الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
764- مُسَلْسَلُ الحديثِ ما تَوَارَدَا *** فيهِ الرُّاوةُ واحِداً فوَاحِدَا 765- حالاً لَهُمْ أوْ وَصْفاً اوْ وَصْفَ سَنَدْ *** كقولِ كُلِّهِمْ: سَمِعْتُ فَاتَّحَدْ 766- وقَسْمُهُ إلى ثَمَانٍ مُثُلُ *** وقَلَّمَا يَسْلَمُ ضَعْفاً يَحْصُلُ 767- ومنهُ ذُو نَقْصٍ بِقَطْعِ السِّلْسِلَهْ *** كَأَوَّلِيَّةٍ وبعضٌ وَصَلَهْ [معنى المسلسل لغة واصطلاحا وأمثلته] (المُسَلْسَلُ) وهوَ لُغَةً: اتِّصالُ الشيءِ بعضِهِ ببعضٍ، ومنهُ سِلْسلةُ الحديدِ. و(مُسلسَلُ الحديثِ)، وهوَ منْ صفاتِ الإسنادِ، (مَا تَوارَدَا فيهِ الرُّواةُ) لهُ كُلُّهم (واحداً فوَاحِدَا حَالاً)؛ أيْ: على حالٍ (لَهُمْ)، وذلكَ إمَّا أَنْ يَكونَ قَوليًّا لهم؛ كحديثِ أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ لمُعاذٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ: (إِنِّي أُحِبُّكَ، فَقُلْ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ) الحديثَ. فقدْ تَسلْسَلَ لنا بِقَوْلِ كُلٍّ منْ رواتِهِ: (أَنَا أُحِبُّكَ فَقُلْ). ونحوُهُ المُسلسَلُ بقولِ: (رَحِمَ اللَّهُ فُلاناً، كَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا؟!). وبقولِ: (قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ فُلانٍ). وإِمَّا أنْ يكونَ الحالُ فعليًّا؛ كقولِ أبي هُريرةَ: شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو القاسمِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقالَ: (خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ) الحديثَ. فقدْ تَسَلْسَلَ لنا بِتَشْبيكِ كُلٍّ منْ رُوَاتِهِ بِيَدِ مَنْ رَوَاهُ عنهُ. ونَحْوُهُ المُسَلْسَلُ بوضعِ اليَدِ على الرأسِ، وبالأخْذِ بيدِ الطالبِ، وبالعَدِّ في يَدِهِ للخمسةِ؛ التي منها الصلاةُ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، والتَّرحُّمُ، والدُّعاءُ، وبالمُصَافَحَةِ، وبرَفْعِ اليدَيْنِ في الصلاةِ، وبالاتِّكاءِ وبالإِطْعَامِ والسَّقْيِ وبالضِّيَافَةِ بالأَسْوَدَيْنِ؛ التَّمْرِ والماءِ. وقدْ يَجِيئانِ معاً، أعني القَوْلِيَّ والفِعْلِيَّ، في حديثٍ واحدٍ؛ كحديثِ أنسٍ مَرْفوعاً:
(لا يَجِدُ الْعَبْدُ حَلاوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلُوِهِ ومُرِّهِ). قالَ: وقَبَضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ على لِحْيَتِهِ وقالَ: (آمَنْتُ بِالْقَدَرِ). فقدْ تَسَلْسَلَ لنا بقَبْضِ كلِّ واحدٍ منْ رُوَاتِهِ على لِحْيَتِهِ معَ قولِهِ: آمَنْتُ..... إلى آخرِهِ. (أوْ وَصْفاً)؛ أيْ: أوْ كانَ التَّوَارُدُ من الرُّوَاةِ على وَصْفٍ لهم، وهوَ أَيْضاً فِعْلِيٌّ؛ كالمُسلسلِ بالقُرَّاءِ وبالحُفَّاظِ وبالفُقهاءِ وبالنُّحاةِ وبالصُّوفِيَّةِ وبالدِّمَشقِيِّينَ وبالمِصْريِّينَ ونحوِ ذلكَ؛ كالمُسلسلِ بالمُحمَّدِينَ، أوْ بِمَنْ أوَّلُ اسمِهِ عَيْنٌ، أوْ بمَنْ في اسمِهِ أو اسمِ أبيهِ أوْ نَسَبِهِ أوْ غيرِهما مِمَّا يُضافُ إليهِ نُونٌ، أوْ برِوايَةِ الأبناءِ عن الآباءِ، أوْ بالمُعَمِّرِينَ، أوْ بعددٍ مخصوصٍ من الصحابةِ يَرْوِي بعضُهم عنْ بعضٍ، أوْ من التابِعِينَ كذلكَ. وقَوْلِيٌّ؛ كالمُسلسلِ بقِراءَةِ سُورةِ الصفِّ ونحوِهِ، لكنَّهُ في الوَصْفِيِّ غالباً مُقَارِبٌ، بلْ مُمَاثِلٌ لهُ في الحَالِي. (اوْ وَصْفَ سَنَدْ)؛ أيْ: أوْ كانَ التَّوَارُدُ من الرُّواةِ على وَصْفِ سَنَدٍ بما يَرْجِعُ إلى التَّحَمُّلِ؛ وذلكَ إمَّا في صِيَغِ الأداءِ، (كقَوْلِ كُلِّهِمْ)؛ أي: الرُّواةِ، (سَمِعْتُ) فُلاناً، أوْ ثَنَا، أوْ أَنَا، أوْ شَهِدْتُ على فُلانٍ. (فاتَّحَدْ) ما وقَعَ منها لجميعِ الرواةِ، فصارَ بذلكَ مُسلْسَلاً. بلْ جعَلَ الحاكمُ منهُ أنْ تَكونَ ألفاظُ الأداءِ منْ جميعِ الرُّواةِ دَالَّةً على الاتِّصالِ وإن اختلَفَتْ، فقالَ بعضُهم: سَمِعْتُ، وقالَ بعضُهم: أَنَا، وقالَ بعضُهم: ثَنَا. ولكن الأكثرونَ على اختصاصِهِ بالتواردِ في صيغةٍ واحدةٍ. ونحوُهُ الحَلِفُ؛ كقولِهِ: (أَنَا واللَّهِ فُلانٌ)، كما نصَّ عليهِ ابنُ الصلاحِ، أوْ ما يَلْتَحِقُ بهِ؛ كقولِهِ: (صَمَّتْ أُذُنَايَ إنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ منْ فلانٍ). وإمَّا فيما يَتعلَّقُ بزمنِ الروايَةِ أوْ بمكانِهِ أوْ بتاريخِها، فالأولُ: كالمُسلسلِ بالتحَمُّلِ يومَ العيدِ، أوْ بقَصِّ الأَظْفَارِ في يومِ الخميسِ. والثاني: كالمُسلسلِ بإجابةِ الدُّعاءِ في الْمُلْتَزَمِ. والثالثُ: ككَوْنِ الراوي آخِرَ مَنْ يَرْوِي عنْ شيخِهِ، إلى غيرِ ذلكَ منْ أنواعٍ للتَّسَلْسُلِ كثيرةٍ لا تَنْحصِرُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ. [تقسيم المسلسل وفائدته] (وقَسْمُهُ)؛ أيْ: تَقْسيمُهُ، (إلى ثَمَانٍ) كما فعَلَ الحاكِمُ، إنَّما هِيَ (مُثُلُ) لهُ، ولم يَرِد الحَصْرُ فيها كما فَهِمَهُ ابنُ الصَّلاحِ عنهُ، وتَعقَّبَهُ بعَدَمِ حَصْرِهِ فيها؛ إذْ لَيْسَ في عبارةِ الحاكمِ ما يَقْتضِي الحصرَ كما قالَهُ الشارِحُ؛ لِقَوْلِ الحاكِمِ بعدَ الفراغِ منها: فهذهِ أنواعُ التسلسلِ من الأسانيدِ المُتَّصِلةِ التي لا يَشُوبُها تَدْلِيسٌ، وآثارُ السَّمَاعِ فيها بينَ الرَّاوِيَيْنِ ظاهرٌ. وهذا- كما تَرَى- مُؤْذِنٌ بأنَّهُ إنَّما ذكَرَ منْ أنواعِهِ ما يدُلُّ على الاتِّصالِ، وهوَ غايَةُ المَقصِدِ منْ هذا النوعِ؛ إذْ فائدتُهُ البُعْدُ من التدليسِ والانقطاعِ. وخيرُها- كما قالَ ابنُ الصلاحِ- ما دَلَّ على ذلكَ. ومن فضيلةِ التسَلسُلِ الاقتداءُ بالنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فِعْلاً ونَحْوَهُ كما أشارَ إليهِ ابنُ دقيقِ العيدِ، واشتمالُهُ- كما قالَ ابنُ الصلاحِ- على مَزِيدِ الضَّبْطِ من الرُّواةِ. (وَ) لَكِنْ قد انعَكَسَ الأمرُ فـ(قَلَّمَا يَسْلَمُ) التسلسلُ (ضَعْفاً)؛ أيْ: منْ ضعفٍ، (يَحْصُلُ) في وَصْفِ التسلسلِ، لا في أصلِ المَتْنِ؛ كمسُلسَلِ المُشابَكةِ، فمَتْنُهُ صحيحٌ، والطريقُ بالتَّسَلْسُلِ فيها مقالٌ، وأَصَحُّها مُطْلقاً المُسَلْسَلُ بسُورةِ الصفِّ، ثمَّ بالأَوَّلِيَّةِ. [كتب المسلسلات] وقدْ أفرَدَ كثيرٌ من الأئمَّةِ ما وقَعَ لهم من المُسلسلاتِ. ووقَعَ لي منْ ذلكَ بالسَّماعِ جُمْلَةٌ؛ المُسلسلاتِ لأبي بكرِ بنِ شَاذانَ، ولأبي مُحَمَّدٍ الإبراهيميِّ، ولأبي مُحَمَّدٍ الدِّيبَاجِيِّ، ولأبي سَعْدٍ السَّمَّانِ، ولأبي سعدِ بنِ أَبِي عصرونَ، ولأبي القاسِمِ التَّيْمِيِّ، وللغَرَّافِيِّ، ولأبي المَكارمِ ابنِ مسديٍّ، ولأبي سعيدٍ العلائيِّ، ولابنِ الْمُفَضَّلِ في الأربعينَ لهُ. وبالإِجَازةِ جُمْلَةٌ أيضاً؛ كَأَبِي نُعَيْمٍ الأصْبهانيِّ، وأبي الحَسَنِ اللَّبَّانِ، والقَاضِي أبي بَكْرِ بنِ العَرَبِيِّ. واعْتنَى كُلٌّ منْ حافظِ دِمَشْقَ الشَّمْسِ بنِ ناصرِ الدينِ، وحَافِظِ مَكَّةَ منْ أصحابِنا بإفرادِ ما وقَعَ لهُ منها في تخريجٍ. وكذا أفْرَدْتُ مائةً منها بالتصنيفِ مُبَيِّناً شَأْنَها، ورَوَيْتُ ذلكَ إِمْلاءً وتحديثاً بالقاهرةِ ومَكَّةَ. [ذكر المسلسلات الناقصة] ثمَّ تارةً يكونُ التسلسلُ من الابتداءِ إلى الانتهاءِ، وهوَ الأكثرُ. (ومِنهُ ذُو نَقْصٍ بقَطْعِ السِّلْسِلَهْ)؛ إمَّا في أوَّلِهِ أوْ وَسطِهِ أوْ آخرِهِ. ولهُ أمثلةٌ (كَـ) حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ) المُسَلْسَلِ بـ(أَوَّلِيَّةٍ) وقعَتْ لِجُلِّ رواتِهِ؛ حيثُ كانَ أَوَّلَ حَدِيثٍ سَمِعَهُ كلُّ واحدٍ منهم منْ شيخِهِ؛ فإنَّهُ إنَّما يَصِحُّ التسلسلُ فيهِ إلى ابنِ عُيَيْنَةَ خَاصَّةً، وانقطَعَ فيمَنْ فَوْقَهُ على المُعْتَمَدِ. (وبَعْضٌ) من