فصل: بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى ضَرْبِ اللَّبِنِ وَغَيْرِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى ضَرْبِ اللَّبِنِ وَغَيْرِهِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي دَارِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُلَبَّنُ مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْمُلَبَّنِ.
فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا مُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَسَدَّ لَبِنَهُ الْمَطَرُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ انْكَسَرَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا لَمْ يَصِرْ لَبِنًا فَمَا دَامَ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ طِينٌ لَمْ يَصِرْ لَبِنًا بَعْدُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ فَسَدَ وَصَارَ وَجْهَ الْأَرْضِ فَإِنْ أَقَامَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ اللَّبَّانُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ فَسَدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَا حَتَّى يَجِفَّ.
فَإِذَا جَفَّ وَأَشْرَحَ فَحِينَئِذٍ لَهُ الْأَجْرُ وَمَذْهَبُهُمَا اسْتِحْسَانٌ اعْتَبَرَا فِيهِ الْعُرْفَ وَاللَّبَّانُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَمِثْلُ هَذَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ وَغُرَفُ الْقُدُورِ فِي الْقِصَاعِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الطَّبَّاخِ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْوَلِيمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ يَصِيرُ الطِّينُ لَبِنًا، وَقَدْ فَعَلَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ عَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ لَبِنًا وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طِينًا فَالطِّينُ يَنْتَشِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِتَسْوِيَةِ أَطْرَافِهِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ.
فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَفَافُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ وَالتَّشْرِيحُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ جَمْعُ اللَّبِنِ، وَلَيْسَ بِعَمَلٍ لِيَخْدُمَهُ فِي الْعَيْنِ فَهُوَ كَالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْبِنَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّبَّانِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْقُلُ اللَّبِنَ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يُشَرِّحَهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّشْرِيحُ مِنْ الْمَقَاصِدِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ عَلَى اللَّبَّانِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ.
فَأَمَّا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُشَرِّحْهُ وَيُسَلِّمْهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ حَتَّى إذَا فَسَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْخَيَّاطِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَلَوْ تَكَارَى خَبَّازًا يَخْبِزُ لَهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ التَّنُّورِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا ظَاهِرٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ التَّشْرِيحِ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ التَّشْرِيحِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْخُبْزَ لَوْ تُرِكَ فِي التَّنُّورِ يَفْسُدُ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِصْلَاحِ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْخَبَّازِ، وَذَلِكَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ التَّنُّورِ وَوِزَانَةُ الْإِقَامَةِ فِي اللَّبِنِ.
فَأَمَّا اللَّبِنُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ لَوْ تُرِكَ وَلَمْ يَفْسُدْ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّشْرِيحَ عَلَى اللَّبَّانِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا بِمُلَبَّنٍ مَعْلُومٍ وَيَطْبُخُ لَهُ آجُرًّا عَلَى أَنَّ الْحَطَبَ مِنْ عِنْدِ رَبِّ اللَّبِنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ عِنْدِ الْعَامِلِ بِآلَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ أَفْسَدَ اللَّبِنَ بَعْد مَا أَدْخَلَهُ الْأَتُونَ وَتَكَسَّرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ بَعْدُ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْأَتُونِ لَمْ يَتِمَّ عَمَلُهُ فِي طَبْخِ الْآجُرِّ فَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ طَبَخَهُ حَتَّى يَصِحَّ، ثُمَّ كَفَّ النَّارَ عَنْهُ فَاخْتَلَفَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْإِخْرَاجِ فَإِخْرَاجُهُ عَلَى الْأَجِيرِ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ كَذَلِكَ فَسَدَ.
وَإِنْ انْكَسَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَتُونِ وَالْأَرْضُ فِي مِلْكِ رَبِّ اللَّبِنِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ وَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ لِوُقُوعِ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ بِكَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَتُونُ فِي مِلْكِ اللَّبَّانِ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً لِيَخْرُجَ مِنْ ضَمَانِهِ.
وَإِذَا شَقَّ رَجُلٌ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا شَقَّ مِنْهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا بِوِعَاءٍ فَشَقُّ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ صَبِّ مَا فِيهَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ قَطْعَ حَبْلَ الْقِنْدِيلِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْإِلْقَاءِ وَالْكَسْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، وَلَوْ صَبَّ مَا فِيهَا كَانَ مُتْلِفًا ضَامِنًا لَهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شَيْئًا يَحْمِلُهُ رَجُلٌ فَشَقَّهُ آخَرُ فَإِنْ حَمَلَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا رِضَاءٌ بِمَا صَنَعَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتْرُكُ اسْتِئْنَافَهُ إلَّا رَاضِيًا بِصُنْعِهِ وَالرِّضَاءُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ يَثْبُتُ كَسُكُوتِ الْبِكْرِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَقْدِ وَمَنْ بَاعَ مَجْهُولَ الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ مَعَ مَوْلَاك وَهُوَ سَاكِتٌ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ بِمُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ وَالصَّبِيُّ فِيمَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْبَالِغِ.
وَإِذَا شَقَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَلَمْ يَسِلْ مَا فِيهَا، ثُمَّ مَالَ الْجَانِبُ الْآخَرُ فَوَقَعَ وَانْخَرَقَ أَيْضًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ بِصَبِّ مَا فِي الرِّوَايَةِ حِينَ شَقَّهَا وَصَبُّ مَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَكُونُ إيقَاعًا لِلْأُخْرَى بِطَرِيقِ إزَالَةِ مَا بِهِ كَانَ الِاسْتِمْسَاكُ وَهُوَ تَسَبُّبٌ مِنْهُ لِإِلْقَاءِ الْأُخْرَى وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ مَضَى وَسَاقَ بَعِيرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَى بِفِعْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ فَعَلَ.
(قَالَ) أَرَأَيْت لَوْ شَقَّ فِيهِ ثُقْبًا صَغِيرًا فَقَالَ صَاحِبُهَا بِئْسَمَا صَنَعْت، ثُمَّ مَضَى وَسَاقَهَا فَزَلَقَ رَجُلٌ بِمَا سَالَ مِنْهُ أَكَانَ يَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِهَا حِينَ سَاقَ بَعِيرَهُ، وَلِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَسَخَ بِمَا أَخَذَ بِهِ الثَّانِي مِنْ سَوْقِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَاتِ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَيْ لَا يَفُوتَ، وَقَدْ جَعَلَ مِثْلَهُ فِي كِتَابِ الْبَحْرِ حِينَ ذَكَرَ بَابًا مِنْ الْإِجَارَاتِ فِي آخِرِ التَّجَزُّؤِ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ زِيَادَةَ مِثْلِهِ هُنَا.
(قَالَ) إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَفِيزًا إلَى اللَّيْلِ فَهَذَا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ قَفِيزًا، وَلَكِنْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ لِي يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ وَأَضَافَ هَذَا الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَتَى جَمَعَ بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، ثُمَّ أَجَابَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى رُجُوعِهِمَا إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ بَلْ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَمَلِ بِكَمَالِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ سَوَاءٌ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، أَوْ لَمْ يَفْرُغْ وَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ مَقْصُودِهِ فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَشَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهَا وَالْعَمَلُ مَقْصُودٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ أَيْضًا، وَعِنْدَ اعْتِبَارِهِمَا يَصِيرُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ مَجْهُولًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَجِدُ بِهِ فِي الْمَعْمُولِ وَجَهَالَةُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي:

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ لِأَجْلِهِ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْمَ الْخِلَافَةِ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَأَثْبَتَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}، وَبِهِ أُمِرَ كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ})، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ إظْهَارَ الْعَدْلِ وَبِالْعَدْلِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَرُفِعَ الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَاتِّصَالَ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِأَجْلِهِ بُعِثَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ اشْتَغَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَمِيعِ مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَمَا كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ النَّاسِ يُسَمُّونَهُ كِتَابَ سِيَاسَةِ الْقَضَاءِ وَتَدْبِيرِ الْحُكْمِ وَقَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ أَيْ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بِهَا يُعْرَفُ تَحَوُّلُ الْكَاتِبِ إلَى بَيَانِ مَقْصُودِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَعُدَّ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} الْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَمَّا بَعْدُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ الْحِكْمَةُ الْفِقْهُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مِنْ أَنْكَرَ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ أَيْ مَقْطُوعٌ بِهَا لَيْسَ فِيهَا احْتِمَالُ نَسْخٍ وَلَا تَخْصِيصٍ وَلَا تَأْوِيلٍ فَتَفْسِيرُ الْمُحْكَمِ هَذَا بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وَمِنْهُ يُقَالُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ وَالْفَرْضُ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْقَطْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} وَقَوْلُهُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ أَيْ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الدِّينِ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَالسُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ، وَمَا يَكُونُ مُتَّبَعًا مِنْهَا فَأَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ.
