فصل: بَابُ الْأُضْحِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْأُضْحِيَّةِ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ بِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ نَوْعَانِ نَوْعٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ كَالصَّدَقَاتِ وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ كَالْعِتْقِ وَيَجْتَمِعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مَعْنَيَانِ فَإِنَّهُ تَقَرُّبٌ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَهُوَ إتْلَافٌ، ثُمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ.
قَالَ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَيَاسِيرِ وَالْمُقِيمِينَ عِنْدَنَا).
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خُصِصْتُ بِثَلَاثٍ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْأُضْحِيَّةُ وَصَلَاةُ الضُّحَى وَالْوِتْرُ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً.
وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لِيَغْدُوَ عَلَى أَلْفِ شَاةٍ وَيُرَاحُ فَلَا أُضَحِّي مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً، وَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ كَالْعَتِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِطْعَامُ الْغَنِيِّ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْإِتْلَافِ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بَلْ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأُضْحِيَّةَ بِالنَّذْرِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ} أَيْ وَانْحَرْ الْأُضْحِيَّةَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَإِلْحَاقُ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ وَمَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى» وَالْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحُّوا أَمْرٌ وَقَوْلُهُ فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ طَرِيقَتُهُ فَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْمَكْتُوبُ مَا يَكُونُ فَرْضًا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِكَوْنِ الْأُضْحِيَّةِ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا قَالَ.
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالِ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ، أَوْ فِي حَالِ السَّفَرِ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا كَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ نَقُولُ هَذِهِ قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا، وَفِيهَا فَتَكُونُ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَيْهِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ لَا مَحَالَةَ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ اسْتِحْقَاقًا.
وَلِجَوَازِ الْأَدَاءِ فِيهِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مُضَافًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ يَجُوزُ فِيهَا الصَّوْمُ، ثُمَّ لَا يُسَمَّى شَهْرُ الصَّوْمِ إلَّا رَمَضَانَ فَعَرَفْنَا أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَى الْقُرْبَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِصْحَابُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ لَا تَلْزَمُهُ كَالْجُمُعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ بِالتَّضْحِيَةِ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالتَّمْلِيكِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً.
فَكَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالْإِتْلَافِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ.
ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأَدَاءِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عِنْدَنَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا.
فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ دُونَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَدَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ لَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا قِيلَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَتَمْضِي هَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ خَاصَّةً وَالْيَوْمُ الْآخَرُ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ خَاصَّةً وَقِيلَ الْمَعْلُومَاتُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَيُجْزِئ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا سَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «ضَحُّوا بِالثَّنِيَّاتِ، وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ»، وَلِأَنَّ الْجَذَعَ نَاقِصٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الضَّحَايَا بِالِاسْتِعْظَامِ وَالِاسْتِشْرَافِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ».
فَأَمَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يُجْزِئُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جَذَعًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِبُوهَا»، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ وَهُوَ الَّذِي تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِي تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْبَقَرِ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَمِنْ الْإِبِلِ الَّذِي تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَمِنْ الْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَهَكَذَا مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ إذَا تَمَّ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ جَذَعٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ الضَّأْنِ خَاصَّةً.

.أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ:

ثُمَّ أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ.
فَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ لَا تُجْزِئُهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا لِعَدَمِ الْوَقْتِ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فِي الْقُرَى بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ وَدُخُولُ الْوَقْتِ لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى إنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَقَامَ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ بَشَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنِّي عَجَّلْت نَسِيكَتِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نَسِيكَتَك فَقَالَ عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تُجْزِئُك، وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَك».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ».
وَمَنْ يَذْبَحُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ لَمْ تُجْزِهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ عَادَةً جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلُّوا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْإِمَامِ الصَّلَاةَ كَمَا لَوْ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الْوَاجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ الْمَنْصُوصِ، وَمَا بَقِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعِيدِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ (وَإِذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ مَا انْصَرَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْجَامِعِ.
هَكَذَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ قَالَ (وَإِذَا ذَبَحَ بَعْدَ مَا فَرَغَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا قَدْ أُدِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمِصْرِ حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُمْ فَتَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْمَشْرُوطَ قَدْ وُجِدَ حِينَ ضَحَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ فَضَحَّى رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْعِيدِ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَأَهْلُ الْجَبَّانَةِ هُمْ الْأَصْلُ، وَقَدْ صَلَّوْا وَقِيلَ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْجَبَّانَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِمَا ذَكَرْنَا فَهُنَا أَوْلَى.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ وَبِمَكْسُورِ الْقَرْنِ) أَمَّا الْجَمَّاءُ فَلِأَنَّ مَا فَاتَ مِنْهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْإِبِلِ أَفْضَلُ، وَلَا قَرْنَ لَهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمَّاءِ فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ الْخَصِيُّ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، أَوْ مَوْحُوَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ».
وَالْمُرَادُ خَصِيَّانِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ مَا يُزَادُ فِي لَحْمِهِ بِالْخِصَاءِ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا يَفُوتُ بِالْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَرْبَاءِ وَالتَّوْلَاءِ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً) وَالْجَرْبَاءُ الَّتِي بِهَا جَرَبٌ.
وَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَالْجَرَبُ فِي جِلْدِهَا لَا فِي لَحْمِهَا «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تُنْقِي».
وَالتَّوْلَاءُ هِيَ الْمَجْنُونَةُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ فِي الْقُضَاةِ لَا فِي الشَّاةِ.
فَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بَاقٍ وَاشْتِرَاطُ السَّمْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ يَرْعَيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ» وَمَقْصُودُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانُ السَّمْنِ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةُ نَفَرٍ فِي بَقَرَةٍ، أَوْ بَدَنَةٍ).
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «اشْتَرَكْنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ قَيِّمُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ عَادَةً.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَصْدُهُمْ جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ، أَوْ قَصَدَ بَعْضُهُمْ قُرْبَةً أُخْرَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا قَصَدُوا جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ بَعْضِهِمْ لِلَّحْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ.
فَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي الْبَدَنَةِ ثَمَانِيَةً لَمْ تُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ السُّبْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ دُونَ السُّبْعِ حَتَّى لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَبَقَرَةً وَضَحَّى بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ هَلْ يَجُوزُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ الثُّمُنُ.
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ثُمُنُهَا فِي نَصِيبِهَا لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ أَيْضًا.
فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ وَرَضِيَ وَرَثَتُهُ بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ صَارَ مِيرَاثًا وَالتَّضْحِيَةُ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ فَلَا يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِهِ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْعِتْقِ.
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ حَصَلَ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فَإِنَّ التَّبَرُّعَ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ مُورِثِهِ بِالْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ صَحِيحٌ كَالتَّصَدُّقِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الْعِتْقُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْوَلَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أُمَّ وَلَدٍ ضَحَّى عَنْهَا مَوْلَاهُ، أَوْ صَغِيرًا ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ فَإِنْ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ جَازَ.
وَإِذَا جَعَلَهُ شَرِيكًا فِي الْبَدَنَةِ فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا الْأَبُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ يَسَارِهِ.
فَكَذَلِكَ عَنْ جُزْئِهِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا لَا يَلْزَمُهُ عَنْ مَمْلُوكِهِ لَا يَلْزَمُهُ عَنْ وَلَدِهِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ التَّضْحِيَةُ عَنْ أَوْلَادِهِ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُقِلَ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قِيَاسِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْإِتْلَافَ فَالْأَبُ لَا يَمْلِكُهُ فِي مَالِ الْوَلَدِ كَالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّصَدُّقَ بِاللَّحْمِ بَعْدَ إرَاقَةِ الدَّمِ فَذَاكَ تَطَوُّعٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَالُ الصَّبِيِّ لَا يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً، ثُمَّ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مِثْلَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ)؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يُوجِبَهَا، وَبَعْدَ الْإِيجَابِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُكْرَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهَا، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ تَعَلُّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا، وَلَا يُعْجِزُهُ عَنْ تَسْلِيمِهَا وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ بَيْعَ مَالِ الزَّكَاةِ لِهَذَا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَاشْتَرَى شَاةً، ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَتِك أَمَّا الشَّاةُ فَضَحِّ بِهَا وَأَمَّا الدِّينَارُ فَتَصَدَّقْ بِهِ» فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ شَرًّا مِنْ الْأُولَى، وَقَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُولَى فَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَمَّا جَوَازُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فَلِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَأَمَّا التَّصَدُّقُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْأُولَى فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْتَفْضَلَ شَيْئًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالتَّصَدُّقِ بِالدِّينَارِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ فَقِيرًا أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَقِيَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَلَيْهِ.
فَإِذَا كَانَ مَا يُضَحِّي بِهِ مَحَلًّا صَالِحًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ شَرْعًا، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِالْتِزَامِهِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ بِعَيْنِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ.
فَإِذَا اسْتَفْضَلَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا الْتَزَمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْغَنِيِّ فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَعْيِينِ الْوَاجِبِ فِي مَحَلٍّ فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ حَيْثُ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْ حَيْثُ فَرَاغِ الذِّمَّةِ.
قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّصَدُّقِ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا) وَالْمُرَادُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ بِالْقِيمَةِ فَفِي حَقِّ الْمُوسِرِ الَّذِي يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِقَامَةُ الْمُتَقَوِّمِ مُقَامَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا تَجُوزُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا وَجْهَ لِلتَّعْلِيلِ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَرْنَا بِهَذَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ التَّضْحِيَةُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالتَّصَدُّقِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ إلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَأَمَّا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فَقَدْ سَقَطَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ، وَفِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ.
وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ؛ لِأَنَّ تَقَرُّبَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فَيَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّهَا وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَالِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَرَّبُ بِسَبَبَيْنِ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ، وَلَا عَنْ امْرَأَتِهِ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ)، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمْ.
قَالَ (وَإِذَا وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا)؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ثَبَتَ فِي عَيْنِهَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا وَالْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مَقْصُودًا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَلِأَنَّ الشَّرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ أَصْلٌ وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ يَثْبُتُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالِيَّتَهُ إلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمْسَكَ وَلَدَهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «فِيمَا دُونَ هَذَا لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك».