فصل: بَابُ الْإِيلَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِيلَاءِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْإِيلَاءُ- فِي اللُّغَةِ- هُوَ الْيَمِينُ قَالَ الْقَائِلُ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ،- وَفِي الشَّرِيعَةِ- عِبَارَةٌ عَنْ يَمِينٍ يَمْنَعُ جِمَاعَ الْمَنْكُوحَةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ أَبَدًا فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ فِيمَا يَتَأَبَّدُ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ وَبَعْدَمَا صَارَ مُولِيًا إنْ جَامَعَهَا قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَقَدْ سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِمَنْعِ حَقِّهَا بِالْجِمَاعِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ أَوْفَاهَا حَقَّهَا، وَهُوَ الْفَيْءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لِأَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ إذَا رَجَعَ وَقَدْ رَجَعَ عَمَّا قَصَدَ مِنْ الْإِضْرَارِ حِينَ جَامَعَهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَلَكِنَّا نَقُولُ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةَ.
، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا طَلُقَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا، وَكَانَ مَعْنَى الْإِيلَاءِ إنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ أُجَامِعْك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا: عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ الْمُدَّةِ حَتَّى يَفِيءَ إلَيْهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، وَكَانَ تَفْرِيقُهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً.
وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ عِنْدَهُ الْفَيْءُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِلزَّوْجِ لَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُدَّةُ لَهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، وَالتَّضْيِيقُ بَعْدَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُطَالَبًا بِالْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا تَكُونُ الْمُدَّةُ لَهُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ.
عَرَفْنَا أَنَّ الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعِنْدَنَا الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ).
وَقِرَاءَتُهُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّقْسِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ وَعَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْمُجَامَعَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ بِتَرْكِهَا حَتَّى تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَهَذَا التَّرَبُّصُ مَشْرُوعٌ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَجَعَلَ الشَّرْعُ لِلزَّوْجِ فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى مَكَّنَهُ مِنْ التَّدَارُكِ فِي الْمُدَّةِ وَجَعَلَ الطَّلَاقَ مُؤَخَّرًا إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ.
(وَالْفَصْلُ الثَّانِي) أَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَهُ، لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَوْ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بِمَا هُوَ مَسْمُوعٌ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ تَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا عِنْدَ فَوْتِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي كَفُرْقَةِ الْعِنِّينِ، فَإِنَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ هُنَاكَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ مَعْذُورٌ وَهُنَا هُوَ ظَالِمٌ مُتَعَنِّتٌ، وَالْقَاضِي مَنْصُوبٌ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا، أَوْ يُفَارِقَهَا، فَإِنْ أَبِي نَابَ عَنْهُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلِهِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} فَذَكَرَ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَّةِ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» وَقَدْ أَضَافَ إلَى الزَّوْجِ فَدَلَّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتِمُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ عَلِيمٌ بِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مُدَّةُ تَرَبُّصٍ بَعْدَمَا أَظْهَرَ الزَّوْجُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَرِيدٍ لَهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّهَا كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَلَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُظْهِرُ كَرَاهِيَةَ صُحْبَتِهَا فَيَصِيرُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَهُنَا هُوَ بِيَمِينِهِ يُظْهِرُ كَرَاهِيَتَهَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْوَاقِعَةَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّطْلِيقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْعِدَّةَ هُنَا تَجِبُ هُنَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ، وَهُنَاكَ الطَّلَاقُ كَانَ وَاقِعًا فَجَعَلْنَا الْأَقْرَاءَ مَحْسُوبَةً مِنْ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ مَتَى ذُكِرَ مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ، وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ لَمْ يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ عَنْ الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ هُنَا، وَلَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْجِمَاعِ هُوَ الِاجْتِمَاعُ فَفِيمَا نَوَى بِهِ مِمَّا سِوَى الْجِمَاعِ هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَقَالَ: لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَالزِّيَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَنْوِيُّ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ، وَحَرْفُ الصِّلَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجِمَاعُ يُقَال: دَخَلَ بِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَغِيظَنَّهَا أَوْ لَيَسُؤَنَّهَا، أَوْ لَا يَجْمَعُ رَأْسَهُ وَرَأْسَهَا شَيْءٌ، أَوْ لَا يَمَسُّهَا، وَفِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَوْ لَا يُلَامِسُهَا فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُطْلَقُ فِي الْجِمَاعِ، وَغَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ نَوَى بِهَا الْجِمَاعَ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الْجِمَاعَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ إضْرَارُهُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ جِلْدُهُ جِلْدَهَا وَعَنَى بِهِ حَقِيقَةَ الْمَسِّ، فَالْحِنْثُ هُنَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ إيلَاءً وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ بِأَنْ يَلُفَّ آلَتَهُ فِي حَرِيرَةٍ، ثُمَّ يَدُسَّهُ فِيهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا وَعَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ، وَيُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ أَوْ الضَّرْبُ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ النِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَغْشَاهَا فَهُوَ مَدِينٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْغِشْيَانَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْجِمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ} وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ فِرَاشَهَا فَلَفْظُ الْقُرْبِ إضَافَةٌ إلَى فِرَاشِهَا لَا إلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ عَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ إمَّا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ بِأَنْ تَدْخُلَ هِيَ فِرَاشَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَبَ هُوَ فِرَاشَهَا، وَإِنْ حَلَفَ لَا يُبَاضِعُهَا فَهُوَ مُولٍ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ لِلْجِمَاعِ، فَإِنَّ الْمُبَاضَعَةَ إدْخَالُ الْبُضْعِ فِي الْبُضْعِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْهَا مِنْ جَنَابَةٍ؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً فَأَمَّا الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَكُونُ اغْتِسَالًا مِنْ الْإِنْزَالِ لَا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ لِلْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَكَانَ مُولِيًا بِمَنْعِهِ حَقَّهَا بِيَمِينِهِ.
فَإِنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَا فِيمَا دُونَهُ.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ مُولٍ، إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالتَّطْلِيقَةِ.
وَهَكَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمَّا بَلَغَهُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: (لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ.
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالْإِيلَاءُ: هُوَ الْيَمِينُ.
فَتَقْيِيدُ الْيَمِينِ بِمُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَكُونُ زِيَادَةً.
وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُولِي مَنْ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَإِذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى شَهْرٍ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا كَمَا فِي تَرْكِ مُجَامَعَتِهَا مُدَّةً بِغَيْرِ يَمِينٍ.
(قَالَ): وَكُلُّ مَا حَلَفَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا مِمَّا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فَهُوَ مُولٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ تَضْيِيقَ الْأَمْرِ عِنْدَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَنْتَهِي الْيَمِينُ بِمُضِيِّهَا فَلَا يُمْكِنُ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ، وَعِنْدَنَا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَتِمُّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ بِهِ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّهِ ثُمَّ الْيَمِينُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا- مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ:
وَالثَّانِي- الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَالْأَوَّلُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَإِذَا قَالَ: أَحْلِفُ، أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ كَذَلِكَ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ أَحْلِفُ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَلَكِنَّهُ وَعْدٌ أَنْ يَحْلِفَ بِهَذَا اللَّفْظِ.
(وَلَكِنَّا) نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ، سَوَاءٌ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِاَللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الظَّاهِرِ يَكُونُ بِاَللَّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ أَشْهَدُ لَا يَكُونُ يَمِينًا، بَلْ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ لِلشَّهَادَةِ، فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ يَمِينًا.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يَمِينٌ سَوَاءٌ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِاَللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فَقَدْ سَمَّى شَهَادَتَهُمْ يَمِينًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}.
وَاللِّعَانُ يَمِينٌ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلِهَذَا عَظُمَ الْوِزْرُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ أُقْسِمُ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَقَوْلِهِ أَحْلِفُ.
وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذْ أَقْسَمُوا لِيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ فَإِنَّ الْعَزْمَ آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَهْدِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْيَمِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَيَّ فَالْعَهْدُ يَمِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» وَأَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ مَجُوسِيٌّ، أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ قَرُبْتُك فَهُوَ مُولٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ مَا الْتَزَمَ عِنْدَ الْقُرْبَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ كَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ مُسْتَحِلٌّ الْمَيْتَةَ إنْ قَرُبْتُك وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ عِنْدَنَا يَمِينٌ فَتَحْلِيلُ الْحَرَامِ، كَذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ بَاتَّةٌ مُصْمِتَةٌ، فَاسْتِحْلَالُهَا يَمِينٌ لِمَا عَلَّقَهُ بِالْقُرْبَانِ بِخِلَافِ اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ بِبَاتَّةٍ وَلَكِنَّهَا تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ.
- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَعَظَمَةِ اللَّهِ أَوْ وَعِزَّةِ اللَّهِ أَوْ وَقُدْرَةِ اللَّهِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ وَاَللَّهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: وَاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَاَللَّهِ الْعَزِيزِ، وَاَللَّهِ الْقَادِرِ وَسَنُقَرِّرُ حُكْمَ الْيَمِينِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَلْزَمُهُ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينٌ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ) فَقَدْ سَمَّاهُ حَالِفًا، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِحَجٍّ أَوْ هَدْيٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَوْمٍ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إنْ قَرُبَهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا مَنْعُ الْقُرْبَانِ حِينَ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِهِ عَادَةً وَتَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فِي أَدَائِهِ.
وَإِذَا قَالَ وَالْقُرْآنِ لَا أَقْرَبُك لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ الْعُرْفُ، فَكُلُّ لَفْظٍ لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ فَلِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الْحَلِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَمِينًا؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَتُهُ وَلَكِنَّ الْحَلِفَ بِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَعِلْمِ اللَّهِ.
عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْأَيْمَانِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْقُرْآنِ إنْ قَرُبْتُك فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ قَرُبْتُك، وَإِنْ قَالَ: وَالْكَعْبَةِ أَوْ الصَّلَاةِ، أَوْ الزَّكَاةِ لَا أَقْرَبُك أَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: وَأَبِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ فَلْيَذَرْ» فَدَلَّ أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا شَرْعًا، وَإِنْ قَالَ بِاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ، وَحُرُوفُ الْيَمِينِ ثَلَاثَةٌ: الْبَاءُ، وَالْوَاوُ، وَالتَّاءُ.
فَأَعَمَّهَا الْبَاءُ، حَتَّى تَدْخُلَ فِي اسْمِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْمُضْمَرِ، وَالْمُظْهَرِ.
وَالْوَاوُ أَخَصُّ مِنْهَا فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ، وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّاءُ أَخَصُّ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُظْهَرًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَأَيْمُ اللَّهِ، أَوْ لَعَمْرِو اللَّهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلُهُ وَأَيْمُ اللَّهِ أَيْ وَأَيْمُنُ اللَّهِ فَيَكُونُ جَمْعُ الْيَمِينِ، وَلِعَمْرِو اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ الْبَاقِي، وَفِي قَوْلِهِ لَعَمْرُكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَمِينٌ، وَإِنْ قَالَ آللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ أَيْضًا وَالْكَسْرَةُ فِي الْهَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْقَسَمُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيلَاءَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَ قَوْلًا لَا يَقْرَبُهَا وَلَمْ يَحْلِفْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَبِدُونِ يَمِينِهِ كَانَ كَلَامُهُ وَعْدًا، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ فِي مِصْرِ كَذَا أَوْ قَالَ فِي أَرْضِ الْعِرَاقِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِيَمِينِهِ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْيَمِينُ إذَا وُقِّتَتْ بِمَكَانٍ تَوَقَّتَتْ بِهِ، فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَنْعُ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ.
(قَالَ): وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يَمْتَدُّ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا حَقَّهَا بِهَذِهِ الْيَمِينِ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ مُدَّةُ الْحَيْضِ فَيَبْقَى يَمِينُهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَشْهُرٍ قُلْنَا: هَذَا أَنْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ ثَابِتَةً بِالْمَعْنَى، وَثُبُوتُهَا بِالنَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِالرَّأْيِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَقْدُمَ فُلَانٌ، أَوْ حَتَّى يَفْعَلَ هُوَ شَيْئًا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ: لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُجَامِعَهَا بَعْدَ وُجُودِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَلَا يَصِيرُ مُولِيًا بِتَرْكِ الْمُجَامَعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمُجَامَعَةَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَفْعَلَ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُولٍ مَعْنَاهُ حَتَّى يَمَسَّ السَّمَاءَ أَوْ يُحَوِّلَ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَقْدُورِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ جَعْلِهِ غَايَةَ تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَهُوَ مُولٍ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَهُ غَايَةً يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ مَقْصُودُ الزَّوْجِ بِهَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ لَا التَّوْقِيتُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الْإِيلَاءِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ آخِرِ السَّنَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَالْآجَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ سَنَةً بِنُقْصَانِ يَوْمٍ كَانَ مُولِيًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إلَّا يَوْمًا.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: اسْتَثْنَى يَوْمًا مُنَكَّرًا فَمَا مِنْ يَوْمٍ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَّا وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى فَيَقْرَبُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَالَ إنَّ الْيَوْمَ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُنَكَّرٌ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ مُنَكَّرًا، وَتَغْيِيرُ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْآجَالِ وَالْإِجَارَةِ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْيَوْمَ مُنَكَّرًا فِيهِمَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ تَأَخُّرُ الْمُطَالَبَةِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُنَا لَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى مُنَكَّرًا كَمَا نَكَّرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِنُقْصَانِ يَوْمِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ آخِرِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى آخِرَ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُولٍ عِنْدَنَا قُلْنَا إذَا قَرُبَهَا فِي يَوْمٍ فَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ الْيَوْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَمْضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ مُولٍ وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ ارْتَفَعَ وَصَارَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً إلَّا مَرَّةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قُرْبَانِهَا بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ شَيْءٌ فَإِذَا قَرُبَهَا مَرَّةً ارْتَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَصَارَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجِمَاعِ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ، فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَإِنْ وَصَلَ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مَشِيئَتَهَا وَمَشِيئَةَ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الظِّهَارِ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ مُولٍ وَعَنَى الْإِيجَابَ فَهُوَ مُولٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ لَفْظَهُ إلَى مَحَلِّهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ وَإِنْ قَالَ عَنَيْت الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ إيجَابٌ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْإِخْبَارِ فِي الْإِيلَاءِ وَاحِدٌ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا.
(قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَا يَقْرَبُهُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ، إنْ تَرَكَهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِنَّ بِالْإِيلَاءِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ فَحِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَ الرَّابِعَةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُتِمُّ شَرْطَ الْحِنْثِ بِقُرْبَانِهَا فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا وَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ قَرُبْتُ ثَلَاثًا مِنْكُنَّ، فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ.
(وَجْهُ قَوْلِنَا) أَنَّهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَمَا لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِقُرْبَانِ بَعْضِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ فَلَا تَجِبُ مَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَلَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِقُرْبَانِ الْآخِرَةِ فَقَطْ بَلْ بِقُرْبَانِهِنَّ جَمِيعًا فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ الْبِرِّ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَهُنَا بِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُ ثَلَاثًا مِنْكُنَّ فَوَاَللَّهِ، لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْحَالِ بَلْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِنْ جَامَعَ بَعْضَهُنَّ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ سَقَطَ عَمَّنْ جَامَعَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ فَإِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ الَّتِي لَمْ يُجَامِعْهَا؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ فِي حَقِّهَا لَمْ يُوجِبْ فَبَقِيَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ، وَلَكِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ مُنْتَظِرٌ، إنْ جَامَعَهُنَّ حَنِثَ إذْ لَيْسَ فِي يَمِينِهِ تَقْيِيدُ الْجِمَاعِ بِمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ وَلَكِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ بَطَلَ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ قَدْ فَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِجِمَاعِ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا وَلَا بِجِمَاعِ الْمَيِّتَةِ، وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ شَرْطِ الْحِنْثِ فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ.
(قَالَ): وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ فَإِنْ مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ بِنَّ جَمِيعًا.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَكُونُ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرُبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَنْبَنِي عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْقُرْبَانِ فَعِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُنَّ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاحِدَةَ مُنَكِّرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ مَنْفِيٌّ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ بِخِلَافِ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ رَأَيْت الْيَوْمَ رَجُلًا يَقْتَضِي رُؤْيَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ قَالَ مَا رَأَيْت الْيَوْمَ رَجُلًا يَقْتَضِي نَفْيَ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الرِّجَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِي مَحَلِّ الْفَيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّعْمِيمِ فَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى نَفْيِ الْقُرْبَانِ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَتَنَاوَلُهُنَّ كَلَامُهُ جَمِيعًا وَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى وُجُودِ الْقُرْبَانِ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ يَتَنَاوَلُ كَلَامُهُ إحْدَاهُنَّ فَلِهَذَا إذَا قَرُبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ فَإِنَّ مَعْنَى التَّعْمِيمِ هُنَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ بِكَلَامِهِ حَرْفَ كُلٍّ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ إحْدَاكُنَّ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ جَمِيعًا، وَهُنَا لَوْ قَرَنَ بِكَلَامِهِ حَرْفَ كُلٍّ فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ تَنَاوَلَهُنَّ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ التَّنْكِيرِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا خَاصَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
(قَالَ): وَإِذَا آلَى مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ يُسَمِّيهَا، وَلَمْ يَنْوِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ عَلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ فَتَبِينُ بِهِ وَحْدَهَا وَلَوْ أَرَادَ التَّعْيِينَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَمْلِكْ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْيِينِ يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ وَاحِدَةٍ أَيَّتُهُنَّ قَرُبَ، وَبَعْدَ التَّعْيِينِ لَا يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْبَوَاقِي وَكَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حُكْمِ الْيَمِينِ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ، فَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مَلَكَ تَعْيِينَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ الْيَمِينِ، وَلَكِنَّهُ تَعْيِينُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ وَذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ ثُمَّ إذَا عَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُنَّ لَا يَتَعَيَّنُ يَمِينُهُ فِيهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ.