(قَالَ) فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك الْخَصْمَانِ وَالْإِدْلَاءُ رَفْعُ الْخُصُومَةِ إلَى الْحَاكِمِ وَالْفَهْمُ إصَابَةُ الْحَقِّ فَمَعْنَاهُ عَلَيْك بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ إذَا أَدْلَى إلَيْك وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْمَعْ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ وَافْهَمْ مُرَادَهُ وَبِهَذَا يُؤْمَرُ كُلُّ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْمُبْطَلِ إلَّا بِذَلِكَ وَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا يَكُونُ فِيهِ إقْرَارٌ بِالْحَقِّ لِخَصْمِهِ.
فَإِذَا فَهِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ أَنْفَذَهُ.
وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ ضَاعَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ وَلَا نَفَاذَ لَهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ اسْتَمِعْ إلَى كَلَامِ الشُّهُودِ وَافْهَمْ مُرَادَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْك.
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ لِتَنْفِيذِ الْقَاضِي إيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ أَسِّ بَيْنَ النَّاسِ مَعْنَاهُ سَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَالتَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ قَالَ قَائِلُهُمْ: فَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْت نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ أُعَزِّ النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتَّأَسِّي وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ فَاسْمُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَعَدْلِك يَعْنِي فِي النَّظَرِ إلَى الْخَصْمَيْنِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا فِي جُلُوسِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى لَا يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَفِي عَدْلِهِ بَيْنَهُمَا وَبِالْعَدْلِ أُمِرَ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي مَا تَرَكْت الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَاغْفِرْهَا لِي قِيلَ وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَالَ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسَهُ وَالْمُحَابَاةِ مَعَ خَصْمِهِ، وَلَكِنِّي رَفَعْت النَّصْرَانِيَّ إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِي، ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَةَ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَهَذَا كَانَ جَوْرِي لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِ فِي الْعِنَايَةِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا يَطْمَعُ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِك وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}.
فَإِذَا قَدَّمَ الشَّرِيفَ طَمِعَ فِي ظُلْمِهِ وَانْكَسَرَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ قَلْبُ خَصْمِهِ الضَّعِيفِ فَيَخَافُ الْجَوْرَ، وَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ لِلشَّرِيفِ عِنْدَ هَذَا التَّقْدِيمِ مِنْ التَّلَبُّسِ وَيَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَتَرْكِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَصِيرُ بِهِ مُتَّهَمًا بِالْمَيْلِ أَيْضًا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ.
(قَالَ) «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُدَّ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ «أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارًا»، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فَوَائِدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى.
(قَالَ) «وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا»، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِدُعَاءِ الْخَصْمَيْنِ إلَى الصُّلْحِ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وَذَلِكَ دَلِيلُ النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ.
(قَالَ) هُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُبْطِلًا فَأَخَذَ الْمَالَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَالصُّلْحُ يُحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَالصُّلْحُ يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ عَادَةً وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ كَانَ أَخَذَهُ حَلَالًا قَبْلَ الصُّلْحِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْخَصْمِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ تَحْلِيلُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ أَوْ تَحْرِيمُ مَا هُوَ حَلَالُ الْعَيْنِ بِأَنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ فِي الْخُصُومَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ صَالَحَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى، أَوْ صَالَحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ يُحَرِّمَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا هُوَ الصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا.
(قَالَ) وَلَا يَمْنَعُك قَضَاءٌ قَضَيْت بِالْأَمْسِ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيَتْ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي الْخَطَأُ فِي قَضَائِهِ بِأَنْ خَالَفَ قَضَاؤُهُ النَّصَّ أَوْ الْإِجْمَاعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ، الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ- كِدْت أَنْ أَمْضِيَ فِي صَلَاتِي اسْتِحْيَاءً مِنْكُمْ، ثُمَّ قُلْتُ لَأَنْ أُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ أَنْ أُرَاقِبَكُمْ فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُرَاقِبْ اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْقَاضِي خَاصَّةً بَلْ هُوَ فِي كُلِّ مَنْ يُبَيِّنُ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الْوَاعِظُ وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زَلَّ فَلْيُظْهِرْ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَزَلَّةُ الْعَالِمِ سَبَبٌ لِفِتْنَةِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ إنْ زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ بِزَلَّتِهِ الْعَالَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْقَاضِي أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَدِيمٌ يَعْنِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنْكَتِمُ زَلَّةُ مَنْ زَلَّ بَلْ يَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ.
فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ.
ثُمَّ.
(قَالَ) الْفَهْمَ مِمَّا يَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِك، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذَا اللَّفْظِ، وَفِي تَكْرَارِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصْرِفَ الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ خُصُوصًا إذَا تَمَكَّنَ الِاسْتِيفَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالتَّثَبُّتِ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُجَازَفَةِ خُصُوصًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مُخْتَارًا إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِد أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَى عِلْمَ الْكِتَابِ وَوُجُوهَ مَعَانِيهِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا وَمُتُونِهَا وَوُجُوهِ مَعَانِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الْقِيَاسِ عَالِمًا بِعُرْفِ النَّاسِ وَمَعَ هَذَا قَدْ اُبْتُلِيَ بِحَادِثَةٍ لَا يَجِدُ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرًا فَالنُّصُوصُ مَعْدُودَةٌ وَالْحَوَادِثُ مَمْدُودَةٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ التَّأَمُّلِ وَطَرِيقُ تَأَمُّلِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ.
ثُمَّ.
(قَالَ) وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْقِيَاسِ أَنْ تَرُدَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ مَعْنًى، وَلَكِنْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ السُّنَّةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ ثُمَّ.
(قَالَ) اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ فِيهِ حَتَّى إذَا قَالَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ لِيَأْتِيَ بِهِمْ فَرُبَّمَا لَمْ يَأْتِ بِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ حَقَّهُ لِوُضُوحِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ لِيَأْتِيَ بِهِمْ، وَبَعْدَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ الدَّفْعَ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي لِيَأْتِيَ بِدَفْعِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي عَدْلِهِ وَلْيَكُنْ إمْهَالُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِخَصْمِهِ فَإِنَّ الِاسْتِعْجَالَ إضْرَارٌ بِمُدَّعِي الدَّفْعِ، وَفِي تَطْوِيلِ مُدَّةِ إمْهَالِهِ إضْرَارٌ بِمَنْ أَثْبَتَ حَقَّهُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُرَادُهُ دَعْوَى الدَّفْعِ فَهُوَ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ مَا ادَّعَى مِنْ الدَّفْعِ وَجَّهَ الْقَاضِي إلَيْهِ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يُوَجِّهُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا تَقُومُ عَلَيْهِ إذْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِالطَّعْنِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جَانِبَ الْمُدَّعِي فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ أَلْزَمْته الْكَفَّ عَنْ أَذَى النَّاسِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ لِلْقَاضِي عِنْدَ مَنْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَّهَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمْهَلَهُ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ انْصَرَفَ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِرًا لَهُ سَاكِتًا.