الرواةِ قدْ (وصَلَهْ) إلى آخرِهِ؛ إمَّا غَلَطاً كما أشارَ إليهِ ابنُ الصلاحِ؛ حيثُ أوْرَدَ الحديثَ في بعضِ تَخاريجِهِ مُتَّصِلَ السلسلةِ، وقالَ عَقِبَهُ: إنَّهُ غريبٌ جِدًّا، وفي موضعٍ آخَرَ: إنَّهُ مُنْكَرٌ. وأبو طاهرٍ، يَعْنِي: ابنُ محمشٍ، رَاوِيهِ فَمَنْ فوقَهُ لا مَطْعَنَ فيهم، ومعَ ذلكَ فَأَحْسَبُ أوْ أَبُتُّ أنَّ هذا سَهْوٌ أوْ خَطَأٌ صَدَرَ منْ بعضِهم عنْ قِلَّةِ معرفةٍ بهذهِ الصناعةِ، فليسَ يَصِحُّ تسلسلُهُ بكمالِهِ منْ وَجْهٍ ما. وإمَّا كَذِباً؛ كأبي المُظَفَّرِ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ الطَّبَرِيِّ الشَّيْبانيِّ؛ حيثُ وصَلَهُ، وتَوَاقَحَ فَأَرَّخَ سماعَ ابنِ عُيَيْنَةَ لهُ منْ عَمْرٍو في سنةِ ثلاثِينَ ومائةٍ. وافْتَضَحَ؛ فإنَّ عَمْراً مَاتَ قَبْلَ ذلكَ إِجْمَاعاً، وَأَرَّخَ سماعَ عمرٍو أيضاً لهُ منْ أبي قَابُوسَ سنةَ ثَمانِينَ، ولم يُتابَعْ على ذلكَ، ولا على أشياءَ انْفَرَدَ بِهَا فيهِ غيرَ ذلكَ، بحيثُ جزَمَ غيرُ واحدٍ من الحُفَّاظِ باتِّهامِهِ بهِ، لا سِيَّما وقدْ رَوَاهُ ابنُ عَسَاكِرَ وغيرُهُ عنْ شيخِهِ فيهِ بدُونَ ما أتَى بهِ، بلْ كالنَّاسِ. وقدْ سَلْسَلَهُ بعضُهم إلى الصحابيِّ فَقَطْ، وبعضُهم إلى التابعيِّ فقَطْ. وكلُّ ذلكَ باطِلٌ وقَعَ عَمْداً منْ رَاوِيهِ أوْ سَهْواً، كما بَيَّنْتُهُ وَاضِحاً في أوَّلِ المُتبَائِنَاتِ التي أَفْرَدْتُها منْ حَدِيثِي. وقدْ جمَعَ طُرُقَ هذا الحديثِ الحافظُ الذَّهبِيُّ في جزءٍ سَمِعْناهُ، سَمَّاهُ (العَذْبَ السَّلْسَلَ في الحديثِ المُسَلْسَلِ)، وكذا التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ، ومِنْ قَبْلِهِمَا ابنُ الصلاحِ ومَنصورُ بنُ سُلَيمٍ وأبو القاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فَآخَرُونَ. ومن المُسلسلاتِ الناقصةِ ما اجتمَعَ في روايتِهِ ثمانيَةٌ في نَسَقٍ اسْمُهم زَيْدٌ، أوْ سَبْعَةٌ أوْ سِتَّةٌ من التابعِينَ، أوْ سِتُّ فَواطِمَ، أوْ خَمْسةٌ كُنْيَتُهم أبو القاسمِ، أوْ أبو بَكْرٍ، أو اسمُهم مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الواحدِ أوْ أحمدُ أوْ خَلَفٌ، أوْ صحابةٌ، أوْ أربعةٌ اسمُهم إبراهيمُ أوْ إسماعيلُ أوْ عَلِيٌّ أوْ سُلَيمانُ، أوْ صحابيَّاتٌ، أوْ إخوةٌ من التابعِينَ، أوْ حَنَفِيُّونَ، أوْ ثلاثةٌ من الأئمَّةِ المَتبوعِينَ، أو اسمُهم أبَانٌ أوْ أُسَامَةُ أوْ إسحاقُ أوْ خالدٌ أوْ عِمرانُ أوْ خَوْلانُ، أو اثنانِ كلٌّ منهما اسْمُهُ الحسنُ بنُ أحمدَ بنِ الحسَنِ بنِ أحمدَ، أو اسمُهُ نَصْرُ بنُ عليٍّ أوْ عَثَّامُ بنُ عَلِيٍّ، في أشباهٍ لذلكَ، كأنْ يَتَوَالَى في رواتِهِ بَصْريُّونَ أوْ مَدَنِيُّونَ أوْ مَغرِبيُّونَ أوْ مَالكيُّونَ أوْ حَنْبليُّونَ أوْ ظَاهِريُّونَ أوْ عِدَّةُ نِسْوةٍ؛ كما وقَعَ في أبي دَاوُدَ منْ حديثِ مُسْلِمِ بنِ إبراهيمَ، عنْ غيطةَ بْنَةِ عمرٍو أُمِّ عمرٍو الْمَجَاشِيَّةِ، عنْ عَمَّتِها أُمِّ الحسنِ، عنْ جَدَّتِها، عنْ عائشةَ، أنَّ هندَ بْنَةَ عُتْبَةَ قَالَتْ: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَايِعْنِي) الحديثَ. أو المَزْكُومُ، عن الزَّمِنِ، عن المَفْلوجِ، عن الأثْرَمِ، عن الأحْدَبِ، عن الأصَمِّ، عن الضَّريرِ، عن الأعْمَشِ،
عن الأعْوَرِ، عن الأعْرَجِ، عن الأعْمَى؛ كما أورَدَهُ بخصوصِهِ ابنُ ناصرِ الدينِ والكَتَّانِيُّ. وفي نُزْهةِ الحُفَّاظِ لأبي مُوسَى المَدينيِّ مِمَّا أَشَرْتُ إليهِ وأشباهِهِ الكثيرُ، ولكنَّ جُلَّ الغرضِ هنا إنَّما هوَ فيما تَسَلْسَلَ من ابتداءِهِ إلى انتهاءِهِ. وقد اعْتَنَى التاجُ السُّبْكِيُّ في طَبَقاتِ الشافعيَّةِ لهُ بإيرادِ ما لَعلَّهُ يَقَعُ لهُ منْ حديثِ المُتَرْجِمِينَ بأَسَانِيدِهِ، وَرُبَّما يَتوالَى عندَهُ منْ ذلكَ عِدَّةُ فُقهاءَ. وكذا الصَّلاحُ الأَقْفَهْسِيُّ في مُطْلَقِ الفقهاءِ، وأَتَى منْ ذلكَ بِمَا هوَ مُؤْذِنٌ بكثرةِ اطِّلاعِهِ وَسَعَةِ روايتِهِ، ولكنَّهُ ماتَ قبلَ تهذيبِهِ وتَبِييضِهِ. بلْ أَفْرَدَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ من المُسلسلاتِ النَّاقِصَةِ ما اشْتَرَكَ جَماعَةٌ منْ رِجَالِ سَنَدِهِ في فِقْهٍ أوْ بَلَدٍ أوْ إقليمٍ أوْ غيرِها بنوعٍ سِوَى ما يُشْبِهُهُ منْ تَوَالِي عِدَّةٍ من الصحابةِ أو التابعِينَ مِمَّا أفرَدَهُ أيضاً بِنَوْعَيْنِ، كما سأذْكُرُهُ في الأَقْرَانِ إنْ شاءَ اللَّهُ، وكأنَّ مِنْ فائدتِهِ مَعْرِفةَ مُخْرِجِ الحديثِ، وتَعْيِينَ ما لَعَلَّهُ يَقَعُ من الرُّواةِ مُهْمَلاً، وفي الفقهاءِ بخصوصِهم الترجيحَ لهُ على ما عارَضَهُ مَنْ لَيْسَ سندُهُ مُتَّصِفاً بذلكَ. وشَيْخُنا منهُ ما تَوَالَى فيهِ رَاوِيَانِ فأكثَرُ، اشْتَرَكُوا في التسميَةِ، ومَثَّلَ لهُ بعِمْرانَ ثَلاثةً: الأوَّلُ: القصيرُ، والثاني: أَبُو رَجَاءٍ العُطارِديُّ، والثالثُ: ابنُ حُصَيْنٍ الصحابيُّ. وبسُليمانَ ثَلاثَةً أيضاً: الأوَّلُ: ابنُ أحمدَ الطَّبرانِيُّ، والثاني: ابنُ أحمدَ الوَاسِطِيُّ، والثالثُ: ابنُ عبدِ الرحمنِ الدِّمَشْقِيُّ المعروفُ بابنِ بنتِ شُرَحْبِيلَ. وفائدتُهُ: دفْعُ تَوَهُّمِ الغَلَطِ حيثُ وقَعَ إهمالُهم أوْ بَعْضِهم. وقدْ يكونُ بينَ مُتَّفِقَي الاسمِ وَاسِطةٌ؛ كالبُخاريِّ وعَبْدٍ، رَوَى كلٌّ منهما عنْ مُسْلِمٍ، وعنْ كلٍّ منهما مُسْلِمٌ، فشيخُهما مسلمُ بنُ إبراهيمَ الفَرَاهِيدِيُّ البَصْرِيُّ، والرَّاوي عنهما مسلمُ بنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ صَاحِبُ (الصحيحِ). ويَحْيَى بنُ أَبِي كثيرٍ رَوَى عنْ هشامٍ، وعنهُ هشامٌ، فالأوَّلُ ابنُ عُرْوَةَ وهوَ منْ أقرانِهِ، والتلميذُ ابنُ أَبِي عبدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ. وابنُ جُريجٍ عنْ هشامٍ، وعنهُ هشامٌ، فالأعْلَى ابنُ عُرْوَةَ، والأدْنَى ابنُ يُوسُفَ الصَّنعانِيُّ. والحَكَمُ بنُ عُتَيْبَةَ عن ابنِ أبي ليْلَى، وعنهُ ابنُ أَبِي ليْلَى، فالأعْلَى عبدُ الرحمنِ، والأَدْنَى مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الرحمنِ المذكورُ في أمثلةٍ كثيرةٍ. وفائدتُهُ رَفْعُ اللَّبْسِ عَمَّنْ يَظُنُّ أنَّ فيهِ تَكراراً أو انقلاباً. ولذا أَفْرَدَهُ شيخُنا، بلْ أفْرَدَ مَن اتَّفَقَ اسمُهُ واسمُ أبيهِ وجَدِّهِ؛ كالحسنِ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، قالَ: وقدْ يقَعُ أكثرُ من ذلكَ، وهوَ منْ فُرُوعِ المسلسلِ. قالَ: وقدْ يَتَّفِقُ الاسمُ واسمُ الأبِ فصاعداً معَ الاسمِ واسمِ الأبِ؛ كأَبِي اليَمَنِ الكِنْدِيِّ، هوَ زيدُ بنُ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ. قالَ: وَيَتَأَكَّدُ الاشتباهُ إذا كانَ كُلٌّ من الحفيدِ والجَدِّ لهُ روايَةٌ؛ كنصرِ بنِ عليِّ بنِ نصرِ بنِ عليِّ بنِ صَهْبانَ الْجَهْضَمِيِّ شيخِ الأئمَّةِ السِّتَّةِ، فَجَدُّهُ أَيْضاً مِمَّنْ أخْرَجَ لهُ أصحابُ السُّننِ الأربعةِ، ويُقالُ للحفِيدِ: الجَهْضَمِيُّ الصَّغِيرُ، ولهُ هوَ: الجَهْضَمِيُّ الكبيرُ. ومنهُ عَثَّامُ بنُ عليِّ بنِ عَثَّامِ بنِ عليٍّ، كما سَيَأْتِي في المُؤتِلِفِ. قالَ: وقدْ يقَعُ- أي: الاتِّفاقُ- بينَ الراوي وشيخِهِ في الاسمِ أو اسمِ الأبِ، يعني وكذا الجَدُّ وجَدُّ الأبِ؛ كأبي العَلاءِ الهَمَذَانِيِّ العَطَّارِ، مَشْهُورٌ بالروايَةِ عنْ أبي عَلِيٍّ الأصبهانيِّ الحَدَّادِ، وكلٌّ منهما اسمُهُ الحسنُ بنُ أحمدَ بنِ الحسنِ بنِ أحمدَ، فاتَّفَقا في ذلكَ، وافتَرَقا في الكُنيَةِ والنِّسبةِ إلى البلدِ والصناعةِ. فاجْتَمَعَ مِمَّا أَوْرَدْتُهُ عِدَّةُ أنواعٍ لم يَذْكُرْها ابنُ الصلاحِ، ولا أكثرُ أتباعِهِ.
