المكان أولفه إيلافاً فأنا مؤلف وآلفت فلاناً هذا الشيء أي جعلته آلفاً له، وكان الإتيان بالشيء محتملاً لشيئين ثم إبدال أحدهما منه أضخم لشأنه وأعلى لأمره، أبدل منه قوله‏:‏ ‏{‏إلافهم‏}‏ أي إيلافنا إياهم ‏{‏رحلة الشتاء *‏}‏ التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب ‏{‏والصيف *‏}‏ التي يرحلونها إلى الشام في زمنه لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله والناس يتخطفون من حولهم، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم، والرحلة بالكسر هيئة الرحيل، وقرئ بالضم وهي الجهة التي يرحل إليها، وكانوا معذورين لذلك لأن بلدهم لا زرع به ولا ضرع، فكانوا إذا ضربوا في الأرض قالوا‏:‏ نحن سكان حرم الله وولاة بيته، فلا يعرض أحد بسوء، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

قل للذي طلب السماحة والندى *** هلا مررت بآل عبد مناف

الرائشين وليس يوجد رائش *** والقائلين هلم للإضياف

والخالطين فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكاف

القائلين بكل وعد صادق *** والراحلين برحلة الإيلاف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنّهما له ولقومه *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وتبع هاشماً على ذلك إخوته، فكان هاشم يؤلف إلى الشام وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الإخوة- أي عهودهم- التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي، وأفرد الرحلة في موضع التثنية لتشمل كل رحلة- كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، إشارة لهم بالبشارة بأنهم يتمكنون عن قريب من الرحلة إلى أي بلد أرادوا لشمول الأمن لهم وبهم جميع الأرض بما نشره الله سبحانه وتعالى من الخير في قلوب عباده في سائر الأرض بواسطة هذا النبي الكريم الذي هو أشرفهم وأعظمهم وأجلهم وأكرمهم‏.‏

ولما كان هذا التدبير لهم من الله كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن، وكان شكر المنعم واجباً، فإذا أنعم بما يفرغ المنعم عليه للشكر كان وجوبه عليه أعظم، سبب عن الإنعام عليهم بذلك قوله‏:‏ ‏{‏فليعبدوا‏}‏ أي قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران ‏{‏رب هذا البيت *‏}‏ أي الموجد له والمحسن إلى أهله بتربيتهم به وبحفظه من كل طاغ، وتأثيره لأجل حرمته في كل باغ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة وجعل ما داموا عابدين له موصولاً بعز الآخرة، فتتم النعمة وتكمل الرحمة، والمراد به الكعبة، عبر عنها بالإشارة تعظيماً إشارة إلى أن ما تقدم في السورة الماضية من المدافعة عنهم معروف أنه بسببه لا يحتاج إلى تصريح، وأن ذلك جعله متصوراً في كل ذهن حاضراً مشاهداً لكل مخاطب، وفي هذا التلويح من التعظيم ما ليس للتصريح، ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي أطعمهم‏}‏ أي قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين آمنين من أن يهاجوا، وبإهلاك الذين أرادوا إخراب البيت الذي به نظامهم، إطعاماً مبتدئاً ‏{‏من جوع *‏}‏ أي عظيم فيه غيرهم من العرب، أو كانوا هم فيه قبل ذلك لأن بلدهم مهيأ لذلك لأنه ليس بذي زرع، فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع، فكفاهم ذلك وحده ولم يشركه أحد في كفايتهم، فليس من الشكر إشراكهم في عبادته ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي دعا لهم بالرزق ونهى أشد النهي عن عبادة الأصنام، ولم يقل‏:‏ أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع، ولأن من كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده

«ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب»‏.‏

ولما ذكر السبب في إقامة الظاهر، ذكر السبب في إقامة العيش بنعمة الباطن فقال‏:‏ ‏{‏وآمنهم‏}‏ أي تخصيصاً لهم ‏{‏من خوف *‏}‏ أي شديد جداً من أصحاب الفيل ومما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات وبالأمن من الجذام بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن الطاعون والدجال بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ذلك تسبب الاتحاف بما خصهم به من الإيلاف، فعلم أن آخرها علة لأولها، ويجوز أن يكون إلفهم للبلد وقع أولاً فحماه الله لهم مما ذكر، فيكون ذلك مسبباً عن الإلف فيكون أولها علة لآخرها، فقد التقى الطرفان، والتأم البحران المغترفان، وكما التقى آخر كل سورة مع أولها فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها، فإن حاصلها المن على قريش بالإعانة على المتجر إيلافاً لهم بالرحلة فيه والضرب في الأرض بسببه واختصاصهم بالأمر بعبادة الذي منّ عليهم بالبيت الحرام وجلب لهم به الأرزاق والأمان، ومن أعظم مقاصد التوبة- المناظرة لهذه بكونها التاسعة من الأول- البراءة من كل مارق، وأن فعل ذلك يكون سبباً للألفة بعد ما ظن أنه سبب الفرقة، وذكر مناقب البيت ومن يصلح لخدمته، والفوز بأمانه ونعمته، والبشارة بالغنى على وجه أعظم من تحصيله بالمتجر وأبهى وأبهر، وأوفى وأوفر، وأزهى وأزهر، وأجل وأفخر، بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم‏}‏ الآيات، ‏[‏التوبة‏:‏ 17‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ فعلم بهذا علماً جلياً أنه شرع سبحانه في رد المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله بإنزال القرآن بلسانهم وأرسل به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم، وتعظيمه لغناهم وأمانهم، ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في رد المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها حتى أن في كل منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة فإن براءة مع الأنفال كذلك حتى قال عثمان رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين أمرها، فلم يتحرر له أنها مستقلة عنها، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وكانت هذه التي من الآخر مقطوعاً بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه، وقراءة عمر رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك كما مضى إشارة إلى أن الآخر يكون أوضح من الأول، ومن أغرب ذلك أن السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق، فالأولى في الآخر وهي الفيل أكرم الله فيها قريشاً بإهلاك أهل الإنجيل، والأولى في الأول وهي الأنفال أكرمهم الله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم، فكان ذلك سبباً لكسر شوكتهم وسقوط نخوتهم المفضي إلى سعادتهم، وعلم أن البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأول بالإرسال والناس لهم تبع كما أن جميع الرسل تبع للرسول الفاتح الخاتم الذي شرفوا بإرساله إليه صلى الله عليه وسلم، وكان عدد التسع مشيراً إلى أن قريشاً أهل لأن يتصلوا بعروج الأسرار في الملكوت إلى الفلك التاسع، وهو العرش الذي هو مقلوب الشرع، فهم يصعدون بأسرار الشرع- التي من أعظمها الصلاة- من الأسفل إلى الأعلى من الطرفين معاً كما أنه يتنزل عليهم بالبركات من الجانبين، وإذا ضممت التسع الأولى إلى الأخرى كانت ثمان عشرة، فكانت مشيرة إلى ركعات الصلوات مضموماً إليها الوتر، وإلى ظهور الدين ظهوراً كاملاً على غالب أقطار الأرض كما كان في سنة ثمان وعشرين، وهي الثامنة عشر من موت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه فإنه كان فيها قد تمزق ملك كسرى وضعف جداً، وكذا ملك الروم مع ما كان من زوال أمر القبط بالكلية، ومن بديع الإشارات أيضاً أنك إذا نظرت إلى نزول براءة وجدته سنة تسع من الهجرة في غزوة تبوك وعقب الرجوع منها، فكان كونها تاسعة ونزولها في السنة التاسعة مشيراً إلى كون الدين يظهر على كل مخالف بعد تسع سنين، وهي السنة الثامنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في وسط خلافة الفاروق حين ظهر المسلمون على الفرس والروم، فقتلوا رجالهم، وانتثلوا أموالهم، كما كان قد ظهر عند نزولها على عباد الأوثان من العرب، ومن الغريب أن قصة الفيل كانت سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قبل النبوة بأربعين سنة بعدد كلمات السورتين‏:‏ الفيل وقريش، فإن الفيل ثلاث وعشرون وقريش سبع عشرة، وذلك- والله أعلم- إشارة إلى أن ابتداء الأمن- بإهلاكهم والإشباع بنهب ما كان معهم من أموالهم ومتاعهم- كان لمولده صلى الله عليه وسلم وتشريف الوجود بوجوده، ويكون ذلك ظاهراً كما كان السبب- الذي هو وجوده صلى الله عليه وسلم- ظاهراً، وإلى أن وسطه يكون بنبوته صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك باطناً كما أن السبب- وهو الوحي باطن، ثم كان أمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السنة الثامنة الموازية لعدد كلمات البسملتين على يد النجاشي ملك الحبشة الذين كان الأمن أولاً بإهلاكهم، وإذا ضممت إليها أحد عشر ضميراً- سبعة في الفيل وأربعة في قريش- كانت تسعاً وخمسين توازيها إذا حسبت من المولد سنة ست من الهجرة، وفيها كانت عمرة الحديبية وهي الفتح السببي الخفي، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في بروك ناقته الشريفة حين بركت فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏:‏ خلأت القصوى- أي حرنت‏:‏

«ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل» وفيها نزلت سورة الفتح، فكان سبب الأمن العظيم والغنى، وعقبها في سنتها كان البعث إلى ملوك الأمصار، وفتح خيبر وانبساط ذكر الإسلام في جميع الأقطار، وكذا كان عقبها قبل عمرة القضية إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي لما سأله أن يعطيه عمرو بن أميه الضمري رضي الله عنه ليقتله، وذلك حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام فأنكر النجاشي ذلك على ابن العاص وشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأمره بأن يؤمن به، ففعل فكان ملك الحبشة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ناجياً هادياً، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم داعياً، عكس ما كان لملك الحبشة بمولده صلى الله عليه وسلم من أنه كان هالكاً، وإلى الجحيم هاوياً، وإن حسبت من سنة بنيان الكعبة في الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم كانت السنة التاسعة والخمسون هي الحادية والثلاثون بعد الهجرة، وهي سنة استئصال ملك الفرس بقتل آخر ملوكهم يزدجرد، والفرس هم الذين أزالوا الحبشة عن بلاد اليمن وطهروا منهم أرض العرب، ولعل قسمة السورتين إلى ثلاث وعشرين وسبع عشرة إشارة إلى أن هذا المولد الشريف الذي حرست الكعبة بمولده صلى الله عليه وسلم وحصل الأمن والعز ببركته تبنى الكعبة وتجدد بعد بضع وعشرين سنة من مولده، قالوا‏:‏ كان بنيانها وسنه خمس وعشرون سنة، فلعله كان في آخر الرابعة والعشرين، ولعل قصة الفيل كانت وله نحو سنة من حين الولادة، وبه حين البنيان ألف الله بين قريش بعد أن كانوا تنافروا أشد المنافرة وتعاقدوا على الحرب في أمر الحجر الأسود من يضعه في موضعه حتى أصلح الله بينهم به صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده الشريفة في ثوب، وأمرهم فأمسكت جميع القبائل بأطرافه، ثم رفعوه حتى وازوا به موضعه فأخذه هو صلى الله عليه وسلم فوضعه في مكانه، فكان الشرف له خاصة في الإصلاح والبنيان، وتشير مع ذلك إلى أنه يبقى في النبوة ثلاثاً وعشرين سنة، ثم يتوفاه الله سبحانه وتعالى بعد أن جعل الله كيد جميع الكفرة في تضليل من عباد الأوثان والفرس والروم وغيرهم بما فتح الله عليه من جزيرة العرب التي ألف الله بها بين كلمتهم حتى انسابوا على غيرهم فما وافقهم أحد ناوشوه القتال وساوموه النضال والنزال، ولعل الإشارة بكون قريش سبع عشرة كلمة إلى أنه صلى الله عليه وسلم بعد سبع عشرة سنة من بنيان البيت يبعثه الله سبحانه وتعالى لأمر قريش بالعبادة التي أجلّها الصلاة التي أعظمها الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة شكراً لنعمة من آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع بأعظم العبادة، وإلى أن ابتداء ألفة قريش بالقوة القريبة من الفعل بعد الشتات العظيم الظاهر وجعل كيد الكفار في تضليل يكون في السنة السابعة عشرة من النبوة، وذلك سنة أربع من الهجرة فإن فيها كان إجلاء بني النضير من اليهود من المدينة الشريفة وإخلاف قريش الموعد في بدل الموعد وهناً منهم عن لقاء جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بعد بيسير غزوة الأحزاب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم‏:‏

«الآن نغزوهم ولا يغزونا» يعني أن نخوة الشيطان منهم وحمية الجاهلية أخذت في الاضمحلال لانتهاء قوتهم في الباطل الذي كان سبب عزهم الظاهري الذي هو الذل في الباطن، وكان ذلك ابتداء عزهم في الباطن الذي هو ذلهم لأهل الإسلام في الظاهر، وفي أثر الأحزاب كانت غزوة بني قريظة، فإذا ضممت إلى الكلمات الضمائر الأربعة كانت إحدى وعشرين توازيها سنة ثمان من الهجرة وهي سنة الفتح الأعظم الذي وقعت به الألفة العظمى بين قريش وأمنهم وغناهم الذي وعدهم الله به في السورة المناظرة لها- وهي براءة- باتئلاف جميع العرب وانبعاثهم لاجتماع كلمتهم إلى جهاد الفرس والروم والقبط وأخذهم لبلادهم، وانتثالهم لكنوزهم وتحكمهم في نسائهم وأولادهم، فسبحان من هذا كلامه، وتعالى شأنه وعز مرامه‏.‏

سورة الماعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة، فكان معرفاً بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء، وأمرهم آخر قريش بشكر نعمته بإفراده بالعبادة، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق الناهي عن مساوئها، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحكمة الحكيم، ووصف المكذب به بأوصاف هم منها في غاية النفرة، وصوّره بأشنع صورة بعثاً لهم على التصديق وزجراً عن التكذيب، فقال خاصاً بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره‏:‏ ‏{‏أرأيت‏}‏ أي أخبرني يا أكمل الخلق ‏{‏الذي يكذب‏}‏ أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان ‏{‏بالدين *‏}‏ أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق الناهي عن سيئها، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر‏:‏ ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني، المتعدي إلى مفعولين، كان تقدير المفعول الثاني‏:‏ أليس جديراً بالانتقام منه‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جارٍ على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر‏}‏ ‏{‏يحسب أن ماله أخلده‏}‏ وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضاً كالشغل بالتكاثر، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام أو يوجد بعضها أو أعمال من يتصف بها وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به، وعدم الحض على طعام المسكين، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب، أي إن هؤلاء هم أهلها، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلم «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً» وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة، وقد بسطته في كتاب «إيضاح السبيل من حديث سؤال جبريل» فمن هذا القبيل عندي- والله أعلم- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم‏}‏ أي أن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه، وعدم الحض على إطعامه والسهو عن الصلاة والمراءاة بالأعمال ومنع الحاجات إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه، فمن تشبه بقوم فهو منهم، فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر، والشغل بالأموال والأولاد، فنهى عباده عن هذه الرسائل التي يثمرها ما تقدم والتحمت السور- انتهى‏.‏

ولما كان المراد بهذا الجنس، وكان من المكذبين من يخفي تكذيبه، عرفهم بأمارات تنشأ من عمود الكفر الذي صدر به ويتفرع منه تفضحهم، وتدل عليهم وإن اجتهدوا في الإخفاء وتوضحهم، فقال مسبباً عن التكذيب ما هو دال عليه‏:‏ ‏{‏فذلك‏}‏ أي البغيض البعيد من كل خير ‏{‏الذي يدع‏}‏ أي يدفع دفعاً عنيفاً بغاية القسوة ‏{‏اليتيم *‏}‏ ويظلمه ولا يحث على إكرامه لأن الله تعالى نزع الرحمة من قلبه، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله سبحانه وتعالى، فكان التكذيب بجزائه سبباً للغلظة عليه‏.‏

ولما كانت رحمة الضعفاء علامة على الخير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين» كانت القسوة عليهم علامة على الشر، وكان من بخل باللين في قاله أشد بخلاً بالبذل من ماله، قال معرفاً لأن المكذب ينزله تكذيبه إلى أسفل الدركات، وأسوإ الصفات الحامل على شر الحركات‏:‏ ‏{‏ولا يحض‏}‏ أي يحث نفسه وأهله ولا غيرهم حثاً عظيماً يحمى فيبعث على المراد ‏{‏على طعام المسكين *‏}‏ أي بذله له وإطعامه إياه بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه، وتعبيره عن الإطعام- الذي هو المقصود- بالطعام الذي هو الأصل وإضافته المسكين للدلالة على أنه يشارك الغني في ماله بقدر ما فرض الله من كفايته، وقد تضمن هذا أن علامة التكذيب بالبعث- إيذاء الضعيف والتهاون بالمعروف، والآية من الاحتباك‏:‏ الدع في الأول يدل على المقت في الثاني‏:‏ والحض في الثاني يدل على مثله في الأول‏.‏

ولما كان هذا حاله مع الخلائق، أتبعه حاله مع الخالق إعلاماً بأن كلاًّ منهما دالّ على خراب القلب وموجب لمقت الرب، وأعظم الإهانة والكرب، وأن المعاصي شؤم مهلك، تنفيراً عنها وتحذيراً منها، فسبب عنه قوله معبراً بأعظم ما يدل على الإهانة‏:‏ ‏{‏فويل‏}‏ ولما كان الأصل‏:‏ له- بالإضمار والإفراد، وكان المراد ب «الذي» الجنس الصالح للواحد وما فوقه‏.‏

وكان من يستهين بالضعيف لضعفه يعرض عما لا يراه ولا يحسه لغيبته، وكان من أضاع الصلاة كان لما سواها أضيع، وكان من باشرها ربما ظن النجاة ولو كانت مباشرته لها على وجه الرياء أو غيره من الأمور المحيطة للعمل، عبر بالوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وشقه من الصلاة تحذيراً من الغرور، وإشارة إلى أن الذي أثمر له تلك الخساسة هو ما تقدم من الجري مع الطبع الرديء، وأتى بصيغة الجمع تنبيهاً على أن الكثرة ليست لها عنده عزة لأن إهانة الجمع مستلزمة لإهانة الأفراد من غير عكس فقال‏:‏ ‏{‏للمصلين *‏}‏ ولما كان الحكم إنما هو على ذات الموضع من غير اعتبار لوصفه بالفعل علم أن المقصود إنما هو من كان مكلفاً بالصلاة لأن من كان متلبساً بها مثل قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» فلذلك وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين هم‏}‏ أي بضمائرهم وخالص سرائرهم‏.‏ ولما كان المراد تضييعهم قال‏:‏ ‏{‏عن‏}‏ دون في ‏{‏صلاتهم‏}‏ أي هي جديره بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها ‏{‏ساهون *‏}‏ أي عريقون في الغفلة عنها وتضييعها وعدم المبالاة بها وقلة الالتفات إليها، ويوضح ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ «لاهون» وفائدة التعبير بالوصف الدلالة على ثبوته لهم ثبوتاً يوجب أن لا يذكروها من ذات أنفسهم أصلاً، ولذلك كشفه بما بعده، روى البغوي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الآية فقال‏:‏ «هو إضاعة الوقت» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا ويصلونها إذا حضروا مع الناس‏.‏

ولما كان من كان بهذه الصفة لا نظر له لغير الحاضر كالبهائم، قال دالاًّ على أن المراد بالسهو ههنا تضييعها عند الانفراد بالترك حساً ومعنى وعند الاجتماع بالإفساد في المعنى‏:‏ ‏{‏الذين هم‏}‏ أي بجملة سرائرهم ‏{‏يرآؤن *‏}‏ أي بصلاتهم وغيرها يرون الناس أنهم يفعلون الخير ليراهم الناس فيروهم الثناء عليهم والإحسان إليهم ولو بكف ما هم يستحقونه من السيف عنهم، لا لرجاء الثواب ولا لمخوف العقاب من الله سبحانه وتعالى، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس‏.‏

ولما كان من كان بهذه الصفة ربما فعل قليل الخير دون جليله رياء، بين أنهم غلب عليهم الشح حتى أنهم مع كثرة الرياء منهم لم يقدروا على أن يراؤوا بهذا الشيء التافه، فانسلخوا من جميع خلال المكارم، فقال إبلاغاً في ذمهم إشعاراً بأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله‏:‏ ‏{‏ويمنعون‏}‏ أي على تجدد الأوقات، وحذف المفعول الأول تعمماً حتى يشمل كل أحد وإن جل وعظمت منزلته ولطف محله من قلوبهم تعريفاً بأنهم بلغوا من الرذالة دركة ليس وراءها للحسد موضع ‏{‏الماعون‏}‏ أي حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع مثل إعارة التافه من متاع البيت التي جرت عادة الناس أن يتعاوروه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق، والحاصل أنه ينبغي حمل ذلك على منع ما يجب بذله مثل فضل الكلأ والماء والزكاة ونحوه ليكون موجباً للويل، وعلى الزكاة حمله علي وابن عمر رضي الله عنهما والحسن وقتادة، قال العلماء‏:‏ هو مأخوذ من المعن، وهو في اللغة الشيء اليسير، ولذلك فسره بعضهم بالماء وبعضهم بما يعار من المتاع نحو القدر والفأس‏.‏

