فصل: كِتَابُ السِّيَرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ السِّيَرِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ السِّيَرَ جَمْعُ سِيرَةٍ وَبِهِ سُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ سِيرَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَعَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَعَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَخْبَثُ الْكُفَّارِ بِالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ الَّذِينَ حَالُهُمْ دُونَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَفِي التَّأْوِيلِ مُبْطِلِينَ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ دُعَاؤُهُمْ إلَى الدِّينِ وَقِتَالُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ مِنْ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ صِفَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهَا كَانُوا خَيْرَ الْأُمَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الْآيَةُ وَرَأْسُ الْمَعْرُوفِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ دَاعِيًا إلَيْهِ وَأَصْلُ الْمُنْكَرِ الشِّرْكُ فَهُوَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ لِمَا فِيهِ إنْكَارِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورًا فِي الِابْتِدَاءِ بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِالْوَعْظِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ فَقَالَ تَعَالَى {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ثُمَّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أَيْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلَمِ فَاجْنَحْ لَهَا} ثُمَّ أَمَرَ بِالْبِدَايَةِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فَرْضٌ قَائِمٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدْيِ السَّاعَةِ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَالذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَتَفْسِيرُهُ مَنْقُولٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ سُيُوفٍ سَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ بِنَفْسِهِ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ أَهْلَ الرِّدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَجُوسَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} الْآيَةَ وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ قَالَ «أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} ثُمَّ فَرِيضَةُ الْجِهَادِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَيْنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وَقَالَ تَعَالَى {مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وَنَوْعٌ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازُ الدِّين لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ فَرْضًا فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِذَا اشْتَغَلَ الْكُلُّ بِالْجِهَادِ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً يَخْرُجُ وَتَارَةً يَبْعَثُ غَيْرَهُ حَتَّى قَالَ وَدِدْتُ أَنْ لَا تَخْرُجَ سَرِيَّةٌ أَوْ جَيْشٌ إلَّا وَأَنَا مَعَهُمْ وَلَكِنْ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِالتَّخَلُّفِ عَنِّي وَلَوَدِدْتُ أَنْ أُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى أُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَصِفَةَ الشَّهَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ بِأَعْلَى النِّهَايَةِ حَتَّى تَمَنَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ دَرَجَةِ الرِّسَالَةِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَالصَّائِمِ الْقَائِمِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ الشَّاهِدِ» وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَالْآثَارُ فِي فَضِيلَةِ الْجِهَادِ كَثِيرَةٌ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَامَ الدِّينِ وَعَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثَ الْجُيُوشَ وَالسَّرَايَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَثِقُ بِجَمِيلِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فَإِذَا بَعَثَ جَيْشًا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ بِهِ يَجْتَمِعُ كَلَامُهُمْ وَتَتَآلَفُ قُلُوبُهُمْ وَبِذَلِكَ يُنْصَرُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} وَإِنَّمَا يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَكُونُ صَالِحًا لِذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَرِعًا مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ سَخِيًّا شُجَاعًا وَيُحْكَى عَنْ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: اجْتَمَعَ عُظَمَاءُ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ قَائِدَ الْجَيْشِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ الْبَهَائِمِ شَجَاعَةٌ كَشَجَاعَةِ الدِّيكِ وَتَحَنُّنٌ كَتَحَنُّنِ الدَّجَاجَةِ وَقَلْبٌ كَقَلْبِ الْأَسَدِ وَرَوَغَانٌ كَرَوَغَانِ الثَّعْلَبِ أَيْ صَاحِبُ مَكْرٍ وَحِيلَةٍ وَغَارَةٌ كَغَارَةِ الذِّئْبِ وَحَذَرٌ كَحَذَرِ الْغُرَابِ وَحِرْصٌ كَحِرْصِ الْكُرْكِيِّ وَصَبْرٌ عَلَى الْجِرَاحِ كَالْكَلْبِ وَحَمْلَةٌ كَالْجَبْهَةِ وَسِمَنٌ كَمَا يَكُونُ لِدَابَّةٍ بِخُرَاسَانَ لَا تَهْزِلُ بِحَالٍ وَإِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِهِمْ كَمَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ.
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً أَوْصَى صَاحِبَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ» فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ فَالسَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ وَالْجَيْشُ هُوَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَجِيشُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَر أَلْفًا عَنْ قِلَّةٍ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً» وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ صَاحِبَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ بِالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ تَحْتَ أَمْرِهِ وَوِلَايَتِهِ فَيُوصِيهِ بِهِمْ وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْوَصِيَّةِ بَيَانٌ أَنَّ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْإِمَارَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَإِنَّمَا يُوصِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِالتَّقْوَى يَنَالُ النُّصْرَةَ وَالْمَدَدَ مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} وَبِالتَّقْوَى يَجْتَمِعُ لِلْمَرْءِ مَصَالِحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرِعُ» وَقَالَ: «التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ سِرًّا حَتَّى لَا يَقِفَ عَلَى جَمِيعِ مَا يُوصِيهِ بِهِ غَيْرُهُ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُوصِيهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَنَفْسُهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَكَأَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ بِحِفْظِ نَفْسِهِ مِنْ الْمَهَالِكِ وَحِفْظِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَرْضَى لَهُمْ إلَّا بِمَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَلَا يَخُصُّ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّأَلُّفُ وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ ثُمَّ قَالَ: «اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ» أَيْ: اُخْرُجُوا وَاقْصِدُوا، وَالْغَزْوُ: الْقَصْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ كَانُوا غُزًّى} وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَقْطَعُ» قَالَ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ لِيَكُنْ خُرُوجُكُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِطَلَبِ الْمَالِ فَالْمُجَاهِدُ يَبْذُلُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فَإِنَّمَا يَرْبَحُ عَلَى عَمَلِهِ إذَا قَصَدَ بِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ تَحْصِيلَ الْمَالِ فَهُوَ كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: «قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ» فِيهِ دَلِيلُ فَرْضِيَّةِ الْقِتَالِ وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ وَدَفْعِ شَرِّ الْكُفَّارِ وَهَذَا عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ فَالْمُرَادُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُقَاتِلِينَ أَلَا تَرَى «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ثُمَّ قَالَ «وَلَا تَغُلُّوا» وَالْغُلُولُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَيُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِهِ وَكُلُّ مَا انْتَهَى إلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ يَرْجِعُ فِي قَعْرِهَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْغُلُولُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ» وَالْأَسْوَدُ الَّذِي كَانَ يُرْحِلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرِبٌ فَمَاتَ قَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلًّا فَإِنَّ الْعَبَاءَةَ الَّتِي غَلَّهَا مِنْ الْمَغْنَمِ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَالْغُلُولُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: «وَلَا تَغْدِرُوا» وَالْغَدْرُ الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ يُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ فِي الْعُهُودِ «وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ» قَالَ: «وَلَا تُمَثِّلُوا» وَالْمُثْلَةُ حَرَامٌ كَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا بَعْدَ مَا مَثَّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ إلَّا وَيَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَخُطْبَةٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْحُرْمَةِ فِيهِ قَالَ: «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» وَالْوَلِيدُ الْمَوْلُودُ فِي اللُّغَةِ وَكُلُّ آدَمِيٍّ مَوْلُودٌ وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّغَارِ عَادَةً فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ الصِّغَارِ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَقَالَ اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شُرُوخَهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالشُّيُوخِ الْبَالِغِينَ وَبِالشُّرُوخِ الْأَتْبَاعُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءُ الِاسْتِرْقَاقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: لَا تَقْتُلْ شَيْخًا ضَرِعًا وَلَا صَبِيًّا ضَعِيفًا يَعْنِي شَيْخًا فَانِيًا وَصَغِيرًا لَا يُقَاتِلُ.