768- والنسْخُ رَفْعُ الشارِعِ السابقَ مِنْ *** أحكامِهِ بلاحِقٍ وَهْوَ قَمِنْ 769- أنْ يُعْتَنَى بهِ وكانَ الشَّافِعِي *** ذَا عِلْمِهِ ثمَّ بِنَصِّ الشارِعِ 770- أوْ صَاحِبٍ أوْ عُرِفَ التاريخُ أَوْ *** أُجْمِعَ تَرْكاً بَانَ نَسْخٌ ورَأَوْا 771- دَلالةَ الإجماعِ لا النسْخَ بِهِ *** كالقَتْلِ في رابِعَةٍ بِشُرْبِهِ [معنى النسخ لغة] (النَّاسِخُ والمنسوخُ) من الحديثِ. (والنسْخُ) لُغَةً: يُطْلَقُ على الإزالةِ، يُقَالُ: نَسَخَت الشمسُ الظِّلَّ؛ إذا أزالَتْهُ وخَلَفَتْهُ. وعلى النَّقْلِ والتحويلِ، يُقَالُ: نَسَخْتُ ما في الخَلِيَّةِ من العسلِ والنحْلِ إلى أُخْرَى. ومنهُ نَسْخُ الكتابِ، والمُنَاسَخَاتُ في المواريثِ، وهوَ انتقالُ المالِ منْ وارثٍ إلى آخرَ. ولا يَتَحَتَّمُ فيهِ المَحْوُ والانعدامُ، فليسَ نسخُ الكتابِ إعداماً للمنسوخِ منهُ. وبالنظَرِ في هذا المعنَى قَسَّمَهُ بعضُ المُحقِّقِينَ لخمسةِ معانٍ: نَسَخَت الشمسُ الظلَّ: أَزَالَتْهُ وخَلَفَتْهُ، والريحُ الأَثَرَ: أذْهَبَتْهُ، والفريضةُ الفريضةَ: نَقَلَتْ حُكْمَها إليها، والليلُ النهارَ: بَيَّنَ انتهاءَهُ وعَقِبَهُ، ونَسَخْتُ الكتابَ: صَوَّرْتُ مِثْلَهُ. قالَ: وهذا أنسَبُ. ثمَّ اختُلِفَ في حقيقتِهِ، فقيلَ: إنَّهُ مُشْتَرِكٌ بينَ الإزالةِ والتحويلِ؛ لأنَّ الأصْلَ في الاستعمالِ الحقيقةُ. وقيلَ: إنَّهُ حقيقةٌ في الأوَّلِ، مجازٌ في الثاني. وقيلَ بالعكسِ. قالَ الأصبهانِيُّ شارِحُ المُخْتَصَرِ: والأخيرانِ الأَوْلَى من الأوَّلِ، فالمجازُ وإنْ كانَ على خلافِ الأصلِ خيرٌ من الاشتراكِ. على أنَّ العضدَ قالَ: إنَّهُ لا يَتعلَّقُ بهِ غَرَضٌ علمِيٌّ. [تعريف النسخ اصطلاحا ومحترزاته] واصطلاحاً: هوَ (رَفْعُ الشَّارِعِ) صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الحُكْمَ
(السَّابِقَ منْ أحكامِهِ بِـ) حُكْمٍ منْ أحكامِهِ (لاحقٍ). هكذا عَرَّفَهُ ابنُ الصلاحِ، وقالَ: إنَّهُ حَدٌّ وقَعَ لنا سالِمٌ من اعتراضاتٍ ورَدَتْ على غيرِهِ. والمرادُ بارتفاعِ الحكمِ قَطْعُ تَعَلُّقِهِ بالمُكلَّفِينَ؛ إذ الحكمُ قديمٌ لا يرتفِعُ، ألا ترَى أنَّ المُكَلَّفَ إذا كانَ مُسْتَجْمِعاً لِمَا لا بُدَّ منهُ يُقَالُ: تَعلَّقَ بهِ الحكمُ. وإذا جَنَّ يُقالُ: ارتفَعَ عنهُ الحكمُ؛ أيْ: تَعلُّقُهُ. ولِذَا صَرَّحَ شيخُنا تَبَعاً لغيرِهِ بقولِهِ: رَفْعُ تَعلُّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ مُتَأَخِّرٍ عنهُ. ثمَّ لِكَوْنِ الرفعِ لا يكونُ إلاَّ بعدَ الثبوتِ، خرَجَ بيانُ المُجْمَلِ والاستثناءِ والشرطِ ونحوِها مِمَّا هوَ مُتَّصِلٌ بالحكمِ، مُبيِّنٌ لغايتِهِ، لا سِيَّما معَ التقييدِ بالسابقِ. واحتَرَزَ بالشارعِ عنْ قولِ بعضِ الصحابةِ: خَبَرُ كَذَا نَاسِخٌ؛ فإِنَّهُ لا يكونُ نَسْخاً وإنْ كانَ التكليفُ بالخبرِ المُشَارِ إليهِ إنَّما حصَلَ بإخبارِهِ لِمَنْ لم يَكُنْ بلَغَهُ قبلُ. وبالحكمِ السابقِ منْ أحكامِهِ عنْ رفعِ الإباحةِ الأصليَّةِ؛ فإنَّهُ لا يُسَمَّى نَسْخاً. وللاحترازِ عنْ ذلكَ أيضاً قيَّدَ بعضُهم الحكمَ بالشرعيِّ، وقالَ: لأنَّ الأمورَ العقليَّةَ التي مُستندُها البراءةُ الأصليَّةُ لم تُنْسَخْ، وإنَّما ارتفعَتْ بإيجابِ العباداتِ. ولكنَّ هذا القَيْدَ مُسْتَغْنٍ عنهُ بما قَدَّمْناهُ. وبِحُكْمٍ منْ أحكامِهِ عن الرفعِ بالموتِ، وكذا بالنَّومِ والغَفْلةِ والجُنونِ، وإنْ نازَعَ فيهِ بعضُهم بأنَّ النائمَ وما بعدَهُ رُفِعَ الحكمُ عنهم بحُكْمٍ منْ أحكامِهِ، وهوَ قولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (رُفِعَ الْقَلَمُ)؛ فقدْ أُجِيبَ عنْ هذا كما أفادَهُ الأصبهانيُّ بأنَّهُ لا فَرْقَ بينَ الثلاثةِ وبينَ المَيِّتِ في رَفْعِ الحكمِ عنهم؛ للعلمِ بأنَّ شَرْطَ التكليفِ التعَقُّلُ، وقد اشْتَرَكُوا في عدمِهِ. والحديثُ فهوَ دَلِيلٌ على أنَّ الرافعَ هوَ النومُ وما معَهُ، لا لفظُ الخَبَرِ. وبلاحقٍ عن انتهاءِ الحُكْمِ بانتهاءِ الوقتِ؛ كقولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (إِنَّكُمْ لاقُو الْعَدُوِّ غَداً، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا). فالصومُ مَثَلاً بعدَ ذلكَ اليومِ ليسَ بنَسْخٍ مُتَأَخِّرٍ، وإنَّما المأمورُ بهِ مُؤقَّتٌ، وقد انْقَضَى وَقْتُهُ بعدَ مُضِيِّ اليومِ المأمورِ بإفطارِهِ. ووراءَ هذا أنَّ البُلْقِينيَّ زادَ في الحدِّ كونَ الحُكْمِ الذي رُفِعَ مُتعلِّقاً بالمَحْكومِ عليهِ؛ لِيَخْرُجَ بهِ تخفيفُ الصلاةِ ليلةَ الإسراءِ منْ خَمْسِينَ إلى خَمْسٍ؛ فإنَّهُ لا يُسَمَّى نسخاً؛ لِعَدَمِ تَعلُّقِهِ بالمحكومِ عليهم، أيْ: تَعَلُّقاً تَنْجِيزِيًّا؛ لعدمِ إِبْلاغِهِ لهم. فأمَّا في حَقِّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فمُحتَمَلٌ، إلاَّ أنْ يُلْمَحَ أنَّهُ إنَّما يَتعلَّقُ بعدُ البَيَانُ، وهيَ غيرُ مسألةِ النسخِ قبلَ وقتِ الفعلِ؛ لوجودِ التعلُّقِ بخلافِ البيانِ. ولكنْ قِيلَ: إنَّ هذا القيدَ قبلَ ما حَمَلْتَهُ عليهِ مُسْتَغْنٍ عنهُ بقولِهِ: الحُكْمُ؛ إذ الحُكْمُ الشرعيُّ لا بُدَّ وأنْ يَكونَ مُتعلِّقاً بفعلِ المُكلَّفِ تَعلُّقاً معنويًّا قبلَ وُجودِهِ، تَنْجيزِيًّا بَعْدُ، حَسْبَما أُخِذَ في حدِّ الحُكْمِ؛ حيثُ قيلَ فيهِ: خِطابُ اللَّهِ المُتعَلِّقُ بأفعالِ المُكلَّفِينَ منْ حيثُ التكليفُ بالاقتضاءِ أو التنجيزِ. فحينَئذٍ لفظُ الحكمِ يُغْنِي عنهُ. على أنَّ في تعريفِ شيخِنا السابقِ ما يُخْرِجُهُ. واختارَ التاجُ السُّبْكِيُّ في تعريفِهِ أنَّهُ رَفْعُ الحكمِ الشرعيِّ بخطابٍ، وقالَ: إنَّهُ أَقْرَبُ الحدودِ. وبالجُمْلَةِ فكونُهُ رَافعاً هوَ الصحيحُ، وإلاَّ فقدْ قيلَ: إنَّهُ بيانٌ لانتهاءِ أمَدِ الحُكْمِ، والناسخُ ما دَلَّ على الرفْعِ المذكورِ، وتسميتُهُ ناسخاً مَجازٌ؛ لأنَّ الناسِخَ في الحقيقةِ هوَ اللَّهُ. وقدْ قالَ ابنُ كثيرٍ في هذا النوعِ: إنَّهُ ليسَ منْ خصائصِ هذا العلمِ، بلْ هوَ بِأُصُولِ الفِقْهِ أشْبَهُ. ونحوُهُ قولُ ابنِ الأثيرِ: معرفةُ المتواترِ والآحادِ والناسخِ والمنسوخِ، وإنْ تَعلَّقَتْ بعلمِ الحديثِ، فإنَّ المُحدِّثَ لا يَفْتقِرُ إليها، بلْ هيَ منْ وَظيفةِ الفقيهِ؛ لأنَّهُ يَستنبِطُ الأحكامَ من الأحاديثِ فيَحْتاجُ إلى معرفةِ ذلكَ، وأمَّا المُحَدِّثُ فوظيفتُهُ أنْ ينقُلَ ويَروِيَ ما سَمِعَهُ من الأحاديثِ، فإنْ تَصدَّى لِمَا رَوَاهُ فزيادةٌ في الفضلِ، وكمالٌ في الاختيارِ. انْتَهَى. [ينبغي للعالم أن يعتني بهذا الفن] (وَهْوَ)؛ أيْ: هذا النوعُ على كلِّ حالٍ، (قَمِنْ) بكسرِ الميمِ على إحْدَى اللُّغَتَيْنِ؛ أيْ: حَقِيقٌ، (أَنْ يُعْتَنَى بِهِ)؛ لأنَّهُ عِلْمٌ جليلٌ ذُو غَوْرٍ وغُموضٍ، دارَتْ فيهِ الرُّءُوسُ، وتاهَتْ في الكَشْفِ عنْ مكمونِهِ النُّفوسُ، بحيثُ يَسْتعظِمُهُ الزُّهْرِيُّ أحَدُ مَن انْتَهَى إليهِ عِلْمُ الصَّحَابَةِ، ومَنْ كَانَ عليهِ مَدَارُ حديثِ الحجازِ، وإليهِ المَرْجِعُ فيهِ، وعليهِ المُعوَّلُ في الفُتْيا. وقال: إنَّهُ أَعْيَا الفقهاءَ وأعْجَزَهم أنْ يَعْرِفُوا ناسِخَ حديثِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منْ مَنسوخِهِ. (وكانَ) إمامُنا (الشافِعِي)- رحِمَهُ اللَّهُ- (ذَا)؛ أيْ: صَاحِبَ، (عِلْمِهِ)، لهُ فيهِ اليَدُ الطُّولَى والسابقةُ الأُولَى، فَخَاضَ تَيَّارَهُ وكَشَفَ أسرارَهُ، واسْتنبَطَ مَعِينَهُ واستخْرَجَ دَفِينَهُ، واستفْتَحَ بابَهُ ورَتَّبَ أبوابَهُ؛ ولذا نَسَبَ الإمامَ أحمدَ بنَ وَارَةَ؛ حيثُ قَدِمَ مِصْرَ ولم يَكْتُبْ كُتُبَهُ، إلى التفريطِ، وقالَ: ما عَرَفْنا المُجْمَلَ من المُفَسَّرِ، ولا ناسِخَ حديثِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منْ منسوخِهِ؛ حتَّى جَالَسْنَاهُ، ومعَ ذلكَ فلم نَرَ لهُ فيهِ تَصْنِيفاً مُستقِلاًّ، إنَّما يُوجَدُ في غُضُونِ الأبوابِ منْ كُتُبِهِ مُفرَّقاً، وكذا في الرِّسالةِ لهُ منهُ أحاديثُ، وتكلَّمَ فيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ كانَ مُتَدَاوَلاً بينَ الصحابةِ والتابعينَ مُتفَرِّقاً في كُتُبِ شُروحِ السُّنَّةِ، إلى أنْ جَرَّدَ لهُ غيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ مُصنَّفاتٍ؛ كأبي دَاوُدَ (صَاحبِ السُّنَنِ)، وأبي حَفْصِ بنِ شاهِينَ، وكابنِ الجَوزيِّ في مُصنَّفيْنِ: أحَدُهما: في الرَّدِّ على جماعةٍ من العلماءِ دَعْوَى النَّسْخِ في كثيرٍ من الأحاديثِ. ثَانِيهِمَا: في تجريدِ الأحاديثِ المنسوخةِ، وَهُوَ مُختصَرٌ جِدًّا. وكالحازِمِيِّ في مُصنَّفٍ حافِلٍ، وقدْ قَرَأْتُهُ معَ ثانِي تَصْنِيفَي ابنِ الجَوزيِّ بِعُلُوٍّ. وكالبُرهانِ الجَعْبَرِيِّ. وهوَ فرضُ كفايَةٍ؛ لِتَوقُّفِ بعضِ الأحكامِ عليهِ. وقدْ مَرَّ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ، فِيمَا رَوَاهُ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَميُّ عنهُ، بِقَاصٍّ فقالَ: أَتَعْرِفُ الناسخَ من المنسوخِ؟ قالَ: لا، قالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. ونحوُهُ عنْ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ. وقالَ الزُّهرِيُّ: مَنْ لم يعلَمْ ذلكَ خَلَّطَ. وقدْ تَوَهَّمَ بعضُ مَنْ لم يَحْظَ منْ معرفةِ الآثارِ إلاَّ بآثارٍ، ولم يَحْصُلْ منْ طريقِ الإِخْبَارِ إلاَّ بالأَخْبَارِ أنَّ الخَطْبَ فيهِ جَلَلٌ يَسِيرٌ، والمحصولَ منهُ قليلٌ غيرُ كثيرٍ، فَعَانَاهُ معَ عَدَمِ تَقَدُّمِهِ في صناعتِهِ وضَبْطِهِ، فأدخَلَ فيهِ ما لَيْسَ منهُ؛ لِخَفَاءِ معنَى المنسوخِ وشَرْطِهِ. [دلائل النسخ] (ثُمَّ بِنَصِّ الشارعِ) صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ على إبطالِ أحدِ الدَّليلَيْنِ المُتعارضيْنِ وتصريحِهِ بذلكَ؛ كقولِهِ: هذا ناسِخٌ، أوْ في ما مَعْنَاهُ؛ كقولِهِ: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ). وكَرَجْمِ مَاعِزٍ دُونَ جَلْدِهِ بعدَ قولِهِ: (الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ). كما ذكَرَهُ ابنُ السَّمعانيِّ وغيرُهُ. (أَوْ) بِنَصِّ (صَاحِبٍ) منْ أصحابِهِ رضِيَ اللَّهُ عنهم صريحاً؛ كقولِ جابرٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ: (كانَ آخِرَ الأمْرَيْنِ منْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ تَرْكُ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّت النَّارُ). أوْ أنَّ أحَدَهما شُرِعَ بمَكَّةَ، والآخَرَ بالمدينةِ. (أَوْ) بغيرِهما، وذلكَ كَأَنْ (عُرِفَ التَّارِيخُ) للخَبريْنِ المُتعَذَّرِ الجمعُ بينَهما، وتَأخَّرَ أحَدُهما عن الآخرِ، وأمثلتُهُ كثيرةٌ. (أَوْ أُجْمِعَ تَرْكاً)؛ أيْ: على تَرْكِ العملِ بمضمونِ الحديثِ. (بَانَ)؛ أيْ: ظَهَرَ بِكُلِّ واحدٍ منْ هذهِ الأربعةِ التي هيَ نَصُّ الشارعِ أو الصحابيِّ أو العِلْمُ بالتاريخِ أو الإِجْمَاعِ، (نَسْخٌ) للحُكْمِ الآخِرِ، وأصْرَحُها أَوَّلُها. وأمَّا ثَالِثُها فمَحلُّهُ في غيرِ المُتواتريْنِ. أمَّا إذا في أحدِ المُتواتريْنِ أنَّهُ كانَ مُتقدِّماً على الآخرِ ففيهِ خلافٌ للأُصولِيِّينَ، والأكثرونَ على عَدَمِ قبولِهِ، وبهِ جزَمَ بعضُهم؛ لأنَّهُ يَتضَمَّنُ نسخَ المتواترِ بالآحادِ، وهوَ غيرُ واقعٍ. وحُجَّةُ الطرَفِ الآخرِ أنَّ النسخَ إنَّما هوَ بالمتواترِ، وخبرُ الواحدِ مُعيِّنٌ للناسخِ، لا نَاسِخٌ؛ لأنَّهُ عُلِمَ أنَّ أحَدَهما ناسخٌ، والآخرَ منسوخٌ بدونِهِ. وكَذَا مَحَلُّ ثَانِيهِما فِيمَا إذا كانَ مُسْتَنَدُهُ النقْلَ، أوْ قالَ: القَوْلُ بكذا مَنْسُوخٌ، أوْ: هذا هُوَ الناسِخُ. وكذا إنْ قالَ: هذا ناسِخٌ، وذكَرَ دَلِيلَهُ، فإنْ لم يَذكُرْهُ واقْتَصَرَ على قولِهِ: هذا نَاسِخٌ، أوْ: هذا نَسْخٌ لهذا، لم يُرْجَعْ إليهِ عندَ غيرِ واحدٍ من الأُصولِيِّينَ والفقهاءِ؛ لاحتمالِ أنَّهُ قالَهُ عن اجتهادٍ نشَأَ عنْ ظَنِّ ما ليسَ بنسخٍ نَسْخاً، لا سِيَّما وقد اختلَفَ العلماءُ في أسبابِ النسخِ، وهذا بِنَاءً على أنَّ قولَهُ رضِيَ اللَّهُ عنهُ ليسَ بِحُجَّةٍ. ولكنْ قدْ أَطْلَقَ ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لأهلِ الحديثِ القولَ بمعرفةِ النسخِ بقولِ الصحابيِّ، بلْ وأطْلَقَهُ الشافعيُّ أيضاً؛ حيثُ ذكَرَ الأدِلَّةَ الأربعةَ، فقالَ فِيمَا رَوَاهُ البيهقيُّ في (المَدْخَلِ) منْ طَرِيقِهِ: ولا يُستدَلُّ على الناسخِ والمنسوخِ إِلاَّ بخبرٍ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، أوْ بوَقْتٍ يدُلُّ على أنَّ أحَدَهما بعدَ الآخَرِ، أوْ بقَوْلِ مَنْ سَمِعَ الحديثَ، يَعْنِي من الصحابةِ أو العامَّةِ، يعني الإِجْمَاعَ. وهوَ كما قالَ المُصنِّفُ أوضَحُ وأشْهَرُ؛ إذ النَّسْخُ لا يُصارُ إليهِ بالاجتهادِ والرأيِ، وإنَّما يُصارُ إليهِ عندَ معرفةِ التاريخِ، والصحابةُ أَوْرَعُ منْ أنْ يَحْكُمَ أحدُهم على حُكْمٍ شرعيٍّ بنسخٍ منْ غيرِ أنْ يَعْرِفَ تأخُّرَ الناسخِ عنهُ. ليسَ منْ أمثلتِهِ ما يَرْوِيهِ الصحابيُّ المُتأخِّرُ الإسلامِ مُعَارِضاً لمُتقَدِّمٍ عنهُ بِنَاءً على الظاهرِ؛ لِتَجْوِيزِ سَماعِ المُتقدِّمِ بعدَ المُتأخِّرِ. قالَ شيخُنا: ولاحتمالِ أنْ يَكونَ سَمِعَهُ منْ صحابيٍّ آخرَ أقْدَمَ من المتقَدُّمِ المذكورِ أوْ مِثْلَهُ فأرْسَلَهُ، لكنْ إنْ وقَعَ التصريحُ بسماعِهِ لهُ من النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فيَتَّجِهُ أنْ يكونَ نَاسخاً بشرطِ أنْ يَكونَ لم يَتحمَّلْ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ شيئاً قبلَ إسلامِهِ. وفيهِ نَظرٌ للتجويزِ السابقِ قَرِيباً. وحينَئذٍ فَطُرقُ كَوْنِ حديثِ شَدَّادٍ المرفوعِ: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) مَنْسوخاً بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ: (أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائمٌ مُحْرِمٌ)؛ لِكَوْنِ ابنِ عَبَّاسٍ إنَّما صَحِبَهُ مُحرِماً في حَجَّةِ الوداعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وشَدَّادٌ قُيِّدَ حَدِيثُهُ في بعضِ طُرُقِهِ؛ إمَّا بزَمَنِ الفتحِ كما في روايَةٍ، وكانَ سَنَةَ ثمانٍ، وإمَّا برمضانَ كما في أُخْرَى، وأيًّا ما كانَ فهوَ قبلَ حَجَّةِ الوداعِ. أمَّا الأوَّلُ فواضِحٌ، وأمَّا الثاني فحَجَّةُ الوداعِ لم يَكُنْ بعدَها في حَيَاةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رمضانُ. احتمالٌ أنْ يكونَ ابنُ عَبَّاسٍ تَحمَّلَهُ عنْ غيرِهِ من الصحابةِ، على أنَّ الشافعيَّ قالَ: وإسنادُ الحديثيْنِ جميعاً مُشتبِهٌ. قالَ: وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ أمْثَلُهما إسناداً. (وَ) أَمَّا رَابِعُها فليسَ على إطلاقِهِ في كونِ الإجماعِ ناسخاً. بل العلماءُ من المُحدِّثيِنَ والأصولِيِّينَ إنَّما (رَأَوْا دَلالةَ الإجماعِ) على وجودِ ناسخٍ غيرِهِ، بمعنَى أنَّ بالإجماعِ يُستدَلُّ على وجودِ خبرٍ معَهُ يَقَعُ بهِ النسخُ، وعليهِ يَنزِلُ نَصُّ الشافعيِّ والأصحابِ وسائرِ المُطْلِقِينَ، (لا) أنَّهم رَأَوا (النسْخَ بهِ)؛ لأنَّهُ لا يُنْسَخُ بمُجرَّدِهِ؛ إذْ لا يَنعقِدُ إلاَّ بعدَ الرسولِ، وبعدَهُ ارتفَعَ النسخُ، وكذا لا يُنْسَخُ. ولذلكَ أمثلةٌ كثيرةٌ؛ كنسخِ رَمَضانَ صَوْمَ عَاشُوراءَ، والزكاةِ وسائرِ الحقوقِ في المالِ، و(كَـ) حديثِ مُعاويَةَ، وجابرٍ، وجَرِيرٍ، وشُرَحْبِيلَ بنِ أَوْسٍ، والشَّرِيدِ بنِ أَوْسٍ الثَّقَفيِّ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، وغُطَيْفٍ، وأَبِي الرَّمْداءِ، وأبي سعيدٍ، وأبي هُريرةَ، وغيرِهم من الصحابةِ رضِيَ اللَّهُ عنهم مَرْفوعاً في (القَتْلِ) لِشَارِبِ الخَمْرِ (فِي) مَرَّةٍ (رَابِعَةٍ) صَدرَتْ منهُ بعدَ شُرْبِهِ ثلاثَ مِرارٍ قبلَها، أوْ في مَرَّةٍ خامسةٍ، كما في بعضِ الرواياتِ (بِـ) سَبَبِ (شُرْبِهِ)؛ حيثُ حَكَى التِّرْمذيُّ في آخِرِ جَامِعِهِ الإجماعَ على تَرْكِ العملِ بهِ. ونحوُهُ قولُ المَاوَرْدِيِّ: قَتْلُ الشاربِ في الخامسةِ انعَقَدَ الإجماعُ من الصحابةِ على خلافِهِ، وَلا يُخْدَشُ الإِجْمَاعُ بِمَا رَوَاهُ أحمدُ والحارثُ بنُ أبي أُسامَةَ في مُسنَدَيْهِما منْ طريقِ الحسَنِ البصريِّ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أنَّهُ قالَ: (ايْتُونِي بِرَجُلٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ الحَدَّ، يعني ثَلاثاً، ثمَّ سَكِرَ فإِنْ لَمْ أقْتُلْهُ فأنَا كَذَّابٌ). ولا بِمَا أخْرَجَهُ سعيدُ بنُ منصورٍ مِمَّا هوَ أشَدُّ منْ هذا عن ابنِ عَمْرٍو أيضاً أنَّهُ قالَ: (لَوْ رَأَيْتُ أحَداً يَشْرَبُ الخَمْرَ وَاسْتَطَعْتُ أنْ أَقْتُلَهُ لَقَتَلْتُهُ). ولا بحكايَةِ القتلِ في الرابعةِ أيضاً عنْ عثمانَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ وعنْ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ والحسنِ البصْريِّ، فضلاً عنْ كونِ أهلِ الظاهرِ؛ منهم ابنُ حَزْمٍ، قالُوا بهِ؛ لانقطاعِ أَوَّلِهما؛ فإنَّ الحسنَ لم يَسْمَعْ من ابنِ عَمْرٍو كما جزَمَ بهِ ابنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ، وَلِلِينِ سَنَدِ ثَانِيهِمَا بحيثُ لا يكونُ فيهما حُجَّةٌ، كما أنَّهُ لا حُجَّةَ فيما عَدَاهُما؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ. وأمَّا خِلافُ الظاهريَّةِ فلا يَقْدَحُ في الإجماعِ. وحينَئذٍ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ رَدَّ الإجماعَ على تَرْكِ القَتْلِ مُتمَسَّكٌ، حتَّى ولوْ ثبَتَ عن ابنِ عَمْرٍو أوْ غيرِهِ من الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم لَكَانَ العُذْرُ عنهُ أنَّهُ لم يَبْلُغْهُ النسخُ، وعُدَّ ذلكَ منْ نُدْرةِ الخلافِ. وَلِوُجُودِ الخِلافِ في الْجُمْلَةِ حَكَى ابنُ المُنذِرِ إجماعَ عَوَامِّ أهلِ العِلْمِ في تَرْكِ القتلِ في الرابعةِ، واسْتَثْنَى شَاذًّا مَوْصُوفاً بأنَّهُ لا يُعَدُّ، بلْ وُقُوعُ الخلافِ قَدِيماً لا يَمنَعُ حصولَ الإجماعِ بعدَ ذلكَ كما سلَفَ في كتابةِ الحديثِ، وهيَ طريقةٌ مشهورةٌ كما قالَ البُلْقِينيُّ. ويُؤَيِّدُهُ قولُ شَيْخِنا في (فتحِ البارِي) عَقِبَ حكايَةِ قولِ الترمذيِّ: وهوَ مَحْمُولٌ علَى مَنْ بَعْدُ؛ لنقلِ غيرِهِ القولَ بهِ، وأشارَ لِمَا تَقدَّمَ. ومِمَّنْ حكَى الإجماعَ أيضاً النَّوَويُّ، وقالَ: القولُ بالقتلِ قَوْلٌ باطلٌ مُخالفٌ لإجماعِ الصحابةِ فمَنْ بعدَهم، والحديثُ الواردُ فيهِ منسوخٌ؛ إمَّا بحديثِ: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ). وإِمَّا بِأَنَّ الإجماعَ دلَّ على نَسْخِهِ. انتهَى. هذا كُلُّهُ معَ وُرودِ نَاسِخٍ مِنْ حَدِيثَيْ جابرٍ وقَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، بحيثُ عَمِلَ بِمَضْمُونِهِ عُمرُ بنُ الخطَّابِ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، ولَكِنْ لَيْسَ هذا مَحَلَّ الإِطَالَةِ بِهَا. قالَ البُلْقينِيُّ: ومنْ مثلِ مَعْرفةِ النَّسْخِ بالإجماعِ الحديثُ الذي رَوَاهُ أبو دَاوُدَ في سُنَنِهِ منْ حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قَالَ لِوَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ ورَجُلٍ آخَرَ: (إِنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ لَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ أَنْ تُحِلُّوا مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ إِلاَّ النِّسَاءَ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا الْبَيْتَ صِرْتُمْ حُرُماً كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ). وإسنادُهُ جَيِّدٌ، وإنْ كانَ فيهِ مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ، لَكِنَّهُ صَرَّحَ بالتحديثِ. فهذا مِمَّا أَجْمَعَ العلماءُ على ترْكِ العملِ بهِ وأَشْبَاهِ ذلكَ، على أنَّ الإمامَ أبا بَكْرٍ الصَّيْرَفِيَّ شارِحَ (الرِّسالةِ) لم يَجْعَل الإجماعَ دَلِيلاً على تَعَيُّنِ المصيرِ للنسخِ، بلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّداً بينَ النسخِ والغَلَطِ؛ فإنَّهُ قالَ في كتابِهِ (الدلائلِ): فإنْ أُجْمِعَ على إبطالِ حُكْمِ أحدِهما فهوَ منسوخٌ أوْ غلطٌ- يَعْنِي مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، كما صَرَّحَ بهِ غيرُهُ- والآخرُ ثَابِتٌ. قالَ المُصنِّفُ: وما قالَهُ مُحتَمَلٌ.
772- والعسكرِي والدَّارَقُطْنِي صَنَّفَا *** فِيمَا لهُ بَعْضُ الرُّواةِ صَحَّفَا 773- في الْمَتْنِ كالصُّولِيِّ سِتًّا غَيَّرْ *** شَيئاً أو الإسنادِ كابنِ النُّدَّرْ 774- صَحَّفَ فيهِ الطبَرِيُّ قَالا *** بَذَّرُ بالبَاءِ ونَقْطٍ ذَالا 775- وأَطْلَقُوا التصحيفَ فيما ظَهَرَا *** كقولِهِ: احتَجَمْ مَكَانَ احْتَجَرَا 776- وواصِلٌ بعاصِمٍ والأحدَبُ *** بأَحولٍ تصحيفَ سَمْعٍ لَقَّبُوا 777- وصَحَّفَ الْمَعْنَى إمامُ عَنَزَهْ *** ظَنَّ القَبيلَ بحديثِ الْعَنَزَهْ 778- وبعضُهم ظَنَّ سُكونَ نُونِهِ *** فقالَ: شاةٌ خابَ في ظُنُونِهِ (التصحيفُ) الواقعُ من المُشتبِهِ من السنَدِ والمتْنِ. ولوْ جُعِلَ بعدَ الغريبِ أوْ بعدَ المُؤتلِفِ والمُختلِفِ لَكانَ حسناً، وهوَ لكونِهِ تحويلَ الكلمةِ من الهيئةِ المُتعارَفَةِ إلى غيرِها فَنٌّ جليلٌ مُهِمٌّ، إنَّما يَنْهَضُ بأَعْبَائِهِ من الْحُفَّاظِ الحُذَّاقُ. [الكتب المهمة في هذا الفن] (وَ) الحَافِظَانِ أبو أحمدَ (العَسْكَرِي) وأبو الحسنِ (الدَّارَقُطْنِي صَنَّفَا فِيمَا لهُ بَعْضُ الرُّواةِ صَحَّفَا). وعلى ثَانِيهِمَا اقتصَرَ ابنُ الصلاحِ، وقالَ: إنَّهُ مُفِيدٌ. وأمَّا أَوَّلُهما فَلَهُ في التصحيفِ عِدَّةُ كُتُبٍ، أكبرُها لسائرِ ما يَقَعُ فيهِ التصحيفُ من الأسماءِ والألفاظِ غَيْرَ مُقتصِرٍ على الحديثِ. ثمَّ أفْرَدَ منهُ كتاباً يَتعلَّقُ بِأَهْلِ الأدَبِ، وهوَ ما يَقَعُ فيهِ التصحيفُ منْ ألفاظِ اللغةِ والشِّعْرِ، وأسماءِ الشُّعراءِ والفُرْسَانِ، وأخبارِ العربِ وأيَّامِها ووقائعِها وأماكنِها وأَنْسَابِها. ثمَّ آخَرَ فيما يَخْتَصُّ بالمُحدِّثِينَ منْ ذلكَ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بما وَقَعَ فيهِ التصحيفُ فقطْ، بلْ ذكَرَ فيهِ ما هوَ مَعْرِضٌ لذلكَ. وفي بَعْضِ الْمَحْكِيِّ مِمَّا وقَعَ لبعضِ المُحَدِّثِينَ ما يَكادُ اللَّبِيبُ يَضْحَكُ منهُ. [غرض تصنيف تلك الكتب الإفصاح] وكذا صَنَّفَ فيهِ الخَطَّابيُّ وابنُ الجَوزيِّ، لا لمُجرَّدِ الطعْنِ بذلكَ مِنْ أحدٍ منهم في واحدٍ مِمَّنْ صَحَّفَ، ولا للوَضْعِ منهُ، وإنْ كانَ المُكْثِرُ مَلُوماً، والمُشتهِرُ بهِ بينَ النُّقَّادِ مَذْمُوماً، بلْ إيثاراً لبيانِ الصوابِ، وإشهاراً لهُ بينَ الطُّلابِ؛ ولِهَذَا لَمَّا ذكَرَ الخطيبُ في جامعِهِ أنَّهُ عَيَّبَ جَمَاعَةً من الطَّلَبَةِ بتصحيفِهم في الأسانيدِ والمتونِ، ودَوَّنَ عنهم ما صَحَّفُوهُ، قالَ: وأنا أَذْكُرُ بعضَ ذلكَ؛ لِيَكُونَ داعياً لِمَنْ وقَفَ عليهِ إلى التحَفُّظِ منْ مثلِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ، لا سِيَّما ويَنبغِي لقارئِ الحديثِ أنْ يَتفَكَّرَ فيما يَقْرَؤُهُ حتَّى يَسْلَمَ منهُ. وقولُ العسكريِّ: إنَّهُ قدْ عُيِّبَ بالتصحيفِ جَماعةٌ من العلماءِ، وفُضِحَ بهِ كثيرٌ من الأُدَباءِ، وسُمُّوا الصَّحَفِيَّةَ، ونَهْيُ العلماءِ عن الحَمْلِ عنهم مَحْمُولٌ على المُتَكَرِّرِ منهُ، وإلاَّ فما يَسْلَمُ منْ زَلَّةٍ وخَطَأٍ إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، والسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ غَلَطاتُهُ. قالَ الإمامُ أحمدُ: ومَنْ يَعْرَى عن الخطأِ والتصحيفِ؟! والإكثارُ منهُ إنَّما يَحْصُلُ غالباً للآخِذِ منْ بُطُونِ الدفاترِ والصُّحُفِ، ولم يَكُنْ لهُ شَيْخٌ يُوقِفُهُ على ذلكَ. ومِنْ ثَمَّ حَضَّ الأئمَّةُ على تجنُّبِ الأخذِ كذلكَ كَمَا سَلَفَ في الفصْلِ الخامسِ منْ صِفَةِ روايَةِ الحديثِ. ويُعْلَمُ أنَّ اشتقاقَهُ من الصَّحيفةِ؛ لأنَّ مَنْ يَنْقُلُ كذلكَ ويُغَيِّرُ يُقالُ: إنَّهُ قدْ صَحَّفَ؛ أيْ: قدْ رَوَى عن الصُّحُفِ، فهوَ مُصَحِّفٌ، ومَصْدَرُهُ التَّصْحِيفُ. [أمثلة التصحيف في المتن] ثمَّ إنَّهُ يَقَعُ تارةً إمَّا (فِي المَتْنِ كَـ)ـما اتَّفَقَ لأبي بَكْرٍ (الصُّوِليِّ)؛ حيثُ أمْلَى في (الجَامِعِ) حديثَ أبي أيُّوبَ مَرْفوعاً: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا) بسِينٍ مُهْمَلَةٍ ومُثنَّاةٍ فَوْقانيَّةٍ مُشدَّدَةٍ (غَيَّرْ) ذلكَ (شَيْئاً) بالمُعجمةِ والمُثنَّاةِ التحتانِيَّةِ. ولِوَكِيعٍ في حديثِ: (لَعَنَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الذينَ يُشَقِّقُونَ الخُطَبَ تَشْقِيقَ الشِّعْرِ)؛ حَيْثُ غَيَّرَهُ بالحَطَبِ بِالْمُهْمَلَةِ، والشَّعَرِ بِفَتْحَتَيْنِ. ويُحْكَى أنَّ ابنَ شاهِينَ صَحَّفَهُ كذلكَ أيضاً بجامعِ المنصورِ، فقالَ بعضُ المَلاَّحِينَ: يا قَوْمِ، كَيْفَ نعمَلُ والحاجةُ ماسَّةٌ؟ يُشِيرُ إلى أنَّ ذلكَ من حِرْفَتِهِ، وليسَتْ هذهِ اللَّفْظَةُ في النهايَةِ لابنِ الأثيرِ. والحديثُ في مُسندِ أحمدَ و(المُعجمِ الكبيرِ) للطَّبرانِيِّ و(الجَامِعِ) للخطيبِ وغيرِهم منْ حديثِ جابرٍ الجُعْفِيِّ عنْ عمرِو بنِ يَحْيَى القُرَشيِّ، عنْ مُعاويَةَ بنِ أبي سُفْيانَ بهِ. وَلِمُشْكَدَانَةَ حيثُ جعَلَ حديثَ النهْيِ عنْ قَصْعِ الرُّطَبَةِ بالطاءِ بدَلَ الصادِ، فجاءَ إليهِ أَرْبَابُ الضِّياعِ والناسِ يَضِجُّونَ، ففَتَّشَ حتَّى وقَفَ على صِحَّتِهِ. ولأبي مُوسَى مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى العَنَزِيِّ الذي اتَّفَقَ السِّتَّةُ على الروايَةِ عنهُ، وَيُلَقَّبُ الزَّمِنَ؛ حَيْثُ جَعَلَ (أَوْ شَاةٌ تَنْعَرُ) بالنونِ بدَلَ الياءِ. ولأبي بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيِّ، حيثُ جعَلَ قَرَّ الدَّجاجةِ بالزَّاءِ المنقوطةِ المضمومةِ بدَلَ الدالِ المهملةِ المفتوحةِ. ولغُنْدَرٍ حيثُ جعَلَ أُبَيًّا في حديثِ جَابِرٍ: (رُمِيَ أُبَيٌّ يَوْمَ الأحزابِ عَلَى أكْحَلِهِ) أَبِي بالإضافةِ. وأَبُو جَابِرٍ كانَ اسْتُشْهِدَ قبلَ ذلكَ في أُحُدٍ. ولِشُعْبَةَ حيثُ جعَلَ ذَرَّةَ بالمُعجمةِ المفتوحةِ والرَّاءِ المُشدَّدةِ دُرَةً بِضَمِّ المهملةِ والتخفيفِ. ولمُحَمَّدِ بنِ يَزيدَ بنِ عبدِ اللَّهِ النَّيْسابُورِيِّ السُّلَمِيِّ المُلَقَّبِ محمش؛ حيثُ جَعَلَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟) المُصَغَّرَيْنِ بالتَّسْكِينِ، فقالَ: يَا أَبَا عَمِيرٍ، ما فَعَلَ الْبَعِيرُ؟ بالمُوحَّدَةِ والعينِ المُهملةِ، فَصَحَّفَ فيهما معاً. حتَّى إِنَّا رُوِّينَا في علومِ الحديثِ للحاكِمِ عنْ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ أنَّهُ قالَ: حَفِظَ اللَّهُ أخانَا صَالِحَ بنَ مُحَمَّدٍ الحافظَ المُلَقَّبَ جَزَرَةَ؛ فإنَّهُ لا يَزالُ يُبْسِطُنا غَائِباً وحَاضِراً، كَتَبَ إِلَيَّ أنَّهُ لَمَّا ماتَ الذُّهْلِيُّ- يَعْنِي بنَيْسابورَ- أجْلَسُوا شيخاً لهم يُقالُ لهُ: محمشٌ. فَأَمْلَى عليهم، وذكَرَ ما تقدَّمَ، وأنَّهُ أمْلَى أَيْضاً أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: (لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ)، فَقَالَها بالخاءِ المُعْجمةِ المَضْمومةِ وبِسُكُونِ الراءِ. علَى أنَّ جَزَرَةَ إِنَّما لُقِّبَ بها؛ لِكَوْنِهِ صَحَّفَ حديثَ أَنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ بسركانَ يُرَقِّي وَلَدَهُ بِخَرَزَةٍ؛ بِمُعْجَمَتَيْنِ بينَهما رَاءٌ مفتوحةٌ، بِجَزَرَةٍ، بجيمٍ ثمَّ بمُعْجمةٍ بعدَها مهملةٌ كما سَيَأْتِي في الألقابِ. واتَّفَقَ لبَعْضِ مُدَرِّسِي النِّظاميَّةِ ببغدادَ أنَّهُ أوَّلَ يَوْمِ إجلاسِهِ أوْرَدَ حديثَ: (صَلاةٌ فِي أَثَرِ صَلاةٍ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ)، فقالَ: كَنَارٍ في غَلَسٍ. فلم يَفْهِم الحاضرونَ ما يَقولُ، حتَّى أخبَرَهم بعضُهم بأنَّهُ تُصُحِّفَ على المُدَرِّسِ. ولابنِ أبي عاصمٍ؛ حَيْثُ قالَ في كتابِ الأطْعِمَةِ لهُ: بابُ تَحْرِيمِ السِّباعِ، وساقَ حديثَ دَرَّاجٍ عنْ أبي الهَيْثَمِ، عنْ أبي سعيدٍ رَفَعَهُ: (السِّبَاعُ حَرَامٌ) فصَحَّفَهُ، وإِنَّما هوَ الشِّياعُ بالمُعْجمةِ والياءِ المُثنَّاةِ تحتُ، وهوَ الصَّوْتُ عندَ الجِمَاعِ. ولعَبْدِ القُدُّوسِ؛ حيثُ جعَلَ نَهْيَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أَنْ يَتَّخِذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً، بفتحِ الراءِ من الرُّوحِ وفتحِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ وإِسْكَانِ الرَّاءِ منْ غَرَضاً. فقيلَ لهُ: أَيُّ شيءٍ هذا؟ قال: يَعْنِي كُوَّةً في حَائِطٍ لِيَدْخُلَ عليهِ الرَّوْحُ. ولِرَجُلٍ سَألَ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رضِيَ اللَّهُ عنهُ: أَيُضَحَّى بالصَّبِيِّ؟ فقالَ لهُ: (ومَا عليكَ لوْ قُلْتَ: بِالظَّبْيِ؟ قالَ: إنَّها لُغَةٌ. فَقَالَ لهُ عُمَرُ، فَانْقَطَعَ العِتَابُ). ولغُلامٍ حيثُ سَأَلَ حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ فقالَ: يا أبا إسماعيلَ، حَدَّثَكَ عمرٌو عنْ جابرٍ أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ نَهَى عن الخُبْزِ. فتَبَسَّمَ حَمَّادٌ وقالَ: يا بُنَيَّ، إذا نَهَى عن الخُبْزِ فَمِنْ أيِّ شيءٍ يَعِيشُ الناسِ؟! وإنَّما هوَ الخَبَرُ. ولبعضِ المُغَفَّلِينَ كما حَكاهُ غيرُ واحدٍ من الحُفَّاظِ؛ حَيْثُ صحَّفَ قَوْلَهم في بعضِ الأحاديثِ الإلهيَّةِ عنْ جِبْريلَ عن اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، فجعَلَ عنْ رَجُلٍ. [أمثلة التصحيف في الإسناد] (أوْ) فِي (الإسنادِ كَابْنِ النُّدَّرْ) بالنونِ والمُهملةِ المُشدَّدةِ، واسمُهُ عُتْبَةُ؛ حَيْثُ (صَحَّفَ فِيهِ) الإمامُ أبو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جريرٍ (الطَّبَرِيُّ)، و(قَالا: بَذَّرُ بالبَاءِ) المُوحَّدَةِ (ونَقْطٍ) للمهملةِ (ذَالا). وكالزُّبَيْرِ بنِ خِرِّيتٍ بكسرِ المُعْجمةِ ثمَّ رَاءٍ مُشدَّدةٍ مكسورةٍ، قالَهُ بعضُ المُحدِّثِينَ: خَرِيتٌ، فقالَ لَه أحمدُ بنُ يَحْيَى بنِ زُهَيْرٍ التُّسْتَرِيُّ: لا خَرَيْتَ ولا دَرَيْتَ. وكجَوَّابٍ التَّيْمِيِّ بالجيمِ المفتوحةِ والواوِ المُشدَّدةِ، قَرَأَهُ حبيبٌ كاتبُ مَالِكٍ: جِرَابٌ؛ بكسرِ الجيمِ وتخفيفِ الراءِ. وكابنِ سِيرِينَ بالمهملةِ، قالَهُ بعضُهم بالشِّينِ المُعْجَمَةِ. وكأبِي حُرَّةَ بضمِّ المهملةِ وتشديدِ الراءِ، قالَهُ بعضُهم بالجيمِ المَفْتوحةِ. وكالعَوَّامِ بنِ مُرَاجِمٍ بالراءِ المهملةِ والجيمِ، قالَهُ ابنُ مَعِينٍ بالزَّاءِ المنقوطةِ والحاءِ المهملةِ. في أمثلةٍ كثيرةٍ لكلٍّ من القِسميْنِ في التصانيفِ المُشارِ إليها، وكذا في جامعِ الخطيبِ منها نُبْذَةٌ. ومنْ أمثلتِهِ المُلْحَقَةِ بالإسنادِ ما ذكَرَهُ ابنُ عَدِيٍّ في تَرْجمةِ أبي غَسَّانَ مالِكِ بنِ إسماعيلَ النَّهْدِيِّ، قالَ السَّعْدِيُّ: كانَ حَسَنِيًّا- يعني: الحَسَنَ بنَ صَالِحٍ- على عِبادَتِهِ وسُوءِ مَذْهَبِهِ. قالَ شَيْخُنا: وأَبُو غَسَّانَ وإنْ كانَ منْ أصحابِ الحَسَنِ بنِ صَالِحٍ لَكِنْ لم يُرِد السَّعْدِيُّ نَسَبَهُ إلى الحَسَنِ، وإنَّما قالَ: إنَّهُ خَشَبِيٌّ بمُعْجمتيْنِ ومُوحَّدَةٍ، يُرِيدُ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ. قالَ: وشَرْحُ ذلكَ يَطُولُ، وهوَ مَعْروفٌ في غيرِ هذا الموضعِ. ومنهُ ما ذكَرَ ابنُ السَّمْعانيِّ في الأنسابِ في ترجمةِ الجَرِيرِيِّ، بفتحِ الجيمِ وكَسْرِ الراءِ، نِسْبَةً إلى مذهَبِ مُحَمَّدِ بنِ جَريرٍ الطَّبَريِّ. قال: وكانَ منهم إبراهيمُ بنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ. ثمَّ نقَلَ عن ابنِ حَبَّانَ أنَّهُ قالَ فيهِ: إنَّهُ جَرِيرِيُّ المَذْهَبِ ولم يكُنْ دَاعِيَةً. قالَ شَيْخُنا: ولم يَنْسُبْهُ ابنُ حِبَّانَ لمذهَبِ مُحَمَّدِ بنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ، وإنَّما نَسَبَهُ لمذهَبِ حَرِيرِ بنِ عُثْمانَ، وهوَ بالحَاءِ المُهملةِ ثمَّ راءٍ ثمَّ راءٍ. ولَوْ لم يَكُنْ في هذا إلاَّ مُخَالَفَةُ التاريخِ؛ فإنَّ إبراهيمَ المذكورَ في طَبَقةِ شيوخِ مُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ، وكانَتْ وَفَاتُهُ بعدَ مَوْلِدِ ابنِ جريرٍ بأَرْبَعٍ وعشرينَ سَنَةً، فكيفَ يَكُونُ علَى مَذْهَبِ مَنْ هوَ في عِدَادِ شُيوخِهِ؟! وَيَنْقَسِمُ كلٌّ منهما إلى تصحيفِ بَصَرٍ، وهوَ الأكثرُ، وسَمْعٍ، وهوَ قليلٌ. وكذا إلى تصحيفِ لَفْظٍ، وهوَ الأكثرُ، ومعنًى، وهوَ قليلٌ. [أسباب التصحيف في الحديث] (وَ) كَذَا (أَطْلَقُوا)؛ أيْ: مَنْ صَنَّفَ في هذا الفنِّ، (التصحيفَ فيما ظَهَرَا) تحقيقُ حروفِهِ منْ غيرِ اشتباهٍ في الكتابةِ بغيرِها، وإنَّما حصَلَ فيهِ خَلَلٌ من الناسخِ أو الرَّاوِي بِنَقْصٍ أوْ زيادةٍ أوْ إبدالِ حَرْفٍ بآخَرَ. فالأوَّلُ:
كحديثِ جَابِرٍ: دَخَلَ رجُلٌ يومَ الجُمُعةِ والنبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَخْطُبُ، فقالَ: (صَلَّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟) الحديثَ. رَوَاهُ ابنُ ماجَهْ بلفظِ: (قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟)، وهوَ غَلَطٌ من الناسخِ، نَبَّهَ عليهِ المِزِّيُّ. وكما رَوَى يَحْيَى بنُ سَلاَّمٍ المُفَسِّرُ عنْ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ، عنْ قَتَادَةَ في قولِهِ تعالى: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ)، قالَ: مِصْرَ. فقد اسْتَعْظَمَ هذا أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَاسْتَقْبَحَهُ، وذكَرَ أنَّهُ في تفسيرِ سعيدٍ المذكورِ بلفظِ: مَصِيرَهُمْ. والثاني: كحديثِ أبي سَعِيدٍ في خُطْبَةِ العيدِ: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَخْرُجُ يومَ العِيدِ فيُصَلِّي بالناسِ رَكْعتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ فيَقِفُ علَى رِجْلَيْهِ، فيَستقبِلُ الناسَ وهُم جُلُوسٌ) الحديثَ. رَوَاهُ بعضُهم فقالَ: على رَاحِلَتِهِ بَدَلَ رِجْلَيْهِ. والصوابُ الأوَّلُ، فلا رَيْبَ في (أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يَخْرُجُ إلى العيدِ مَاشياً والعَنَزَةُ بينَ يَدَيْهِ، وإنَّما خطَبَ على رَاحلَتِهِ يومَ النَّحْرِ بمِنًى). والثالثُ: (كقولِهِ) في حديثِ زيدِ بنِ ثَابِتٍ: (احْتَجَم) النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في المَسْجِدِ؛ حيثُ جَعَلَهُ ابنُ لَهِيعةَ فيما ذكَرَهُ مُسْلِمٌ في التمييزِ لهُ (مَكانَ احْتَجَرَا) بالميمِ بدَلَ الراءِ؛ لكونِهِ أخَذَهُ منْ كتابٍ بغيرِ سَماعٍ، وأخْطَأَ فَبَقِيَّتُهُ: (بِخُصٍّ أَوْ حَصِيرِ حُجْرَةً يُصَلِّي فِيهَا). وقدْ جعَلَ ابنُ الجَزَريِّ هذا مثالاً لتصحيفِ السَّمْعِ في المَتْنِ، وهوَ ظاهرٌ. (وَ) كذا (وَاصِلٌ) أَبدَلَ اسمَهُ (بِعَاصِمٍ). بلْ (وَ) أَبْدَلا (الأَحْدَبُ) لَقَّبَهُ أَيْضاً (بِأَحْوَلٍ) بالصَّرْفِ للضرورةِ، لَقَبِ عاصِمٍ، وذلكَ في حديثِ شُعْبَةَ عنْ وَاصِلٍ الأحْدَبِ، عنْ أبي وَائِلٍ، عن ابنِ مَسْعودٍ: (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟). وكذا خَالدُ بنُ عُرْفُطَةَ؛ حيثُ أَبْدَلَهُ شُعْبَةُ بمالكِ بنِ عُرْفُطَةَ. كُلٌّ منهما (تَصْحِيفَ) بالنصْبِ مَفْعُولٌ مُقدَّمٌ (سَمْعٍ)؛
يعني في الإسنادِ، (لَقَّبُوا). فَمِن المُلقِّبِينَ بذلكَ للمثالِ الأوَّلِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وللثاني أحْمَدُ، وليسَ تَلْقِيبُهم بذلكَ بأَوْلَى منْ تَلقيبِ احْتَجَمَ بهِ، بلْ ذاكَ أوْلَى؛ لمُشاركتِهما معَ الوزنِ في الحروفِ إلاَّ واحداً، بخلافِهِ فِيهِمَا، فليسَ إلاَّ الوزنُ؛ إذْ أكثرُ الحروفِ مُخْتلفِةٌ. ثمَّ إنَّ جُلَّ التصحيفِ كما أشَرْتُ إليهِ في اللفظِ، (وَ) قدْ (صَحَّفَ المعنَى) فقطْ بعضُ شُيُوخِ الخَطَّابِيِّ في الحديثِ فيما حَكَاهُ عنهُ، وإِنَّهُ لَمَّا روَى حديثَ النهْيِ عن التحليقِ يومَ الجُمُعةِ قبلَ الصلاةِ قالَ: منذُ أربعينَ سَنَةً ما حَلَقْتُ رَأْسِي قبلَ الصلاةِ. فُهِمَ منهُ حَلْقُ الرُّءوسِ، وإنَّما هوَ تَحْلِيقُ النَّاسِ حِلَقاً. وبعضُهم حيثُ سَمِعَ خَطِيباً يَرْوِي حديثَ: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)، فبَكَى وقالَ: (مَا الذي أصْنَعُ، ولَيْسَتْ لي حِرْفَةٌ سِوَى بَيْعِ القَتِّ)؛ يعني الذي يَعْلِفُ الدَّوابَّ. وأبو مُوسَى مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى الزَّمِنُ (إِمَامُ عَنَزَهْ) حيثُ (ظَنَّ القَبِيلَ بحديثِ العَنَزَهْ) التي كانَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُصَلِّي إليها، فقالَ يوماً: (نَحْنُ قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ، نَحْنُ مِنْ عَنَزَةَ، قدْ صَلَّى النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إلَيْنَا)، ذكَرَهُ الدارَقُطْنِيُّ. (وبَعْضُهم)، وهوَ كما ذَكَرَهُ الحاكِمُ أعْرَابِيٌّ صَحَّفَ لفظَهُ ومعناهُ مَعاً، (ظَنَّ سُكُونَ نُونِهِ) أيْ: لَفْظِ العَنَزَةِ، ورَوَاهُ معَ هذا الظَّنِّ بالمعنَى (فقَالَ: شَاةٌ)، فأخْطَأَ و(خَابَ في ظُنُونِهِ) منْ وَجْهَيْنِ؛ إذ الصوابُ عَنَزَةٌ بفتحِ النونِ؛ وهيَ الحَرْبَةُ تُنْصَبُ بينَ يَدَيْهِ. ولذلكَ حِكايَةٌ حَكَاهَا الحاكِمُ عن الفقيهِ أبي منصورٍ قالَ: كُنْتُ بِعَدَنِ أَبْيَنَ يومَ عيدٍ، فشُدَّتْ عَنْزَةٌ- يَعْنِي: شَاةٌ- بقُرْبِ المِحْرابِ، فلَمَّا اجتمَعَ الناسُ سَأَلْتُهم بعدَ فراغِ الخُطْبَةِ والصلاةِ: ما هيَ العَنْزَةُ المشدودةُ في المِحْرابِ؟ قالُوا: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُصَلِّي يومَ العيدِ إلى عَنْزَةٍ، فقُلْتُ: (يَا هَؤُلاءِ، صَحَّفْتُمْ، ما فَعَلَ رسولُ اللَّهِ هذا، وإنَّما كَانَ يُصَلِّي إلَى العَنَزَةِ: الْحَرْبَةِ). قالَ ابنُ كثيرٍ: وقدْ كانَ شَيْخُنا المِزِّيُّ منْ أَبْعَدِ الناسِ عنْ هذا المقامِ، ومنْ أحسنِ الناسِ أداءً للإسنادِ والمَتْنِ، بلْ لم يَكُنْ على وَجْهِ الأرضِ فيما يُعْلَمُ مِثْلُهُ في هذا الشأنِ أيضاً، وكانَ يَقولُ إذا تَغَرَّبَ عليهِ أحَدٌ بروايَةٍ مِمَّا يَذْكُرُهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الحديثِ على خِلافِ المشهورِ عندَهُ: هذا من التَّصْحِيفِ الذي لم يَقِفْ صاحبُهُ إلاَّ على مُجَرَّدِ الصُّحُفِ والأخذِ منها. [معن التصحيف والفرق بينه وبين التعريف] سوفي بعضِ ما أُدْرِجَ في هذا البابِ من الأمثلةِ تَجَوُّزٌ بالنِّسْبَةِ لتعريفِهِ؛ فقدْ قالَ شيخُنا: وإنْ كانَت المخالفةُ بتغييرِ حَرْفٍ أوْ حرفيْنِ معَ بقاءِ صُورةِ الخَطِّ في السِّياقِ، فإنْ كانَ ذلكَ بالنِّسبةِ إلى النُّقَطِ فالمُصَحَّفُ، أوْ إلى الشَّكْلِ فَالْمُحَرَّفُ. ولذا قالَ ابنُ الصلاحِ: وتسميَةُ بعضِ ذلكَ- يَعْنِي المَذْكُورَ- تصحيفاً مَجَازٌ. قالَ: وكثيرٌ من التصحيفِ المَنقولِ عن الأكابرِ لهم فيهِ أَعْذَارٌ لم يَنْقُلْها نَاقِلُوها. قالَ غَيْرُهُ: ومن الغَرِيبِ وُقُوعُ التصحيفِ في قراءةِ القرآنِ لجماعةٍ من الأكابرِ، لا سِيَّما عُثْمَانُ بنُ أبي شَيْبةَ؛ فإنَّهُ يُنْقَلُ عنهُ في ذلكَ أشياءُ عَجِيبةٌ معَ تصنيفِهِ تَفْسيراً، وَأُودِعَ في الكُتُبِ المُشَارِ إليها منْ ذلكَ أيضاً جُمْلَةٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ التوفيقَ والعِصْمَةَ. فائِدَةٌ: كتَبَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ إلى ابنِ حَزْمٍ عاملِهِ على المدينةِ أنْ أَحْصِ مَنْ قِبَلَكَ من المُخَنَّثِينَ. فصَحَّفَ الكاتِبُ، فخَصَاهُم. وقيلَ: إنَّهُ عَلِمَ ذلكَ قبلَ الفعلِ فكَفَّ، كما قدَّمْتُهُ في كتابةِ الحديثِ وضَبْطِهِ. وضِدُّ هذا أنَّ الفَرَزْدَقَ كانَ مَن اسْتَجَارَ بقَبْرِ أبيهِ قامَ في مُساعدتِهِ حَدَّ القيامِ، فاتَّفَقَ أنَّ تَمِيمَ بنَ زَيْدٍ القَيْنِيَّ خرَجَ في جيشٍ منْ قِبَلِ الحَجَّاجِ، فجاءَت امرأةٌ إلى فَرَزْدَقٍ فقالَتْ: إِنِّي اسْتَجَرْتُ بقبرِ غالبٍ أنْ تَشْفَعَ لي إلى تَميمٍ في ابْنِي خُنَيْسٍ أنْ يَقْتُلَهُ. فكتَبَ الفَرَزْدَقُ أبياتاً إلى تميمٍ يَسْأَلُهُ في ذلكَ، فلم يَدْرِ تميمٌ أَهوَ حَبِيسٌ أوْ خُنَيْسٌ، فأطْلَقَ كُلَّ مَنْ في عَسْكَرِهِ مِمَّنْ تَسَمَّى بِهِمَا.