(قَالَ): وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَهُ إنْ فَاءَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ يَكُونُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفَيْءِ حُكْمَانِ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، وَامْتِنَاعُ حُكْمِ الْفُرْقَةِ ثُمَّ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ، فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ فَكَانَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ أَصْلًا وَبِاللِّسَانِ بَدَلًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ فَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَفَيْؤُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَامِعَهَا وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْجِمَاعِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْإِضْرَارَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِإِيحَاشِهَا بِلِسَانِهِ فَفَيْؤُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُرْضِيَهَا بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ تَارَةً يَكُونُ بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَتَارَةً بِالْمَرَضِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ فَيَكُونُ فَيْؤُهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ؛
لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إنْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ مَرِيضٌ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْجِمَاعِ لِمَرَضِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِالْإِيلَاءِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا حِينَ آلَى وَبَقِيَ صَحِيحًا بَعْدَ إيلَائِهِ مِقْدَارَ مَا يَسْتَطِيعُ فِيهِ أَنْ يُجَامِعَهَا ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، وَقَالَ زُفَرُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ آخِرُ الْمُدَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى عَدِمَ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ جِمَاعِهَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الْإِضْرَارُ، وَالتَّعَنُّتُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعُهُ إلَّا بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى ثُمَّ صَحَّ قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ فَاءَ إلَيْهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ لَمْ يَفِئْ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَإِنَّ تَمَامَ الْمَقْصُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ حُكْمِ الْبَدَلِ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً أَوْ صَغِيرَةً لَا تُجَامَعُ فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى ثُمَّ مَرِضَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ صَحَّ الزَّوْجُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ مَرَضِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجِمَاعِ كَتَأْثِيرِ مَرَضِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ فَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ قَدْ زَالَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ بِالْحَجِّ أَوْ أَحَدُهُمَا فَآلَى وَقْتَ أَدَاءِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا حِسًّا بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَلَى بِامْرَأَتِهِ وَأَحَدُهُمَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ لَمْ تَصِحَّ الْخَلْوَةُ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ وَمَتَى وَطِئَهَا بَعْدَ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ مَتَى جَامَعَهَا.
(قَالَ): وَإِيلَاءُ النَّائِمِ وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي يَهْذِي بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَنْعَقِدُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اللُّزُومِ (قَالَ): وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا أَبَدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَإِنْ قَرُبَهَا كَفَّرَ يَمِينَهُ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ لِنَفَاذِ مِلْكِ الطَّلَاقِ فَقَدْ بَقِيَتْ الْيَمِينُ فَإِذَا قَرُبَهَا تَمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْيَمِينِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ قَرُبَهَا كَفَّرَ يَمِينَهُ وَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَإِنْ تَمَّتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالْإِيلَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُولِي فِي الْمَعْنَى كَالْمُعَلِّقِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إلَّا فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا تَمَّتْ الْعِدَّةُ وَهِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ لَمْ تَطْلُقْ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا وَتَسْتَأْنِفُ شُهُورَ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا، وَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَا تَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَحَلِّ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَا بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَبْقَى حُكْمُ الْمُدَّةِ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ أَكَانَ يَبْقَى حُكْمُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ.
(قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ آلَى مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ مَا بَانَتْ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِيلَاءِ إزَالَةُ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ فِي الْأَصْلِ إيلَاءً لَا يَصِيرُ إيلَاءً وَإِنْ تَزَوَّجَهَا كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كَلَامِهِ هُنَاكَ كَانَ إيلَاءً صَحِيحًا فَلَا يَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَإِنْ بَطَلَتْ الْمُدَّةُ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ فَصْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ فَبَانَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ هَلْ تَنْعَقِدُ مُدَّةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَمْ لَا وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ تَنْعَقِدُ حَتَّى إذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهِنَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ مَا بَيَّنَّا.
وَفِقْهُهُ أَنَّ انْعِقَادَ الْمُدَّةِ مِنْ حُكْمِ بَقَاءِ الْيَمِينِ هُنَا، وَابْتِدَاءُ الْيَمِينِ لَا يَنْعَقِدُ إيلَاءً بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَلَكِنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَجْنُونٌ ثُمَّ زَوَّجَهَا وَلِيُّهُ مِنْهُ انْعَقَدَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْيَمِينِ مِنْ الْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا تَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِ الْمُدَّةِ ابْتِدَاءً لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّرُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فَلِهَذَا لَمْ تَنْعَقِدْ الْمُدَّةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا.
(قَالَ): وَلَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ.
وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ مَنْعُ الْقُرْبَانِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْمُولِي، وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِيلَاءَ بِالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ إلَّا فِي أَرْضِ كَذَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَكَانٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ فَلِهَذَا كَانَ مُولِيًا (قَالَ): وَلَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهُوَ فِي سِجْنٍ أَوْ حَبْسٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَيْءٌ إلَّا الْجِمَاعُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهَا فَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ إلَيْهِ لِيُجَامِعَهَا فَإِنَّ السِّجْنَ مَوْضِعٌ لِلْمُجَامَعَةِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَا عِبْرَةَ لِلْبَدَلِ (قَالَ): وَإِنْ أَصَابَ الْمُولِي مِنْ امْرَأَتِهِ مَا دُونَ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا دُونَهُ وَالْفَيْءُ مَا فِيهِ إيفَاءُ حَقِّهَا وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فَإِنْ ادَّعَى فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ مَتَى أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَقَالَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَالْحَقُّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ كَذِبَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِذَا عَلِمَتْ هِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِأَنْ تَهْرَبَ أَوْ تَفْتَدِيَ بِمَالِهَا إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا جَدِيدًا.