والدلو، وبعضهم بالزكاة لأنه لا يؤخذ من المال على وجه الزكاة إلا شيء يسير جداً بالنسبة إليه، وقيل‏:‏ هو كل عطية أو منفعة، وقال قطرب‏:‏ هو فاعول من المعن، والمعن‏:‏ المعروف، وقال أبو عبيدة‏:‏ الماعون في الجاهلية العطاء والمنفعة وفي الإسلام الزكاة، وقال الهروي‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو العارية- ذكر هذا الأستاذ عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي، وقال ابن جرير‏:‏ وأصل الماعون من كل شيء منفعته‏.‏ فدل ذلك على أنهم بلغوا نهاية التكذيب باستهانتهم بأعظم دعائم الدين واستعظامهم لأدنى أمور الدنيا، وهذا الآخر كما ترى هو الأول لأن الذي جر إليه هو التكذيب، ومن منع هذه الأشياء التافهة كان جديراً بأن يمنع ورود الكوثر في يوم المحشر، وكما التقى آخرها بأولها التقت السورة كلها مع مناظرتها في العدد من أول القرآن، وذلك أنه قد علم أن حاصل هذه السورة الإبعاد عن سفساف الأخلاق ورديها ودنيها من التكذيب بالجزاء الذي هو حكمة الوجود المثمر للإعراض عن الوفاء بحق الخلائق وطاعة الخالق، والانجذاب مع النقائص إلى الاستهانة بالضعيف الذي لا يستهين به إلا أنذل الناس وأرذلهم، والرياء الذي لا يلم به إلا من كان في غاية الدناءة، فكان ذلك موجباً للميل إلى أعظم الويل، وفي ذلك أعظم مرغب في معالي الأخلاق التي هي أضداد ما ذكر في السورة وكلا الأمرين موجود في الأنفال المناظرة لها في رد المقطع على المطلع على أتم وجه، ليكون ذلك إشارة إلى أنها شارحة لهذا ففيه الإيماء إلى ملاحظتها عند قراءتها، انظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏ الآية ‏{‏وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الآية ‏{‏وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏والذين كفروا إلى جهنم يحشرون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ الآية ‏{‏فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية ولقد انطبقت السورة بمعانيها وتراكيبها العظيمة ونظومها ومبانيها على الأراذل الأدنياء الأسافل، وأحاطت برؤوسهم بعد كلماتها مفردة قبل حروفها، وأدارت عليهم كؤوس حتوفها من نوافذ الرماح بأيدي جنودها ومواضي سيوفها، وذلك أن عدة كلماتها خمس وعشرون كلمة فإذا اعتبرتها من أول سني النبوة وازت السنة الثانية عشرة من الهجرة، وذلك أواخر خلافة الصديق رضي الله عنه، وفيها لم يبق على يده أحد من المصلين الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو منعوا الزكاة، فتبين أنهم ما كانوا يصلون في حياته صلى الله عليه وسلم ويزكون إلا رياء الناس فعل الأدنياء الأنجاس حتى حل بهم الويل بأيدي جنود الصديق الذين جاؤوهم بالرجل والخيل فمزقوهم عن آخرهم، ولم تمض تلك السنة إلا وقد فرغ منهم بالفراغ من بني حنيفة باليمامة وأطراف بلاد اليمن من أهل النجير ببلاد كندة والأسود العنسي من صنعاء، وما مضت سنة ست عشرة الموازية لعدد الكلمات بالبسملة- وذلك في أوائل خلافة الفاروق- حتى زالوا من جميع جزيرة العرب وهم مشركو العرب ومتنصروهم ومتمجسوهم الذين كانوا بنواحي العراق والشام والبحرين فأسلم أكثرهم، وذهب الباقون إلى بلاد الروم، فحل الويل بالمرائين من أهل الصلاة فإنهم الذين أتى إليهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة فأعرضوا عنها والناس لهم تبع، ولم يصح في هذه السورة اعتبار الضمائر لأن الدين في هذا الحد كان قد ظهر على كل ظاهر، إلى حد لا إضمار فيه بوجه ولا عائق له ولا ساتر، وكما أنه لا حاجة إلى الرمز بالضمائر، لما دقت له في الخافقين من البشائر، على رؤوس المنابر والمنائر، فكذلك لم يناسب بعد الوصول إلى هذا الحال المكشوف، للإيماء بالدلالة بإعداد الحروف- والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة الكوثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم، فجاءت الكوثر لذلك، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق‏:‏ المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب، فابتدئت الكوثر بأجود الجود‏.‏ العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه، فكان كأنه قيل‏:‏ أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ بما لنا من العظمة وأكد لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏أعطيناك‏}‏ أي خولناك مع التمكين العظيم، ولم يقل‏:‏ آتيناك، لأن الإيتاء أصله الإحضار وإن اشتهر في معنى الإعطاء ‏{‏الكوثر *‏}‏ الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين‏.‏

ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك، فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة فكيف إذا كان في مظهر العظمه، فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك بل أعظم، كان المعنى‏:‏ أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني من العلم والعمل وغيرهما من معادن الدارين ومعاونهما الخير الذي لا غاية له، فلا يدخل تحت الوصف، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر، ومنه النهر الذي في الجنة ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم، فقد اجتمع لك الغبطتان‏:‏ أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون، وهو الكوثر وهو الخير الكثير، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة، لا يظمأ من شرب منه، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم والنصر بالرعب والخلق العظيم إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين، الجامع لعقل الأولين والآخرين، والشفاء لما في الصدور‏.‏

ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه

‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏ إلى قوله ‏{‏ورزق ربك خير وأبقى‏}‏ فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا وتمكن من تمكن منهم، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها- والله تعالى أعلم- انتهى‏.‏

ولما أعطاه ما فرغه به للعبادة وأكسبه غنى لا حاجة معه، سبب عنه قوله آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر‏:‏ ‏{‏فصل‏}‏ أي بقطع العلائق من الخلائق بالوقوف بين يدي الله في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها‏.‏

ولما أتى بمظهر العظمة لتكثير العطاء فتسبب عنه الأمر بما للملك من العلو، وكان أمره صلى الله عليه وسلم تكوينياً لا إباء معه، وقع الالتفات إلى صفة الإحسان المقتضي للترغيب والإقبال لما يفيد من التحبيب، مع التصريح بالتوحيد، وإفادة أن العبادة لا تقع إلا شكراً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لربك‏}‏ أي المحسن إليك بذلك سراً وعلناً مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك ‏{‏وانحر *‏}‏ أي أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لم يدعهم ويمنعهم الماعون لأن النحر أفضل نفقات العرب لأن الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل، ولذا عبر عن هذا المراد بالنحر ليفهم الزجر عما كانوا يفعلونه من الذبح للأوثان، ومن معناه أيضاً أظهر الذل والمسكنة والخشوع في الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى تحت النحر هيئة الذليل الخاضع، وقد قابل في هذا أربعاً من سورة الدين بأربع، وهي البخل بالإعطاء، وإضاعة الصلاة بالأمر بها، والرياء بالتخصيص بالرب، ومنع الزكاة بالنحر‏.‏

ولما أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق، علله بما حاصله أنه لا شاغل له ولا حاجة أصلاً تلم به فقال‏:‏ ‏{‏إن شانئك‏}‏ أي مبغضك والمتبرئ منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال، والخصال الفاضلة والكمال ‏{‏هو‏}‏ أي خاصة ‏{‏الأبتر *‏}‏ أي المقطوع من أصله والمقطوع النسل والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال، وفرغ بدنه لكل جمال، وأنت الموصول الأمر، النابه الذكر، المرفوع القدر، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة، لك ما أنت عليه، ولهم ما هم فيه، فالآية الأخيرة النتيجة لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة وسفول شأن عدوه فيهما، فقد التف كما ترى مفصلها بموصلها، وعرف آخرها من أولها، وعرف أن وسطاها كالحدود الوسطى معانقة للأولى بكونها من ثمارها، ومتصلة بالأخرى لأنها من غايات مضمارها، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد ملأت ذريته من فاطمة الزهراء الأرض، وهم الأشرف مع مبالغة الملوك في قتلهم، وإخلاء الأرض من نسلهم، خوفاً من شرفهم العالي على شرفهم، ورفعتهم بالتواضع الغالب لصلفهم، وإذا راجعت آية

‏{‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏ من الأحزاب علمت أن توفي بنيه عليهم السلام قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره، وأما اتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض وهم أولو الفرقان، والعلم الباهر والعرفان، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه وكفاه كل واحد منهم، وقد علم أن حاصل هذه السورة المن عليه صلى الله عليه وسلم بالخير العظيم الذي من جملته النهر المادّ من الجنة في المحشر المورود لمن اتبعه، الممنوع ممن تأبى عنه وقطعه، وأمره بالصلاة والنحر للتوسعة على المحاويج، والبشارة بقطع دابر أعدائه ونصر جماعة أوليائه، كما أن من مقاصد الأعراف المناظرة لها في رد المقطع على المطلع تهديد الظالمين بالإهلاك في قوله ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، وتصوير ذلك بذكر مصارع الماضين لمخالفتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأمر بالصلاة وستر العورة وما يقصد بالنحر بقوله‏:‏ ‏{‏خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا‏}‏ الآيات ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، وذكر من يمنح ماء الجنة ومن يمنعه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أو أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله‏}‏ الآيات ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ هذا ما يتعلق بتفسير تراكبيها وجملها، وتأويل تفاصيلها ومجملها، وكذا نظيرتها في مبادئ أمرها ومكملها، ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة، وكذا كان، لم تمض السنة الحادية عشر من الهجرة وفي جزيرة العرب إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة، فتكون إشارة إنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال، فآذنهم الله فلم يأتوا، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر وإن اشترك الكل في اسم الكلمات، فلذلك أخذ تمام البتر للشانئ وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة وثبات العرب في صفة الإسلام، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة- التي هي أقرب من المستترة- إلى الكلمات الخطية وأضعف من الكلمات الخطية اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة لأن ما بعدها يكون مثلها، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران- وهما أضعف من البارز- انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في ‏{‏فصلِّ‏}‏ مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى الأمر بها لأن الأمر الناشئ عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربعة كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وذلك عام الهجرة، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية وهي خمسة كانت تسع عشرة، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة وهي السادسة من الهجرة كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين وهي سنة ثمان من الهجرة سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانئ هو الأبتر، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه، وكان مالكاً لبلاد اليمن، وهو قدر كبير من بلاد العرب وكذا لغيرهم مما قارب بلاده، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر- فإن وجوب استتاره منع من عده- كانت تسع عشرة كلمة، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم فكسر الله بموته شوكة الروم، واستأسدت العرب عند ذلك، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانئ من الفرس، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانئ من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف لأنهم ليسوا بذوي علم، والروم بالكلمات لأنهم أهل علم، والكلمات أقرب إلى العلم، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة، وفيها كانت غزوة الأحزاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم منها

«الآن نغزوهم ولا يغزونا» فهو أول أخذ الشانئ في الانبتار، وإذا اعتبرت الأحرف بحسب الرسم كانت تسعة عشر آخرها سنة ست، وهي عمرة الحديبية سنة الفتح السببي وهو الصلح الذي نزلت فيه سورة الفتح وسماه الله فتحاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنه أعظم الفتح» فكان سبب الفتح الأعظم بخلطة الكفار لأهل الإسلام بالصلح، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لما رأوا من محاسن الدين وإعجاز القرآن، فكانوا يوم الفتح عشرة آلاف بعد أن كانوا قبل ذلك بسنتين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة- والله الموفق، هذا يسير من أسرار هذه السورة وقد علم منه من إعجازها ما يشرح الخواطر ويبهج النواظر، لأنه يفوق حسناً على الرياض النواضر، وعلم أيضاً جنون الخبيث المسخرة مسيلمة الكذاب- عليه اللعنة والتباب، وله سوء المنقلب والمآب، حيث قال في معارضتها‏:‏ إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، إنا كفيناك المكابر أو المجاهر، لأنه كلام، مع أنه قصير المدى، ركيك اللحمة والسدى، غريق الساحة والفنا في الهلك والفنا، ليس فيه غنى، بل كله نصب وعنا، هلهل النسج رث القوى، منفصم العرى، مخلخل الأرجا، فاسد المعنى والبنا، سافل الألفاظ مر الجنى، لأن العلل منافية للمعلولات، والشوامل منافرة للمشمولات، ثم رأيت في دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني أن الوسطى من قال‏:‏ العاهر وجاهر فإن كان بالدين لم يمنع الصدح بالباطل، وذلك لا يرضى به عاقل، وإن كان بالحرب كان على النصف لكل من تدبر فعرف، ولا نص فيه على الغلب بمطلوبيه، ولا طلب مع نقص الجود على كل تقدير، الذي هو المقصود للغني والفقير، والمأمور والأمير، هذا مع الإغارة على الأسلوب والحذو على المعهود غير محاذ

‏{‏في القصاص حياة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏ في إسقاط «القتل أنفى للقتل» بالرشاقة مع الوجازة، والعذوبة مع البلاغة، في إصابة حاق المعنى بما يقود إلى السماح بالنفس، ويحمل على المبادرة إلى امتثال الأمر، والأولى من سخيف عقل الخسيف، وأكله‏؟‏ إلى الخلق مع نقصان المعنى السار للإسرار والأخرى مهملة لذوي الشبه والستر مع ما فاتها من قصر الخسار وخصوص التبار إلى ما حوت من بيان الكذب البتار للأعمار المخرب للديار تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم البار بأيدي صحابته الأخيار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار- فسبحان من علا فعلا كلامه كل كلام والسلام والحمد لله على كل حال‏.‏

سورة الكافرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك، فقال معلماً له ما يقول ويفعل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير، قال منادياً له بأداة البعد وإن كان حاضراً معبراً بالوصف المؤذن بالرسوخ‏:‏ ‏{‏يا أيها الكافرون‏}‏ أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ، وهم كفرة مخصوصون وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً- كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}‏ إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 2‏]‏ والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله‏:‏ ‏{‏فريق في الجنة‏}‏ وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضاً، ويضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏ أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبداً

‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏ ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 128‏]‏ تصديقاً لكلمة الله وإحكاماً لسابق قدره ‏{‏أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ فقال لهم‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ إلى آخرها، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال، واستمر كل على طريقه ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏إن عليك إلا البلاغ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏ فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها- والله أعلم- انتهى‏.‏

ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم‏:‏ ‏{‏لا أعبد‏}‏ أي الآن ولا في مستقبل الزمان لأن ‏{‏لا‏}‏ للمستقبل و‏{‏ما‏}‏ للحال، كذا قالوا، وظاهر عبارة سيبويه في قوله‏:‏ ‏{‏لن‏}‏ نفي لقوله ‏{‏سيفعل‏}‏ ‏{‏ولا‏}‏ لقوله‏:‏ ‏{‏يفعل‏}‏، ولم يقع‏:‏ أنها تقع للمضارع الذي لم يقع سواء كان في غاية القرب من الحال أم لا، كما نقلته عنه في أول البقرة عند ‏{‏ولن تفعلوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ على أن نطقنا بهذا الكلام لا يكاد يتحقق حتى يمضي زمن فيصير مستقبلاً، فلذا عبر ب «لا» دون «ما» بشارة بأنه سبحانه يثبته على الصراط المستقيم، ولا يظفرهم به- علماً من أعلام النبوة‏.‏

ولما كان في معبوداتهم ما لا يعقل، وكان المقصود تحقير كل ما عبدوه سوى الله، عبر ب «ما» فقال‏:‏ ‏{‏ما تعبدون *‏}‏ أي الآن وفي آتي الزمان من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادة في سر ولا علن لأنه لا يصلح للعبادة بوجه‏.‏

ولما بدأ بما هو الأحق بالبداءة وهو البراءة من الشرك، والطهارة من وضر الإفك، لأنه من درء المفاسد، فأبلغ في ذلك بما هو الحقيق بحاله صلى الله عليه وسلم، وكانوا هم يعبدون الله تعالى على وجه الإشراك، وكانت العبادة مع الشرك غير معتد بها بوجه، نفى عبادتهم له في الجملة الاسمية الدالة على الثبات لا في الفعلية الدالة على نفي كل قليل وكثير من حيث إن الفعل نكرة في سياق النفي فقال‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون‏}‏ أي عبادة معتداً بها بحيث يكون أهلاً لأن تكون وصفاً ثابتاً‏.‏

ولما كانوا لا نزاع لهم في أن معبوده عالم، وكانت «ما» صالحة للإطلاق عليه سبحانه وتعالى، عبر فيه أيضاً بها لأن ذلك- مع أنه لا ضرر فيه- أقرب إلى الإنصاف، فهو أدعى إلى عدم المراء أو الخلاف- فقال‏:‏ ‏{‏ما أعبد *‏}‏ أي الآن وما بعده لأن معبودي- وله العلم التام والقدرة الشاملة- أبعدكم عنه فلا مطمع في الوفاق بيننا‏.‏

ولما كان ما نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه الماضي، وكان عدم المشاركة بوجه من الوجوه في زمن من الأزمان أدل على البراءة وأقعد في دوام الاستهانة، وكانوا يعدون سكوته صلى الله عليه وسلم عنهم فيما قبل النبوة عبادة، وكانوا غير مقتصرين على عبادة أصنامهم التي اتخذوها، بل إذا خرجوا من الحرم فنزلوا منزلاً نظروا لهم حجراً ليستحسنوه فيعبدونه، فإن لم يروا حجراً جمعوا شيئاً من تراب وحلبوا عليه شيئاً من لبن وعبدوه ما داموا في ذلك المنزل، وكان ذلك من أشد ما يعاب به من جهة عدم الشباب وأنه لا معبود لهم معين، قال منبهاً على ذلك كله‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد‏}‏ أي متصف بعبادة ‏{‏ما عبدتم *‏}‏ أي فيما سلف، لم يصح وصفي قط بعبادة ذلك من أول زمانكم إلى ساعاتنا هذه، فكيف ترجون ذلك مني وأنا لم أفعله ولا قبل النبوة ولا كان من شأني قط‏.‏

ولما كان هو صلى الله عليه وسلم ثابتاً على إله واحد لم يعبد غيره ولم يلتفت يوماً لفت سواه، وكان قد انتفى عنه بالجملتين هذه الماضية التي أول السورة أن يعبد باطلهم حالاً أو مآلاً، وأن يكون عبده قبل ذلك، وكان ربما ظن ظان أن النفي عنهم إنما هو لعبادة معبوده في الحال، نفى ذلك في الاستقبال أيضاً علماً من أعلام النبوة مع تأكيد ما أفادته الجملة الماضية جرياً على مناهيج العرب في التأكيد قطعاً لآمالهم منه على أتم وجه وآكده لأنه على وجه لا يقدرون عليه لما تفيده كل جملة مع التأكيد من فائدة جديدة مهمة، فقال‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون‏}‏ أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال‏.‏

ولما لم يكن قبل البعث مشهوراً عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار، وهو المضارع الذي ظاهره الحال أو الاستقبال مراداً به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ من أنه يطلق المضارع مراداً به مجرد إيقاع الفعل من غير نظر إلى زمان معين، فقال‏:‏ ‏{‏ما أعبد *‏}‏ أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن وفي ماضي الزمان ومستقبله اتصافاً يعتد به‏.‏

ولما كان ذلك كله، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صلى الله عليه وسلم إيذاناً بالاهتمام ببراءته منهم، أنتج قطعاً مقدماً لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيداً لما صرح به ما مضى من براءته منهم‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصة ‏{‏دينكم‏}‏ أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه، ولا دليل يرجع بوجه إليه، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتاً لبعضكم حتف الأنف والآخرين قتلاً على يدي بالسيف ‏{‏ولي‏}‏ أي خاصة ‏{‏دين *‏}‏ من واسع روضة الإسلام إلى أعلى مقام‏:‏ مقام الإيقان والإحسان، وأنتم تعلمون- لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا- أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان، لا تشاركونني فيه بوجه، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلاً، فكانت هذه علماً من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين، فصدق سبحانه فيما قال، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال، وأما من آمن بعد ذلك فليس مراداً لأنه لم يكن عريقاً في وصف الكفران، ولا راسخاً في الضلال والطغيان، فأسعده وصف الإسلام والإيمان، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلاً، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ولا يعبدون معبوده فصار آخرها أولها، ومفصلها موصلها- هذا هو الذي دل عليه السياق، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعدل بربه أحداً في زمن من الأزمان، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على أول الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر ‏{‏أغير الله اتخذ ولياً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏أفغير الله ابتغي حكماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏ ‏{‏أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات، والفواصل والغايات، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر، ولا سيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في يوم الفتح والمسلمون عشرة آلاف، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هارباً ولم يستطع أن يغلق وراءه، بل قال لها‏:‏ أغلقي بابي، فقالت له‏:‏ أين ما كانت تعدني به‏؟‏ فقال‏:‏

إنك لو شهدت يوم الخندمه *** إذ فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتهم بالسيوف المسلمه *** يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه *** بهم تهيب خلفنا وهمهمه

لم تنطقي باللوم أدنى كلمه *** هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال‏.‏ وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون في عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله، بل جاءتهم الأعداء- كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏من فوقهم ومن أسفل منهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 22‏]‏ وإلى هذا أيضاً أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها- والله هو الموفق‏.‏

سورة النصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما دلت التي قبلها على أن الكفار قد صاروا إلى حال لا عبرة بهم فيه ولا التفات ولا خوف بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة، كان كأنه قيل‏:‏ فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم بالمعاركة، فأجاب بهذه السورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين، ولكنه لما لم يكن هذا بالفعل إلا عام حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقر الفتح إلا حينئذ، فلم ينزل سبحانه وتعالى هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين، فقال تعالى تحقيقاً لأنه ينصر المظلوم ويعلي دينه ويمهل ولا يهمل، فإنه لا يعجزه شيء، حثاً على التفويض له والاكتفاء به، مقدماً معمول «سبح» تعجيلاً للبشارة‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏‏.‏

ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها، يسوقها إليها سائق القدرة، فتقرب منها شيئاً فشيئاً، كانت كأنها آتية إليها، فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن الحصول فقال‏:‏ ‏{‏جاء‏}‏ أي استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها اسم الذات فقال‏:‏ ‏{‏نصر الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه على جميع الناس في كل أمر يريده‏.‏

ولما كان للنصر درجات، وكان قد أشار سبحانه بمطلق الإضافة إليه ثم بكونها إلى الاسم الأعظم إلى أن المراد أعلاها، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏والفتح *‏}‏ أي المطلق الصالح لكل فتح الذي نزلت فيه سورته بالحديبية مبشرة له بغلبة حزبه الذين أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم، لا سيما على مكة التي بها بيته ومنها ظهر دينه، وبها كان أصله، وفيها استقر عموده، وعز جنوده، فذل بذلك جميع العرب، وقالوا‏:‏ لا طاقة لنا بمن أظفره الله بأهل الحرم، فعزوا بهذا الذل حتى كان ببعضهم تمام هذا الفتح، ويكون بهم كلهم فتح جميع البلاد، وللإشارة إلى الغلبة على جميع الأمم ساقه تعالى في أسلوب الشرط، ولتحققها عبر عنه ب ‏{‏إذا‏}‏ إعلاماً بأنه لا يخلف الوعد ولا ينقص ما قدره وإن توهمت العقول أنه فات وقته، وإيذاناً بأن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء ليحصل لمن علم ذلك الإخلاص والخوف والرجاء، فأشعرت العبارة بأن الوقت قد قرب، فكان المعنى‏:‏ فكن مترقباً لوروده ومستعداً لشكره‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما كمل دينه واتضحت شريعته واستقر أمره صلى الله عليه وسلم وأدى أمانة رسالته حق أدائها عرف عليه صلى الله عليه الصلاة والسلام نفاد عمره وانقضاء أجله، وجعلت له على ذلك علامة دخول الناس في دين الله جماعات بعد التوقف والتثبط ‏{‏حكمة بالغة فما تغني النذر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏لو شاء الله لجمعهم على الهدى‏}‏

‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ وأمر بالإكثار من الاستغفار المشروع في أعقاب المجالس وفي أطراف النهار وخواتم المآخذ مما عسى أن يتخلل من لغو أو فتور، فشرع سبحانه وتعالى الاستغفار ليحرز لعباده من حفظ أحوالهم ورعي أوقاتهم ما يفي بعليّ أجورهم كما وعدهم ‏{‏وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ وقد بسطت ما أشارت إليه هذه السورة العظيمة- وكل كلام ربنا عظيم- فيما قيدته في غير هذا، وأن أبا بكر رضي الله عنه عرف منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه الكريمة على ربه وعرف بدنو أجله، وقد أشار إلى هذا الغرض أيضاً بأبعد من الواقع في هذه السورة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وسورة براءة وأفعاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لكن لم يبلغنا استشعار أحد من الصحابة رضي الله عنهم تعيين الأمر إلا من هذه السورة‏.‏ وقد عرفت بإشارة براءة وآية المائدة تعريفاً شافياً، واستشعر الناس عام حجة الوداع وعند نزول براءة ذلك لكن لم يستيقنوه وغلبوا رجاءهم في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من توفي، فلما نزلت ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ استيقن أبو بكر رضي الله عنه ذلك استيقاناً حمله على البكاء لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم- انتهى‏.‏

ولما عبر عن المعنى بالمجيء، عبر عن المرئي بالرؤية فقال‏:‏ ‏{‏ورأيت‏}‏ أي بعينيك ‏{‏الناس‏}‏ أي العرب الذين كانوا حقيرين عند جميع الأمم، فصاروا بك هم الناس- كما دلت عليه لام الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً، وبالنسبة إليهم رعاياً، حال كونهم ‏{‏يدخلون‏}‏ شيئاً فشيئاً متجدداً دخولهم مستمراً ‏{‏في دين الله‏}‏ أي شرع من لم تزل كلمته هي العليا في حال إباء الخلق- بقهره لهم على الكفر الذي لا يرضاه لنفسه عاقل- ترك الحظوظ، وفي حال طواعيتهم بقسره لهم على الطاعة، وعبر عنه بالدين الذين معناه الجزاء لأن العرب كانوا لا يعتقدون القيامة التي لا يتم ظهور الجزاء إلا بها ‏{‏أفواجاً *‏}‏ أي قبائل قبائل وزمراً زمراً وجماعات كثيفة كالقبيلة بأسرها أمة بعد أمة كأهل مكة والطائف وهوازن وهمدان وسائر القبائل من غير قتال في خفة وسرعة ومفاجأة ولين بعد دخولهم واحداً واحداً ونحو ذلك لأنهم قالوا‏:‏ أما إذا ظفر بأهل الحرم وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل الذين لم يقدر أحد على ردهم فليس لنا بهم يدان‏.‏ فتبين أن هذا القياس المنتج هذه النتيجة البديهية بقصة أصحاب الفيل ما رتبه الله إلا إرهاصاً لنبوته وتأسيساً لدعوته فألقوا بأيديهم، وأسلموا قيادهم حاضرهم وباديهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فقد سبح الله نفسه بالحمد بإبعاد نجس الشرك عن جزيرة العرب بالفعل، قال إيذاناً بأنه منزه عن النقائص التي منها إخلاف الوعد، وأن له مع ذلك الجلال والجمال، معبراً بما يفيد التعجب لزيادة التعظيم للمتعجب منه ليثمر ذلك الإجلال والتعظيم والتذلل والتقبل لجميع الأوامر، ويفهم أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالاشتغال بخاصة نفسه بدنو أجله، وأن اشتغاله بالناس قد انتهى، لأن الدين قد كمل فلم يبق له صلى الله عليه وسلم شغل في دار الكدر‏:‏ ‏{‏فسبح‏}‏ أي نزه أنت بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها موافقة لمولاك فيما فعل، وزد في جميع أنواع العبادة، تسبيحاً متلبساً ‏{‏بحمد‏}‏ أي بكمال وإجلال وتعظيم ‏{‏ربك‏}‏ أي الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين، المحسن إليك بجميع ذلك، لأنه كله لكرامتك، وإلا فهو عزيز حميد على كل حال، تعجباً لتيسير الله من هذا الفتح مما لم يخطر بالبال، وشكراً لما أنعم به سبحانه وتعالى عليه من أنه أراه تمام ما أرسل لأجله، ولأن كل حسنة يعملها أتباعه له مثلها‏.‏

ولما أمره صلى الله عليه وسلم بتنزيهه عن كل نقص، ووصفه تنزلاً عن غيب الغيب إلى الغيب بكل كمال مضافاً إلى الرب تدلياً إلى مشاهدة الأفعال، وصل إلى نهاية التنزل من الخالق إلى المخلوق مخاطباً لأعلى الخلائق كلهم فأمره بما يفهم العجز عن الوفاء بحقه لما له من العظمة المشار إليها بذكره مرتين بالاسم الأعظم الذي له من الدلائل على العظم والعلو إلى محل الغيب الذي لا مطمع في دركه ما تنقطع الأعناق دونه ليفهم عجز غيره من باب الأولى، فقال معلماً بأن من كماله أن يأخذ بالذنب إن شاء ويغفر إن شاء وإن عظم الذنب، ليحث ذلك على المبادرة إلى التوبة وتكثير الحسنات وحسن الرجاء‏:‏ ‏{‏واستغفره‏}‏ أي اطلب غفرانه إنه كان غفاراً إيذاناً بأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات لتقتدي بك أمتك في المواظبة على الأمان الثاني لهم، فإن الأمان الأول- الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى والمحل الأقدس الأولى، وكذا فعل صلى الله عليه وسلم- كان يقول‏:‏ «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ودخل يوم الفتح مكة مطأطئاً رأسه حتى إنه ليكاد يمس واسطة الرحل تواضعاً لله سبحانه وتعالى إعلاماً لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن ما وقع إنما هو بحول الله، لا بكثرة مع معه من الجمع، وإنما جعلهم سبباً لطفاً منه بهم، ولذلك نبه من ظن منهم أو هجس في خاطره أن للجمع مدخلاً بما وقع من الهزيمة في حنين أولاً، وما وقع بعد من النصرة بمن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يبلغون ثلاثين نفساً ثانياً، فالتسبيح الذي هو تنزيه عن النقص إشارة إلى إكماله الدين تحقيقاً لما كان تقدم به وعده الشريف‏.‏