وَإِذَا لَمْ يُمْهِلْهُ انْصَرَفَ شَاكِيًا مِنْهُ يَقُولُ مَالَ إلَى خَصْمِي وَلَمْ يَسْتَمِعْ حُجَّتِي وَلَمْ يُمْكِنِّي مِنْ إثْبَاتِ الدَّفْعِ عِنْدَهُ.
ثُمَّ قَالَ «وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ، وَصِفَةُ الْعَدَالَةِ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ دِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا نَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ مُحَرَّمٌ فِي اعْتِقَادِ كُلِّ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ثُمَّ قَالَ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا» قِيلَ الْمُرَادُ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ بِإِقَامَةِ حَدِّ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ عَلَيْهِ فَالْحُدُودُ مَشْرُوعَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَبِظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ تَنْعَدِمُ الْعَدَالَةُ الثَّابِتَةُ مَا لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُ وَانْزِجَارُهُ عَنْهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا فِي قَذْفٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ تَابَ، وَإِنَّ الْعَدَالَةَ الْمُعْتَبَرَةَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَنْعَدِمُ بِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، ثُمَّ قَالَ، أَوْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ مِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الْجِنَايَةُ فِي هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَمِنْ ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ فِي شَيْءٍ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» ثُمَّ (قَالَ) لَوْ ظَنَنَّا فِي وَلَاءٍ، أَوْ قَرَابَةٍ أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ لَا تُقْبَلُ فَالزَّوْجِيَّةُ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْمُوَالَاةِ وَهُوَ مِمَّا يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِلًا إلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَفْسِ الْوَلَاءِ وَالْقَرَابَةِ أَنَّهُمَا لَا يَقْدَحَانِ فِي الْعَدَالَةِ، وَلَكِنْ إذَا تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ حِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى قِيلَ فِي مَعْنَاهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمَيْلُ إلَى مَوْلَاهُ وَقَرَابَتِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ حَتَّى يُؤْثِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
ثُمَّ.
(قَالَ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ يَعْنِي أَنَّ الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ لَيْسَ لِلْقَاضِي طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ لِلْقَاضِي الْعَمَلُ بِمَا يَظْهَرُ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يَعْنِي دَرَأَ عَنْكُمْ اللَّوْمَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْقَضَاءُ جَمْرَةٌ فَادْفَعْ الْجَمْرَ عَنْك بِعُودَيْنِ» يَعْنِي شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَالَ إيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْقَلَقَ وَهُمَا نَوْعَانِ مِنْ إظْهَارِ الْغَضَبِ فَالْقَلَقُ الْحِدَةُ، وَالضَّجَرُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْكَلَامِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَاضِي مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ بِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ إقَامَةِ حُجَّتِهِ وَيَشْتَبِهُ عَلَى الْقَاضِي بِسَبَبِهِ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ وَرُبَّمَا لَا يَفْهَمُ كَلَامَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ.
(قَالَ) وَالْبَادِي بِالنَّاسِ يَعْنِي إظْهَارَ الْبَادِينَ بِكَثْرَةِ الْخُصُومِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْمَلَالِ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ الْبَادِي بِمَا يَسْمَعُ مِنْ بَعْضِ الْخُصُومِ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ فَقَدْ يُطَوِّلُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ كَلَامَهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُظْهِرَ الْبَادِيَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْحَدَّ.
فَإِذَا تَكَلَّمَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقَاضِي أَوْ يُذْهِبُ بِهِ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَحِينَئِذٍ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ.
(قَالَ) وَالتَّنَكُّرُ لِلْخُصُومِ وَهُوَ أَنْ يُقَطِّبَ وَجْهَهُ إذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ خَصْمَانِ فَإِنْ فَعَلَ مَعَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ جَوْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَهُمَا رُبَّمَا عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ فَذَهَبَ وَتَرَكَ حَقَّهُ.
(أَلَا تَرَى) إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك}، ثُمَّ قَالَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْأَجْرَ وَيَحُثُّ بِهَا عَلَى الذُّخْرِ يَعْنِي فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ فَالْحِلْمُ وَتَرْكُ الضَّجَرِ وَالْقَلَقِ وَإِظْهَارُ الْبِشْرِ مَعَ النَّاسِ مَحْمُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَفِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْبِشْرُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ أَوْلَى بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ عَلَى نَفْسَهُ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «مَنْ أَخْلَصَ سَرِيرَتَهُ أَخْلَصَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ»، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ يَسُبُّهُ اللَّهُ يَعْنِي إذَا رَاءَى بِعَمَلِهِ وَالْمُرَاءَاةُ مَذْمُومَةٌ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الْقَاضِي آكَدُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الْمُرَاءَاةِ وَالنِّفَاق وَقَوْله يَسُبُّهُ اللَّهُ أَيْ يَفْضَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ»، ثُمَّ قَالَ فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَعْنَاهُ أَيْ أَنَّ الْمُرَائِيَ بِعَمَلِهِ يَقْصِدُ اكْتِسَابَ مَحْمَدٍ، أَوْ مَنَالَ شَيْءٍ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَمَا يَفُوتُهُ بِهِ إذَا تَرَكَ الْإِخْلَاصَ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَاقِلُ إذَا قَابَلَ مَا هُوَ مَوْعُودٌ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ بِمَا يَطْمَعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّاسِ تَرَجَّحَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ عَاجِلُ الرِّزْقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَشْعِرَ التَّقْوَى فِيمَا يَفْعَلُ فَهُوَ مِلَاك الْأَمْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ».
وَقَالَ «التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّنِي كَتَبْت كِتَابًا فِي الْقَضَاءِ مَا لَمْ آلُكَ وَنَفْسِي فِيهِ خَيْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى عُمَّالِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُوصِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَامِلَهُ بِالشَّامِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلَهُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْزَمْ خَمْسَ خِصَالٍ يَسْلَمْ لَك دِينُك وَتَأْخُذْ فِيهِ بِأَفْضَلِ خَطِّك إذَا تَقَدَّمَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَعَلَيْك بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَالْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ فَهُوَ الطَّرِيقُ لِلْقَاضِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَنَالَ أَفْضَلَ الْحَظِّ مِنْ الْمَحْمَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَمَعْنَى الْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ.
ثُمَّ قَالَ وَأَدْنِ الضَّعِيفَ حَتَّى يَشْتَدَّ قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْأَمْرِ تَقْدِيمَ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ يَدْنُو بِنَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوِيُّ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، وَرُبَّمَا يَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُدْنِيَ الضَّعِيفَ لِيُسَاوِيَهُ بِخَصْمِهِ حَتَّى يَقْوَى قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ فَيَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَتَعَاهَدْ الْغَرِيبَ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَعَاهَدْهُ تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَرُبَّمَا ضَيَّعَ حَقَّهُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ قِيلَ هَذَا أَمْرٌ بِتَقْدِيمِ الْغُرَبَاءِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْغَرِيبَ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي سَمَاعِ الْخُصُومَةِ لِيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِتَعَاهُدِ الْغُرَبَاءِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنَّ الْغَرِيبَ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ.
