فصل: بَابُ مَا أُصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ مَا أُصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ:

مِمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ:
(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بُنِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ إذَا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ عِنْدَنَا وَلَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَالتَّمَلُّكُ بِالْقَهْرِ أَقْوَى جِهَاتِ السَّبِيلِ وَلَمَّا أَغَارَ عُتَيْبَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى سَرَحَ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءُ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ: فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَصَدْت الْفِرَارَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى بَعِيرِ الْأَرْغِيِّ حَتَّى وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ فَرَكَنَتْ إلَيَّ فَرَكِبْتُهَا وَقُلْت: لَئِنْ نَجَّانِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لَأَنْحَرَنَّهَا وَلَآكُلَنَّ مِنْ سَنَامِهَا وَكَبِدِهَا فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَصْت عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ «بِئْسَمَا جَازَيْتَهَا لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «رُدِّيهَا فَإِنَّهَا نَاقَةٌ مِنْ إبِلِنَا وَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى اسْمِ اللَّهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلِأَنَّ الْمَعْصُومَ بِالْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ كَالرِّقَابِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْعِصْمَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي الْمَالِ وَالرِّقَابِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» فَذَلِكَ دَلِيلُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ حَتَّى لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ وَلَا يَمْلِكُ صَيْدَ الْحَرَمِ بِالِاسْتِيلَاءِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحِلِّ وَالسَّبَبُ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا صَادَفَ الِاسْتِيلَاءَ مَحَلًّا مَعْصُومًا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُهَاجِرِينَ فُقَرَاءَ وَالْفَقِيرُ حَقِيقَةً مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ الْكُفَّارُ أَمْوَالَهُمْ بِالِاسْتِيلَاءِ لَمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمَا قَالَ عَلِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ: أَلَا تَنْزِلُ دَارَك قَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبْعٍ» وَقَدْ كَانَ لَهُ دَارٌ بِمَكَّةَ وَرِثَهَا مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ فَيَمْلِكُ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَالِ إذَا تَمَّ بِالْإِحْرَازِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُسَاوَاةٌ فِي أَسْبَابِ إصَابَةِ الدُّنْيَا بَلْ حَظُّهُمْ أَوْفَرُ مِنْ حَظِّنَا لِأَنَّ الدُّنْيَا لَهُمْ وَلِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَخْذِ سِوَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَنَحْنُ لَا نَقْصِدُ بِالْأَخْذِ اكْتِسَابَ الْمَالِ ثُمَّ جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِدُونِ الْقَصْدِ فَلَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ أَوْلَى وَإِنَّمَا يُفَارِقُونَنَا فِيمَا يَكُونُ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِوِفَاقِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ فِي تَمَلُّكِ رِقَابِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ خَلْقٌ مَالِكًا لَا مَمْلُوكًا فَصِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ تَكُونُ بِوَاسِطَةِ إبْطَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى جَازَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَلَا إشْكَالَ أَنَّ إبْطَالَ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَالتَّقَرُّبِ فَإِبْطَالُ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ يَكُونُ الْجَزَاءُ وَالْعُقُوبَةُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ فِي رِقَابِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ مِنْهُمْ حَتَّى أَنَّ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ قُلْنَا بِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ عَبِيدَنَا بِالْأَخْذِ؛ وَالْمُفَارَقَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَا يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِكْسَابَ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْكَافِرَ سَبَبٌ مُبَاحٌ لِلْمِلْكِ وَاسْتِكْسَابُ الْكَافِرِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَكُونُ عُدْوَانًا فِي مَالٍ مَعْصُومٍ وَالْعِصْمَةُ بِالْإِحْرَازِ وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدِّينِ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ مِنْ حَيْثُ مُرَاعَاةُ حَقِّ الشَّرْعِ، وَالْإِثْمُ فِي مُجَاوَزَةِ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِينَ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْرَازُ فِي حَقِّهِمْ بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ دَافِعَةٌ لِشَرِّهِمْ حِسًّا وَمَا بَقِيَ الْمَالُ مَعْصُومًا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بَعْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالْأَخْذُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِدْوَانٍ مَحْضٍ وَالْمَحَلُّ غَيْرُ مَعْصُومٍ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ فِيهِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِمْ فَصْلُ الضَّمَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ؛ وَتَأْثِيرُ الْعِصْمَةِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي دَفْعِ الْمِلْكِ ثُمَّ لِمَا لَمْ يَبْقَ لِلْعِصْمَةِ بِالدِّينِ اعْتِبَارٌ فِي حَقِّهِمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي دَفْعِ الْمِلْكِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ بَعْدُ فَلَمْ يَمْلِكُوهَا وَلَا مَلَكَتْ هِيَ فَلِهَذَا اسْتَرَدَّهَا وَجَعَلَ نَذْرَهَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُكْمُ الْأَخْذِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُمْ يُفَارِقُونَنَا فِي دَارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْنَا فِي دَارِ الْجَزَاءِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا وَقَعَ هَذَا الْمَالُ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَحْرَزُوهُ فَإِنْ وَجَدَهُ مَالِكُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْرَزُوا نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَارِهِمْ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَخَاصَمَ فِيهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنْ وَجَدْتَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَتْهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شِئْت».
فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُمْ قَدْ مَلِكُوهَا وَإِنَّمَا فَرَّقَ فِي الْأَخْذِ مَجَّانًا بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ صَارَ مَظْلُومًا وَقَدْ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِنُصْرَةِ الدَّارِ وَهُمْ الْغُزَاةُ أَنْ يَدْفَعُوا الظُّلْمَ عَنْهُ بِأَنْ يَتْبَعُوا الْمُشْرِكِينَ لِيَسْتَنْفِذُوا الْمَالَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَقُّ لِعَامَّةِ الْغُزَاةِ فَعَلَيْهِمْ دَفْعُ الظُّلْمِ بِإِعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَعَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ وَلَكِنْ لَا بِطَرِيقِ إبْطَالِ حَقِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَحَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْعَيْنِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِيَتَوَصَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ثُبُوتَ حَقِّ الْغُزَاةِ فِيهِ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَلَى شَيْءٍ بَلْ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَهُمْ ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ فِي أَخْذِ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ إيَّاهُ مَجَّانًا إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ عِوَضٍ كَانَ حَقًّا لَهُمْ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْعَيْنَ عِوَضًا عَنْ سَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ فَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ فَيَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ مَا يُعْطِي مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ الْعِوَضَ الَّذِي كَانَ حَقًّا لَهُ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ شَيْئًا لَا مِثْلَ لَهُ فَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالْفُلُوسُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فَإِنْ وَجَدَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْأَخْذَ شَرْعًا إنَّمَا ثَبَتَ لَهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ هُوَ مُفِيدٌ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَوْ أَخَذَهَا بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَلِهَذَا جَرَى الرَّبَّا فِيهَا فَلِكَوْنِ الْأَخْذِ غَيْرَ مُفِيدٍ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ يَكُونُ مُفِيدًا لِمَا فِي الْعَيْنِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ لِلنَّاسِ.