(قَالَ): وَلَوْ آلَى مِنْهَا بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهَا لَهُ حَلَالٌ، فَإِنْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا يَسْتَقْبِلُ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
.
(قَالَ): وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ تَكْرَارَ يَمِينٍ وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا قَرُبَهَا، وَلَا يَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِوَاحِدٍ قَدْ يُكَرَّرُ وَلَا يُرَادُ حُكْمُهُ بِالتَّكْرَارِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ التَّغْلِيظَ وَالتَّجْدِيدَ فَإِنْ قَرُبَهَا فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّغْلِيظِ تَجَدُّدُ عَقْدِ الْيَمِينِ فَكَانَ حَالِفًا بِثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ وَبِالْقُرْبَانِ مَرَّةً يَتِمُّ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- حَتَّى إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْ الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَفِي الْإِيلَاءِ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلُ الْمُدَّةِ فَقَدْ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَمِينٍ مُدَّةً فَيَقَعُ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ مُدَّةٍ تَطْلِيقَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْيَمِينِ إلَى حَالِ افْتِرَاقِهِمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ بَقِيَا فِي الْمَجْلِسِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَتَمَّتْ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ حَلَفَ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَجْلِسَ وَالْمَجَالِسَ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَمَا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَيَجْعَلُهَا كَالْمَوْجُودِ جُمْلَةً بِدَلِيلِ الْقَبُولِ مَعَ الْإِيجَابِ إذَا وُجِدَا فِي الْمَجْلِسِ يَجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جَعَلَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً حَتَّى يَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا: حَالَةُ الْمَجْلِسِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا مُدَّةً وَاحِدَةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْأَيْمَانُ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ ثَانِيًا، وَثَالِثًا ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ تَنْعَقِدُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ، وَمُدَّةً وَاحِدَةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْآخَرِ وَعَلَى عَكْسِ هَذَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْتُ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَدَخَلَ الدَّارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَنْعَقِدُ ثَلَاثَ إيلَاءَاتٍ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَرُبَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَا يَجْمَعُ الْأَحْوَالَ فَاعْتَبَرْنَا كُلَّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَانْعَقَدَتْ مُدَّةٌ جَدِيدَةٌ لِتَجْدِيدِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ حَالَةٍ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ قَرُبْتُك فَعَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَلَيَّ يَمِينٌ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنَّ مُوجِبَ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ (قَالَ): وَإِيلَاءُ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَاَلَّذِينَ يَتَنَاوَلُ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، وَإِيلَاءُ الْأَمَةِ شَهْرَانِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُدَّةَ فُسْحَةٌ لِلزَّوْجِ لَا عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِقِّهَا وَلَا بِحُرِّيَّتِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ التَّرَبُّصِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ مَعْنَى الْفُسْحَةِ لِلزَّوْجِ خُصُوصًا مِنْ عِدَّةٍ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ ثُمَّ تُنَصَّفُ بِرِقِّهَا (قَالَ): وَالْمَرِيضُ الَّذِي يَهْذِي فِي الْإِيلَاءِ كَالنَّائِمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
(قَالَ): وَإِيلَاءُ الْأَخْرَسِ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكُنْيَةَ وَالْإِشَارَةَ مِنْهُ إذَا كَانَتْ تُعْرَفُ بِمَنْزِلَةِ عِبَارَةِ النَّاطِقِ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِظِهَارٍ يَلْزَمُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَهُوَ يَنْوِي الطَّلَاقَ بِذَلِكَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِطَلَاقٍ يَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ يَنْوِي الْيَمِينَ فَهُوَ مُولٍ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- مَا لَمْ يُقِرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عِنْدَ إرَادَةِ الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى لَوْ أَرْسَلَهُ كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الْحَالِ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالْقُرْبَانِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا إلَّا بَعْدَ الْقُرْبَانِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: صَارَ مَمْنُوعًا عَنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ حِينَ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُوجِبُهُ التَّحْرِيمِ إلَى وَقْتِ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ يَعْنِي التَّحْرِيمَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةِ الْعَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَامْرَأَةِ فُلَانٍ وَقَدْ كَانَ فُلَانٌ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ يَنْوِي الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةِ فُلَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي وَصْفٍ خَاصٍّ فَإِذَا نَوَى التَّحْرِيمَ أَوْ الْإِيلَاءَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيَكُونُ مُولِيًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
(قَالَ): وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى: قَدْ أَشْرَكْتُك فِي إيلَاءِ هَذِهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يُغَيِّرُ حُكْمَ يَمِينِهِ فَإِنَّ قَبْلَ الْإِشْرَاكِ كَانَ يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْأُولَى، وَبَعْدَ الْإِشْرَاكِ لَا يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْأُولَى مَا لَمْ يَقْرَبْهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْيَمِينِ مَعَ بَقَائِهِ، وَلَوْ صَحَّ مِنْهُ هَذَا الْإِشْرَاكَ لَكَانَ يُشْرِكُ أَجْنَبِيَّةً مَعَ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَبِهَذَا فَارَقَ الظِّهَارَ؛ لِأَنَّ إشْرَاكَ الثَّانِيَةِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الظِّهَارِ فِي الْأُولَى، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي الْإِيلَاءِ لِلْمَرْأَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ هَذِهِ يَنْوِي الْإِيلَاءَ فِيهَا فَبِهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْأُولَى، وَيَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ.