والاستغفار إشارة إلى أن عبادته صلى الله عليه وسلم التي هي أعظم العبادات قد شارفت الانقضاء، ولا يكون ذلك إلا بالموت، فلذلك أمر بالاستغفار لأنه يكون في خاتمة المجالس والأعمال جبراً لما لعله وقع فيها على نوع من الوهن واعترافاً بذل العبودية والعجز‏.‏

ولما أمر بذلك فأرشد السياق إلى أن التقدير‏:‏ وتب إليه، علله مؤكداً لأجل استبعاد من يستبعد مضمون ذلك من رجوع الناس في الردة ومن غيره بقوله‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي المحسن إليك غاية الإحسان بخلافته لك في أمتك، ويجوز أن يكون التأكيد لأجل دلالة ما تقدم من ذكر الجلالة مرتين على غاية العظمة والفوت عن الإدراك بالاحتجاب بإرادته الكبرياء والعز والتجبر والقهر مع أن المألوف أن من كان على شيء من ذلك كان بحيث لا يقبل عذراً ولا يقبل نادماً ‏{‏كان‏}‏ أي لم يزل على التجدد والاستمرار ‏{‏تواباً *‏}‏ أي رجاعاً بمن هذب به الشيطان من أهل رحمته فهو، الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات فأيدك بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً حتى أسرع بهم بعد سورة الفتح إلى أن دخلت مكة في عشرة آلاف، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحال التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى ويرجع عن تخلخل من أمتك في دينه بردة أو معصية دون ذلك إلى ما كان عليه من الخير، ويسير بهم أحسن سير، فقد رجع آخر السورة إلى أولها لأنه لولا تحقق وصفه بالتوبة لما وجد الناصر الذي وجد به الفتح والتحم مقطعها أي التحام بمطلعها، وعلم أن كل جملة منها مسببة عما قبلها، فتوبة الله على عبده نتيجة توبته باستغفاره الذي هو طلب المغفرة بشروطه، وذلك ثمرة اعتقاده الكمال في ربه، وذلك ما دل عليه إعلاؤه لدينه، وقسره للداخلين فيه على الدخول مع أنهم أشد الناس شكائم وأعلاهم همماً وعزائم، وقد كانوا في غاية الإباء له والمغالبة للقائم به، وذلك هو فائدة الفتح هو آية النصر، وقد علم أن الآية الأخيرة من الاحتباك‏:‏ دل بالأمر بالاستغفار على الأمر بالتوبة، وبتعليل الأمر بالتوبة على تعليل الأمر بالاستغفار، وعلم أن السورة أشارة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم بالحث على الاستغفار الذي هو الأمان الثاني، ومن شأنه أن تختم به الأعمال والمجالس بعد ما أشار إليه إعلامها بظهور الدين على الدين كله ونزولها في أوسط أيام التشريق من حجته عليه أفضل الصلاة والسلام سنة عشر كما ذكرته في كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» وكتابي «الاطلاع على حجة الوداع» وذلك بعد نزول آية المائدة- التي هي نظيرتها في رد المقطع على المطلع- في يوم عرفة

‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ومن المعلوم أنه لا يكون في هذه الدار كمال إلا بعده نقصان، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وخطب الناس فيها، فعلّمهم أمور دينهم وأشهدهم على أنفسهم وأشهد الله عليهم بأنه بلغهم، وودعهم وقال‏:‏ لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وأشار إلى ذلك أيضاً بالتوبة وإلى وقوع الردة بعده صلى الله عليه وسلم ورجوع من ارتد إلى أحسن ما كانوا عليه من اعتقادهم في الدين وثباتهم عليه بقتل من كان مطبوعاً على الكفر المشار إليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أسمعهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏- أي إسماع قهر وغلبة وقسر- ‏{‏لتولوا وهم معرضون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ فكان وجودهم ضرراً صرفاً من غير منفعة وقتلهم نفعاً لا ضرر فيه بوجه، ولأجل إفهامها حلول الأجل للإيذان بالتمام بكى العباس رضي الله تعالى عنه- وفي رواية‏:‏ ولده عبد الله- عند نزولها فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «نعيت إليك نفسك» فقال‏:‏ إنه لكما تقول‏.‏ كما بكى عمر رضي الله عنه عند نزول آية المائدة، وعلل بهذا- والله الهادي، وقد ظهر بهذا أن حاصلها الإيذان بكمال الدين ودنو الوفاة لخاتم النبيين، والنصر على جميع الظالمين الطاغين الباغين، وذلك من أعظم مقاصد المائدة، المناظرة لهذه في التطبيق بين البادئة والعائدة، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 56‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 120‏]‏ ومن أعظم لطائف هذه السورة ودقيق بدائعها ولطيف منازعها أن كلماتها تدل بأعدادها على أمور جليلة وأسرار جميلة، فإنها تسع عشرة كلمة، وقد كان في سنة تسع عشرة من الهجرة موت قيصر طاغية الروم، وذلك أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح الإسكندرية قال قيصر‏:‏ لئن غلبونا على الإسكندرية لقد هلكت الروم، فتجهز ليباشر قتالهم بنفسه، فعندما فرغ من جهازه صرعه الله فمات وكفى الله المسلمين شره، وذل الروم بذلك ذلاً كبيراً، واستأسدت العرب، وفي هذه السنة أيضاً فتح الله قيسارية من بلاد الشام فلم يبق بالشام أقصاها وأدناها عدو، وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، وكان فيها أيضاً فتح جلولاء، من بلاد فارس، وكان فتحها يسمى فتح الفتوح، لأن الفرس لم ينجبروا بعده، هذا إن عددنا ما يوازي كلماتها من سنة الهجرة، وإن عددنا من سنة نزول السورة في سنة عشر فقد فتحت سنة تسع وعشرين من الهجرة- وهي التاسعة عشرة من نزولها- مدينة اصطخر، واشتد ضعف الفرس، وأمر ملكهم يزدجرد واجتهاده في الهرب من العرب حتى قتل سنة إحدى وثلاثين من الهجرة بعد ذلك بسنتين، وذلك هو العد الموازي لعد كلماتها ظواهر وضمائر مع كلمات البسملة، وإذا نظرت إلى ما هنا من هذا وطبقت بينه وبين ما ذكر في سورة الفتح من مثله زاد عجبك من باهر هذه الآيات- والله الموفق، ثم إنك إذا اعتبرت اعتباراً آخر وجدت هذه السورة كا دلت بجملتها على انقضاء زمن النبوة بموت النبي صلى الله عليه وسلم دلت بمفردات كلماتها على انقضاء خلافة النبوة لتمام ثلاثين سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنه

«خلافة النبوة ثلاثون، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» وذلك أنك إذا عددت كلماتها مع البسملة كانت باعتبار الرسم ثلاثاً وعشرين كلمة، وذلك مشيراً إلى انقضاء الخلافة التي لم تكن قط خلافة مثلها، وهي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستشهاده في ذي الحجة سنة ثلاثة وعشرين من الهجرة، فإذا ضممت إلى ذلك الضمائر البارزة وهي خمسة، والمستترة وهي ثلاثة، فكانت أحداً وثلاثين، وحسبت من حين نزول السورة على النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة سنة عشر كان ذلك مشيراً إلى انقضاء خلافة النبوة كلها بإصلاح أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وذلك عند مضي ثلاثين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة لا تزيد شهراً ولا تنقصه، وإن أخذت الضمائر وحدها بارزها ومستترها دلت على فتح مكة المشرفة بعينه، فإنها- كما مضى- ثمانية وقد كان الفتح سنة ثمان من الهجرة، ومن لطائف الأسرار وبدائع الأنظار أنها تدل على السنين بحسب التفصيل، فالبارز يدل على سنة النصر والظهور على قريش لأنهم المقصودون بالذات لأن العرب لهم تبع، والمستتر يدل على ضد ذلك، وشرح هذا أنه لما كانت قد خفقت في السنة الأولى من الهجرة رايات الإسلام في كل وجه، وانتشرت أسده في كل صوب، وانبثت سراياه في كل قطر، أشار إليها التاء في ‏{‏ورأيت‏}‏ التي هي ضميره صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما يختص بفهمه من البشارة‏.‏ ولما كان في السنة الثانية بغزوة بدر من واضح الظفر وعظيم النصر ما هدّ قلوب الكفار، وشد قلوب الأنصار في سائر الأمصار، وأعلى لهم القدر، أشار إلى ذلك واو ‏{‏يدخلون‏}‏، ولما حصل في السنة الثالثة ما لم يخف من المصيبة في غزوة أحد التي ربما أوهمت بعض من لم يرسخ نقصاً، أشار إلى ذلك الضمير المستتر في ‏{‏فسبح‏}‏، ولما كان الخبر في الرابعة بأجلاء بني النضير وإخلاف قريش للوعد في بدر جبناً وعجزاً حيث وفى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شجاعة وقوة بحول الله وانقلبوا، منها بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء، أشار إلى ذلك الكاف في ‏{‏ربك‏}‏ ولما كان في الخامسة غزوة الأحزاب أشار إليها المستتر في ‏{‏واستغفره‏}‏ ولما كان في السادسة عمرة الحديبية التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم فتحاً، أنزل الله فيها سورة الفتح لكونها كانت سبباً للفتح، فكان ذلك علماً من أعلام النبوة، ولبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الملوك يدعوهم إلى الله تعالى أشار إلى ذلك الضمير البازر في ‏{‏واستغفره‏}‏ وأكد قوته كونه للرب تعالى، ولما كان في السابعة غزوة خيبر وعمرة القضاء أشار إليها الضمير الظاهر في ‏{‏إنه‏}‏ ولما كان ضمير ‏{‏كان‏}‏ لله، وكان له سبحانه حضرتان‏:‏ حضرة غيب وبطون، وحضرة شهادة وظهور، وكانت حضرة الغيب هي حضرة الجلال والكبرياء والعظمة والتعالي، وحضرة الشهادة حضرة التنزل بالأفعال والاستعطاف بالأقوال، كانت الحضرتان للنصر، وكانت حضرة الغيب أعظمهما نصراً وأشدهما أزراً، فلذلك كان ضمير الاستتار دالاًّ على الفتح الأكبر بالانتصار على السكان والديار بسطوة الواحد القهار، على أنا إذا نظرنا إليه من حيث كونه جائز البروز كان البارز فله حكمه- فسبحان من شمل علمه، ودقت حكمته فنفذ حكمه‏.‏