وَإِنْ وَجَدَ عَبْدًا كَانَ لَهُ فَأَبَقَ إلَيْهِمْ وَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيَّةِ فَخَاصَمَ فِيهِ الْمَالِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَقَالَ: إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شِئْت» وَعَنْ الْأَزْهَرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَمَةً لِقَوْمٍ أُبْقِيَتْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَخَاصَمَ فِيهَا مَوْلَاهَا فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَرَدَّ جَوَابَهُ إنْ وَجَدَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ مَضَتْ الْقِسْمَةُ وَلِأَنَّ الْآبِقَ يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ أَوْ كَالدَّابَّةِ إذَا نَدَتْ إلَيْهِمْ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورِثِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَيَمْلِكُ بِالضَّمَانِ حَتَّى إذَا كَانَ مَغْصُوبًا فَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ وَيَمْلِكُ بِالْهِبَةِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِالْبَيْعِ مِمَّنْ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتَّمْلِيكِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ آبِقُهُمْ إلَيْنَا فَإِنَّمَا نَمْلِكُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَكَذَا آبِقُنَا إلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أَسْبَابِ إصَابَةِ الدُّنْيَا وَعَلَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ: لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُحْرِزُوهُ وَيَعْنِي أَنَّهُ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فَتَكُونُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ كَيَدِ الْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى زَالَتْ عَنْهُ حَقِيقَةً بِالْإِبَاقِ وَحُكْمًا بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُسْلِمِ يَدٌ عَلَى مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا كَمَا لَا يَثْبُتُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ الْيَدُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَخْلُفْهُ الْآخَرُ إمَّا لِأَنَّهُ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْتِي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَلَا تَثْبُتُ يَدُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ لِأَنَّ يَدَ أَهْلِ الْحَرْبِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ حِسًّا لَا حُكْمًا فَمَا لَمْ يَأْخُذُوهُ لَا تَثْبُتُ يَدُهُمْ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْيَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَوَكَّلَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ بِالثَّمَنِ لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ يَدُ الْمَوْلَى فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْيَدُ لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ تَثْبُتُ الْيَدُ لَهُ فِي نَفْسِهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ يَبْقَى هُوَ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْيَدِ.
وَمَا بَقِيَ الْمَالُ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُحْرِزُوهُ بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ صَارَ قَابِضًا لَهُ فَبَقَاءُ الْمَانِعِ حُكْمًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَيُتِمُّ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ فَأَمَّا الْآبِقُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا حَتَّى لَوْ وَهَبَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ قَاضِي الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ الدَّابَّةِ إذَا نَدَتْ إلَيْهِمْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهَا الْيَدُ فِي نَفْسِهَا وَبِخِلَافِ آبِقُهُمْ إلَيْنَا لِأَنَّ يَدَهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ فَيُتِمُّ إحْرَازُ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ وَبِخِلَافِ التَّمَلُّكِ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ فَإِنَّهُ تَمَلُّكٌ حُكْمِيٌّ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ قَصْدًا بِسَبَبِهِ كَالْخَمْرِ وَالْقِصَاصِ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالدَّيْنُ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازُ قَدْ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ وَلَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْآبِقَ لَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وَأَحْرَزُوهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْإِمَامُ يُعَوِّضُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ اسْتَحَقَّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شُرَكَائِهِ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ فَيُعَوِّضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَضَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قَسْمُهُ كَالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ يُوضَعُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ غُرْمٌ يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْغُرْمَ يُقَابَلُ بِالْغُنْمِ وَهَكَذَا يُقَالُ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ.
إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ مُكَاتِبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَيُعَوِّضُ الْإِمَامُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَقَ إلَيْهِمْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْفِدَاءِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْسُورًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ بِالْتِزَامِ الْخُسْرَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ هَذَا الْعَبْدُ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ فَيَبْقَى حَقُّهُ مَرْعِيًّا فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ قَدْ وَهَبُوهُ لِرَجُلٍ أَخَذَهُ مِنْهُ مَوْلَاهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَهُوَ مِلْكٌ مَرْعِيٌّ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مَجَّانًا لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَأْسُورِ مِنْهُ وَلَكِنَّ فِي ذَلِكَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ.
(فَإِنْ قِيلَ): هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
(قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ فَالْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ فِي الْهِبَةِ مَقْصُودٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ إذَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَضَ فَجُعِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مِنْ الْعَدُوِّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَبِمِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَمِلْكُهُ مَرْعِيٌّ كَمِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يُبْطِلَ الْعَقْدَ الثَّانِي لِيَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي الْعَيْنِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ لَهُ فِي نَقْضِ هَذَا التَّصَرُّفِ فَائِدَةً لِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقَّ نَقْضِ الْقِسْمَةِ لِيَأْخُذَهُ مَجَّانًا وَفَائِدَتُهُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّفِيعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ مُبْطِلًا لِحَقِّ الشَّفِيعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ وَرُبَّمَا يَهَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ وَالشُّفْعَةُ تَثْبُتُ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْهِبَةِ فَلِإِبْقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الْعَيْنِ مَكَّنَاهُ مِنْ نَقْضِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا هَهُنَا لَيْسَ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي إبْطَالُ حَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ حَقَّ الْآخِذِ يَبْقَى سَوَاءٌ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلِهَذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ حَقُّ الشَّفِيعِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ مِلْكِهِ فَيُنْتَقَضُ تَصَرُّفُهُ بِحَقِّ مَنْ سَبَقَ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مَا لَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِمَا يُقِرُّ هُوَ لَهُ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ.
وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَيَعْلَمُ بِهِ مَوْلَاهُ فَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ زَمَانًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ فَلَهُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سُكُوتَ الشَّفِيعِ جُعِلَ مُبْطِلًا حَقَّهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغَرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ فَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِالسُّكُوتِ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُبْطِلَ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَهُنَا فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ مُبْطِلًا لِحَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى أَسَرُوهُ ثَانِيًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرَ مِنْهُمْ ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ حَقَّ الْآخِذِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ دُونَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَلِهَذَا كَانَ حَقُّ الْآخِذِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَهُ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْأَخْذُ مِنْ يَدِهِ بِالثَّمَنَيْنِ جَمِيعًا إنْ شَاءَ وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَهُ فَقَدْ ظَهَرَ مَحَلُّ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَمْ يَظْهَرْ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
(فَإِنْ قِيلَ): إنَّمَا كَانَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي اسْتَفَادَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ وَهَذَا مِلْكٌ آخَرَ اسْتَفَادَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَكَيْف يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ.
(قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَمَا يَغْرَمُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِدَاءٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمِلْكِ كَالْمَوْلَى يَفْدِي عَبْدَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَبْقَى عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ لَا أَنْ يَتَمَلَّكهُ بِالْفِدَاءِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِوَضُ الَّذِي أَدَّى مِنْ مَالِهِ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْ أَدَّاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى أَخْذَهُ مَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَمِيعَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا غَرِمَهُ مَرَّتَيْنِ.