779- والْمَتْنُ إنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرْ *** وأَمْكَنَ الْجَمْعُ فلا تَنَافُرْ 780- كمَتْنِ لا يُورِدُ مَعْ لا عَدْوَى *** فَالنَّفْيُ للطَّبْعِ وَفِرَّ عَدْوَا 781- أوْ لا فإنْ نَسْخٌ بَدَا فاعْمَلْ بِهِ *** أوْ لا فَرَجِّحْ واعْمَلَنْ بالأَشْبَهِ [مختلف الحديث والمصنفات فيه] (مُخْتلِفُ الحديثِ)؛ أي: اختلافُ مَدْلولِهِ ظَاهراً، وهوَ مِنْ أهَمِّ الأنواعِ، تُضْطَرُّ إليهِ جَميعُ الطوائفِ من العلماءِ، وإنَّما يَكْمُلُ للقيامِ بهِ مَنْ كانَ إماماً جامعاً لصِناعَتَي الحديثِ والفِقْهِ، غَائِصاً على المَعَانِي الدقيقةِ؛ ولِذَا كانَ إمامُ الأئمَّةِ أبو بَكْرِ بنُ خُزَيْمَةَ منْ أحْسَنِ الناسِ فيهِ كلاماً، لَكِنَّهُ تَوسَّعَ حيثُ قالَ: (لا أعْرِفُ حَدِيثَيْنِ صحيحيْنِ مُتضادَّيْنِ، فَمَنْ كانَ عندَهُ شيءٌ منْ ذلكَ فَلْيَأْتِنِي بهِ لأُؤَلِّفَ بينَهما). وانْتُقِدَ عليهِ بعضُ صَنيعِهِ في تَوَسُّعِهِ، فقالَ البُلْقِينِيُّ: إنَّهُ لوْ فَتَحْنا بابَ التأويلاتِ لانْدَفَعَتْ أكثرُ العِلَلِ. وأوَّلُ مَنْ تَكلَّمَ فيهِ إمامُنا الشافعيُّ، ولهُ فيهِ مُجلَّدٌ جليلٌ منْ جُمْلَةِ كُتُبِ (الأُمِّ)، ولكنَّهُ لم يَقْصِد استيعابَهُ، بلْ هوَ مَدْخَلٌ عظيمٌ لهذا النوعِ، يَتَنَبَّهُ بهِ العارفُ على طريقِهِ. وكذا صَنَّفَ فيهِ أبو مُحَمَّدِ بنُ قُتَيْبَةَ، وأتَى فيهِ بأشياءَ حَسَنَةٍ، وقَصُرَ بَاعُهُ في أشياءَ قَصَّرَ فيها، وقدْ قَرَأْتُهُمَا. وأبو جَعْفرِ بنُ جَريرٍ الطبريُّ، وأبو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ في كتابِهِ (مُشْكِلِ الآثارِ)، وهوَ منْ أَجَلِّ كُتُبِهِ، ولكنَّهُ قَابِلٌ للاختصارِ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عن الترتيبِ والتهذيبِ، وقد اختصَرَهُ ابنُ رُشْدٍ، هذا معَ قولِ البيهقيِّ: إنَّهُ بيَّنَ في كلامِهِ أنَّ عِلْمَ الحديثِ لم يَكُنْ منْ صِنَاعَتِهِ، إنَّما أخَذَ الكلمةَ بعدَ الكلمةِ منْ أهْلِهِ، ثمَّ لم يُحْكِمْها. ومِمَّنْ صنَّفَ فيهِ أيضاً أبو بَكْرِ بنُ فُورَكَ، وأبو مُحَمَّدٍ القَصْرِيُّ، وابنُ حَزْمٍ، وهوَ نَحْوُ عَشَرَةِ آلافِ ورَقَةٍ. وكانَ الأنسَبُ عدَمَ الفصْلِ بينَهُ وبينَ الناسخِ والمنسوخِ، فكُلُّ ناسخٍ منسوخٍ مُخْتَلِفٌ، ولا عَكْسَ. [مختلف الحديث وأمثلته] (وَ) جملةُ الكلامِ فيهِ أنَّا نَقولُ: (المَتْنُ) الصالحُ للحُجَّةِ (إِنْ نَافَاهُ) بحَسَبِ الظاهرِ (مَتْنٌ آخَرْ) مثلُهُ، (وأمْكَنَ الجَمْعُ) بينَهما بوَجْهٍ صحيحٍ زالَ بهِ التعارُضُ، (فَلا تَنَافُرْ) بينَهما حينَئذٍ، بلْ يُصارُ إليهما ويُعْمَلُ بهما معاً. وأمثلتُهُ كثيرةٌ، (كمَتْنِ لا يُورِدُ) بكسرِ الراءِ، (مُمْرِضٌ)، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وسُكُونِ ثانيهِ وكَسْرِ ثالثِهِ، اسمُ فاعلٍ منْ أَمْرَضَ الرجُلُ: إذا أصَابَ مَاشِيتَهُ مَرَضٌ، (على مُصِحٍّ) اسمُ فاعِلٍ أيضاً منْ أَصَحَّ: إذا أصَابَتْ مَاشِيتَهُ عَاهَةٌ ثمَّ ذهَبَتْ عنها وصَحَّتْ. الْمُوَازِي لمعنَى مَتْنِ: (فِرَّ مِنَ الْمَجْزُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ)، (مَعْ) بالسكونِ متنِ: (لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ)، وكُلُّها في الصحيحِ، فظَاهِرُها التَّنَافُرُ، ومُنَافَاةُ الأخيرِ للأوَّليْنِ، حَتَّى بالَغَ أبو حَفْصِ بنُ شَاهِينَ وغيرُهُ، وزَعَمُوا النَّسْخَ في الأوَّلَيْنِ، ولكنَّ الجمعَ بينَهما مُمْكِنٌ كما قالَ ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لغيرِهِ. (فالنَّفْيُ) في قولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا عَدْوَى) (للطَّبْعِ)؛ أيْ: لِمَا كانَ يَعتقِدُهُ أهْلُ الجاهليَّةِ وبعضُ الحكماءِ منْ أنَّ هذهِ الأمراضَ من الجُذامِ والبَرَصِ تُعْدِي بالطَّبْعِ؛ ولهذا قالَ: (فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟)؛ أيْ: أَنَّ اللَّهَ هوَ الخالِقُ لذلكَ بسَبَبٍ وغيرِ سببٍ. (وَ) الأمرُ بالفرارِ في قولِهِ: (فِرَّ)، والنهْيُ في: (لا يُورِدُ)؛ لِخَوْفٍ منْ وُجودِ المُخالَطةِ والمُماسَّةِ الذي قدْ يَخْلُقُ اللَّهُ عندَهُ- لا بِهِ- الدَّاءَ في الصحيحِ غالباً، وإلاَّ فقَدْ يَتَخَلَّفُ كما هوَ المُشاهَدُ في بعضِ المُخالطِينَ، بلْ نُشاهِدُ مَنْ يَجْتَهِدُ في التحَرُّزِ من المُخالَطةِ والمُماسَّةِ يُؤْخَذُ بذلكَ المرضِ، إلى غيرِ ذلكَ من المَسالكِ التى سَلَكَها الأئمَّةُ في الجَمْعِ، أحَدُها- وعليهِ نقتصِرُ- ما ذهَبَ إليهِ أبو عُبَيدٍ وجماعةٌ؛ كابنِ خُزَيمةَ والطَّحاويِّ، واختارَهُ شَيْخُنا فقالَ في (تَوضيحِ النُّخْبةِ): والأَوْلَى في الجَمْعِ بينَهما أنْ يُقالَ: إنَّ نَفْيَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ للعَدْوَى على عُمومِهِ، وقدْ صَحَّ قولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئاً)، وقولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لمَنْ عَارضَهُ بأنَّ البعيرَ الأجْرَبَ يكونُ في الإبلِ الصحيحةِ فيُخالِطُها فتَجْرَبُ، حيثُ رَدَّ عليهِ بقولِهِ: (فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟)، يعني أنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالى ابْتَدَأَ ذلكَ في الثاني كما ابتَدَأَهُ في الأوَّلِ. وأمَّا الأمرُ بالفِرَارِ من المَجْذُومِ فمِنْ بابِ سَدِّ الذرائعِ؛ لِئَلاَّ يَتَّفِقَ للشخصِ الذي يُخالِطُهُ شيءٌ منْ ذلكَ بتقديرِ اللَّهِ تعالى ابتداءً، لا بالعَدْوَى المَنفيَّةِ، فَيَظُنُّ أنَّ ذلكَ بسببِ مُخالَطَتِهِ، فيَعْتَقِدُ صِحَّةَ العَدْوَى، فيَقَعُ في الحَرَجِ، فَأَمَرَ بِتَجَنُّبِهِ حَسْماً للمادَّةِ. وعِبارَةُ أبي عُبَيْدٍ: لَيْسَ في قولِهِ: (لا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) إثباتُ العَدْوَى؛ بلْ لأنَّ الصِّحاحَ لوْ مَرَضَتْ بتقديرِ اللَّهِ تعالى رُبَّما وَقَعَ في نَفْسِ صَاحِبِها أنَّ ذلكَ من العَدْوَى فَيَفْتَتِنُ ويَتَشَكَّكُ في ذلكَ، فأمَرَ باجتنابِهِ. قالَ: وكانَ بعضُ الناسِ يذهَبُ إلى أنَّ الأمرَ بالاجتنابِ إنَّما هوَ للمَخَافَةِ على الصحيحةِ منْ ذَوَاتِ العَاهَةِ. قالَ: وهذا شَرُّ ما حُمِلَ عليهِ الحديثُ؛ لأنَّ فيهِ إثباتَ العَدْوَى التي نَفَاهَا الشارِعُ، ولكنَّ وَجْهَ الحديثِ عندِي ما ذَكَرْتُهُ. (أوْ لا)؛ أيْ: وإنْ لم يُمْكِن الجمعُ بينَ المَتْنَيْنِ المُختلفيْنِ واستمَرَّ التَّنافي على ظاهرِهِ، وذلكَ على ضَربيْنِ، (فإنْ نَسْخٌ بَدَا)؛ أيْ: ظهَرَ طريقٌ من الطُّرُقِ المَشروحةِ في بابِهِ، (فَاعْمَلْ بهِ)؛ أيْ: بمُقتضاهُ في الاحتجاجِ وغيرِهِ. (أَوْ لا)؛ أيْ: وإنْ لم يَبْدُ نسخٌ، (فرَجِّحْ) أحدَ المتنيْنِ بوَجْهٍ منْ وجوهِ الترجيحاتِ التي تَتعلَّقُ بالمتنِ أو بالإسنادِ؛ كالترجيحِ بكثرةِ الرواةِ أوْ بصفاتِهم. وقدْ سَرَدَ منها الحَازِمِيُّ في كتابِهِ (الناسخِ والمنسوخِ) خَمِسينَ معَ إشارتِهِ إلى زيادتِها على ذلكَ. وهوَ كذلكَ؛ فقدْ زادَها الأُصوليُّونَ في بابٍ معقودٍ لها أكثرَ منْ خمسينَ أيضاً، أورَدَ جميعَها المُؤلِّفُ في النُّكَتِ على ابنِ الصلاحِ، فلا نُطِيلُ بإيرادِها. (واعْمَلَنْ) بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ بعدَ النظَرِ في المُرجِّحاتِ (بالأشْبَهِ)؛ أيْ: بالأرجَحِ منهما، وإنْ لم يَجِد المجتهدُ مُرجِّحاً تَوقَّفَ عن العملِ بأحدِ المتنيْنِ حتَّى يظَهَرَ. وقيلَ: يَهْجُمُ فَيُفْتِي بواحدٍ منهما، أوْ يُفْتِي بهذا في وقتٍ، وبهذا في آخرَ، كما يفعَلُ أحمدُ، وذلكَ غَالِباً سببُ اختلافِ رواياتِ أصحابِهِ عنهُ. قالَ شَيْخُنا: فَصَارَ ما ظاهِرُهُ التعارضُ وَاقعاً على هذا الترتيبِ: الجمعِ إنْ أمْكَنَ، فاعتبارِ الناسخِ والمنسوخِ، فالترجيحِ إنْ تَعيَّنَ، ثمَّ التوَقُّفِ عن العملِ بأحدِ الحديثيْنِ. والتعبيرُ بالتوَقُّفِ أوْلَى من التعبيرِ بالتَّسَاقُطِ؛ لأنَّ خَفاءَ تَرْجيحِ أحَدِهما على الآخرِ إنَّما هوَ بالنِّسبةِ للمُعْتبَرِ في الحالةِ الراهنةِ، معَ احتمالِ أنْ يظهَرَ لغيرِهِ ما خَفِيَ عليهِ، وفوقَ كلِّ ذي عِلْمٍ عليمٌ. وإذا لم يكُنْ للمتْنِ ما يُنافيهِ، بلْ سَلِمَ منْ مَجيءِ خبرٍ يُضَادُّهُ فهوَ المُحْكَمُ، وأمثلتُهُ كثيرةٌ.