سورة المسد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين بعد ما كانوا فيه من الذلة، والأمر الحتم بتكثيرهم بعد الذي مر عليهم مع الذلة من القلة، وختمها بأنه التواب، وكان أبو لهب- من شدة العناد لهذا الدين والأذى لإمامة النبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين مع قربه منه- بالمحل الذي لا يجهل، بل شاع واشتهر، وأحرق الأكباد وصهر، كان بحيث يسأل عن حاله إذ ذاك هل يثبت عليه أو يذل، فشفى غلَّ هذا السؤال، وأزيل بما يكون له من النكال، وليكون ذلك بعد وقوع الفتح ونزول الظفر والنصر، والإظهار على الأعداء بالعز والقهر، مذكراً له صلى الله عليه وسلم بما كان أول الأمر من جبروتهم وأذاهم وقوتهم بالعَدد والعُدد، وأنه لم يغن عنهم شيء من ذلك، بل صدق الله وعده في قوله سبحانه وتعالى ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جنهم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ وكذبوا فيما كانوا فيه من التعاضد والتناصر والتحالف والتعاقد، فذكر تعالى أعداهم له وأقربهم إليه في النسب إشارة إلى أنه لا فرق في تكذيبه لهم بين القريب والبعيد‏.‏ وإلى أنه لم ينفعه قربه له ليكون ذلك حاملاً لأهل الدين على الاجتهاد في العمل من غير ركون إلى سبب أو نسب غير ما شرعه سبحانه، فقال تعالى معبراً بالماضي دلالة على أن الأمر قد قضى بذلك وفرغ منه، فلا بد من كونه ولا محيص‏:‏ ‏{‏تبت‏}‏ أي حصل القطع الأعظم والحتم الأكمل، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة، وهي المؤدية إلى الهلاك لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها ب «قل» كأخواتها لأن هذا أكثر أدباً وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى التخويف وتجويز سرعة الوقوع‏.‏

ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان، فإذا اختلت اختل أمره، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعاً، قال مشيراً بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئاً، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس، ومشيراً بالكنية وإن كان يؤتى بها غالباً للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله‏:‏ ‏{‏يدا أبي لهب‏}‏ فلا قدرة له على إعطاء ولا منع، ولا على جلب ولا دفع، وإشارة إلى أن حسن صورته لم تغن عنه شيئاً من قيبح سيرته لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»

لأنه إنما كني بهذا لإشراق وجهه وتوقد وجنتيه، ولأنها أشهر، فالبيان بها أقوى وأظهر، والتعبير بها- مع كونه أوضح- أقعد في قول التي هي أحسن‏.‏ لأن اسمه عبد العزى وهو قبيح موجب للعدول عنه غيرة على العبودية أن تضاف إلى غير مستحقها‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل‏:‏ قد انقضى عمرك يا محمد، وانتهى ما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك، وأديت ما تحملته وحان أجلك، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجاً، واستجابتهم بعد تلكؤهم، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك وإن كان أقرب الناس إليك‏.‏ فقد فصلت سورة ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ بين أوليائك وأعدائك، وبان بها حكم من اتبعك من عاداك، ولهذا سماها عليه الصلاة والسلام المبرئة من النفاق، وليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان، وأن القرابات غير نافعه ولا مجدية شيئاً إلا مع الإيمان ‏{‏لكم دينك ولي دين‏}‏ ‏{‏أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏، ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏ وههنا انتهى الكتاب بجملته- انتهى‏.‏

ولما كان ربما خص التباب بالهلاك، وحمل على هلاك اليدين حقيقة، وكان الإنسان لا يزول جميع منفعته بفوات يديه وإن كان قد يعبر بهما عن النفس، قال مصرحاً بالمقصود‏:‏ ‏{‏وتب‏}‏ أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، والظاهر أن الأول دعاء والثاني خبر، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومادة «تب» و«بتّ»- الجامعة بجمع التاء والباء للسببين الأدنى الباطني والأعلى الظاهري- تدور على القطع المؤدي في أغلب أحواله إلى الهلاك، لأن من انقطع إلى الأسباب معرضاً عن مسببها كان في أعظم تباب، وربما كان القطع باستجماع الأسباب، فحصل العوز بالمقاصد والمحابّ، قال ابن مكتوم في الجمع بين المحكم والعباب‏:‏ التب والتباب‏:‏ الخسار، وتباً له- على الدعاء، وتباً تبيباً- على المبالغة، قال الإمام أبو عبد الله القزاز‏:‏ كأنك قلت‏:‏ خسراناً له، وهو المصدر، نصب نصب سقياً له، قال ابن دريد‏:‏ وكأن التب المصدر والتباب الاسم، والتبب والتباب والتبيب‏:‏ الهلاك، والتتبيب النقص والخسار، وكل هذا واضح في القطع عن الخير والفوز، قال‏:‏ والتابّ‏:‏ الكبير من الرجال، والأنثى تابة، وقال القزاز‏:‏ إذا سألت الرجل عن المرأة قلت‏:‏ أشابة هي أم تابة، أي أم عجوز فانية، ومعلوم أن كبر السن مقرب من القطع والهلاك، والتاب‏:‏ الضعيف، والجمع أتباب- هذلية، وحمار تاب الظهر- إذا دبر، وجمل تاب كذلك نادرة، ولا شك أن الدبر والضعف هلاك في المعنى‏.‏

وتب‏:‏ قطع مثل بت، أي بتقديم الموحدة ووقعوا في تبوب منكرة، وهو بتبة أي بحالة شديدة، والتبي- بالفتح والكسر‏:‏ ضرب من تمر البحرين، قيل‏:‏ هو رديء يأكله سقاط الناس، وأتب الله قوته‏:‏ أضعفها، وتببوهم تتبيباً‏:‏ أهلكوهم، وتبتب‏:‏ شاخ، وكل ذلك واضح في القطع بالهلاك والخسار، والتبوب يعني بالضم‏:‏ ما انطوت عليه الأضلاع كالصدر والقلب، وهذا يحتمل الخير والشر، فإن القلب إذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح صلح الجسد كله، فيكون حينئذ القطع، بالفوز والنجاة، أو لأن انطواء الأضلاع عليه قطعة عن الخارج، واستتب الأمر‏:‏ تهيأ واستوى‏.‏ وقال القزاز‏:‏ ويقال‏:‏ هذه العلة لا تستتب في نظار هذا القول، أي لا تجري في نظائره، كأنه من باب الإزالة إذ إن السين لما جامعت حرف السببين آذنت بالنجاح والفوز والفلاح، فإنها حرف تدل على الاستيفاء في الإنباء عن الشيء والتتمة والألفة، وأحسن من هذا أنها إذا جرت في النظائر أوضحتها وكشفت معانيها ففصلتها وأبانتها وقطعتها عن غير النظائر بما أزالت من الإلباس بها، والذي يحقق معاني التب ويظهر أنه يؤول إلى القطع مقلوبه، وهو البت- بتقديم الموحدة التي هي السبب الظاهر الذي هو أقوى من حيث إنه لا يتحقق إلا بكمال السبب الباطني، يقال‏:‏ بت الشيء يبته بتاً، وأبته‏:‏ قطعه قطعاً مستأصلاً، وبت هو يُبت وبيِت بتاً وانبت، ولعله استوى فيه المجرد والمزيد في التعدية دلالة على أن ما حصل بالمجرد من القطع هو من الكمال بحيث لا مزيد عليه، وكذا استوى القاصر مجرداً ومطاوعاً مع المتعدي في أصل المعنى‏.‏ وصدقه بتة‏:‏ بتلة باينة من صاحبها، وطلقها ثلاثاً بتة وإبتاتاً، أي قطعاً لا عود فيه، ولا أفعله البتة- كأنه قطع فعله، قال سيبويه‏:‏ وقالوا‏:‏ قعد البتة- مصدر مؤكد، ولا يستعمل إلا بالألف واللام، وبت عليه القضاء بتاً وأبته‏:‏ قطعه، وسكران ما يُبت كلاماً وما يُبت أي ما يقطعه، قال القزاز‏:‏ يُبت من أبت، ويبَت من بَتَّ، وسكران باتّ‏:‏ منقطع عن العمل بالسكر، وأبت يمينه‏:‏ أمضاها، أي قطعها عن الحنث، وبتت هي‏:‏ وجبت وحلت بتاً وبتة وبتاتاً، وكل ذلك من القطع، وأبت بعيره، أي قطعه بالسير، والمنبت في الحديث‏:‏ الذي أتعب دابته حتى عطب ظهره فبقي منقطعاً به، وقال القزاز‏:‏ هو الذي أتعب دابته حتى قطع ظهرها فبقي منبتاً به، أي منقطعاً به، وبت عليه الشهادة وأبتها‏:‏ قطع عليه بها وألزمه إياها، وبت عليه القضاء وأبته، قطعه، والبات‏:‏ المهزول الذي لا يقدر أن يقوم- كأنه قد انقطعت قوته، وفي الحديث «لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل»

فمعناه‏:‏ يوجبه، أي يقطعه على نفسه قبل الفجر، من أبت عليه الحكم- إذا قطعه، وروي‏:‏ يبت، من بت- إذا قطع، وكلاهما بمعنى، وهما لغتان فصيحان‏.‏ وروي في حديث «من لم يبت» من البيات، وأحمق بات‏:‏ شديد الحمق- كذا قاله الليث، وقال الأزهري‏:‏ هو تاب- بتأخير الموحدة، والبت‏:‏ كساء غليظ مهلهل مربع أخضر، وقيل‏:‏ هو من وبر وصوف، والجمع بتوت، والبتات أي بالتخفيف‏:‏ متاع البيت والزاد، كأن ذلك يقطع صاحبه عن الحاجة، وبتتوه‏:‏ زودوه، أو أن ذلك من الإزالة لأنه صلة لصاحبه ورفد لأن الاستقراء حاصل بأن كل مادة لها معنى غالب تدور عليه وفيها شيء لإزالة ذلك المعنى، وفلان على بتات أمر- إذا أشرف على فراغه، فإنه ينقطع حينئذ، وتقول‏:‏ طحنت بالرحى بتاً- إذا ابتدأت الإدارة عن يسارك، كأنه دال على القطع بتمام العزيمة لأن ذلك أقوى للطاحن وأمكن، وانبت الرجل‏:‏ انقطع ماء ظهره، ويقال‏:‏ هذا حبل بتّ‏:‏ إذا كان طاقاً واحداً، كأنه لما كان كذلك فكان سهل القطع أطلق عليه القطع مبالغة مثل عدل، وقد انبت فلان عن فلان- إذا انقطع وانقبض‏.‏

ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره من الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد، وما هو فيه من القوة بالعَدد والعُدد، زاد الأمر تحققاً إعلاماً بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها فقال مخبراً، أو مستفهماً منكراً ‏{‏ما أغنى‏}‏ أي أجزى وناب وسد ‏{‏عنه‏}‏ أي عن أبي لهب الشقي الطريد المبعود عن الرحمة مع العذاب ‏{‏ماله‏}‏ أي الكثير الذي جرت العادة بأنه ينجي من الهلاك‏.‏

ولما كان الكسب أعم من المال، وكان المال قد يكسب منافع هي أعظم منه من الجاه وغيره، وكان الإنسان قد يكون فائزاً ولا مال له بأمور أثلها بسعيه خارجة عن المال، قال مفيداً لذلك مبيناً أنه لا ينفع إلا ما أمر الله به ‏{‏وما كسب *‏}‏ أي وإن كان ذلك على وجه هائل من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يرضيها باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في المحافل يؤذيه ويكذبه وينهى الناس عن تصديقه مع أنه كان قبل ذلك يناديه بالصادق الأمين، وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بد أن تدركه، فلما حان الأمر وكان قد آن ما أراد صاحب العز الشامخ، سبب له أن سافر إلى الشام فأوصى به أبوه الرفاق لينجوه رغم من هذه الدعوة، فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم، والحمول محيطة به وهم محيطون بها والركاب محيطة بهم، فلم ينفعه ذلك بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه ولم ينفع أباه ذلك، بل استمر على ضلاله لما سبق في علم الله تعالى حتى كانت وقعة بدر فلم يخرج فيها فلما جاء الفلال كان منهم ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث فقال‏:‏ هلم يا ابن أخي فعندك الخبر‏:‏ فقال نعم‏!‏ فوالله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يفتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، ومع ذلك والله مللت الناس لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئاً- أي ما تبقيه- ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع غلام العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان جالساً في حجرة في المسجد يبري نبلاً، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وكنا نكتم إسلامنا، فما ملكت نفسي أن قلت‏:‏ تلك والله الملائكة، قال‏:‏ فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال‏:‏ وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك عليّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل- يعني سيدته- زوجة العباس رضي الله عنها إلى عمود الحجرة- أي الخيمة- فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت‏:‏ استضعفته أي عدو الله إن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال أو ستاً حتى رماه الله بالعدسة فقتله وما نفعه إبعاده عن الخطر بتخلفه عن بدر، والعدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل غالباً، قال القزاز‏:‏ كانت تعدي في الجاهلية قلما يسلم منها أحد، تقول‏:‏ عدس الرجل فهو معدوس، كما تقول‏:‏ طعن فهو مطعون- إذا أصابه الطاعون- انتهى‏.‏

ولأجل تشاؤم العرب بها ترك أبو لهب من غير دفن ثلاثاً حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، ويقال‏:‏ إنهم حفروا له حفرة بعيدة عنه من شدة نتنه ثم دفعوه بخشب طوال حتى رموه فيها ورجموه بالحجارة والتراب من بعيد حتى طموه، فكان ذلك سنة في رجمه فهو يرجم إلى الآن، وذلك من أول إعجاز هذه الآيات أن كان سبة في العرب دون أن يغني عنه شيء مما يظن أنه يغني عنه‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بوقوع هذا التبار الأعظم به، وكان لا عذاب يداني عذاب الآخرة، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏سيصلى‏}‏ أي عن قرب بوعد لا خلف فيه ‏{‏ناراً‏}‏ أي فيدس فيها وتنعطف عليه وتحيط به‏.‏

ولما كان المقصود شدة نكايته بأشد ما يكون من الحرارة كما أحرق أكباد الأولياء، وكانت النار قد تكون جمراً ثم تنطفئ عن قرب قال‏:‏ ‏{‏ذات لهب *‏}‏ أي لا تسكن ولا تخمد أبداً لأن ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها ب «ذات»، وذلك بعد موته وليس في السورة دليل قاطع على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون الصلي على الفسق، فلا دليل فيها لمن يقول‏:‏ إن فيها التكليف بما علم أنه محال ليكون قد كلف بأن يؤمن وقد علم أنه حكم بأنه لا يؤمن، وإن كان الله قد حقق هذا الخبر بموته كافراً في الثانية من الهجرة عقب غزوة بدر وهي الخامسة عشرة من النبوة، لكن ما عرف تحتم كفره إلا بموته كافراً لا بشيء في هذه السورة ولا غيرها، ومن الغرائب أن الكلمات المتعلقة به في هذه السورة خمس عشرة كلمة، فكانت مشيرة إلى سنة موته بعد أن رأى تبابه في وقعة بدر وغيرها بعينه، فإذا ضممنا إليها كلمات البسملة الأربع وازت سنة ست من الهجرة، وهي سنة عمرة الحديبية سنة الفتح السببي التي تحقق فيها تبابه وخساره عند كل من عنده إيمان بالغيب ودفع للريب، فإذا ضممت إليها الضميرين البارزين اللذين هما أقرب إلى الكلمات الاصطلاحية من المستترة وازت سنة ثمان من الهجرة التي كان فيها الفتح الحقيقي، فتحقق عند قريش كافة ما أنزل فيه في هذه السورة، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاثة المستترة وازت سنة إحدى عشرة على أنك إذا بدأت بالضمائر المستترة حصلت المناسبة أيضاً، وذلك أنها توازي سنة تسع وهي سنة الوفود التي دخل الناس فيها في الدين أفواجاً وحج فيها بالناس أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً، ونودي في الموسم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، فتحققت خيبة أبي لهب عند كل من حضر الموسم لا سيما من كان يعلم دورانه وراء النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه له من مسلم وغيره، فإذا ضممنا إلى ذلك الضميرين البارزين وازت سنة إحدى عشرة أول سني خلافة الصديق رضي الله عنه التي فتحت فيها جميع جزيرة العرب بعد أن لعب الشيطان بكثير من أهلها‏.‏

فرجعوا بعد أن قتل الله منهم من علم أنه مخلوق لجهنم، وتحقق حينئذ ما لأبي لهب من التباب والنار ذات الالتهاب عند العرب كافة بإيمانهم عامة في السنة الحادية عشرة من الهجرة بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من النبوة، واستقر الأمر حينئذ، وعلم أن الدين قد رسخت أوتاده وثبت عماده، وأن الذي كان يحميه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قد حماه بعده وهو سبحانه حي لا يموت وقادر لا يعجزه شيء، وعدد كلمات السورة ثلاث وعشرون وهي توازي سنة حجة الوداع سنة عشر، فإنها السنة الثالثة والعشرون من المبعث وفيها كمل الدين ونزلت آية المائدة‏.‏ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرض العرب، فتحقق كل الناس لا سيما من حضر الموسم تباب أبي لهب الذي كان يدور في تلك المشاهد وراء النبي صلى الله عليه وسلم يكذبه ويؤذيه

‏{‏إن في ذلك لعبرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13- والنور‏:‏ 44‏]‏‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار، وكان أشق ما على الإنسان هتك ما يصونه من حريمه حتى أنه يبذل نفسه دون ذلك لا سيما العرب، فإنه لا يدانيهم في ذلك أحد، زاده تحقيراً بذكر من يصونها معبراً عنها بما صدرها بازراً صورة وأشنعها، فقال مشيراً إلى أن خلطة الأشرار غاية الخسار، فإن الطبع وإن كان جيداً يسرق من الردئ، فكيف إذا كان رديئاً وإن أرضى الناس بما يسخط الله أعظم الهلاك ‏{‏وامرأته‏}‏ أي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي مثل زوجها في التباب والصلي من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها بكنيتها لأن صفتها القباحة وهي ضد كنيتها، ومن هنا تؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه، ثم وصفها بما أشار إليه ذنبها وأكمل قبيح صورتها فقال‏:‏ ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ أي الحاملة أقصى ما يمكن حمله من حطب جهنم بما كانت تمشي به وتبالغ فيه من حمل حطب البهت والنميمة الذي تحمل به على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وشدة أذاه وإيقاد نار الحرب والخصومة عليه صلى الله عليه وسلم، من قول الشاعر‏:‏

من البيض لم تصطد على ظهر لأمه *** ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

أراد النميمة، وعبر بالرطب للدلالة على زيادة الشر بما فيه من التدخين وشبهت النميمة بالحطب لأنها توقد الشر فتفرق بين الناس كما أن الحطب يكون وقوداً للنار فتفرقه، وكذا بما كانت تحمل من الشوك وتنثره ليلاً في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لتؤذيه، وكانت تفعله بنفسها من شدة عداوتها وتباشره ليلاً لتستخفي به لأنها كانت شريفة، فلما نزلت سورة صوّرتها بأقبح صورة فكان ذلك- أعظم فاضح لها، وقراءة عاصم بالنصب للقطع على الشتم تؤدي أن امرأته مبتدأ وأن الخبر ‏{‏في جيدها‏}‏ أي عنقها وأجود ما فيها- هو حال على التقدير الأول ‏{‏حبل‏}‏ كالحطابين تخسيساً لأمرها وتحقيراً لحالها ‏{‏من مسد‏}‏ أي ليف أو ليف المقل أو من شيء قد فتل وأحكم فتله، من قولهم‏:‏ رجل ممسود الخلق، أي مجدوله- وقد رجع آخرها على أولها، فإن من كانت امرأته مصورة بصورة حطابة على ظهرها حزمة حطب معلق حبلها في جيدها فهو في غاية الحقارة، والتباب والخساسة والخسارة وحاصل هذه السورة أن أبا لهب قطع رحمه وجار عن قصد السبيل واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره، وظلم الناصح له الرؤوف به الذي لم يأل جهداً في نصحه على ما تراه من أنه لم يأل هو- جهداً في أذاه واعتمد على ماله وأكسابه فهلك وأهلك امرأته معه ومن تبعه من أولاده، ومن أعظم مقاصد سورة النساء المناظرة لها في رد المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لا سيما لذوي الأرحام، والعدل في جميع الأقوال والأفعال، فكان شرح حال الناصح الذي لا ينطق عن الهوى، وحال الضال الذي إنما ينطق عن الهوى- قوله تعالى‏:‏

‏{‏يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏ وختمها إشارة إلى التحذير من مثل حاله، فكأنه قيل‏:‏ يبين الله لكم أن تضلوا فكونوا كأبي لهب في البوار، وصلي النار- كما تبين لكم، فكونوا على حذر من كل ما يشابه حاله وإن ظهر لكم خلاف ذلك، فأنا أعلم منكم، والله بكل شيء عليم «والحمد لله رب العالمين»‏.‏