فَإِذَا لَمْ يَخُصَّهُ الْقَاضِي بِالتَّعَاهُدِ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِتَضْيِيعِ حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَعَلَيْك بِالصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَك فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ الْخَصْمَ إلَى الصُّلْحِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ، وَبِهِ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ «رَدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ» وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَبْتَاعُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا تَرْتَشِي وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ أَمَّا قَوْلُهُ لَا يُشَارُ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بِالشِّينِ قَالُوا الْمُرَادُ الْمَشُورَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمَشُورَةِ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ طَرِيقُ الْفَصْلِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَظُنُّ جَاهِلٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَزْدَرِيَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَظْهَرُ بِالشِّينِ لَا يُشَارُ مَعْنَاهُ لَا يُشَارُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ خَصْمَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيمَا يُشَارُ بِصَابِعِهِ عَلَى رِشْوَةٍ وَلِذَلِكَ لَا يُشَارُ غَيْرُ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَجْمَعُ النَّاسَ وَمَشَارَةُ الِاثْنَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ تُؤَدِّي إلَى فِتْنَةِ الْآخَرِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا كَانَ الْقَوْمُ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» وَقَوْلُهُ لَا يُضَارُّ مِنْ الضَّرَرِ أَيْ لَا يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالْخُصُومِ فِي تَأْخِيرِ الْخُرُوجِ وَلَا يُنَغِّصُ الْخُصُومَ فِي اسْتِعْجَالِهِ لِيَعْجَزَ عَنْ إقَامَتِهِ حُجَّتَهُ، وَفِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ أَوْ فِي أَخْذِهِ يَسْقُطُ مِنْ كَلَامِهِ إنْ زَلَّ فَلِمَجَالِسِ الْقَضَاءِ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْحِشْمَةِ مَا يُعْجِزُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْ مُرَاعَاةِ جَمِيعِ الْحُدُودِ فِي الْكَلَامِ.
فَإِذَا لَمْ يُعْرِضْ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ مَا يَسْمَعُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مُضَارَّةً وَالْقَاضِي مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْقُصُ حِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَجْلِسُ إظْهَارِ الْحَقِّ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الدِّينِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْلِطَ بِهِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ لَا يَرْتَشِي الْمُرَادُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ» وَلَمَّا قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ سُحْتٌ قَالَ ذَلِكَ الْكُفْرُ إنَّمَا السُّحْتُ أَنْ تَرْشُوَ مَنْ تَحْتَاجُ إلَيْهِ أَمَامَ حَاجَتِك.
وَفِي قَوْلِهِ وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَأَنْتَ غَضْبَانُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْقَضَاءِ فِي حَالِ غَضَبِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى يَسْكُنَ مَا بِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَقْضِيَ عِنْدَ اعْتِدَالِ حَالِهِ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ جَائِعًا، أَوْ كَظِيظًا مِنْ الطَّعَامِ، أَوْ كَانَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ اعْتِدَالُ الْحَالِ.
فَكَذَلِكَ بِالْغَضَبِ يَنْعَدِمُ اعْتِدَالُ الْحَالِ وَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ فِي غَضَبِهِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ إذَا ظَهَرَ بِهِ الْغَضَبُ عَجَزَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ خَوْفًا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَقُومُ، أَوْ يُنَحِّي النَّاسَ عَنْ قُرْبِهِ حَتَّى يَسْكُنَ مَا بِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ يَعْتَرِيه ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْحِدَّةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي فَلَا يَكُفُّ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ بِهِ عَقْلُهُ وَيُشْتَبَهُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِيه مِنْ الْغَضَبِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا قَاضِيًا كَانَ بِالشَّامِ حَدِيثَ السِّنِّ فَقَالَ لَهُ بِمَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ.
فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ مَنْ هُوَ حَدِيثُ السِّنِّ إذَا كَانَ عَالِمًا فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ النَّاسِ نَظَرًا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَلَّدَهُ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا وَأَمِيرًا وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ وَيُحْكَى أَنَّ الْمَأْمُونَ قَلَّدَ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ابْنَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ الْمَأْمُونُ كَمْ سِنُّ الْقَاضِي فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَا عَلَى سِنِّ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدِ حِينَ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَهُ مِثْلُ هَذَا الطَّعْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَاضِي لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فَامْتَحَنَهُ بِالْعِلْمِ فَقَالَ بِمَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إمَامُ الْمُتَّقِينَ أُنْزِلَ لِلْعَمَلِ بِهِ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ قَالَ.
فَإِذَا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي قَضَائِهِمْ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ هُوَ الْقِيَاسُ يَرُدُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ.
وَإِذَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْحُرُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ فَلَمَّا أَصَابَ فِي جَمِيعِ مَا أَجَابَ قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْتَ قَاضِيهَا أَيْ إنِّي لَا أَعْزِلُك عَنْ الْقَضَاءِ مَا دُمْت عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ مَنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَهُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا يَعْزِلَهُ بِطَعْنِ بَعْضِ الْمُتَعَنِّتِينَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا لَا يُحْمَدُ مِنْ السِّيرَةِ مِنْهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نُسْأَلُ وَلَسْنَا هُنَالِكَ، ثُمَّ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ بَلَغْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا يَرَوْنَ قِيلَ هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُبَيِّنُ لَهُمْ فَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ بَلْ مُرَادُهُ الْإِشَارَةُ إلَى زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُتَوَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيلَ هَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى حَالِ صِغَرِهِ وَجَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ رَفَعَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إلَى مَا بَلَغَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ تِلْمِيذٍ يَتَعَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكُوفَةِ وَخَرَجَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى سَدُّوا الْأُفُقَ فَلَمَّا رَآهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَلَأْت هَذِهِ الْقَرْيَةَ عِلْمًا وَفِقْهًا.
قَالَ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ بِقَضَاءٍ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْبَلْوَى بِقَوْلِهِ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ بَعْدَ مَا حُبِسَ وَضُرِبَ لِأَجْلِهِ مِرَارًا حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَوْ تَقَلَّدْت نَفَعْت النَّاسَ فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ.
وَقَالَ لَوْ أُمِرْت أَنْ أَقْطَعَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا وَمَنْ اخْتَارَ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ قَالَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْبَلَاءِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِتْرَتِي» وَقِيلَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْأَقْرَبُونَ وَالْأَبْعَدُونَ فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِأَبِي رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ «أَمَا كَانَ لَك فِي أُسْوَةٌ فَقَالَ أَنْتَ تَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ، وَأَنَا أَسْعَى فِي رَقَبَةٍ لَمْ يُعْرَفْ فِكَاكُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ» قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى الصَّالِحُونَ يَعْنِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فحيهلا بِعُمَرَ» قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلِيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ وَلَا يَقُولَنَّ إنِّي أَرَى، وَإِنِّي أَخَافُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِي مَوْضِعِهِ لِخَوْفِ الْخَطَأِ فَإِنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ طَرِيقَ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَالًا يَرِيبُك»، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَتْرُكْ الِاحْتِيَاطَ فِي مَوْضِعِ الرِّيبَةِ فَهُوَ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ أَصَابَ الْمَطْلُوبَ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ أَخْطَأَ وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ أَيْ مُصِيبٌ فِي طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ يُخْطِئُ انْتِهَاءً فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ لِمَا أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ.
وَذُكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ حِينَ بَعَثَنِي إلَى الْيَمَنِ «بِمَ تَقْضِي يَا مُعَاذُ قُلْت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْت أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ قُلْت أَجْتَهِدُ رَأْيِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانَ الْقَضَاءَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَرِّبَهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَعْصُومًا فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ ظَهَرَ مِنْ التَّجْرِبَةِ كَمَا تَفَرَّسَ فِيهِ وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا بَلَغَهُ عَنْ عَامِلٍ لَهُ مَا يَرْضَى بِهِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَلْيُقَابِلْهَا بِالشُّكْرِ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَهُوَ كَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِنْبَاطِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا إنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَعْدَهُ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَمَّا قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَقَدْ جَوَّزَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ بِحَضْرَتِهِ.