قَالَ: «وَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغُزَاةِ أَنْ يَبْدَءُوا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ قَوْمًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُدْعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَرُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لُصُوصٌ قَصَدُوا أَمْوَالَهُمْ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ رُبَّمَا أَجَابُوا وَانْقَادُوا لِلْحَقِّ فَلِهَذَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا فَالْجِدُّ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْذَارِ رُبَّمَا يَنْفَعُ «وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ وَعَادَ بَعْدَ الْفَرَاغِ إلَى الْقِتَالِ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ» وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ وَبَيَّتُوهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَلَوْ اشْتَغَلُوا بِالدَّعْوَةِ رُبَّمَا تَحَصَّنُوا فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا» وَفِي رِوَايَةٍ «ابْنَانِ صَبَاحًا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَقَبُولُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.
(قَالَ): اُدْعُوهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دِيَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَهَذَا فِي وَقْتٍ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي قَبِيلَتِهِ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّينِ وَيَنْضَمَّ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} الْآيَةَ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَإِنَّمَا هُوَ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ وَهَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ» قَالَ: «فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِلَّا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ» وَهَذَا كَانَ الْحُكْمَ حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُعْلِمُوهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِالْتِزَامِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ لِدِينِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ أَوْ الِاشْتِغَالُ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ لِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمُصَابِ بِالْقِتَالِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَالْفَيْءُ اسْمٌ لِلْمُصَابِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الْآيَةُ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَالْمُرَادُ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ الْمَجُوسِ أَوْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أَيْ حَتَّى يُسْلِمُوا فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ يَجِبُ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ أَصْلُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} وَبِقَبُولِ ذَلِكَ يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيُدْعَوْنَ إلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْقَبُولُ وَالِالْتِزَامُ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْزَالُ الْمُحَاصَرِينَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَالْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَاَلَّذِينَ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا لَا يَدْرُونَ مَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ وَعُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُشْرِكِينَ الدُّعَاءُ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ إنْ أَجَابُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فَإِنْ أَبَوْا فَالدُّعَاءُ إلَى الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَبَوْا فَقَتْلُ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْمٍ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا فِي قَوْمٍ مَحْصُورِينَ مُمْتَنِعِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَدْرِي أَنَّ الْحُكْمَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَكَانَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ بِالِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ.
(فَإِنْ قِيلَ): فَقَدْ قَالَ: أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ لَمَا أَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ عَلَى حُكْمِنَا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْخَطَأِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الصَّوَابِ.
(قُلْنَا): نَعَمْ، نَحْنُ لَا نَقُولُ الْمُجْتَهِدُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ الْإِصَابَةِ وَهُوَ آتٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلِهَذَا أُمِرَ بِالْإِنْزَالِ عَلَى ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ بِاجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا وَحُكْمُنَا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْنَا وَيَتَمَكَّنُ ذَلِكَ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَهَذَا فَائِدَةُ هَذَا اللَّفْظِ.
(قَالَ): وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنْ أُعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ وَالْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الْعَهْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَ أَهْلُ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} أَيْ عَهْدًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مَحِلُّ الِالْتِزَامِ مِنْ الْآدَمِيِّ ذِمَّةٌ وَالِالْتِزَامُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوا الْمُشْرِكِينَ عَهْدَ اللَّهِ وَلَا عَهْدَ رَسُولِهِ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَعَهْدِ رَسُولِهِ لَا يَحِلُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ يَعْنِي: عَهْدَكُمْ وَعَهْدَ آبَائِكُمْ مِنْ الْمُمَالَحَةِ وَالصُّحْبَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْحُرْمَةَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ أَيْ تَنْقُضُوا يُقَالُ: أَخْفَرَ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، وَخَفَرَ أَيْ عَاهَدَ وَمِنْهُ الْخَفِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَسِيرُ النَّاسُ فِي أَمَانِهِ سُمِّيَ خَفِيرًا لِلْمُعَاهَدَةِ مَعَ الَّذِينَ فِي أَمَانِهِ أَوْ مَعَ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّاسِ فِي أَنْ لَا يَقْصِدُوا مَنْ كَانَ فِي أَمَانِهِ وَهَذَا بَيَانُ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ سَهْمٌ وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمُرَادُهُ بَيَانُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ وَمِفْتَاحُ الْكَلَامِ وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ: الْغَنِيمَةُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى عِمَارَةِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ بِالْقُرْبِ مِنْهَا وَإِلَى عِمَارَةِ الْجَامِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ هِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا السَّهْمُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُصْرَفُ إلَى عِمَارَةِ الْبِقَاعِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ خَالِصًا وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِلِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِتَشْرِيفِ هَذَا الْمَالِ لِأَنَّ إضَافَةَ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ لِمَعْنَى التَّشْرِيفِ كَالْمَسَاجِدِ وَالنَّاقَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَأَمَّا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَيَاتِهِ وَسَقَطَ بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بَاقٍ يُصْرَفُ إلَى كُلِّ خَلِيفَةٍ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ السَّهْمَ فِي حَيَاتِهِ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي جَوَائِزِ الْوُفُودِ وَالرُّسُلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَللَّهِ مَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» وَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ مُحْتَاجٌ إلَى مِثْلِ مَا كَانَ هُوَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيُصْرَفُ هَذَا السَّهْمُ إلَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ لَمْ يَرْفَعُوا هَذَا السَّهْمَ لِأَنْفُسِهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِدَرَجَةِ الرِّسَالَةِ لَا بِالْقِيَامِ بِأُمُورِ النَّاسِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَمَّا اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِيَفْرِضُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ لَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مِنْ هَذَا السَّهْمِ وَلِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ ثَلَاثُ حُظُوظٍ خُمُسُ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ وَالسَّهْمُ ثُمَّ الْخَلِيفَةُ لَا يُقَامُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّفِيِّ فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ نَفِيسٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَارِيَةٍ.
كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ» وَكَانَ سَيْفًا لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ لِرَأْسِ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُصُولُ فَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِ وَهُمْ صُلْبِيَّةُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ» وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ يُجْمَعُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إنَّمَا سَقَطَ بِمَوْتِهِ هَذَا السَّهْمُ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَالطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ سَقَطَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَذَا السَّهْمُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَرَابَةِ بَلْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى النُّصْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ» وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِمْ سَهْمًا فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ أَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ وَأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ بِخِلَافِ سَهْمِ الْيَتَامَى فَفِي اسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ لِفُقَرَائِهِمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَغْنِيَاءَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا كُلُّ عَبْدٍ يَتَّجِرُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَأَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لِقَرَابَتِهِ وَسَهْمًا لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ وَكَانَتْ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا» فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَمَنْ قَالَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وَبَيْنَ مَصَارِفِ الْخُمُسِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ تَتَدَاوَلُهُ أَيْدِيهِمْ وَاسْمُ ذَوِي الْقُرْبَيْ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فَيَخُصُّهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِهَذَا الدَّلِيلِ.
وَمَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا قَالَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَيَانُ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا بَيَانُ وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ وَكَانَ هَذَا مُشْكِلًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُمْ فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ بِبَيَانِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا لِإِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ هَذَا النَّصُّ وَلَا أَنَّهُمْ مَنَعُوا حَقَّ ذَوِي الْقُرْبَى فَعَرَفْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الِاسْتِحْقَاقُ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا إجْمَاعَ وَيَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَالْإِجْمَاعُ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا يَنْعَقِدُ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يَتَحَرَّزُ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَنْ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً.
وَإِنَّمَا كَرِهَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْمُخَالِفَةَ لِأَنَّهُ رَأَى الْحُجَّةَ مَعَهُمَا فَإِنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ حِينَ ظَهَرَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ لِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ احْتِشَامًا لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: كَبِرَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي وَرَكِبَتْنِي الْمُؤَنُ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ لِي بِكَذَا وَسْقًا مِنْ طَعَامٍ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانِي مِنْكَ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ لِي بِمِثْلِ مَا أَمَرْتَ بِهِ لِعَمِّكَ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي أَرْضًا فَكُنْتَ أَزْرَعُهَا وَأَعِيشُ بِهَا ثُمَّ أَخَذْتَهَا مِنِّي فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهَا عَلَيَّ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا: إنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي الْقِسْمَةَ فِيمَا هُوَ حَقُّنَا كَيْ لَا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: هَلَّا سَأَلْتَ كَمَا سَأَلَ ابْنُ أَخِيكَ فَقَالَ: إلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ مَسْأَلَتِي فَكُنْتُ أُقَسِّمُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حَتَّى أَتَاهُ مَالٌ عَظِيمٌ فَدَعَانِي لِآخُذَ مَا كُنْتُ آخُذُهُ وَأُقَسِّمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ فَقُلْتُ لَهُ إنَّ بِنَا الْيَوْمَ عَنْهُ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ خُلَّةٌ فَاصْرِفْهُ إلَيْهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِي الْعَبَّاسُ: لَقَدْ حُرِمْنَا الْيَوْمَ شَيْئًا لَا يَعُودُ إلَيْنَا أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا فَكَانَ كَمَا قَالَ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ لِلْحَاجَةِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ حِينَ رَدَّ بِقَوْلِهِ إنَّ بِنَا الْيَوْمَ عَنْهُ غِنًى وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَرَضَ عَلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ الْخُمُسِ أَيِّمَنَا وَأَنْ يَقْضِيَ بِهِ عَنْ مَغْرَمِنَا فَأَبَيْنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْنَا فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرَى اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ السَّهْمِ لَهُمْ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ إلَى نَجْدَةَ وَكَتَبْتَ إلَى أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَإِنَّا لَنَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا وَيَأْبَى عَلَيْنَا ذَلِكَ غَيْرُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي هَذَا كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْعَوْلِ وَغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَبَيْنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْنَا لِنَتَوَلَّى صَرْفَهُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنَّا لَا لِنَصْرِفَهُ إلَى أَنْفُسِنَا وَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يُعْرَفُ بِمَنْعِ الْحَقِّ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ بَلْ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيْنَمَا دَارَ عُمَرَ فَالْحَقُّ مَعَهُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَسَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَا نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي النَّسَبِ إلَيْك سَوَاءٌ فَأَعْطَيْتَهُمْ دُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّا لَمْ نَزَلْ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَا: لَا يُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَلَكِنْ نَحْنُ وَإِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ إلَيْك فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ فَمَا بَالُك أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَمْ نَزَلْ مَعَهُمْ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وَاعْتِمَادُنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبَى قُرْبُ النُّصْرَةِ حِينَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْلَ النَّسَبِ وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ هَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ هَاشِمٍ فَإِنَّهُ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَكَانَتْ بَنُو هَاشِمٍ أَوْلَادَ جَدِّهِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ كَانَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَوَلَدُ جَدِّ الْإِنْسَانِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِ أَخِ جَدِّهِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ فَأَمَّا بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا مَعَ بَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ أُسْوَةٌ.
وَقِيلَ: بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ نَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ كَانَا أَخَوَيْ هَاشِمٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْمُطَّلِبُ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَقْرَبُ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلِذَلِكَ سَأَلَاهُ ثُمَّ أَزَالَ إشْكَالَهُمَا بِبَيَانِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّهُ النُّصْرَةُ دُونَ الْقَرَابَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نُصْرَةَ الْقِتَالِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ نُصْرَةَ الِاجْتِمَاعِ إلَيْهِ لِلْمُؤَانَسَةِ فِي حَالِ مَا هَجَرَهُ النَّاسُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَرَأَتْ قُرَيْشٌ آثَارَ الْخَيْرِ فِيهِمْ حَسَدُوهُمْ وَتَعَاقَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوا بَنِي هَاشِمٍ وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ حَتَّى يَدْفَعُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ وَتَعَاقَدَ بَنُو هَاشِمٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَدَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ فِي عَهْدِ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى دَخَلُوا مَعَهُمْ الشِّعْبَ فَكَانُوا فِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ مِنْ جَهْدِ الْقِصَّةِ.
وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّا لَمْ نَزَلِ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا» وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتِلْكَ النُّصْرَةِ وَلَا تَبْقَى تِلْكَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ لَا لِلِانْتِسَاخِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى تِلْكَ النُّصْرَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَافِئُ كُلَّ مَنْ نَصَرَهُ يَوْمًا حَتَّى قَالَ يَوْمًا لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ الْأَسَارَى: لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا لَوَهَبْت هَؤُلَاءِ السَّبْيِ مِنْهُ» مُجَازَاةً لَهُ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَدْ كَانَ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ وَلَكِنَّهُ قَامَ بِنُصْرَتِهِ يَوْمًا وَفِيهِ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْ نَقُولُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَبِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ وَمَا كَانَ يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحَيٌّ يُوحَى فَصَارَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ الْقَرَابَةُ وَالنُّصْرَةُ وَانْعَدَمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا انْعَدَمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فِي حَقِّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا فَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ وَتَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالنُّصْرَةِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَمَالُ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِعَمَلٍ هُوَ قُرْبَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِنَفْسِ الْقَرَابَةِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الرَّجُلِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ.