782- وعَدَمُ السَّماعِ واللِّقَاءِ *** يَبْدُو بهِ الإِرْسَالُ ذُو الْخَفَاءِ 783- كذا زِيَادَةُ اسْمِ رَاوٍ في السَّنَدْ *** إنْ كانَ حَذْفُهُ بِعَنْ فِيهِ وَرَدْ 784- وإنْ بتَحْدِيثٍ أَتَى فالْحُكْمُ لَهْ *** معَ احتمالِ كَوْنِهِ قدْ حَمَلَهْ 785- عنْ كلٍّ الاَّ حَيْثُ ما زِيدَ وَقَعْ *** وَهْماً وفي ذَيْنِ الخطيبُ قدْ جَمَعْ
(خَفِيُّ الإرسالِ والْمَزيدُ في مُتَّصِلِ الإسنادِ): هذا نوعانِ مُهِمَّانِ عظيمَا الفائدةِ، عَمِيقَا المَسْلَكِ، لم يَتكَلَّمْ فيهما قديماً وحديثاً إلاَّ نُقَّادُ الحديثِ وجَهَابِذَتُهُ، وهما مُتَجَاذِبانِ؛ فلذلكَ قَرَنَ بينَهما، وفصَّلَ أَوَّلَهُما عن المُرْسَلِ الظاهرِ، معَ أنَّ ذلكَ لم يكُنْ بمانعٍ من الإشارةِ إليهِ هناكَ. ثمَّ لأجْلِ ما أبدَيْتُهُ من المُؤاخاةِ بينَهما لوْ قَرَنَ بينَ المُختلفِ والناسخِ الماضي شَرْحُهما أيضاً لكانَ حَسَناً. [المرسل الخفي والفرق بينه وبين المرل الظاهر وغيره] فأمَّا أَوَّلُهما، فليسَ المرادُ بهِ قولَ التابعيِّ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، كما هوَ المشهورُ في المُرْسَلِ الظاهرِ، ولا الانقطاعَ بينَ الرَّاوِيَيْنِ لم يُدْرِكْ أحدُهما الآخرَ؛ كَرِوَايَةِ القاسمِ عن ابنِ مَسعودٍ، وإبراهيمَ بنِ أَبِي عَبْلَةَ عنْ عُبادَةَ بنِ الصامتِ، ومالكٍ عنْ سعيدِ بنِ المُسيِّبِ. بلْ هوَ على المُعْتَمَدِ في تعريفِهِ حَسْبَما أشارَ إليهِ شيخُنا: الانقطاعُ في أَيِّ موضِعٍ كانَ من السَّنَدِ بَيْنَ راوييْنِ مُتعاصريْنِ لم يَلْتقِيَا، وكذا لو الْتَقَيا ولم يقَعْ بينَهما سَماعُ فهوَ انقطاعٌ مَخْصوصٌ، يَنْدَرِجُ في تعريفِهِ مَنْ لم يَتَقَيَّدْ في المُرْسَلِ بسَقْطٍ خاصٍّ. وإلى ذلكَ الإشارةُ بقولِ البُلْقينِيِّ: إنَّ تَسميِتَهُ بالإرسالِ هوَ على طريقةٍ سَبَقَتْ في نوعِ المُرسَلِ. وبهذا التعريفِ يُبايِنُ التدليسَ؛ إذْ هوَ كما حُقِّقَ أيضاً على ما تَقدَّمَ في بابِه: روايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ سمِعَ منهُ ما لم يَسْمَعْ منهُ. فأمَّا مَنْ عرَّفَ ما نحنُ فيهِ: بِرِوَايَةِ الرَّاوي عمَّنْ سمِعَ منهُ ما لم يَسْمَعْهُ منهُ، أوْ عَمَّنْ لَقِيَهُ ولم يَسْمَعْ منهُ، أوْ عمَّنْ عاصَرَهُ، فيكونُ بينَهما عمومٌ مُطلَقٌ. والمُعْتمَدُ ما حَقَّقْناهُ أَوَّلاً. (وَ) حيَنئذٍ فـ(عَدَمُ السماعِ) مُطْلقاً للراوي من المَرْويِّ عنهُ ولوْ تَلاقَيَا، (وَ) كذا عَدَمُ (اللقاءِ) بينَهما؛ حيثُ عُلِمَ أَحَدُهما بأحدِ أَمْرَيْنِ؛ منْ إخبارِ الرَّاوي عنْ نفسِهِ بذلكَ؛ كَقَوْلِ أبي عُبَيدةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، وقدْ سُئِلَ: هلْ تَذْكُرُ منْ أَبِيكَ شَيْئاً: (لا). ونحوُهُ قولُ عمرَ بنِ عبدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ، وقدْ سألَهُ عِيسَى بنُ يُونُسَ بنِ أبي إسحاقَ السَّبِيعيُّ الرَّاوي عنهُ: أسَمِعْتَ من ابنِ عَبَّاسٍ: قدْ أدْرَكْتُ زمنَهُ. أوْ جزَمَ إمامٌ مُطَّلِعٌ بكونِهِ لم يَثْبُتْ عندَهُ منْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بهِ أَنَّهما تَلاقَيَا؛ مثلُ أبي زُرْعةَ الرازيِّ وغيرِهِ في قولِهم: إنَّ الحسَنَ البَصْرِيَّ لم يَلْقَ عَلِيًّا. ومثلُ المِزِّيِّ في المتأخِّرينَ، وكانَ في هذا عَجَباً من العجَبِ، في قولِهِ: إِنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ لم يَلْقَ عُقْبةَ بنَ عامِرٍ. (يَبْدُو بِهِ)؛ أَيْ: يَظْهَرُ بِكُلٍّ مِنْ عَدَمِ السماعِ واللِّقَاءِ (الإِرْسالُ ذُو الخفاءِ)؛ بحيثُ يكونُ في الأكثرِ سَبباً للحُكْمِ بذلك؛ كحديثِ أبي هُريرَةَ: (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوقِظِ امْرَأَتَهُ). رَوَاهُ أبو عامرٍ الْعَقَدِيُّ عن الثَّوريِّ، عن ابنِ المُنكَدِرِ عنهُ. وابنُ المُنكَدِرِ فيما قالَهُ ابنُ مَعِينٍ والبَزَّارُ: لم يَسْمَعْ منْ أبي هُرَيْرَةَ. بلْ قالَ أَبُو زُرْعَةَ: إنَّهُ لم يَلْقَهُ. وهوَ مُقْتَضَى ما نقلَهُ ابنُ المَدينِيِّ عن ابنِ عُيَينَةَ منْ كَوْنِ ابنِ المُنْكَدرِ بلَغَ من العُمُرِ نَيِّفاً وسبعينَ سنةً. وَبَيَانُ ذلكَ أنَّ وَفَاتَهُ كانتْ في سنةِ ثلاثينَ ومائةٍ أو التي بعدَها، فيَكُونُ مَوْلِدُهُ على هذا قبلَ سِتِّينَ بيَسِيرٍ، ووفاةُ أبي هُريرةَ كانتْ أيضاً قبلَ السِّتِّينَ بيسيرٍ. وقدْ رَوَاهُ ابنُ مَهْديٍّ ووكيعٌ والعَدَنِيُّ وغيرُهم عن الثوريِّ بإثباتِ الواسطةِ التي لم تُسَمَّ عندَ واحدٍ منهم بينَ ابنِ المُنْكَدِرِ وأبي هُريرَةَ،
وهوَ مِمَّنْ لم يُوصَفْ بالتدليسِ، فظهَرَ أنَّ الرِّوَايَةَ الأُولَى من المُرسَلِ الخفيِّ، هذا معَ تخريجِ أبي دَاوُدَ في سُنَنِهِ لحديثٍ من طَرِيقِهِ عنْ أبي هُريرةَ بلا وَاسطةٍ، بلْ وخَرَّجَ غيرُهُ أحاديثَ كذلكَ. و(كَذَا زِيَادَةُ اسْمِ رَاوٍ) يَتوَسَّطُ (في السَّنَدْ) بينَ الرَّاوييْنِ اللَّذَيْنِ كانَ يُظَنُّ الاتِّصالُ بينَهما مَظْهَرَةً للإرسالِ الخفيِّ في الروايَةِ التي لم يُذْكَرْ فيها (إِنْ كَانَ حَذْفُهُ)؛ أيْ: ذاكَ الاسمِ الزائدِ وقَعَ (بِـ) صيغةِ (عَنْ). وقالَ: ونَحْوُهما مِمَّا ليسَ صريحاً في الاتِّصالِ (فيهِ)؛ أيْ: في السَّنَدِ الذي بِدُونِهِ (وَرَدْ)؛ فإنَّهُ حينَئذٍ تكونُ الروايَةُ الناقصةُ مُعَلَّةٌ بالإسنادِ الآتي بالزيادةِ معَ التصريحِ بالتحديثِ أوْ نحوِهِ؛ إذ الزيادةُ من الثِّقةِ مقبولةٌ. وعبَّرَ شيخُنا بقولِهِ: تَرجَّحَت الزيادةُ. مثالُهُ حديثُ أبي ذَرٍّ: (ثَلاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ). رَوَاهُ الفِرْيَابِيُّ وعبدُ الملكِ بنُ عمرٍو، وكِلاهُما عن الثوريِّ، عنْ مَنْصورٍ، عنْ رِبْعِيِّ بنِ خِراشٍ عنهُ بالعَنْعَنَةِ. ورَوَاهُ شُعْبةُ عنْ منصورٍ: سَمِعْتُ رِبْعِيًّا يُحدِّثُ عنْ زيدِ بنِ ظَبْيَانَ رَفَعَهُ إلى أبي ذَرٍّ. بلْ وتُوبِعَ شُعْبَةُ عليهِ كذلكَ. وكذا رَوَاهُ شَيْبانُ عنْ منصورٍ، لكنَّهُ قالَ: عنْ زيدِ بنِ ظَبْيانَ أوْ غيرِهِ، عنْ أَبِي ذَرٍّ. بلْ رَوَاهُ الأشْجَعِيُّ وأبو عَامِرٍ، كِلاهما عن الثوريِّ بإثباتِ زيدٍ. وكذا رَوَاهُ مُؤَمِّلٌ عن الثوريِّ، لكنَّهُ لم يُسَمِّهِ، قال: عنْ رَجُلٍ عنْ أَبِي ذَرٍّ. فالروايَةُ الأُولَى مُرسَلَةٌ وإنْ كانَ رِبْعِيٌّ منْ كِبارِ التابعِينَ؛ فقَدْ جَزَمَ الدارَقُطنِيُّ ثمَّ ابنُ عساكرَ بأنَّهُ لم يسمَعْ منْ أبي ذَرٍّ. وحكاهُ المِزِّيُّ بصيغةِ التمريضِ، هذا معَ أنَّ أبا داودَ قدْ أثبَتَ سماعَهُ منْ عُمَرَ المُتوفَّى قبلَ أبي ذَرٍّ بتسعِ سِنينَ، وحينَئذٍ فقدْ أدْرَكَ أبا ذَرٍّ جَزْماً؛ ولِذَا توَقَّفَ شيخُنا في الجَزْمِ بعدَمِ سماعِهِ منهُ. ولكنَّ اقتصارَ ابنِ خُزيمةَ وابنِ حِبَّانَ والحاكمِ والضِّيَاءِ في (المُختارةِ) على إيرادِهِ في صِحاحِهم بإثباتِ الواسطةِ قدْ يَشْهَدُ للأوَّلَيْنِ.
[المزيد في متصل الأسانيد] (وإنْ) كانَ حذْفُ الزائدِ بينَ الرَّاوِيَيْنِ في السندِ الناقصِ (بتَحْدِيثٍ) أوْ إِخْبَارٍ أوْ سَماعٍ أوْ غيرِها مِمَّا يَقْتَضِي الاتِّصالَ (أَتَى)، ورَاوِي السندِ الناقصِ كما قيَّدَ بهِ شيخُنا أتْقَنُ مِمَّنْ زادَ، (فالحُكْمُ لَهْ)؛ أيْ: للإسنادِ الخالي عن الاسمِ الزائدِ؛ لأنَّ معَ رَاوِيهِ كذلكَ زيادةٌ، وهيَ إثباتُ سماعِهِ، وحينَئذٍ فهذا هوَ النوعُ المُسَمَّى بالمزيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ، المَحْكومِ فيهِ بكونِ الزيادةِ غَلَطاً من رَاوِيهَا أوْ سَهْواً، وباتِّصَالِ السندِ الناقصِ بدُونِها؛ كقصَّةِ الحَوْلاءِ بنتِ تُوَيْتٍ؛ فإنَّهُ رَوَاها عبدُ اللَّهِ بنُ سالمٍ عن الزُّبيديِّ، عن الزُّهْريِّ، عنْ حبيبٍ مَوْلَى عُرْوةَ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ عائشةَ. وصوابُهُ لهُ روايَةُ شُعيبٍ والحُفَّاظِ عن الزُّهْريِّ عنْ عُروةَ نفسِهِ بلا واسطةٍ. وكحديثِ: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ للرَّبِّ)، رَوَاهُ عليُّ بنُ عبدِ الحميدِ الغضايريُّ عن ابنِ أبي عُمَرَ، عن ابنِ عُيَينةَ، عنْ مِسْعرٍ، عن ابنِ إسحاقَ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرِ بنِ أبي عَتيقٍ، عنْ عائشةَ. فقولُهُ: عنْ مِسْعَرٍ، زيادةٌ، قدْ رَوَاهُ الحُمَيديُّ والحُفَّاظُ عن ابنِ عُيَيْنَةَ بدُونِها، ولَكِنْ قدْ رَوَاهُ داوُدُ بنُ الزِّبْرِقَانِ عن ابنِ إسحاقَ، فأدخَلَ بينَ أبي عَتيقٍ وعائشةَ القاسِمَ، وهوَ وَهْمٌ، وإنْ رَوَاهُ مُؤَمِّلٌ عنْ شُعْبَةَ والثوريِّ، عن ابنِ إسحاقَ، عنْ رَجُلٍ، عن القاسمِ عَنْهَا. وكذا قالَ مُصعَبُ بنُ ماهانَ عن الثوريِّ. فَذِكْرُ القاسمِ فيهِ ليسَ بمَحْفوظٍ. ولا يَمتنِعُ الحكمُ بالغلطِ أو السهوِ فيما يكونُ كذلكَ؛ إذ المَدَارُ في هذا الشأنِ على غَلَبةِ الظنِّ، فَمَهْمَا غَلَبَ على ظَنِّ الناقدِ أنَّهُ الراجحُ حَكَمَ بهِ،
والعكسُ. هذا كُلُّهُ (معَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ)؛ أي: الرَّاوي، (قدْ حَمَلَهْ عنْ كُلٍّ) من الرَّاوييْنِ؛ إذْ لا مانَعَ أنْ يَسْمَعَ منْ شخصٍ عنْ آخَرَ، ثمَّ يَسْمَعَ منْ شيخِ شيخِهِ، وذلكَ مَوْجُودٌ في الرواياتِ والرُّوَاةِ بكثرةٍ. ومنهُ قولُ ابنِ عُيَينةَ: قُلْتُ لسُهَيلِ بنِ أبي صالحٍ: إنَّ عَمْرَو بنَ دينارٍ حَدَّثنِي عن القَعْقاعِ عنْ أبيكَ أَبِي صالحٍ عنْ عطاءِ بنِ يَزيدَ بحديثِ كذا. قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: ورَجَوْتُ أنْ يُسْقِطَ عَنِّي سُهَيْلٌ رَجُلاً، وهوَ القَعْقاعُ، ويُحدِّثَنِي بهِ عنْ أبيهِ، فقالَ سُهَيلٌ: بلْ سَمِعْتُهُ مِن الذي سَمِعَهُ منهُ أَبِي. ثمَّ حَدَّثَنِي بهِ سُهَيْلُ بنُ عطاءٍ. ويَتأكَّدُ الاحتمالُ بوقوعِ التصريحِ في الطريقيْنِ بالتحديثِ ونحوِهِ، اللَّهُمَّ (الاَّ) أَنْ تُوجَدَ قرينةٌ تدُلُّ لكونِهِ (حَيْثُ مَا زِيدَ) هذا الرَّاوي في هذهِ الروايَةِ (وَقَعْ وَهْماً) مِمَّن زادَهُ، فيَزُولُ بذلكَ الاحتمالُ. والجملةُ، فلا يَطَّرِدُ الحكمُ بشيءٍ مُعيَّنٍ كما تَقرَّرَ في تعارُضِ الوصلِ والإرسالِ. و(في ذَيْنِ)؛ أي: النوعيْنِ، (الخَطِيبُ) الحافِظُ (قَدْ جَمَعْ) تَصْنِيفَيْنِ مُفرَديْنِ، سمَّى الأوَّلَ: (التفصيلَ لِمُبْهَمِ المراسيلِ)، والثانيَ: (تَمْيِيزَ المَزِيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ).
|