(قَالَ): وَإِذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ شَهْرَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ آلَى؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ نَظِيرُ مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقِ رَجْعِيٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يَرْتَفِعُ مَعَ بَقَائِهَا، وَالْمُعْتَقَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ تَمَّ عَلَيْهَا لَمَّا تَمَّ حِلُّهَا بِالْعِتْقِ، وَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ التَّامُّ إلَّا بِمُدَّةٍ تَامَّةٍ.
(قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الشَّهْرَيْنِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ فِيهِمَا كَانَتْ عِدَّتُهَا لِلطَّلَاقِ عِدَّةَ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُعْتِقَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَمُدَّةُ إيلَائِهَا مُدَّةُ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً حِينَ آلَى مِنْهَا سَوَاءٌ، وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُهُمْ الْجَوَابَ فَقَالُوا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا بِهَذَا الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ إيلَائِهَا شَهْرَيْنِ كَمَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي شَيْءٍ فَالْبَائِنُ وَالرَّجْعِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ رَجْعِيًّا صَارَتْ مُدَّةُ إيلَائِهَا بِالْعِتْقِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَائِنَةً بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَعْقُبُ الطَّلَاقَ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا صِفَةُ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ فِي زِيَادَةِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِالْعِتْقِ إضْرَارًا بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَزْوَاجِ فِي الْعِدَّةِ وَلَيْسَ فِي زِيَادَةِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ بِالْعِتْقِ إضْرَارٌ بِهَا فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ الْعِتْقِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ.
(قَالَ): وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ وَامْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مَعَهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمُولٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ قُرْبَانُ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ مِنْ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ اعْتَبَرَ حَالَ امْرَأَتِهِ وَحْدَهَا وَهُوَ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ لَا أَقْرَبُكُمَا لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ هُنَاكَ فَيُجْعَلَانِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهُمَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَكَانَ مُولِيًا مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ، فَإِنْ جَامَعَ الْأَجْنَبِيَّةَ صَارَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي جَامَعَ فِيهَا تِلْكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ فِي حَقِّهَا الْآنَ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا أَتَيْتُ مَكَانَ كَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا جَامَعْت هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ فَإِذَا جَامَعَهَا كَانَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ.
(قَالَ): وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا إنْ مَضَى شَهْرَانِ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْطُلُ بِلَحَاقِهَا فَإِنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ.
وَأَصْلُ كَلَامِهِ كَانَ إيلَاءً صَحِيحًا، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا مَعَ بَقَاءِ تِلْكَ الْيَمِينِ كَانَ مُولِيًا مِنْهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ أَمَةٌ، وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ.
(قَالَ): وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهَا عَلَيْهَا، وَمُوجِبُ الْمُدَّةِ الْمُنْعَقِدَةُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّهَا فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ سَقَطَ حُكْمُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، كَمَا لَوْ أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَإِنْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَالٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا، وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ إذَا اشْتَرَتْ زَوْجَهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ تَنْقَطِعُ بِالْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ لَهُ عَلَيْهَا، وَمِلْكُ الْيَمِينِ كَمَا يُنَافِي أَصْلَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا.
(قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ، وَمُرَادُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ يَلْتَزِمَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَالَ فَيَكُونُ الْتِزَامُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ لَغْوًا.
(قَالَ): وَإِنْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ، فَإِذَا عَلَّقَهَا بِالْقُرْبَانِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ الْتِزَامَ الصَّدَقَةِ فِي ذِمَّتِهِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ الذِّمِّيُّ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُولِيًا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الْإِيلَاءَ مِنْهُ بِالْحَجِّ صَحِيحٌ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حُكْمِ الْتِزَامِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَأَمَّا إيلَاؤُهُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَنْعَقِدُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَلَوْ قَرُبَهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِيلَاءِ، وَهُوَ قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَمَعَ الشِّرْكِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ هَذَا التَّعْظِيمُ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ هَذَا الِالْتِزَامُ الْتِزَامُ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ حَتَّى تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ أَيْمَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ صَارَ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْحِنْثِ، وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ يَنْفَصِلُ عَنْ حُكْمِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: لَا أَقْرَبُكُنَّ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَإِنْ كَانَ لَوْ قَرُبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّ لِهَذِهِ الْيَمِينِ حُكْمَيْنِ.