فَأَمَّا مَالُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ وَلِأَنَّ دَرَجَةَ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا مَعْنَى لِمَا يَقُولُ الْخَصْمُ أَنَّ هَذَا السَّهْمَ لَهُمْ عِوَضٌ عَنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا سَهْمًا مِنْ الْخُمُسِ» وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ لِكَرَامَتِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِمْ نُقْصَانٌ يُحْتَاجُ إلَى جَبْرِهِ بِالتَّعْوِيضِ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا السَّهْمُ عِوَضًا مِنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى نَحْوِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لِلصَّدَقَةِ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ هَذَا السَّهْمُ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَأَيَّدَ جَمِيعَ مَا قُلْنَا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ فِي حَيَاتِي وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِي» وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فَقَدْ تَأَكَّدَ بِإِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ مِنْ الْخُمُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ يُصْرَفُ مِنْ الْخُمُسِ إلَى ذَوِي الْقُرْبَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَرَأَوْا أَنْ يُجْعَلَ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَانَ لِلنُّصْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَصْرِفَهُ آلَةَ النُّصْرَةِ وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ، وَقَوْلُهُ وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ: ذَوِي الْقُرْبَى كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَرَضَ عَلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ أَيِّمَنَا وَيَقْضِيَ مِنْهُ عَنْ مُغْرَمِنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْغُزَاةُ أَيْ يُعْطِي مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ الْمُحْتَاجِ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى مُحْتَاجٍ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ وَقَوْلُهُ فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ لَا يَصْرِفُهُ فِي وَقْتِهِ يَعْنِي كَثْرَةَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ فَمَعَ كَثْرَةِ الْمَالِ لَا يَصِلُ إلَى الْمَصْرِفِ الَّذِي كَانَ يَصِلُ إلَيْهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَالِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا فِي الْمَغْنَمِ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شِئْت» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْرَزُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَارِهِمْ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَهَا فَخَاصَمَ فِيهَا مَالِكُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنْ شِئْت أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ» وَفِي الْحَدِيثَيْنِ حُجَّةٌ لَنَا أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْرَازِ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَمْلِكُوا لَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَالِكِ مَجَّانًا بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكُفَّارِ مَالَهُمْ لَا مَالَ الْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَمْلِكُ عَلَى الْبَائِعِ مَالَهُ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ صَارَ مَظْلُومًا وَعَلَى مَنْ يَذُبُّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمِلْكُ فِيهِ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّ الْغُزَاةِ فَكَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الظُّلْمُ عَنْ صَاحِبِهِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ قَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَعَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَالِيَّةِ فَلِمُرَاعَاةِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا: تُعَادُ إلَيْهِ الْعَيْنُ بِالْقِيمَةِ لِيَصِلَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ وَيَصِلَ الْآخَرُ إلَى حَقِّهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَدَلِيلُ أَنَّ حَقِّهِ فِي الْمَالِيَّةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ بَيْعَ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَمُرَادُهُ بِالثَّمَنِ الْقِيمَةُ فَالْقِيمَةُ ثَمَنُ التَّعْدِيلِ وَالْمُسَمَّى ثَمَنُ التَّرَاضِي وَلِهَذَا مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِيمَا أَعْطَى مِنْ مَالِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُنْظَرُ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ فِي إعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ أَهْلَ السَّوَادِ ذِمَّةً الْمُرَادُ سَوَادُ الْعِرَاقِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً وَقَهْرًا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَهَا ذِمَّةً وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ افْتَتَحَ السَّوَادَ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي وَفِيهِ أَشْعَارٌ وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ جَيْشِ الْعَجَمِ رُسْتُمَ بْنَ فَرْخٍ هُرْمُزَانَ وَقُتِلَ فِي الْحَرْبِ وَأَنْشَدَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ أَنِّي حَمَيْت الذِّمَارَ وَأَبْقَيْت مَكْرُمَةً فِي الْأُمَمْ غَدَاةَ الْهَزِيمَةِ إذْ رُسْتُمُ يَسُوقُ الْفَوَارِسَ سَوْقَ النَّعَمْ رَمَانِي بِسَهْمٍ وَقَدْ نِلْتُهُ فَصَّك الرِّكَابَ بِبَطْنِ الْقَدَمْ وَأَضْرِبُ بِالسَّيْفِ يَافُوخَهُ فَكَانَتْ لَعَمْرِي فَتْحُ الْعَجَمْ وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ خَرَجَ بِهِ دَمَامِيلُ فَلَمْ يَحْضُرْ الْحَرْبَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ نَصْرَهُ وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصِمُ فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُنْكِرُونَ فَتْحَ السَّوَادِ عَنْوَةً.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: لَا أَدْرِي مَاذَا أَقُولُ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ وَلَكِنِّي أَقُولُ قَوْلًا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إلَى عِلْمٍ وَهَذَا جَهْلٌ وَتَنَاقُضٌ مِنْ قَائِلِهِ فَإِنَّ الظَّنَّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمًا وَفَتْحُ السَّوَادِ عَنْوَةً وَقَهْرًا أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ وَرُبَّمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَلَّكَ الْأَرَاضِيَ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرَقَّهُمْ ثُمَّ تَرَكَهُمْ لِيَعْمَلُوا فِي أَرَاضِيِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ كَالْمَوْلَى يُسَاوِي عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُ وَرُبَّمَا يَقُولُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَتَمَلَّك الْأَرَاضِيَ ثُمَّ أَجَّرَهَا مِنْهُمْ وَالْخَرَاجُ الَّذِي جَعَلَ عَلَيْهِمْ أُجْرَةٌ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ جِزْيَتَهُمْ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى وَقَدْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَوَارَثُونَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فِي رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ فِي أَرْضِهِمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ مِرَارًا ثُمَّ جَمَعَهُمْ فَقَالَ: أَمَّا إنِّي تَلَوْت آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْنَيْت بِهَا عَنْكُمْ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلَى قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} هَكَذَا فِي قِرَاءَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثُمَّ قَالَ أَرَى لِمَنْ بَعْدَكُمْ فِي هَذَا الْفَيْءِ نَصِيبًا وَلَوْ قَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَكُمْ نَصِيبٌ فَمَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْهُمْ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُحْمَدُوا عَلَى خِلَافِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَيْ مَاتُوا جَمِيعًا.
وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ هَلْ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ سَهْمٌ؟ وَهَلْ كَانَتْ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَمَتَى يَجِبُ لِلصَّبِيِّ سَهْمٌ فِي الْمَغْنَمِ؟ وَعَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُ الْحَدِيثُ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ بِالْكِتَابِ كَانَ مَعْرُوفًا فِيهِمْ فَإِنَّ نَجْدَةَ كَانَ حَرُورِيًّا وَهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَسْأَلُونَ سُؤَالَ التَّعَمُّقِ فَكَانَ كَثِيرًا مَا يَكْتُبُ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى رُبَّمَا كَانَ يَضْجَرُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَقُولُ: لَا يَزَالُ يَأْتِينَا بِأُحْمُوقَةٍ مِنْ خَاطِرِهِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يُجِيبُهُ فِيمَا كَتَبَ إلَيْهِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْحُرِّ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِلْحُرِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَفْسِهِ حَتَّى كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا يُسَوَّى بَيْنَ الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ بِحَسْب جُرْأَتِهِ وَغَنَائِهِ وَكِفَايَتِهِ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ وَخُرُوجُ النِّسَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَشْهُورٌ فِي الْآثَارِ وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ مَعَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ قَاتَلَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ شَادَّةً عَلَى بَطْنِهَا وَكَانَتْ حَامِلًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَقَامُهَا خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ» يَعْنِي الَّذِينَ انْهَزَمُوا وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا نُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ الْفَرَّارِينَ كَمَا قَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَافِيَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ لَنَا» وَأُمُّ أَيْمَنَ كَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَبَعْضُ الْعَجَائِزِ كَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَسَقْيِ الْمَاءِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ مَعَ الْجَيْشِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ يُرْضَخُ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ أَتْبَاعٌ كَالْعَبِيدِ وَلِأَنَّهُنَّ عَاجِزَاتٌ عَنْ الْقِتَالِ بِنْيَةً وَالْعَبِيدُ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْمَوَالِي فَاسْتَوَيَا فِي الْمَعْنَى فَلِهَذَا يُرْضَخُ لِلْفَرِيقَيْنِ وَكَتَبَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلصَّبِيِّ فِي الْمَغْنَمِ حَتَّى يَحْلُمَ وَإِنَّمَا أَرَادَ السَّهْمَ الْكَامِلَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ اسْمُهُ فِيمَنْ يُسْهَمُ لَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ وَبِهِ نَأْخُذُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ثُمَّ عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي» وَلَكِنْ يُرْضَخُ لِلصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ كَانَ فِي الصَّبِيَّانِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ فَرَدَّهُ فَقِيلَ: إنَّهُ رَامٍ فَأَجَازَهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيَّانِ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا وَأَجَازَ لِآخَرَ فَقَالَ الْمَرْدُودُ: أَجَزْتَهُ وَرَدَدْتَنِي وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ فَقَالَ: صَارِعْهُ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ فَأَجَازَهُمَا» وَالْمُرَادُ الْإِجَازَةُ فِي الْمُقَاتِلِينَ لِيُرْضَخَ لَهُمَا لَا لِيُسْهَمَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ السَّهْمُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمُرَادُ: السَّهْمُ الْكَامِلُ، فَأَمَّا الرَّضْخُ ثَابِتٌ لَهُ إذَا قَاتَلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ الْمُرَادُ الْآبِقُ الْخَارِجُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَهَذَا لَا حَقَّ لَهُ بَلْ يُؤَدَّبُ عَلَى فِعْلِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ» وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِالسَّيْرِ شِعْبٌ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ وَالصَّفْرَاءُ مِنْ بَدْرٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ بَلْ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَسَّمَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى طَلَبَ مِنْهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يَضْرِبَ لَهُ فِيهَا بِسَهْمٍ فَفَعَلَ قَالَ: «وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَجْرُك» وَكَانَ خَلَّفَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ابْنَتِهِ رُقَيَّةَ يُمَرِّضُهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ قَدِمَ عَلَيْنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بَشِيرًا بِفَتْحِ بَدْرٍ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةَ يَعْنِي التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهَا وَسَأَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَضْرِبَ لَهُ بِسَهْمٍ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ فَوَافَقَ قُدُومُهُ قِسْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ قَالَ: «وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَجْرُك» وَتَكَلَّمُوا فِي ضَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا بِالسَّهْمِ وَلَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا فَذَكَر الْوَاقِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ ضَرَبَ لِثَمَانِيَةِ نَفَرٍ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا بِالسَّهْمِ فَقِيلَ: إنَّمَا ضَرَبَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ كَانَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُمَرِّضَ ابْنَتَهُ وَكَانَتْ تَحْتَهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ فَرَاغُ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتَحَقَ هُوَ بِمَنْ شَهِدَ بَدْرًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَعَدَ لَهُ الْأَجْرَ وَطَلْحَةُ كَانَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَجَسَّسَ خَبَرَ الْعِيرِ فَكَانَ مَشْغُولًا بِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَهُ كَمَنْ شَهِدَ بَدْرًا وَقِيلَ: بَلْ كَانَ أَسْهَمَ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا كَالْمَدَدِ أَمَّا طَلْحَةُ فَقَدْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَازِمًا عَلَى اللُّحُوقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَالْمَدِينَةُ إنَّمَا كَانَ لَهَا حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ فَقَدْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ فِيهَا لِلْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ.
وَقِيلَ: إنَّمَا أَسْهَمَ لَهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ كَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مِنْ يَشَاءُ؛ أَمَّا لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِمَنْعَةِ السَّمَاءِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَثُرَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِيهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَاءَتْ أَخْلَاقُنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَحُرِمْنَا ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: كُنَّا ثَلَاثَ فِرَقٍ فِرْقَةٌ كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِرْقَةٌ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ وَفِرْقَةٌ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ فَجَعَلَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ تَقُولُ: الْغَنِيمَةُ لَنَا فَارْتَفَعَتْ أَصَوْتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا أَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ الطَّائِفِ بِالْجِعْرَانَةِ» وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْجِعْرَانَةِ وَكَانَتْ حُدُودَ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْجِعْرَانَةُ مِنْ نَوَاحِي مَكَّةَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَعْرَابَ طَالِبُوهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَقْسِمْ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا حَتَّى أَلْجَئُوهُ إلَى سُمْرَةَ وَجَذَبَ بَعْضُهُمْ رِدَاءَهُ فَتَخَرَّقَ فَقَالَ: اُتْرُكُوا لِي رِدَائِي فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِضَاهُ إبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونَنِي جَبَانًا وَلَا بَخِيلًا، فَمَعَ كَثْرَةِ مُطَالَبَتِهِمْ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
(قَالَ) وَأَمَّا خَيْبَرُ فَإِنَّهُ افْتَتَحَ الْأَرْضَ وَجَرَى فِيهَا حُكْمُهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ فِي الْمَدِينَةِ وَقَسَّمَ الْغَنَائِمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا افْتَتَحَ بَلْدَةً وَصَيَّرَهَا دَارَ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ فِيهَا، وَقَدْ طَالَ مَقَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَجْرَى أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَكَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْقِسْمَةُ فِيهَا كَالْقِسْمَةِ فِي غَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ): وَقَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ وَكَانَ قَدْ افْتَتَحَهَا يَعْنِي صَيَّرَهَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ قَالَ: «مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَّفِقَةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِكَرَاهَةِ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا يَوْمَ بَدْرٍ» وَإِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسَانِ وَسَبْعُونَ بَعِيرًا فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَهَائِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْهَابَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْخَيْلِ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْآثَارِ وَلَكِنْ رَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ قَالَ: السَّهْمُ الْوَاحِدُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ لِاتِّفَاقِ الْآثَارِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ الْآثَارِ فَلَا أُعْطِيَنَّهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنَ وَلَا أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ وَسَنُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جَعْلِ الْقَاعِدِ لِلشَّاخِصِ: مَا جُعِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَا صَنَعَ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ.
وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَاعُلِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَجْتَعِلَ مِنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَدُوا فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا اُسْتُؤْجِرَ بِدِينَارَيْنِ لِلْجِهَادِ فَلَمَّا جَاءَ يَطْلُبُ الْغَنِيمَةَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِكَمْ اُسْتُؤْجِرَتْ قَالَ بِدِينَارَيْنِ قَالَ: إنَّمَا لَك دِينَارَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَنَقُولُ: الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْجِهَادِ لَا يَجُوزُ وَالتَّجَاعُلُ لَيْسَ بِاسْتِئْجَارٍ وَلَكِنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى السَّيْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَجِهَادٌ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُتَفَاوِتَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ بِهِمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِصِحَّةِ بَدَنِهِ وَيَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ لِفَقْرِهِ وَالْآخَرُ يَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِمَرَضٍ أَوْ آفَةٍ وَيَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْمَالِ فَيُجَهِّزُ بِمَالِهِ مَنْ يَخْرُجُ فَيُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْخَارِجُ مُجَاهِدًا بِالنَّفْسِ وَالْقَاعِدُ الْمُعْطِي الْمَالَ مُجَاهِدًا بِالْمَالِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِهَذَا كَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِقَابِضِ الْمَالِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ بِهِ وَذَلِكَ فِي اسْتِعْدَادِهِ لَهُ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَنَا إنْ قَالَ: هَذَا الْمَالُ لَك فَاغْزُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ الْمَال ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْجِهَادِ فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَإِنْ قَالَ اُغْزُ بِهَذَا الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَتَاعِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِهِ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَجِّ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُغْزِي الْعَزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ وَيُعْطِي الْغَازِيَ فَرَسَ الْقَاعِدِ وَأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فَمِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ هَذَا أَنَّ ذَا الْحَلِيلَةِ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَلَا يُطِيلُ الْمَقَامَ فِي الثَّغْرِ وَالْعَزَبُ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ وَرَاءَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمَقَامِ فَلِهَذَا كَانَ يَأْمُرُ الْعَزَبَ بِالْخُرُوجِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي الْأَعْزَبَ، وَكَانَ يُعْطِي الْغَازِيَ فَرَسَ الْقَاعِدِ لِيَكُونَ صَاحِبُ الْفَرَسِ مَعَ زَوْجَتِهِ يَحْفَظُهَا، وَيَكُونُ مُجَاهِدًا بِفَرَسِهِ، وَالْخَارِجُ يَكُونُ مُجَاهِدًا بِبَدَنِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَى مَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يُجَهِّزُ الْغَازِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَإِنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِيَذُبُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى النَّاسِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يُجَهَّزْ الْجَيْشَ لِلدَّفْعِ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَأْخُذُونَ الْمَالَ وَالذَّرَارِيَ وَالنُّفُوسَ فَمِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ أَنْ يَتَحَكَّمَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِيَأْمَنُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ بَعْثًا عَلَى أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَفَعَ عَنْ جَرِيرٍ وَعَنْ وَلَدِهِ وَقَالَ جَرِيرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ نَجْعَلُ أَمْوَالَنَا لِلْغَازِي وَمَعْنَى ضَرْبِ الْبَعْثِ التَّحَكُّمُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ فَكَأَنَّهُ مَنَّ عَلَى جَرِيرٍ وَوَلَدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنْ رَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ كَانَ مُوَقَّرًا فِيهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَقِّرُهُ حَتَّى قَالَ جَرِيرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا نَظَرَ إلَيَّ إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ فِي صَلَاتِهِ لَكِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَرِيرٌ هَذِهِ الْمِنَّةَ مِنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ فِي الْجِهَادِ بِالْمَالِ مَعْنَى الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤْمِنِ التَّوْقِيرَ بِكَوْنِهِ مُسْتَبِقًا إلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ قَالَ: لَا أُعْطِي الْمَالَ إلَيْك بَلْ أَدْفَعُ بِنَفْسِي إلَى مَنْ أَخْتَارُهُ مِنْ الْغُزَاةِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مَا يُعْطِي وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُشَارِكَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّائِبَةِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يُوجَدُ أَكْثَرُ النَّوَائِبِ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْطَاءَ فَلْيُعْطِهِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَدَاءِ الْمَالِ لِفَقْرِهِ حَتَّى يَسْتَعِينَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنَالُ الْمُعْطِي الثَّوَابَ بِذَلِكَ وَعَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ افْتَتَحَ قَرْيَةً بِالْمَغْرِبِ فَخَطَبَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: لَا أُحَدِّثُكُمْ إلَّا بِمَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُسْقِيَن مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَلَا يَتَّبِعْ الْمَغْنَمَ حَتَّى يُقَسَّمَ وَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَخَلْقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْجَيْشِ عِنْدَ الْفَتْحِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْطُبَ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ فِي خُطْبَتِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعِنْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَمِمَّا ذُكِرَ عِنْدَهُ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ هَذَا الْحَدِيثُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْءُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ وَبِهِ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَبَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ» وَفِي وَطْءِ الْحَامِلِ سَقْيُ مَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قُوَّةَ سَمْعِ الْجَنِينِ وَبَصَرِهِ وَشَعْرِهِ بِمَاءِ الْوَاطِئِ فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَبَيْعُ مُجَرَّدِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ نَصِيبَهُ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَكُونُ، وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ فَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبَعْضِهِمْ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّ الْغَنِيمَةِ وَثِيَابِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَقَدْ سَمَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِبَا الْغُلُولِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَنَهَى عَنْهُ وَلَكِنَّ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُشْتَرَطُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْلَى.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ فَمَاتَ فَأَعْطَى الْمُسْلِمُونَ بِجِيفَتِهِ مَالًا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ» وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ الْمَيِّتَةِ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَالٍ فَإِنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ دَلِيلُ فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ: إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَوْضِعُ الْخَنْدَقِ كَانَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ ذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَأَمَّا مَعَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنْ نَقُولَ: إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا عَرَفَ فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ لِطَلَبِ الْمَالِ بَلْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ الدِّينِ.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَزِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنِّي قَدْ أَمْدَدْتُك بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَمَنْ أَتَاك مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّى الْقَتْلَى فَأَشْرِكْهُ فِي الْغَنِيمَةِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِقَوْمٍ أُخَرَ لِيَزْدَادُوا بِهِمْ قُوَّةً وَأَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْد إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمُصَابِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ مُرَادَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ.
إذَا كَانَتْ الْوَقْعَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَمَنْ حَصَّلَ مِنْ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ شَاهِدًا لِلْوَقْعَةِ مَعْنًى وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّى الْقَتْلَى.