وَإِذَا أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةُ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ دَيْنِ إنْسَانٍ فَإِنْ رَجَعَ إلَى مَوْلَاهُ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فِي عُنُقِهِ كَمَا كَانَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِالْأَخْذِ أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ أَصْلًا وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ أَوْ رَجَعَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ مُسْتَأْنَفٍ بَطَلَتْ جِنَايَةُ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي وَقْتِهَا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَمَا لَوْ زَالَ الْعَبْدُ الْجَانِي عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْعِتْقِ وَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ وَالدَّيْنِ فَهُمَا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُؤْخَذُ بِهِمَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ ذِمَّتُهُ وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ لَا يَبْطُلُ الْقِصَاصُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّتِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَلِهَذَا أُخِذَ بِهِ وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَلْحَقُهُ الْجِنَايَةُ وَالدَّيْنُ يَبْدَأُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالْبَيْعِ بَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ دَفَعَ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ.
فَإِنْ وَقَعَ الْمَأْسُورُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَلَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ هَذَا الرَّجُلُ أَوْ دَبَّرَهُ جَازَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَمِلْكُهُ تَامٌّ مَعَ قِيَامِ حَقِّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ لِمَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّهَا وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ عَلَيْهِ قَدْ لَزِمَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ وَحَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ بِعَرْضِ الْإِبْطَالِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا أُعْتِقَ أَوْ دُبِّرَ يَبْطُلُ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لِمَا قُلْنَا.
وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدُهَا لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ ضَعِيفُ الْعَيْنِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُعَدُّ وَمَحَلُّهُ وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا مِنْ- الْعَيْنِ فَفِي الْمَالِ هُوَ مَحَلٌّ آخَرَ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى هَهُنَا قَوِيٌّ يَتَأَكَّدُ فِي الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَبْطُلُ بِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَلِهَذَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَالنِّكَاحُ أَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ أَخَذَ عَقْرَهَا أَوْ أَرْشَ جِنَايَةٍ جَنَى عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ وَالْأَرْشِ وَالْعَقْرِ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْعَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ السَّبَبُ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْعَقْرَ وَالْأَرْشَ أَخَذَهُمَا بِمِثْلِهِمَا فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْتَقَصُ عَنْ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِسَبَبِ احْتِبَاسِ الْعَقْرِ وَالْأَرْشِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ يَسِيرٍ أَوْ فَاحِشٍ لَمْ يُنْتَقَصْ عَنْ الْمَوْلَى شَيْءٌ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُعْطَى فِدَاءً وَلَيْسَ بِبَدَلٍ فِي حَقِّهِ وَالْفِدَاءُ لَا يُقَابَلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ قِصَّتَهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةً مِلْكًا صَحِيحًا وَقِيَامُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي الْأَخْذِ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ كَالْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ يَحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ لِلْوَاهِبِ فِيهَا حَقُّ الرُّجُوعِ.
(قَالَ) فَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ يَتِيمًا كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الصَّبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ نَظَرًا لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَسْرَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ السَّبَبُ الْمُثْبِتُ لِحَقِّ الْأَخْذِ لَهُ.
فَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ رَهْنًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا فَأَسَرَهَا الْعَدُوُّ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ مَوْلَاهَا أَحَقَّ بِهَا بِالثَّمَنِ لِأَنَّهَا أُسِرَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَحَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ وَذَلِكَ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ أَخَذَهَا لَمْ تَكُنْ رَهْنًا لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ تَاوِيَةً وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أُعْطِي مِنْ الْأَلْفِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ أَخْذِهَا إلَّا بِرَدِّ الْأَلْفِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا لِيَسْتَوْفِيَ أَلْفًا مِنْ مَالِيَّتِهَا فَلَا يُفِيدُهُ إعْطَاءُ الْأَلْفِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ أَلْفًا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ جَنَتْ جِنَايَةً يَبْلُغُ أَرْشَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَهَا فَفَدَاهَا الرَّاهِنُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ الْمَوْلَى فَيَكُونَ رَهْنًا عِنْدَهُ عَلَى حَالِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهَا مُفِيدٌ لَهُ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ الْخَمْسَمِائَةِ لِيُحْيِيَ بِهِ حَقَّهُ فِي الْأَلْفِ وَهُوَ نَظِيرُ الْجِنَايَةِ إذَا كَانَ أَرْشُهَا أَقَلَّ مِنْ الْأَلْف فَفَدَاهَا الرَّاهِنُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْفِدَاءَ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ عَلَى حَالِهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا فَكَانَتْ تَاوِيَةً فِي حَقِّهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يُعْطِيهِ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ لِلْمُشْتَرِي فِدَاءً وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَى أَخْذِهَا سَبِيلٌ وَكَانَ الْحَقُّ فِي أَخْذِهَا لِمَوْلَاهَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لِلْمَوْلَى دُونَ ذِي الْيَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْغَاصِبِ فَالْغَصْبُ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَالْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حِفْظِ مِلْكِهِ فَيُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْحِفْظِ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَيَخْرُجُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَوْدِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لَهُ وَلَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي التَّمَلُّكِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ وَبِهِ فَارَقَ الْفِدَاءَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ لَوْ فَدَاهَا مِنْ الْجِنَايَةِ صَحَّ وَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَنَظِيرُهَا بِالْفِدَاءِ يُقَرِّرُ حِفْظَ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْإِحْرَازُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَإِنْ أُخِذَ بِالثَّمَنِ يَكُونُ إعَادَةً لِلْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ حِفْظًا لِلْمَلَكِ وَهُوَ مَا أَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ.
فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَ أَنْ تُؤْسَرَ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ حُكْمًا فَإِنَّهَا مُسْلِمَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَأْسُورَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صُورَةً وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً لَا حُكْمًا لَا يَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَبِالْإِحْرَازِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ كَبَيْعِ الْمَوْلَى إيَّاهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنِّكَاحِ.
فَإِنْ غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَزُوهُ وَهُنَاكَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ مُسْتَأْمَنٌ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُمْ فَيَأْكُلُ الطَّعَامَ مِنْ ذَلِكَ وَيَطَأُ الْجَارِيَةَ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ فَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ بِأَمَانٍ فَسَرَقَ مِنْهُمْ جَارِيَةً وَأَخْرَجَهَا لَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَحْرَزَهَا عَلَى سَبِيلِ الْغَدْرِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَدْرٌ بِأَمَانِ نَفْسِهِ لَا بِأَمَانِ الْإِمَامِ فَأَمَّا هَهُنَا هَذَا الْمِلْكُ تَامٌّ لِلَّذِي أَحْرَزَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَتْ سَالِمَةً لَهُ وَلَا يُفْتِي بِرَدِّهَا فَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ وَطْؤُهَا وَهَذَا لِلْفِقْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَنْعَدِمُ عِنْدَ تَمَامِ إحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً بِالْإِحْرَازِ فَلَا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُمْ وَلَا أَنْ يَطَأَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَتَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ اشْتَرَى التَّاجِرُ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ حُرًّا أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهُ فَالْحُرُّ عَلَى حَالِهِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَا يُمْلَكَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فَدَاهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَالَ نَفْسِهِ فِي تَخْلِيصِهِمَا وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا بِأَمْرِهِمَا وَهَذَا فِي الْحُرِّ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِ الْيَدِ وَالْمَكَاتِبِ وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ فَبَاعَهُ مِلْكَهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَعْتَقَهُ فَهُوَ حُرٌّ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَأَعْتَقَهُ وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يُعْتِقَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَا بِإِعْتَاقِهِ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ عَبْدَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ يُعْتِقُ فَهَذَا أَيْضًا عَبْدٌ مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ وَيَدُهُ بِبَيْعِهِ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ وَعِنْدَهُمَا بِالْبَيْعِ لَا يُعْتِقُ وَإِنَّمَا يُعْتِقُ بِالْإِعْتَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالْإِعْتَاقُ مِنْ الْحَرْبِيِّ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِمْ مُنِعَ الْمُعْتِقُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْمُعْتِقِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ هَهُنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ فَلِهَذَا يُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهِ وَقِيلَ بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا يَقُولُ يُعْتِقُ بِالْبَيْعِ فِي عَبْدٍ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ وَفِي هَذَا الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ حَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى مِلْكِهِ مَجَّانًا أَوْ بِفِدَاءٍ فَلَا يُعْتَقُ بِالْبَيْعِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ مَالِكُهُ.
وَإِذَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى مَالِ أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَصَارُوا ذِمَّةً فَهُوَ لَهُمْ وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ وَبِهِ كَانَ يَقُولُ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ فِي الَّذِي وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ وَالسُّنَّةُ هَهُنَا جَاءَتْ بِتَقَرُّرِ الْمِلْكِ لِلَّذِي أَسْلَمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ هُنَاكَ وُجُوبُ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَهُنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ عَلَى هَذَا الْحَرْبِيِّ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ حِينَ أَحْرَزُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ شَرْعًا وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالنُّصْرَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَا كَانَ يَوْمئِذٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي مِلْكِهِ وَإِذَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْبِيُّ بَاعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَالْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْمَالُ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ فِيهِ وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا وَلَمْ يَكُنْ حَقُّ الْمَوْلَى ثَابِتًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَكَّنَاهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ كَانَ غَدْرًا بِالْأَمَانِ وَذَلِكَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُسْتَأْمَنُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ اسْتِذْلَالِهِ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ وَإِعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ.
وَإِذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأَبَوَيْنِ فِي الدِّينِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» وَلَا تَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ عِنْدَ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُونَ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَلَكِنَّهُ فِي الدَّارِ لَا مِنْ الدَّارِ فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِلْأَبَوَيْنِ أَصْلًا وَالدَّارُ فِي حُكْمِ الْخَلْفِ فَلَا يَظْهَرُ الْخَلْفُ مَعَ قِيَامِ الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَتِهِمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّةَ إذَا وَلَدَتْ مِنْ زِنًا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُهَا فِي الدِّينِ وَلَا أَبَا هُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ يَكْفِي فِي الِاتِّبَاعِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ دِينُهُ فَإِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ لِلسَّابِي وَطْؤُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا تَبَعًا لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِأَنَّهُ يَقْرَبُ مِنْ التَّابِعِ فَإِذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبَوَيْنِ انْقَطَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ وَيَصِيرُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ كَاللَّقِيطِ فَإِذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ خَرَجَ الْأَبُ مِنْ نَاحِيَةٍ وَالِابْنُ مِنْ نَاحِيَةٍ مَعًا فَمَاتَ الصَّبِيُّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ فِي دَارِنَا إلَّا وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ دُونَ الدَّارِ وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْأَبُ أَوَّلًا ثُمَّ الصَّبِيُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ أَوَّلًا ثُمَّ الْأَبُ فَإِنَّهُ حِينَ خَرَجَ أَوَّلًا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجَ أَبَوَاهُ.
(فَإِنْ قِيلَ): إذَا خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْأَبِ يُوجِبُ كُفْرَهُ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الدَّارِ يُوجِبُ إسْلَامَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ الْمُوجِبُ لِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ قُلْنَا: الِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فَأَمَّا الدَّارُ خَلَفٌ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَا يَظْهَرُ الْخُلْفُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالتَّرْجِيحِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَبُوهُ كَافِرًا فِي دَارِنَا لِأَنَّ بِمَوْتِهِ لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ وَإِنْ مَاتَتْ آبَاؤُهُمْ وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ثُمَّ جَعَلْنَا الْوَلَدَ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا بَقِيَ أَبَوَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا نَجْمُلُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا مَاتَ أَبَوَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ نَقُولُ: الْمَوْتُ لَا يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَبْقَى حِلُّ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْغُسْلِ وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا يُنَافِي الْعِصْمَةَ وَالتَّبَعِيَّةَ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَفْتَرِقَانِ.
وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلَكِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيُسْلِمُوا عَسَى وَيُكْرَهُ بَيْعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَلَا يُبَاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِيُعِيدُوهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَقَوَّوْا بِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ صَارَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ مِنْ صِغَارِهِمْ يُكْرَهُ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ مِنْ الْأَسَارَى وَلَهُ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُمْ وَيُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْجُنْدِ يَنْظُرُ أَيُّ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَهُ «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَسَّمَ سَبَايَا أَوْطَاسٍ» فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَالْإِمَامُ نَصَّبَ نَاظِرًا فَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي قَتْلِهِمْ لِمَعْنَى الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْعَدُوِّ وَلِيَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ فِتْنَتَهُمْ وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي قِسْمَتِهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَيَخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ بِدُونِ رَأْي الْإِمَامِ لِأَنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى رَأْيِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ الْآسِرُ فِتْنَةً فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلُهُ» وَإِنْ كَانَ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَسِيرَ مَا لَمْ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ مُبَاحُ الدَّمِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتْلُ مُبَاحِ الدَّمِ لَا يُوجِبُ ضَمَانَهُ فَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ يُقَسِّمُهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقِسْمَةِ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ بِالْأَخْذِ وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَرِقَّاءِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الرِّقِّ وَالْقِسْمَةُ لِتَعْيِينِ الْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِسْلَامُهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَكِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَمَانًا فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: قَدْ كُنَّا أَمِنَّاهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ فَلَا يُصَدَّقُونَ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُمْ هَذَا إقْرَارٌ لَا شَهَادَةَ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ أُخْبِرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ كَانَ مُتَّهَمًا فِي خَبَرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ أَسَرُوهُمْ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا مِنْ الْجُنْدِ فَفِي شَهَادَتِهِمْ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْجُنْدِ فَلَيْسَ فِي شَهَادَتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ فَالثَّابِتُ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً.