وَقَدْ كَانَ يُشَاوِرُهُمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ وَأَخَذَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ وَشَاوَرَ السَّعْدَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي صُلْحِ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَأَخَذَ بِمَا أَشَارَا بِهِ وَلَمَّا أَشَارَ إلَيْهِ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ عِنْدَ الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ أَخَذَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ صَوَابًا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْفَصْلِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، وَمَا كَانَ يَفْصِلُ بِالِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْتَهِدُ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ بَيَانُهُ «أَنَّهُ لَمَّا شَاوَرَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَادِثَةٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيه فَقَالَتْ نَعَمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»، وَهَذَا قَوْلٌ بِالِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُبْلَةِ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ، ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكُنْت شَارِبَهُ» فَهَذَا وَنَحْوُهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَقَضَاؤُهُ يَكُونُ شَرِيعَةً وَالْخَطَأُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ} الْآيَةَ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا كَانَ فِي الْقَاضِي خَمْسُ خِصَالٍ فَقَدْ كَمُلَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَرْبَعٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ وَصْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثَلَاثٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اثْنَيْنِ فَفِيهِ وَصْمَتَانِ، وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ النُّقْصَانِ وَالْوَصْمُ كَسْرٌ يَسِيرٌ وَفَوْقَهُ الْقَصْمُ وَنَظِيرُهُ الْقَنْصُ بِالْأَنَامِلِ وَفَوْقَهُ الْقَبْضُ بِالْيَدِ وَفَوْقَهُ الْأَخْذُ وَهُوَ التَّنَاوُلُ قَالَ فَقَالَ قَائِلٌ مَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عِلْمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ.
قَالَ وَنُزْهَةٌ عَنْ الطَّمَعِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّزَاهَةِ فَمَنْ يُتَحَرَّزُ عَنْ شَيْءٍ يُقَالُ هُوَ يَتَنَزَّهُ عَنْ كَذَا وَالْأَظْهَرُ وَتَزَهُّدٌ عَنْ الطَّمَعِ مِنْ الزَّهَادَةِ فَكُلُّ الْفِتْنَةِ لِلْقَاضِي فِي طَمَعِهِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَلَمَّا امْتَحَنَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاضِيًا قَالَ لَهُ بِمَ صَلَاحُ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ بِالْوَرَعِ قَالَ فَبِمَا فَسَادُهُ قَالَ بِالطَّمَعِ قَالَ حُقَّ لَك أَنْ تَقْضِيَ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ الطَّمَعِ لِيَأْمَنَ الْفِتْنَةَ وَيُخْلِصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ وَحَكَمٌ عَنْ الْخَصْمِ يَعْنِي أَنْ يَحْكُمَ فِي بَعْضِ مَا يَسْمَعُ مِنْ الْخُصُومِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ إلَّا اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ قَالَ وَاسْتِخْفَافٌ بِاللَّائِمَةِ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِيمَا يَفْصِلُ مِنْ الْقَضَاءِ أَنْ يَخَافَ اللَّائِمَةَ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُ إذَا خَافَ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْصَرِفَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِيًا يَلُومُ الْقَاضِيَ مَعَ أَصْدِقَائِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْت قَالَ أَصْبَحْت وَشَطْرُ النَّاسِ عَلَيَّ غَضْبَانُ.
فَإِذَا تَفَكَّرَ الْقَاضِي وَاشْتَغَلَ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ اللَّائِمَةِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَصْلُ الْقَضَاءِ.
قَالَ وَمُشَاوَرَةُ أُولِي الرَّأْيِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ النَّاسِ مُشَاوِرَةً لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَسْتَشِيرُهُمْ حَتَّى فِي قُوتِ أَهْلِهِ وَإِدَامِهِمْ قَالَ «الْمَشُورَةُ تُلَقِّحُ الْعُقُولَ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا هَلَكَ قَوْمٌ عَنْ مَشُورَةٍ قَطُّ» وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَشِيرُ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ فِقْهِهِ حَتَّى كَانَ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ حَادِثَةٌ قَالَ اُدْعُوا إلَيَّ عَلِيًّا وَادْعُوا إلَيَّ زَيْدِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ، ثُمَّ يَفْصِلُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَدَعَ الْمُشَاوَرَةَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِازْدِرَاءِ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِهِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً فَإِنَّ مَسْرُوقًا مِمَّنْ يُقَدِّمُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفِينَ وَابْتُلِيَ مَسْرُوقٌ بِالْقَضَاءِ وَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَرْوِي مَحَاسِنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إيثَارِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مَسْرُوقٌ إنَّ الْقَضَاءَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً لِمَا فِي إظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمَنْعِ الظَّالِمِ عَنْ الظُّلْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ يُقَامَ حَدٌّ فِي أَرْضٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فِيهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ فَاثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ.
فَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِخِلَافِهِ وَرَجُلٌ جَاهِلٌ يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَمَّا الْآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَقَضَى بِهِ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي حَقِّ مَنْ قَضَى بِخِلَافِ مَا عَلِمَ فَإِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى النَّارِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَكَتَمَ مَا عَلِمَ مِنْ الْحَقِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ}.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَيَلْتَزِمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا إلَّا بِالْعِلْمِ فَفِي الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ ظُلْمُ نَفْسِهِ، وَبَعْدَ التَّقَلُّدِ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّمَ، أَوْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ وَيَقْضِيَ بِفَتَوَاتِهِمْ؛ فَلِهَذَا جَعَلَهُ فِي النَّارِ حِينَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَلَّذِي قَضَى بِعِلْمِهِ أَظْهَرَ الْحَقَّ بِحُكْمِهِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ مِنْ خَصْمِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالرَّأْيِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُمْ فِيمَا يَسْمَعُونَ رُبَّمَا يَرْفَعُونَ وَرُبَّمَا يُرْسِلُونَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يُجَاءُ بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ.
فَإِذَا أَقْبَلَ دَفَعَهُ دَفْعَةً فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ (يُجَاءُ بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لِيُعْلَمَ أَنَّ حَالَ مَنْ يَعْدِلُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا ظَنُّك فِي حَالِ مَنْ يَجُورُ فِي قَوْلِهِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا يَلْقَى مِنْ الذُّلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي قَضَائِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقَفَاءِ فِي عُرْفِ النَّاسِ الِاسْتِخْفَافُ وَالذُّلُّ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَقَدْ نَالَ بَعْضَ الْوَجَاهَةِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ فَهَذَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَا نَالَ مِنْ الْجَاهِ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقٍ هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ دَفَعَهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا أَيْ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ نَافَقَ وَأَظْهَرَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ فَقَدْ كَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ حِفْظَ مَاءِ وَجْهِهِ يُلْقَى فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ إلَّا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَهَذَا بَيَانٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا يَذْبَحُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَالْحَصَّافُ يَرْوِي هَذَا «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ»، وَفِيهِ بَيَانُ التَّحْرِيزِ عَنْ طَلَبِ الْقَضَاءِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّقَلُّدِ فَكُلُّ عَاقِلٍ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَنْ يَذْبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَحَرُّزَهُ عَنْ طَلَبِ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَذِكْرُ الْمَثَلِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِلتَّقْرِيبِ مِنْ الْفَهْمِ.
(قَالَ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَيْ لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَى بِهِ.
وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى فَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ وَمَنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلْيُنْصِفْهُمَا فِي الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَةَ هَذَا اللَّفْظِ، وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ التَّسْوِيَةِ وَعَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ وَلَا يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِوَى الْجَمِيلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمْ وَيَتَقَدَّمُونَ إلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْبَيَانِ لَا لِلْقَصْدِ إلَى التَّلْبِيسِ وَالْإِنْكَارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي يُدْعَى مُفْتِيًا، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فَقَدْ حَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا حَكَّمَاهُ لِفِقْهِهِ فَقَدْ كَانَ مِقْدَامًا مَعْرُوفًا فِيهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِرِكَابِهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ.
وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا فَقَبَّلَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ.
وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُصُومَةٍ حَكَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَالِمَ فِي مَنْزِلِهِ، وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ وَلَا يَدْعُوهُ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ وَجَاهَتَهُ بِسَبَبِ الدِّينِ فَيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ إذَا عَظَّمَ الدِّينَ، وَالذَّهَابُ إلَى مَنْزِلِ الْعَالِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى عِلْمِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الدِّينِ وَلَمَّا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَلَّا أَرْسَلَتْ إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ وَتَأْوِيلُ اسْتِعْظَامِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَافَ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْوَجَاهَةِ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ أَتَاهُ زَائِرًا، وَمَا أَتَاهُ مُحَكِّمًا لَهُ رَاغِبًا فِي عِلْمِهِ؛ فَلِهَذَا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَتَاهُ لِلتَّحْكِيمِ فَقَالَ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ فَأَتَى زَيْدٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِوِسَادَةٍ وَكَانَ هَذَا مِنْهُ امْتِثَالًا لِمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ»، وَقَدْ بَسَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رِدَاءَهُ حِينَ أَتَاهُ وَلَكِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَالَ هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْهُ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا لَيْسَ كَالْقَاضِي، وَإِنَّ الْخَلِيفَةَ فِي هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَبَيَّنَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْخَصْمَيْنِ كَالْقَاضِي.
(قَالَ) وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا، وَلَكِنْ أَحْلِفُ فَتَرَكَ لَهُ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً، وَأَنَّ مَجْلِسَ الشَّفَاعَةِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ إذَا كَانَ صَادِقًا فَقَدْ رَغِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَعَ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ تَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ وَاسِعٌ لَهُ أَيْضًا كَمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَخْشَى أَنْ يُوَافِقَ قَدَرٌ يَمِينِي فَيُقَالُ أَصَبْتُ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَسْتَوْفِي بِطَلَبِهِ وَيَتْرُكُ إذَا تَرَكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ أُبَيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيَانُ هَذَا فِيمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي «أَلَكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ يَمِينٌ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا أَحْسُدُ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهُوَ يُعَلِّمُهُ وَيَقْضِي بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَاهُ الْحَسَدُ يَضُرُّ إلَّا فِي الِاثْنَيْنِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْحَسَدَ مَذْمُومٌ يَضُرُّ الْحَاسِدَ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَسَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ غِبْطَةٌ وَالْغِبْطَةُ مَحْمُودَةٌ فَمَعْنَى الْحَسَدِ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ أَنْ تَذْهَبَ نِعْمَةُ الْمَحْسُودِ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ وَمَعْنَى الْغِبْطَةِ أَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَ وَيَتَمَنَّى ذَهَابَ ذَلِكَ عَنْهُ.
وَهَذَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَذْمُومٍ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا وَاَلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَكْتَسِبُ الْآخِرَةَ بِدُنْيَاهُ وَاَلَّذِي يُعَلِّمُ وَيَقْضِي بِهِ بِالْحَقِّ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
فَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ مَا قِيلَ الْحَاسِدُ جَاحِدٌ لِقَضَاءِ الْوَاحِدِ فَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِذَهَابِ ذَلِكَ عَنْهُ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ نِعْمَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «لَا يَنْجُو أَحَدُكُمْ مِنْ الْحَسَدِ وَالظَّنِّ وَالطِّيَرَةِ قِيلَ، وَمَا الْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ» أَيْ لَا تَتَكَلَّفْ لِإِزَالَةِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ «وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تَحَقَّقْ وَإِذَا نَظَرْت فَلَا تَرْجِعْ» وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ شَهِدْت أَنَا وَرَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَهَادَةٍ فَفِيهَ صَاحِبِي عَنْ حُجَّتِهِ أَيْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ وَغَفَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْت لَهُ أَتَفْسُدُ شَهَادَتِي إنْ أَعْرَبْتُ عَنْهُ فَقَالَ لَا فَأَعْرَبْتُ عَنْهُ فَقَضَى لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَخَافَ إنْ أَظْهَرَ حُجَّةَ صَاحِبِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ خَصْمًا وَيُفْسِدَ شَهَادَتَهُ فَبَيَّنَ لَهُ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَصْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ إذَا لَمْ يُوَكِّلْهُ صَاحِبُهُ بِهِ بَلْ هُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا يُظْهِرُ مِنْ حُجَّةِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُدَّعِيَ، وَمَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي إلَّا لِتَعْيِينِ الْمُدَّعِي وَتَوَصُّلِهِ إلَى حَقِّهِ فَلَا يُفْسِدُ بِهِ شَهَادَتَهُ وَعَنْ سَوَّارٍ قَالَ اخْتَصَمَ قَوْمٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا أُرَاهُ فَهِمَ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ اللَّيْلَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ مَا فَهِمْت فَمُرْهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا لِي فَرَجَعُوا إلَيْهِ فَقَضَى لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَفَ عَلَى خَطَأِ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ أَنْ يُنَبِّهَهُ وَلَا يُجَاهِرَهُ بِذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحِشْمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ لِيُخْبِرَهُ بِذَلِكَ فِي حَالِ خَلْوَتِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأٌ فِي قَضَائِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُظْهِرَ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ الِاسْتِيحَاءُ عَنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْخَوْفُ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ مِنْ النَّاسِ وَالنَّاسُ لَا يَحْفَظُونَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ لَأَنْ أَكُونَ قَاضِيًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ خَازِنًا يَعْنِي أَنَّ خَازِنَ بَيْتِ الْمَالِ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْقَاضِي كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْخَازِنَ يَحْفَظُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَالَهُمْ وَالْقَاضِي يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَتَمَكُّنُ الْخَازِنِ مِنْ الْمَالِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَمَكُّنِ الْقَاضِي؛ فَلِهَذَا آثَرَ الْقَضَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يُؤْثِرُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا شَدَدْت عَلَى لَهْوَاةِ خَصْمٍ أَيْ مَا مَنَعْته مِنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ، وَمَا قَوَّيْت أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِتَلْقِينِ شَيْءٍ قَطُّ؛ وَلِهَذَا بَقِيَ فِي الْقَضَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَضَافَ رَجُلًا فَلَمَّا مَكَثَ أَيَّامًا قَرُبَ إلَيْهِ فِي خُصُومَةٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَصْمٌ أَنْتَ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِالضِّيَافَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَيِّفَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ تَنْتَفِي عَنْهُ إذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَأَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ نَعَمْ قَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي قَالَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْمُجْتَهِدُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وَالْفَهْمُ هُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ فَقَدْ خَصَّهُ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ بَيِّنًا وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَإِنْ أَصَابَ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ فَلَهُ ثَوَابُ الِاجْتِهَادِ وَثَوَابُ إظْهَارِ الْحَقِّ بِجُهْدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ حَسَنَةٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ مُصِيبًا فِي طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يُخْفِ عَمَلًا يَشْدُدْهُ لِلْحَقِّ مَا لَمْ يَرِدْ غَيْرُهُ»، وَهَذَا فِي كُلِّ عَامِلٍ يَبْتَغِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَاَللَّهُ تَعَالَى يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُوَفِّقُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا»، ثُمَّ هَذَا الْوَعْدُ لِلْقَاضِي مَا لَمْ يَظْلِمْ عَمْدًا فَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ.