قِيلَ: مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَتَشَقَّقَ الْقَتْلَى بِطُولِ الزَّمَانِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الِانْصِرَافِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يُمَيِّزَ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ وَالتَّفَقُّؤُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَقِيهُ لِأَنَّهُ يُمَيِّزُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَفَقَّأَ فَوْقَهُ الْقَلَعُ السَّوَارِي وَجُنَّ الْخَازِبَازِ بِهِ جُنُونًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي تَتَقَفَّى الْقَتْلَى الْقَافُ قَبْلَ الْفَاءِ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَجْعَلُوا الْقَتْلَى عَلَى قَفَاكُمْ بِالِانْصِرَافِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ أَبِي قُسَيْطٍ قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ مَدَدًا لِزِيَادِ بْنِ لِبِيدٍ الْبَيَاضِيِّ وَالْمُهَاجِرِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ إلَى الْيَمَنِ فَأَتَوْهُمْ حَتَّى افْتَتَحُوا النُّجَيْرَ فَأَشْرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَجْعَلُ لِلْمَدَدِ شِرْكَةً وَإِنْ لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ بِالْفَتْحِ قَدْ صَارَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ دَارَ إسْلَامٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ فَتَحُوا وَلَمْ تَجْرِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا بَعْدُ وَبِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لَا تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ «أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْتَحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا فَتَحَ خَيْبَرَ» وَكَذَلِكَ جَعْفَرٌ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدِمُوا مِنْ الْحَبَشَةِ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَدْرِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَوْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ» وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَدْرَكُوا بَعْدَ تَصَيُّرِ الْبُقْعَةِ دَارَ إسْلَامٍ فَلِهَذَا لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ، مَعَ أَنَّ غَنَائِمَ خَيْبَرَ كَانَتْ عِدَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} وَهُمَا مَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ فَلِهَذَا لَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْمَدَدِ شِرْكَةً إذَا لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِأَلْفَيْ فَارِسٍ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَدْرَكُوهُمْ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ فَطَلَبَ عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشِّرْكَةَ وَكَانَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ مِنْ عُطَارِدَ فَقَالَ: يَا أَجْدَعُ أَتُرِيدُ أَنْ تُشْرِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا فَقَالَ عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَيْرَ أُذُنَيَّ سَبَبْتَ وَكَانَ قَدْ قُطِعَتْ إحْدَى أُذُنَيْهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُزَاةٍ ثُمَّ رَفَعَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَ لَهُمْ الشِّرْكَةَ فِي الْغَنِيمَةِ فَبِهَذِهِ الْآثَارِ يَأْخُذُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِيَهُودِ قَيْنُقَاعَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا» وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالُوا: فِعْلُ الْمُشْرِكِينَ لَا يَكُونُ جِهَادًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِالْجِهَادِ مَا لَيْسَ بِجِهَادِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: لَا يَغْزُ مَعَنَا إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا فَأَسْلَمَا»، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ: زِيَادَةُ كَبْتٍ وَغَيْظٍ لَهُمْ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يُسْلِمَانِ إذَا أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ «فَأَسْلَمَا» وَقِيلَ: كَانَ يَخَافُ الْغَدْرَ مِنْهُمَا لِضَعْفٍ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وَإِذَا خَافَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ، وَأَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإِذَا كَتِيبَةٌ حَسْنَاءُ، أَوْ قَالَ: خَشْنَاءُ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: يَهُودُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَا نَسْتَعِينُ بِالْكُفَّارِ»، أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَزِّزِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَنَا إنَّمَا يَسْتَعِينُ بِهِمْ إذَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِرَايَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» يَعْنِي: إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ تَحْتَ رَايَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَعَنْ الْحَكَمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَتَبَ إلَيْهِ فِي أَسِيرَيْنِ مِنْ الرُّومِ أَنْ لَا تَفَادَوْهُمَا وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِمَا مُدَّيْنِ مِنْ الذَّهَبِ، وَلَكِنْ اُقْتُلُوهُمَا أَوْ يُسْلِمَا، فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادَى الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْفِدَاءُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ»، إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِنُزُولِ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلَى قَوْلِهِ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُشِيرُ بِالْقَتْلِ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِحَاجَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى الْمَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نُجِّيَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عُمَرَ» فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُفَادَاةِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أُعْطِيتُمْ بِهِمَا مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَمِمَّنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قَدِّمْهُ وَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَوْفِ بِنَذْرِ نَبِيِّك» وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي عَزَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَاعِرًا فَوَقَعَ أَسِيرًا يَوْمَ أُحُدٍ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ طَلَبَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَدِّثْ الْعَرَبَ أَنِّي خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ» ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ وَلَكِنْ يُفَادَى أَوْ يُمَنُّ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُمَا اعْتَمَدَا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ قَدْ اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}؛ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ قَدْ انْتَسَخَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا إذَا عَرَفَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً كَمَا رُوِيَ أَنْ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ سَيِّدَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَسَرَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَا وَرَاءَك يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ: إنْ عَاقَبْت عَاقَبْت ذَا ذَنْبٍ وَإِنْ مَنَنْت مَنَنْت عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ أَرَدْت الْمَالَ فَعِنْدِي مِنْ الْمَالِ مَا شِئْت فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَفَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قَحَطُوا».
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يُخَمَّسْ طَعَامُ خَيْبَرَ وَكَانَ قَلِيلًا فَكَانَ أَحَدُنَا إذَا احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ يُخَمِّسُ الْغَنِيمَةَ إلَّا الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ» وَكَتَبَ صَاحِبُ جَيْشِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالشَّامِ إلَيْهِ: إنَّا افْتَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ فَكَرِهْت أَنْ أُمْضِيَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِك فَكَتَبَ إلَيْهِ: دَعْ النَّاسَ لِيُصِيبُوا مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعُوا فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ فِيهِ خُمُسُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَبِهَذِهِ الْآثَارِ نَأْخُذُ التَّسَاهُلَ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ بِالنَّاسِ وَلِلْعِلْمِ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْحَمْلِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ إذَا أَمْعَنُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: دُلِّيَ عَلَيَّ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ مِنْ بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ فَاحْتَضَنْتُهُ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي «لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيَّ وَيَتَبَسَّمُ» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، وَالْمُرَادُ بِالْيَدِ النُّصْرَةُ يَعْنِي النُّصْرَةَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وَفِي قَوْلِهِ «تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» دَلِيلٌ لَنَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ وَلَا مَعْنَى لِاسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ التَّسَاوِي فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَا نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ دِمَائِهِمْ وَدِمَاءِ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَبِقَوْلِهِ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ فَإِنَّ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبِيدُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَاهُ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَقْرَبُهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَنْ يَسْكُنُ الثُّغُورَ مُشْتَقٌّ مِنْ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ لَا مِنْ الدَّنَاءَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَقَلُّهُمْ فِي الْقُرْبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْقِلَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} فَيَكُون ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْوَاحِدِ، أَوْ الْمُرَادُ بِهِ الْفَاسِقُ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْسُبَ الْعَبْدَ الْوَرِعَ إلَى الدَّنَاءَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ عَقْدُ الذِّمَّةِ دُونَ الْأَمَانِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا.
وَعَنْ أَبِي عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَسِّمُ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لِي: «تَقَلَّدْ هَذَا السَّيْفَ فَتَقَلَّدْتُهُ فَجَرَرْتُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَعْطَانِي مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعَ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ يَأْبَى اللَّحْمَ فَسُمِّيَ بِآبِي اللَّحْمِ وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى صِغَرِهِ لِأَنَّ جَرَّ السَّيْفِ عَلَى الْأَرْضِ لِصِغَرِهِ وَقِيلَ: لَا بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْخُيَلَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعِ يَعْنِي الشَّفَقَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الرَّضْخِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ لِمُسْتَهَلِّ الشَّهْرِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفَتَحَهَا يَعْنِي الطَّائِفَ فِي صَفَرٍ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْمُحَاصَرَةَ مِنْ الْقِتَالِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ فَفِعْلُهُ بَيَانُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَدْ انْتَسَخَ، وَكَانَ الْكَلْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: النَّهْيُ عَنْ الْقَنَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَانْتَسَخَ بِهِ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الْآيَةُ.
(فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الْآيَةُ.