وَلَا يُقْتَلُ الْأَعْمَى وَلَا الْمُقْعَدُ وَالْمَعْتُوهُ مِنْ الْأَسَارَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ يُقَاتِلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ} وَالْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَمَّا «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً قَالَ: هاه مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ يُقَاتِلُ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالْمَعْتُوهُ لَا يُقَاتِلُونَ أَحَدًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَارِضًا فَقَدْ انْدَفَعَ بِالْأَسْرِ فَلَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ مِنْهُمْ إذَا قَاتَلَتْ فَأُسِرَتْ لَا تُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَا بَأْسَ بِإِرْسَالِهِ الْمَاءَ إلَى مَدِينَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَطْفَالٌ أَوْ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْرَى أَوْ تُجَّارٌ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمًا وَأَنَّهُ يَتْلَفُ بِهَذَا الصُّنْعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَتَرْكَ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأَسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مُرَاعَاةَ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ فَلَوْ اعْتَبِرْنَا هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ فَإِنَّ حُصُونَهُمْ وَمَدَائِنَهُمْ قَلَّ مَا تَخْلُو مِنْ مُسْلِمٍ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ وَكَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ قَتْلُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِمَكَانِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ فَكَذَلِكَ لِمَكَانِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَنْعُ هَذَا وَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ وَأَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ يُحَرِّقَ وَحَرَّقَ حِصْنَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ» وَكَذَلِكَ إنْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ الرَّامِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرْضٌ وَتَرْكُ الرَّمْيِ إلَيْهِمْ جَائِزٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقِتَالُ مَعَهُمْ فَرْضٌ وَإِذَا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِمَا فَعَلُوا أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ وَلِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الرَّمْيِ لِمَا أَنَّهُمْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْتَرِئُونَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرُبَّمَا يُصِيبُونَ مِنْهُمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ الدُّنُوِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ الرَّامِي أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْحَرْبِيَّ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ فِعْلًا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ بِقَصْدِهِ لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ فِيمَا أَصَابَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ إصَابَةٌ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ مَعَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالْمُبَاحُ مُطْلَقًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَلَا دِيَةً وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَقُولُ هَذَا قَتْلُ خَطَأٍ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْكَافِرَ فَيُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَهَذَا هُوَ صُورَةُ الْخَطَأِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ حَالِ مَنْ يُصِيبُهُ عِنْدَ الرَّمْي لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ خَطَأً بَلْ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا.
وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَلَهُ فِي أَيْدِيهِمْ جَارِيَةٌ مَأْسُورَةٌ كَرِهْتُ لَهُ غَصَبَهَا وَوَطْأَهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ فَلَوْ غَصْبَهَا مِنْهُمْ أَوْ سَرَقَهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ وَقَدْ ضَمِنَ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا عَلَيْهِ فَهُوَ إنَّمَا يُعِيدُ مِلْكَهُ إلَى يَدِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمِلْكِهِمْ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا كَانَ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَأْسُورًا فِيهِمْ لِمَ أُكْرِهْ لَهُ أَنْ يَغْصِبَ أَمَتَهُ أَوْ يَسْرِقَهَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانٌ وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ فِيهِمْ مَظْلُومٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَنْ يَسْرِقَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِخِلَافِ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ تُرِكَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِهِ وَرَقِيقِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّ أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا فَلَا يُسْتَرَقُّونَ وَالْمَنْقُولَاتُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ لِإِسْلَامِ صَاحِبِهَا فَلَا يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِتَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ لَا إبْطَالَ مِلْكِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ يَدَهُ إلَى أَمْتِعَتِهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا عَقَارُهُ فَإِنَّهَا تَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَقَارَهُ لَهُ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى «أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَسْلَمُوا حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرًا لَهُمْ فَأَحْرَزُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» قَالَ: وَعَامَّةُ أَمْوَالِهِمْ الدُّورُ وَالْأَرَاضِي وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ إنَّمَا تَثْبُتُ حُكْمًا وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ الْأَحْكَامِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَبَعْدَ الظُّهُورِ يَدُ الْغَانِمِينَ فِيهَا أَقْوَى مِنْ يَدِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ غَنِيمَةً بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ وَلَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ يَدٌ فَهُمْ كَسَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ الْحُبْلَى لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً بِإِسْلَامِ زَوْجِهَا فَتَكُونُ فَيْئًا وَيَدُهُ عَلَيْهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الِاغْتِنَامَ كَالْيَدِ عَلَى الْعَقَارِ وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ أَبَدًا كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَنِينُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ وَهِيَ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْجَنِينُ فِي إعْتَاقِ الْأُمِّ كَمَا لَا يُسْتَثْنَى سَائِرُ أَجْزَائِهَا وَكَمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يَصِيرُ الْجَنِينُ مُسْتَثْنًى بَعْدَ مَا ثَبَتَ الرِّقُّ فِي الْأُمِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبَعِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بَلْ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ يَظْهَرُ فِي التَّبَعِ فَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الرِّقِّ.
وَإِنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَأَهْلُهُ وَمَالُهُ وَأَوْلَادُهُ أَجْمَعُونَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي دَارِنَا فَوَلَدُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُنَافٍ لِلتَّبَعِيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا خَلَفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِهِ فَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ دُونَهُ.
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ مَالِهِ فَيْءٌ إلَّا أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ التَّبَعِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَائِمَةً وَبَعْدَ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ لَا يُسْتَرَقُّونَ فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ فِيهَا بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَذَلِكَ الْمَالُ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى هَذَا الْمَالِ فَتَكُونَ مَانِعَةً إحْرَازَ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهَا كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُودِعِ وَإِذَا لَمْ تَصِرْ غَنِيمَةً كَانَتْ يَدُ الْمُودِعِ فِيهَا كَيَدِ الْمُودَعِ فَيَصِيرُ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ حَرْبِيًّا فَذَلِكَ الْمَالُ فَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ فَجُعِلَتْ يَدُهُ بَاقِيَةً عَلَى هَذَا الْمَالِ حُكْمًا بِيَدِ مَنْ يَخْلُفُهُ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَدَ الْمُودِعِ فِي هَذَا الْمَالِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ دَافِعَةً لِاغْتِنَامِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْوَدِيعَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ مُعْتَبَرَةً كَانَ هَذَا وَالْمَالُ الَّذِي لَمْ يُودِعْهُ أَحَدًا سَوَاءً.
وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا بِأَمَانٍ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا وَدُورًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ إلَّا الدُّورَ وَالْأَرَضِينَ فَإِنَّهَا فَيْءٌ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُحْرِزُ بِيَدِهِ لِأَمْوَالِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَأَمَّا الدُّورُ وَالْأَرَضِينَ فَهِيَ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَصِيرُ مَغْنُومَةً كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْيَدَ عَلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْوَى مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَقْوَى إذَا ثَبَتَتْ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ فَالْيَدُ عَلَيْهَا تَبْقَى مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ فَكَانَ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِحْرَازُ فِي الْمَنْقُولَاتِ بِأَنْ يَخْرُجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُجْعَلُ أَيْضًا مُحْرِزًا لَهَا بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الدَّارِ فَأَمَّا الْعَقَارُ لَا يَتَحَوَّلُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ إحْرَازُهُ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا تَصِيرُ مُحْرِزَةً بِالْغَانِمِينَ وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ كِبَارِ عَبِيدِهِ فَهُوَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يَمْنَعُ عَبْدَهُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ حَقِيقَةً كَانَ فَيْئًا كَسَائِرِ عَبِيدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حُبْلَى فَهِيَ وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ وَدِيعَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَتْ بِفَيْءٍ أَمَّا مَا كَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَأَمَّا مَا كَانَ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فَلِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَدُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى تِلْكَ الْوَدِيعَةِ بِاعْتِبَارِ يَدِ مُودِعِهِ وَكَوْنُهُ حَافِظًا لَهُ فَتَكُونُ يَدُهُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْعَطْفُ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ الْفَرْقُ أَنَّ التَّاجِرَ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ مَالُهُ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ إلَّا بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا أَوْدَعَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ جَارِيًا عَلَى وِفَاقِ مَا أَمَرَ بِهِ فَإِذَا بَقِيَ الْمَالُ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِغْنَامِ فَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَالُهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِغْنَامِ إلَّا مَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ يَدٌ صَحِيحَةٌ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِغْنَامِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا أَوْدَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْوَدِيعَةَ فَاقْتَسَمُوهَا فِي الْغَنِيمَةِ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا بِغَيْرِ قِيمَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ لَمْ يُحْرِزْهُ الْمُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَتَلُوا هَذَا الْمُسْلِمَ فِي دَارِهِمْ وَأَخَذُوا مَالَهُ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ رَدُّوهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ فَقَدْ صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُ فَيَمْلِكُونَهُ ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ يَمْلِكُونَهُ عَلَيْهِمْ بِالِاغْتِنَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَحْرَزُوهُ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ فَكَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُقُوقُ مِلْكِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ كَانَ لِحَقِّ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ فَيَقُومُ فِيهِ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَأْسُورِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ دُونَ ذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا اقْتَسَمُوهُ ثُمَّ حَضَرَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ أَخَذُوا الْأَمْتِعَةَ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَرِّثُ حَيًّا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَسْلَمُوا عَلَى دَرَاهِمِ وَصَالَحُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ إسْلَامَهُمْ يُقَرِّرُ مِلْكَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي دَمِهِ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ حِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ دَمِهِ يَوْمئِذٍ ثُمَّ لَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِمْ.