أَحَدُهُمَا الطَّلَاقُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَالْآخَرُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ مَقْصُودٌ بِهَذَا الْيَمِينِ فَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الثَّانِي مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ مُولٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، بِأَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا، وَلَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَشْتَرِيهِ مِنْهُ فَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَإِنْ اشْتَرَاهُ لَزِمَهُ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْأُولَى قَدْ بَطَلَتْ فَيَسْتَأْنِفُ الْمُدَّةَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَهَا بَعْدَمَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ سَقَطَتْ بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ بَعْدَ بَيْعِ الْعَبْدِ فَهُوَ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى إيلَاءِ هَذِهِ بِطَلَاقِ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَتْ تِلْكَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ هَذِهِ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى تَطْلِيقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ هَذِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا ثَلَاثًا سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ إيلَاءَهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا،
وَلَكِنَّهُ جَامَعَهَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى لِوُجُودِ شَرْطِ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا وَارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَكِنَّهُ طَلَّقَ الْأُخْرَى، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا وَبَيْعُهُ الْعَبْدَ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَمُوتَ هُوَ أَوْ تَمُوتَ هِيَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ وَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدُهُمَا لَا يَبْقَى النِّكَاحُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا أَقْرَبُكِ مَا دُمْتِ فِي نِكَاحِي وَيَتِمُّ بِهَذَا مَنْعُ حَقِّهَا فِي الْقُرْبَانِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى يَمُوتَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ مَوْتَ فُلَانٍ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَوْهُومٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَإِنْ قَالَ حَتَّى الْقِيَامَةِ، فَهُوَ مُولٍ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَهَذَا وَقَوْلُهُ أَبَدًا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ وُجُودِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً، بِخِلَافِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ.
(قَالَ): وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَفْطِمَ صَبِيًّا لَهَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بَعْدَ الْفِطَامِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَلَمَّا كَانَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِيَمِينِهِ يُوجَدُ قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي أَقَلَّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ وَهُوَ يَنْوِي ذَلِكَ الْفِطَامَ لَا يَنْوِي دُونَهُ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْمَنْعِ مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِفَوَاتِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْغَايَةِ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ لِفَوَاتِ الْغَايَةِ، وَلَوْ بَقِيَ فُلَانٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَكُنْ قَرُبَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إذَا أَذِنَ لَهُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا سِوَى هَذَا فَلَيْسَ مُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ شَيْءٌ، وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِيَمِينٍ بِالْعِتْقِ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَهَذَا الْمُدَبَّرُ حُرٌّ، إنْ دَخَلَ الدَّارَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ كَمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيَصِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَانِعًا حَقَّهَا: يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ، كَالْمِيرَاثِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ، وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَعَلَيَّ حَجَّةٌ بَعْدَمَا أَقْرَبُك بِسَنَةٍ أَوْ قَبْلَ أَنْ أَقْرَبَك بِيَوْمٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِحَجَّةٍ تَلْزَمُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: إنْ قَرُبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ يَسْقُطُ الْيَمِينُ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الصَّوْمِ مُضَافًا إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ، وَذَلِكَ لَغْوٌ وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَعَلَيَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ، أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ هَدْيٌ، فَهُوَ مُولٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالَ: فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ فَيَكُونُ مُولِيًا كَمَا فِي الْحَجِّ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَمَالِي: وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِمَالٍ وَيَتَوَصَّلُ إلَى الصَّلَاةِ بِدُونِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَهُمَا، وَهُوَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَا الْتَزَمَ إلَّا بِالْمَالِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَحَقَّقُ مَنْعُ الْقُرْبَانِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ فِي أَدَائِهَا مَشَقَّةٌ، وَلَا خُسْرَانٌ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقُرَبِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنْ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ فَهُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةَ، وَالصَّوْمَ وَكَذَلِكَ الْهَدْيَ وَالْحَجَّ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِمَالٍ.
وَالتَّكْفِيرُ بِالْمَالِ مُوجِبٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْحِنْثِ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ الْيَمِينَ بِالْقُرْبَانِ.
فَأَمَّا الصَّلَاةُ لَيْسَتْ بِمُوجِبٍ الْيَمِينَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَاءِ الْمَنْذُورِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، وَقَدْ ظَاهَرَ أَوْ لَمْ يُظَاهِرْ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَتَنَجَّزُ فِي الْعَبْدِ، وَتَنَجُّزُ الْعِتْقِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلظِّهَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ فُلَانًا عَنْ ظِهَارِي وَهُوَ مُظَاهِرٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ وُجُوبَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عَنْ الظِّهَارِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقُرْبَانِ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا بِالْقُرْبَانِ شَيْئًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.