(قُلْنَا): الْمُرَادُ بِهِ مُضِيُّ مُدَّةِ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَوَافَقَ مُضِيُّ ذَلِكَ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَوْله تَعَالَى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} إلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} قِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْكُمْ بَلْ قَاتِلُوهُمْ كَافَّةً لِتَنْكَسِرَ شَوْكَتُهُمْ وَتَكُونَ النُّصْرَةُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الْأَصْلِ عَنْ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّنْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ قَالَ: شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ عَانَةٌ فَاقْتُلُوهُ وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَانَةٌ فَخَلُّوا عَنْهُ فَكُنْت مِمَّنْ لَا عَانَةَ لَهُ فَخُلِّيَ عَنِّي» قُلْت: وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ عَانَةٌ فَالْعَانَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ وَجُعِلَ اسْمُ الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنْهُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَجْعَلُ نَبَاتَ الشَّعْرِ دَلِيلَ الْبُلُوغِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ فَنَبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْهُنُودِ يُسْرِعُ وَفِي الْأَتْرَاكِ يُبْطِئُ.
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ نَبَاتَ الشَّعْرِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ يَكُونُ عِنْدَ الْبُلُوغِ أَوْ أَرَادَ تَنْفِيذَ حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ بِأَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فِيهِمْ.
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ مَعَ سَهْمِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ عَلَى الْعُرَفَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَسِّمُ كُلُّ عَرِيفٍ عَلَى مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بِاسْمِ نَفْسِهِ سَهْمًا وَلَكِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ تَحْتَ رَايَةِ غَيْرِهِ وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ السِّهَامِ خَرَجَ يَوْمئِذٍ سَهْمُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ لِكَوْنِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ.
وَذُكِرَ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاَللَّهِ مَا يَصْلُحُ إلَيَّ مِنْ فَيْئِهِمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ أَخْذُهَا مِنْ سَنَامِ بَعِيرِهِ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ: أَخَذْت هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لَك فَقَالَ: أَمَّا إذَا بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا» وَفِيهِ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْغُلُولِ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فَقَدْ وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ مِنْ الرَّجُلِ وَكَانَ مُشَاعًا وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَقْصُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْغُلُولِ يَعْنِي أَنَّك تَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَجْعَلَ لَك هَذِهِ الْكُبَّةَ وَلَا وِلَايَةَ لِي إلَّا عَلَى نَصِيبِي مِنْهَا فَقَدْ جَعَلْت نَصِيبِي مِنْهَا لَك إنْ جَازَ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْكُبَّةَ مِنْ الشَّعْرِ لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ لِكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ إذَا قُسِّمَتْ وَعِنْدَنَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَكُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ» وَإِنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُرْبِي بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ يَوْمئِذٍ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَا خُصُومَةَ فِيهِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَإِنَّمَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِبَا الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِيُبَيِّنَ أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ عَلَى نَهْجِ الْمُلُوكِ فَالْمُلُوكُ فِي الْأَوَامِرِ يَبْدَءُونَ بِالْأَجَانِبِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ لَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ.
وَذَكَرَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَفِّلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَازِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ التَّنْفِيلَ فِي الرَّجْعَةِ يَكُونُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ الْأُولَى الرُّبُعَ وَالسَّرِيَّةَ الثَّانِيَة الثُّلُثَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَا بَعْدَهَا وَهَذَا لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ وَالْجَيْشُ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ يَنْشَطُونَ فِي الْقِتَالِ مَا لَا يَنْشَطُونَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَلِهَذَا قَلَّلَ نَفْلَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى وَزَادَ فِي نَفْلِ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ وَلِأَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ فَلِهَذَا زَادَ فِي النَّفْلِ لَهُمْ.
وَذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَعْقِرْ الْخَيْلَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْعَقْرَ فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّوَابِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ جَعْفَرَ الطَّيَّارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا اُسْتُقْتِلَ يَوْمَ مَوْتِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْهُمْ عَقَرَ فَرَسَهُ وَتَقَدَّمَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْعَقْرِ مُثْلَةٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» وَلَعَلَّ فِعْلَ جَعْفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ فَانْتَسَخَ بِهِ.
وَعَنْ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشَّيْخَ الْكَبِيرَ» وَقَدْ بَيَّنَّا حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي أُمِنَ مِنْ قِتَالِهِ بِنَفْسِهِ وَرَأْيِهِ وَلَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ يُقْتَلُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةٍ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ وَلَكِنَّهُمْ أَحْضَرُوهُ لِيَسْتَعِينُوا بِرَأْيِهِ وَأَشَارَ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَرْفَعُوا الثِّقَلَ إلَى عُلْيَا بِلَادِهِمْ وَيَلْقَوْا الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ بِسُيُوفِهِمْ فَخَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ يَقُولُ أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى أَنْ تَدْخُلَ الْمَصَاحِفُ أَرْضَ الْعَدُوِّ» وَالْمَشْهُورُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِي الْعَدُوِّ وَيَسْتَخِفُّوا بِهِ فَعَلَى هَذَا النَّهْيِ فِي سَرِيَّةٍ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ قَوِيَّةٌ فَأَمَّا إذَا كَانُوا جُنْدًا عَظِيمًا كَالصَّائِفَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَبَرَّكَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ مَعَ نَفْسِهِ لِيَقْرَأَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ مِنْ ذَلِكَ لِقُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ.
(فَإِنْ قِيلَ): أَهْلُ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقِرُّونَ أَنَّهُ كَلَامٌ حَكِيمٌ فَصِيحٌ فَكَيْفَ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ، (قُلْنَا) إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْقَرَامِطَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَظْهَرُوا فِيهِ اعْتِقَادَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رِزَامٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَصَاحِفِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُشْكَلِ الْآثَارِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ كَثُرَتْ الْمَصَاحِفُ وَكَثُرَ الْحَافِظُونَ لِلْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ فَوْتُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ الْمَصَاحِفِ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَذُكِرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: أَنَا كَتَبْت كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى نَجْدَةَ كَتَبْت إلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَإِنَّ عَالِمَ مُوسَى قَتَلَ وَلَيَدًا وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ» فَلَوْ كُنْت تَعْلَمُ فِي الْوِلْدَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُ عَالِمُ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَجْدَةَ كَانَ يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُؤَالَ التَّعَمُّقِ حَتَّى سَأَلَهُ يَوْمًا لِمَاذَا طَلَبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْهُدْهُدَ قَالَ: لِيُخْبِرَهُ بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ يُبْصِرُ الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ إلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُبْصِرُ الْفَخَّ تَحْتَ التُّرَابِ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا جَاءَ الْقَضَا عَمِيَ الْبَصَرُ وَمِمَّا سَأَلَهُ هَذَا لِذَا رَوَاهُ وَجَوَابُهُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ عَالِمَ مُوسَى كَانَ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ مَا أَظْهَرَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ عَالِمُ مُوسَى كَانَ بَالِغًا فَقَدْ كَانَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا وَالْبُلُوغُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ بِالْعَقْلِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَكَتَبْت تَسْأَلُنِي عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَخْرُجُ مِنْ الْيُتْمِ؟ فَإِذَا احْتَلَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْيُتْمِ وَيُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ وَهَذَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ» وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ الْمَبْعَثِ قَدْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَالِ يَتِيمٌ قِيلَ هَذَا لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ يَتِيمًا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَتِيمًا وَلَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الشَّتْمَةُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ مُذَمَّمًا وَيَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَهُوَ كَانَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الشَّتْمَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.