وَلَوْ كَانَ مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى صَبِيًّا وَصَبِيَّةً فَأَعْتَقَهُمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ فَكَبِرَا هُنَاكَ كَافِرَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَهُمَا فَيْءٌ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إيَّاهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ إعْتَاقًا صَحِيحًا فَهُمْ كَسَائِرِ أَحْرَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْكُفَّارِ فَيَكُونُونَ فَيْئًا وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ نَظِيرَ الْوِلَادِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَالْمُعْتَقُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ مُعْتِقِهِ إنْ كَانَ صَغِيرًا لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ لَا يَتْبَعُ مَوْلَاهُ فِي الدِّينِ فَبِاعْتِبَارِ أَثَرِ الْمِلْكِ أَوْلَى.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَاجِرًا أَوْ أَسِيرًا أَوْ أَسْلَمَ هُنَاكَ فَأَمِنَهُمْ فَأَمَانُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ جِهَتِهِمْ وَلِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِالْأَمَانِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُؤَمِّنَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ الْأَمَانَ يَكُونُ عَنْ خَوْفٍ وَلَا خَوْفَ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ عَقْدُهُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَإِنَّ مَنْ أَمِنَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ جَازَ أَمَانُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَقَلُّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ وَقَالَ: يَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أُولَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى تَعْقِدُ الْأَمَانَ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى تُنْبَذُ إلَيْهِمْ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْجَيْشِ إنَّمَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَهُ فَيَنْفُذُ عَقْدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّى أَيْضًا فَيَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ لِتَكَامُلِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ كَالتَّزْوِيجِ بِوِلَايَةِ الْقَرَابَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّنَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْحَرْبِ جَازَ أَمَانُهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانَهَا» وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَدَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرِيدُ قَتْلَهُمَا وَقَالَ: أَتُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقُلْت: لَا إلَّا أَنْ تَبْدَأَ بِي قَبْلَهُمَا وَأَخْرَجْتُهُ مِنْ الْبَيْتِ وَأَغْلَقْتُ الْبَابَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ فَاخِتَةً: قُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي وَأَرَادَ قَتْلَهُمَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت» وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَإِنَّهَا تُجَاهِدُ بِمَالِهَا وَكَذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَالْخُبْزِ وَذَلِكَ جِهَادٌ مِنْهَا.
فَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا أَمِنَ أَهْلَ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَأَمَانُهُ صَحِيحٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَتَبَ عَلَى سَهْمٍ بِالْفَارِسِيَّةِ مترسيت وَرَمَى بِذَلِكَ إلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ أَمَانَهُ وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُقَاتِلًا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِعْلُ الْمُقَاتِلِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ مَوْلَاهُ فَهُمْ يَخَافُونَهُ فَعَقْدُهُ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الْغَيْرِ وَقَوْلُ الْعَبْدِ فِي مِثْلِهِ صَحِيحٌ كَمَا فِي شَهَادَتِهِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ وَلَا يُقَالُ قَرَابَتُهُ فِيهِمْ فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ أَمَانُهُ كَالذِّمِّيِّ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِ إيثَارُ الْقَرَابَةِ عَلَى الدِّينِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَيْضًا وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ فَأَمَّا الذِّمِّيُّ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ سَبَبُ وِلَايَةِ الْأَمَانِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ.
فَأَمَّا أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الْقِتَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَأَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبْدُ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَمَانُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا تُهْمَةَ فِي أَمْرِهِ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ وَبَيَانُ الْأَهْلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْجِهَادِ إعْزَازُ الدِّينِ وَدَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ أَهْلًا لَهُ ثُمَّ الْجِهَادُ يَكُونُ بِالنَّفْسِ تَارَةً وَبِالْمَالِ أُخْرَى فَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَنَافِعِهِ وَتَعْرِيضُ مَالِيَّتِهِ لِلْهَلَاكِ فَأَمَّا الْأَمَانُ جِهَادٌ بِالْقَوْلِ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ صِحَّةُ أَمَانِهِ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي الْقَتْلِ وَتَأْثِيرُ الْإِذْنِ فِي رَفْعِ الْمَانِعِ لَا فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْإِذْنِ لَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَنُزُولُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ الْأَمَانُ تَرْكُ الْقِتَالِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِالْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَبَعْدَ الْإِذْنِ هُوَ فِي الْأَمَانِ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دِينُهُ لَا دِينَ الْمَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ أَهْلًا لِكَوْنِهِ مُسْلِمًا وَلِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ وَقَوْلُهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مُعْتَبَرٌ مُلْزِمٌ فَكَذَلِكَ فِي فُرُوعِهِ وَلِهَذَا صَحَّ إحْرَامُهُ وَصَحَّ مِنْهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالذِّمَّةُ أَقْوَى مِنْ الْأَمَانِ فَيُسْتَدَلُّ بِصِحَّةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْأَدْنَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
(وَحُجَّتُنَا) قَوْله تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وَالْأَمَانُ شَيْءٌ وَهَذَا عَامٌّ لَا يَجُوزُ دَعْوَى التَّخْصِيصِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْأَصْنَامِ وَاحِدُهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْجِهَادِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ بِنَفْسِهِ كَالذِّمِّيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْجِهَادَ يَكُونُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ وَنَفْسُهُ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ صِحَّةَ الْأَمَان مِنْ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْأَمَانُ خَيْرًا لَهُمْ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْقِتَالَ حِفْظُ قُوَّةِ النَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ وَلَكِنَّ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورَةٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَكُونُ مُجَاهِدًا فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ الْقِتَالَ لَا يَعْرِفُ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ فَلَا يَكُونُ أَمَانُهُ جِهَادًا بِالْقَوْلِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ عَرَفَ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ فَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ أَمَانِهِ وَلِهَذَا لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ أَمَانِ الْأَسِيرِ لِأَنَّ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورَةٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَكُونُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَسِيرُ خَائِفٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي الْمُقَيَّدِ بِالْأَسْرِ فَفِي الْمُقَيَّدِ بِالرِّقِّ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَسِيرَ مَالِكٌ لِلْقِتَالِ وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ حِسًّا وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْقِتَالِ أَصْلًا وَلِأَنَّ عَقْدَ الْعَبْدِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْقِتَالِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ يَخَافُونَهُ فَإِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْعَبْدُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ وَهُوَ يَخَافُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَمِنْتُكُمْ وَلَا يَقُولُ: أَمِنْت نَفْسِي وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَمَانًا وَلِأَنَّهُ نَوْعُ وِلَايَةٍ حَيْثُ إنَّهُ يَتَقَيَّدُ الْقَوْلُ عَلَى الْغَيْرِ بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ نَظِيرَ وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْأَمَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْأَمَانَ تَرْكُ الْقِتَالِ ضَرُورَةً وَلَكِنَّهُ مِنْ الْقِتَالِ مَعْنَى فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِلْقِتَالِ وَالْآثَارُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» فَأَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَنَقُولُ: إنَّهُ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا طَلَبُوا ذَلِكَ افْتَرَضَ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ فَلَوْ اعْتَبَرَ مَا سَبَقَ مِنْ الْعَبْدِ احْتَسَبَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمُدَّةَ لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ كَانَ ابْتِدَاءَ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ الْحَالِ فَلِكَوْنِهِ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا الْأَمَانُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْتَرَضُ إجَابَةُ الْكُفَّارِ إلَيْهِ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاسْتِغْنَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ تَوَهُّمُ الضَّرَرِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى خَاصَّةً كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَوْلَى فَالتَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى.
فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ أَمَانَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَمَانُهُ بَاطِلٌ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ بِصِحَّةِ أَمَانِهِ كَمَا يَقُولُ بِصِحَّةِ إيمَانِهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا يَضُرُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَانُهُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ.
وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَطَأَهَا وَلَا يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا فَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْمُسْلِمِ يَشْتَرِي جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ سَبَبُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِ حِينَ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَهَذَا بِخِلَافِ اللِّصِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ جَارِيَةً وَاسْتَبْرَأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ مَا اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ الْتَحَقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُ فِيهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمُنَفَّلِ الْقَهْرُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ فِي حَقِّ الْجَيْشِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ قَاهِرٌ يَدًا مَقْهُورٌ دَارًا فَيَكُونُ السَّبَبُ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا أَثَرَ لِلتَّنْفِيلِ فِي إتْمَامِ الْقَهْرِ إنَّمَا تَأْثِيرُ التَّنْفِيلِ فِي قَطْعِ شَرِكَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْمُنَفَّلِ لَهُ فَأَمَّا سَبَبُ الْمِلْكِ لِلْمُنَفَّلِ لَهُ مَا هُوَ السَّبَبُ لَوْلَا التَّنْفِيلُ وَهُوَ الْقَهْرُ فَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا أَخَذَهُ اللِّصُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ لُحُوقَ الْجَيْشِ بِهِ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ الْحِلِّ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا تَمَّ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا لِأَنَّ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ لَا يَنْعَدِمُ الْمَانِعُ مِنْ تَمَامِ الْقَهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْهُورِينَ دَارًا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: لَمَّا نَفَذَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ الْإِمَامِ تَصِيرُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ يَمْلِكُ عَيْنَهَا بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ تَمَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ الْوَطْءُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَإِذَا خَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ مُسَلَّحَةٍ أَوْ عَسْكَرٍ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهَا تُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْخَارِجِينَ فَإِنَّ الْمُصَابَ صَارَ مُحْرِزًا بِالدَّارِ بِقُوَّتِهِمْ جَمِيعًا إذْ هُمْ الرِّدْءُ لَهُمْ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ لِيَنْصُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْإِمَامُ أَذِنَ لَهُمْ فِي أَنْ يَأْخُذُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِهَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إذْنٍ جَدِيدٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ بَعَثَ الْإِمَامُ رَجُلًا طَلِيعَةً فَأَصَابَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ رِدْءٌ لَهُ وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ مِثْلَ الْمِصِّيصَةِ وَمَلَطْيَةَ بَعَثَهُمْ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْهَا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُونَ رِدْءًا لِلْمُقَاتِلِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ تَوَطُّنَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْمَقَامِ فِي أَهَالِيِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَإِنَّ تَوَطُّنَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ لِلْقِتَالِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لِلسَّرِيَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَوَى مِنْهُمْ الْإِقَامَةَ فِي الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ سَاكِنِ الْمَدِينَةِ وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ هَهُنَا حَصَلَ بِالسَّرِيَّةِ خَاصَّةً وَهُنَاكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَصَلَ بِالسَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ ثُمَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا لَهُمْ مَنْعَةٌ أَوْ لَا مَنْعَةَ لَهُمْ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَنْعَةٌ فَسَوَاءٌ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّ مَا أَصَابُوهُ غَنِيمَةً حَتَّى يُخَمَّسَ وَيَقْسِمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الْمُصِيبُ وَغَيْرُ الْمُصِيبِ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ لَا يَخْفَى عَلَى الْإِمَامِ عَادَةً وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيَمُدَّهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أُصِيبُوا مَعَ مَنْعَتِهِمْ كَانَ فِيهِ وَهْنًا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ نُصْرَتُهُمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الدَّاخِلِينَ بِإِذْنِهِ وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ الْمُصِيبِينَ أَهْلُ مَنْعَةٍ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ جَهَارًا فَأَمَّا إذَا كَانُوا قَوْمًا لَا مَنْعَةَ لَهُمْ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُمَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَمُدَّهُ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْذَنُ لِلْوَاحِدِ فِي الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ قُوَّتَهُ عَلَى مَا بَعَثَهُ لِأَجْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْوَاحِدُ سَرِيَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَرِيَّةً وَحْدَهُ» «وَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ طَلِيعَةً» وَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ هَذَا الْوَاحِدُ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ إعْزَازِ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يُجَاهِرُ بِمَا يَأْخُذُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ سِرًّا إذْ هُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَالدَّاخِلِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا مَنْعَةَ لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ فَلَا خُمْسَ فِيمَا أَصَابُوا عِنْدَنَا وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً وَإِنْ أَصَابُوا جَمِيعًا قَسَّمَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَفْضُلُ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَالْغَنِيمَةُ اسْمُ مَالٍ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكَفَرَةِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا لِلْمُحَارَبَةِ وَالْقَهْرِ لِأَنَّ الْقَهْرَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقُوَّةِ جِهَارًا وَتَارَةً يَكُون بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ سِرًّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ».
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مَا يَأْخُذُونَ غَنِيمَةً وَصِفَةُ أَحَدِهِمْ لَا تَخْتَلِفُ بِوُجُودِ إذْنِ الْإِمَامِ وَعَدَمِهِ.
(وَحُجَّتُنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوا ابْنًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو مَا يَلْقَى مِنْ الْوَحْشَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ الِابْنُ عَنْ قَلِيلٍ بِقَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَالٍ مُصَابٍ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ الدِّينِ وَلِهَذَا جُعِلَ الْخُمُسُ مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْوَاحِدُ عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ فَيَتَمَحَّضُ فِعْلُهُ اكْتِسَابًا لِلْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنْعَةٍ وَشَوْكَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الَّذِينَ لَهُمْ مَنْعَةٌ لَوْ أَمِنَهُمْ صَحَّ أَمَانُهُ وَاللِّصُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ أَمِنَهُمْ لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيمَا إذَا كَانَ دُخُولُ الْوَاحِدِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَإِنْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى جَارِيَةً كِتَابِيَّةً وَاسْتَبْرَأَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا هُنَاكَ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَمَّ بِتَمَامِ سَبَبِهِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ فِي كَوْنِهِ سَبَبَ الْمِلْكِ تَامٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ إذَا أَصَابَ جَارِيَةً فَإِنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ هُنَاكَ لَمْ يَتِمَّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي دَارِهِمْ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَّصِلُ بِجَيْشٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُشَارِكُونَهُ فِيهَا إذَا شَارَكُوهُ فِي الْإِحْرَازِ.
(قَالَ): وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ أُمَّتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَسْلٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّوَطُّنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» وَإِذَا خَرَجَ رُبَّمَا يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَخَلَّقُ وَلَدُهُ بِأَخْلَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ مَوْطُوءَتَهُ إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَإِذَا عَلِقَتْ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ مَلَكُوهَا مَعَ مَا فِي بَطْنِهَا فَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِي الْإِمَامُ أَبَا الْغَازِي شَيْئًا مِنْ الْخُمُسِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ حَاجَةَ الْغَازِي إلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِيهِ فَفِي أَبِيهِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ فِعْلُ الْإِيتَاءِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا جَعَلَهُ لِلَّهِ خَالِصًا بِقَطْعِ مَنْفَعَتِهِ مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَهُنَا الْخُمُسُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْغُزَاةِ بَلْ خُمُسُ مَا أَصَابُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَازِي وَأَبُوهُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ.
وَإِذَا غَزَا أَمِيرُ الشَّامَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي الْعَسْكَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ الْحَرْبَ خَاصَّةً.
فَإِنْ حَاصَرَ أَمِيرُ الشَّامِ مَدِينَةً مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجْمَعْ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُحَارِبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْإِقَامَةُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّوَطُّنِ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَنْ يَهْزِمَ عَدُوَّهُ فَيُقِرُّ أَوْ يَنْهَزِمُ فَيَفِرُّ.
وَإِذَا أَرَادَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَا أَرْضَ الْحَرْبِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا مَالٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَهِّزَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُجْعَلَ الْقَاعِدُ لِلشَّاخِصِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ تَارَةً وَبِالْمَالِ أُخْرَى وَالْقَادِرُ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَالٍ كَثِيرٍ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْخُرُوجِ وَصَاحِبُ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى مُجَاهِدٍ يَقُومُ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَعَنْ مَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَهُمَا وَالتَّنَاصُرِ لِيَكُونَ الْقَاعِدُ مُجَاهِدًا بِمَا لَهُ وَالْخَارِجُ بِنَفْسِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ دَافِعُ الْمَالِ إلَى الْخَارِجِ لِيَغْزُوَ بِمَا لَهُ يُعِينُهُ عَلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ أَوْ عِنْدَ الْإِمَامِ كَرِهْتُ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَذَلِكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْإِمَامِ مُعَدٌّ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَاجَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَيْهَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَازِي صَاحِبَ مَالٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِهِ وَتَمَامُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالًا فَعَمَلُهُ فِي الصُّورَةِ كَعَمَلِ مَنْ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِذَلِكَ الْأَجِيرِ بِكَمْ اُسْتُؤْجِرْت؟ قَالَ: بِدِينَارَيْنِ قَالَ: «إنَّمَا لَك دِينَارُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَنْفِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثِرُ عَنْ رَبِّهِ «مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كُلُّهُ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» فَلِهَذَا يُكْرَهُ لَهُ الْإِشْرَاكُ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْحَرَسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَاعَةٌ أَمَّا الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْحَرَسُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثُ أَعْيُنٍ لَا تَمَسُّهَا نَارُ جَهَنَّمَ عَيْنٌ غَضَّتْ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَالصَّلَاةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَتَدْفَعُ الْخَوَاطِرَ الرِّدْيَةَ وَتَمْنَعُ اللَّغْوَ فَالِاشْتِغَالُ بِهَا أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَرَسِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَالْحَرَسُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ مُمْكِنٌ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَرَسِ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا هُوَ مُتَعَيَّنٌ أَوْلَى وَهُوَ كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَإِذَا طُعِنَ الْمُسْلِمُ بِالرُّمْحِ فِي جَوْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ إلَى صَاحِبِهِ وَالرُّمْحُ فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ وَلَا يَكُونُ بِهِ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى بَذْلِ نَفْسِهِ فِي قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْبَرُ مِنْ بَذْلِ النَّفْسِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ مِنْ قَرْنِهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ حَمَلَ الْوَاحِدُ عَلَى جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ بَعْضَهُمْ أَوْ يَنْكِي فِيهِمْ نِكَايَةً فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} {وَلَا تَلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَى يَوْمَ أُحُدٍ كَتِيبَةً مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسَ: أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ ثُمَّ رَأَى كَتِيبَةً أُخْرَى فَقَالَ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ وَهْبٌ: أَنَا لَهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ لَهَا وَأَبْشِرْ بِالشَّهَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ وَقُتِلَ هُوَ» فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ يَنْكِي فِعْلُهُ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَفِينَةٍ فَأُلْقِيَتْ إلَيْهِمْ النَّارُ لَمْ يُضَيَّقْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى النَّارِ أَوْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ أَمَّا إذَا كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْمَيْلِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَرْجُو النَّجَاةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ فِي الْجَانِبَيْنِ يُخَيَّرُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْمَاءِ فَوْقَ مَا يَصْبِرُ عَلَى النَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ صَبْرُهُ عَلَى الدُّخَانِ وَالنَّارِ أَكْثَرُ عَلَى غَمِّ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَخَيَّرُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَى النَّارِ كَانَ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ الْعَدُوِّ وَلَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ كَانَ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ الْمَاءَ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ وَذَلِكَ عِنْدَ رَجَاءِ النَّجَاةِ فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ أَنَّ طَبَائِعَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ غَمَّ الْمَاءِ عَلَى أَلَمِ النَّارِ فَهُوَ بِالْإِلْقَاءِ يَدْفَعُ أَلَمَ النَّارِ عَنْ نَفْسِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ ثُمَّ هُوَ وَإِنْ أَلْقَى نَفْسَهُ مَدْفُوعٌ بِفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ أَلْجَئُوهُ إلَى ذَلِكَ وَأَفْسَدُوا عَلَيْهِ اخْتِيَارَهُ فَلَا يَبْقَى فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَلِهَذَا يُخَيَّرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.