فَإِذَا اشْتَغَلَ بِهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِعَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كَلٌّ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ»
قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنْصِفَ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِهِمَا، وَفِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا، وَفِي الْمَنْطِقِ أَيْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَالْإِنْصَافُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّسْوِيَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُنَاصَفَةِ فَفِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُرَاعَاةِ التَّسْوِيَةِ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ إلَّا مَا لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ مِنْ النَّهْيِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ حُجَّةَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا فِي مَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي مِنْ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ مُمْكِنَةٌ وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ تَجُرُّ تُهْمَةً إلَيْهِ وَهُوَ مُكَسِّرٌ لِقَلْبِ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَنْطِقِ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً وَجَرَاءَةً عَلَى الْخَصْمِ وَيَطْمَعُ أَنْ يَمِيلَ بِالرِّشْوَةِ إلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّ عَلَى عَضُدِ أَحَدِهِمَا وَلَا يُلَقِّنَهُ حُجَّتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْخُصُومَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ قَاضِيًا وَخَصْمًا مُنَافَاةٌ وَهُوَ مُكَسِّرٌ لِقَلْبِ الْخَصْمِ وَسَبَبٌ لِجَرِّ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ وَهُوَ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَلَا يَبْتَعْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ لِلْقَضَاءِ فَلَا يَخْلِطْ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْقَضَاءِ وَمُعَامَلَتُهُ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي يُمَاكِسُ عَادَةً، وَذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَيَضَعُ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي قَوْلِهِ لِنَفْسِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِيَتِيمٍ، أَوْ مَيِّتٍ مَدْيُونٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِأَجْلِهِ وَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ مِنْهُ إذَا بَاشَرَهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي وَلَا يَبْتَاعُ»، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّاسَ يُسَامِحُونَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ، أَوْ طَمَعًا فِيهِمْ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى مَنْ يَأْكُلُ بِدِينِهِ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ إذَا فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ لِيُبَاشِرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُبَاشِرُ، وَلَكِنْ نَقُولُ نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ» الحديث فَقَدْ بَاشَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْقَضَاءِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ حَمَلَ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ أَهْلِهِ إلَى السُّوقِ لِيَبِيعَهُ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ يَحْتَاجُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إلَى مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ قَبْلَ التَّقَلُّدِ وَبِأَنَّ تَقَلُّدَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَعْنَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ عِيَالِهِ وَتُهْمَةُ الْمُسَامَحَةِ مَوْهُومَةٌ، أَوْ هُوَ نَادِرٌ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ لِأَجْلِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُبَاشَرَةُ هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ عَادَةِ الْقَاضِي فِي كُلِّ وَقْتٍ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ فَقَلَّمَا يُسَامَحُ فِي ذَلِكَ فَوْقَ مَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ إنْ صَحَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا يُسَارَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَيَنْكَسِرُ بِسَبَبِهِ قَلْبُ الْآخَرِ وَبِهِ يَنْتَقِصُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ.
وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ابْتَدَأَهُمَا فَقَالَ مَالَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْتَدِئَاهُ بِالْمَنْطِقِ وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُ السُّكُوتَ لِيَكُونَ الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا ابْتَدَأَهُمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَهَيُّجًا لِلْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لَتَهَيُّجِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ فَحِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَدْ تَمْنَعُهُمَا مِنْ الْكَلَامِ مَا لَمْ يَبْتَدِئْ الْقَاضِي بِالْكَلَامِ.
فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ فَيَقُولَ مَالَكُمَا، وَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ تَهَيُّجًا لِلْخُصُومَةِ، وَلَكِنْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمَانِ عَلَيْهِ إذَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ فَإِنْ تَكَلَّمَ صَاحِبُ الدَّعْوَى أَسْكَتَ الْآخَرَ وَاسْتَمَعَ مِنْ صَاحِبِ الدَّعْوَى حَتَّى يَفْهَمَ حُجَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَا مَعًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، وَلِأَنَّ تَكَلُّمَهُمَا مَعًا نَوْعُ شَغَبٍ، وَبِهِ يُنْتَقَصُ حِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَالَ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالسُّكُوتِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَاخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي، وَلَكِنَّهُ إذَا نَظَرَ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً يَقُولُ لَهُ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك؛ لِأَنَّ بِالدَّعْوَى الْفَاسِدَةَ لَا يُسْتَحَقُّ الْجَوَابُ، وَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى قَالَ أَخْبَرْتَنِي فَمَاذَا أَصْنَعُ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ جَوَابَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَمِسْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا أَحْضَرَ خَصْمَهُ إلَّا مُلْتَمِسًا لِذَلِكَ فَلَا يُحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْتِمَاسِ الْآخَرِ فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَقَرَّ بِحَقِّهِ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي سَمِعْتَ إنْكَارَهُ، أَوْ هُوَ مُنْكِرٌ فَمَا نَقُولُ.
فَإِذَا قَالَ حَلِّفْهُ يَطْلُبُ الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ بَيِّنَةً وَلَا يَسْأَلُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَطْلُبْ يَمِينَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَلْقِينٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ، وَلَكِنْ إذَا طَلَبَ يَمِينَهُ فَحِينَئِذٍ جَاءَ أَوَانُ الِاسْتِحْلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فَسَأَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إلَّا وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْحُجَجِ مُفْرِغٌ نَفْسَهُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ وَمُبَاشَرَتِهِ لِمَا الْتَزَمَ مَا لَمْ يُفْرِغْ نَفْسَهُ لِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ الْأَشْغَالِ.
فَإِذَا دَخَلَهُ هَمٌّ، أَوْ غَضَبٌ أَوْ نُعَاسٌ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِدَالَ حَالِهِ زَالَ بِمَا دَخَلَهُ فَالْهَمُّ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى لَا يَجِدَ شَيْئًا آخَرَ مَعَهُ فِيهِ مُسَاغًا وَالْغَضَبُ كَذَلِكَ وَالنُّعَاسُ كَذَلِكَ فَالنَّاعِسُ لَا يَفْهَمُ بَعْضَ مَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَرْقُدْ فَلَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْعُوَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ»، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْقَضَاءِ وَهُوَ مُتَفَرِّغٌ لَهُ مُسْتَمِعٌ غَيْرُ مُعَجِّلٍ لِلْخُصُومِ عَنْ حُجَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يَضُرُّ بِالْخَصْمِ كَمَا أَنَّ تَرْكَ النَّظَرِ فِيمَا يُقِيمُ مِنْ الْحُجَّةِ يَضُرُّ بِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعِ الشَّرِّ وَالْإِضْرَارِ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ قَالَ وَلَا يُخَوِّفُهُمْ فَإِنَّ الْخَوْفَ مِمَّا يَقْطَعُ حُجَّةَ الرَّجُلِ يَعْنِي أَنَّ الْخَائِفَ يَعْجَزُ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَهِيبًا يُحْتَشَمُ مِنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخِيفًا لِلنَّاسِ يَخَافُونَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ بِالْحُجَّةِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا وَفَرَائِصُهُمَا تَرْتَعِدُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَخَافَا فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» الحديث فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَهَابُونَهُ حَتَّى قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِمَ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُك فِي الْقَوْلِ لِعُمَرَ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبَتُهُ، أَوْ قَالَ خِفْت دِرَّتَهُ (قُلْنَا) هَذَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَلْيَنَ مِنْ غَيْرِهِ فِي قَبُولِ الْحَقِّ وَكَانَ يُشَاوِرُهُمْ وَرُبَّمَا كَانَ يُقَدِّمُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْأَخْذِ عِنْدَ الشُّورَى عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ كَوْنُ الْقَاضِي مَهِيبًا غَيْرُ مَذْمُومٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِتَخْوِيفِ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْقَاضِي أَنْ يُقْعِدَ عِنْدَهُ أَهْلَ الْفِقْهِ فَقَعَدُوا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَشِيرَهُمْ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ مَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فَيُنَبِّهُهُ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَهُمْ فَيَكُونَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالصَّلَاحِ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِ الِاحْتِيَاطِ فَإِنْ دَخَلَهُ حَصْرٌ فِي قُعُودِهِمْ عِنْدَهُ، أَوْ شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ جَلَسَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ فِي هَذَا تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ حِشْمَةُ الْفُقَهَاءِ مِمَّا يُرِيدُهُ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْدَادُ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ هُوَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِحَضْرَةِ الْفُقَهَاءِ جَلَسَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالْعَدَالَةِ فَبِالْفِقْهِ يُؤْمَنُ غَلَطُهُ وَبِالْعَدَالَةِ يُؤْمَنُ جَوْرُهُ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَزُولُ اعْتِدَالُ الْحَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي الْحُجَجِ إلَّا عِنْدَ اعْتِدَالِ الْحَالِ قَالَ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِنَظَرِهِ فِي الْحُجَجِ وَالْخُصُومِ يَعْنِي إذَا أَتْعَبَ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا يَفْهَمُ بَعْضَ كَلَامِ الْخُصُومِ وَرُبَّمَا يَضْجَرُ بِسَبَبِهِ عَلَى بَعْضِ الْخُصُومِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي الْمُدَرِّسِ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «إنْ النَّفْسَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغَوْا لَهَا ظَرَائِفَ الْحِكْمَةِ»، وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا مَلَّ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ اخْصِمُوا أَيْ خُوضُوا فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ فَتَذَكَّرُوا شَيْئًا مِنْ الْمُلَحِ قَالَ، وَلَكِنَّهُ يَقْعُدُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ، أَوْ مَا أَطَاقَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ عِبَادَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْلِسَ لَهُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ}، وَلِأَنَّ اعْتِدَالَ حَالِ الْمَرْءِ يَكُونُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ عَادَةً، أَوْ مَا أَطَاقَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَكَّرَ لِلْخُصُومَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ابْتَكَرُوا قَبْلَ حُضُورِهِ قَالَ أَتَتَظَلَّمُونَ بِاللَّيْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِلْقَاضِي.
(قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ النِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ وَالرِّجَالَ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْدَحِمُونَ فِي مَجْلِسِهِ، وَفِي اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى، وَلَكِنْ هَذَا فِي خُصُومَةٍ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ.
فَأَمَّا الْخُصُومَةُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُقَدِّمَهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ فَرِيقٍ يَوْمًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمْ يَزْدَحِمُونَ عَلَى بَابِهِ وَرُبَّمَا يَقْتَتِلُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا لَا يَخْفَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مُنَاوَبَةً بَيْنَهُمْ بِالْأَيَّامِ لِيَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَيَحْضُرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَالْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الرِّقَاعِ فَيُجَزِّئَ الْخُصُومَ أَجْزَاءً وَيَكْتُبَ بِاسْمِ كُلِّ فَرِيقٍ رُقْعَةً، ثُمَّ يُخْرِجُ الرِّقَاعَ عَلَى الْأَيَّامِ لِلسَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ، وَذَلِكَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُقَدِّمَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَلَا يَبْتَدِئَ بِأَحَدٍ جَاءَ قَبْلَهُ غَيْرُهُ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «سَبَقَك بِهَا عُكَّاشَةُ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي جَاءَ أَوَّلًا اسْتَحَقَّ النَّظَرَ فِي حُجَّتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَاضِي جَالِسًا عِنْدَ ذَلِكَ فَتَأَخُّرُ جُلُوسِ الْقَاضِي لَا يُغَيِّرُ اسْتِحْقَاقَهُ وَلَا يَبْطُلُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا تَقَدَّمَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} قَالَ وَيَضَعُ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا مِنْ قِبَلِهِ يُقَدِّمُهُمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَعَرُّفِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ، وَفِيمَا يُعَجِّلُ الْقَاضِي عَنْ مُبَاشَرَتِهِ يَسْتَعِينُ بِأَمِينٍ مِنْ أُمَنَائِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَكِرَ ذَلِكَ الْأَمِينُ إلَى بَابِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لِيَعْلَمَ مَنَازِلَ النَّاسِ فِي الْحُضُورِ فَلَعَلَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَلْبِسُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا لَا يَطْمَعُ وَلَا يَرْتَشِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ فَكَمَا لَا يَطْمَعُ هُوَ فِيمَا يَقْضِي.
فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمِينُهُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ قَدْ جَرَى الرَّسْمُ فِي زَمَانِنَا أَنَّ الْبَوَّابَ عَلَى بَابِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ خَصْمٍ قِطْعَةً لَيُمَكِّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَلَا مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْقَاضِي فِي حَاجَتِهِ فَهُوَ يَرْتَشِي لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ وَيُمَكِّنَهُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَمِينَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ يَزْنِي عَلَى بَابِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ الْغُرَبَاءَ مَعَ أَهْلِ الْمِصْرِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَبْدَأَ بِهِمْ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْغُرَبَاءُ غَيْرَ كَثِيرٍ فَإِنْ كَثُرُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَشَغَلُوهُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغَرِيبَ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ فَرُبَّمَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ.
فَإِذَا لَمْ يُقَدِّمْهُ الْقَاضِي رُبَّمَا تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَعَاهُدِ الْغَرِيبِ تَعْظِيمًا لِحَقِّ غُرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْغُرَبَاءَ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ضَرَرًا فَإِنَّهُمْ جِيرَانُهُ، وَإِنَّمَا يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَنْظُرَ فِي حَوَائِجِهِ.
فَإِذَا كَانَ تَقْدِيمُ الْغُرَبَاءِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ وَيَعُودَ الْمَرِيضَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ «أَنْ يُشَيِّعَ جِنَازَتَهُ وَيَعُودَهُ إذَا مَرِضَ» وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَقَلُّدِهِ الْقَضَاءَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْجَامِعَةَ فَذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» قَالَ وَلَا تَجِبُ الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ الْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ فِي مَكَان؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةُ الْمَيْلِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إنَّ فُلَانًا فِي دَعْوَةِ فُلَانٍ كَلَّمَ الْقَاضِيَ وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ خَصْمِي وَصَانَعَهُ عَلَى رِشْوَةٍ، وَلِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ مِمَّا يَطْمَعُ النَّاسُ بِهِ فِي الْقَاضِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّعْوَةِ الْجَامِعَةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِنْ إيجَادِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجِيبُهُ فَهُوَ الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إيجَادِهِ لِذَلِكَ فَهُوَ الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِمَّنْ اعْتَادَ إيجَادَ الدَّعْوَةِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ قَبْلَ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ ذِي الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْنَ الْقَرَابَاتِ لَيْسَ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ عَادَةً وَلَا صِدْقَ فِي ذَلِكَ كَالْأَقَارِبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ قَبْلَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ نَهْي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ.
(قَالَ) وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ إذَا دَخَلَتْ الْبَابَ ضَحِكَتْ الْأُسْكُفَّةُ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْهَدِيَّةُ تُذْهِبُ وَجَرَ الصَّدْرِ، أَوْ وَغَرَ الصَّدْرِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا»، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ لِذَلِكَ كَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ خُصُوصًا مِمَّنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَجَاءَ بِمَالٍ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا مِمَّا أُهْدِيَ إلَيَّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ «مَا بَالُ قَوْمٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ فَيَقْدَمُوا بِمَالٍ وَيَقُولُونَ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا مِمَّا أُهْدِيَ إلَيَّ فَهَلَّا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عِنْدَ حِفْشِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا» وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا قَالَ تَنَاتَجَتْ الْخُيُولُ وَتَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا قَالَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَنَظَرْت أَيُهْدَى إلَيْك أَمْ لَا فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الرِّشْوَةِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَكْلِ بِالْقَضَاءِ وَمِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ التُّهْمَةُ وَيَطْمَعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِيُتَحَرَّزْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ التَّهَادِي بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ عَادَةً، وَلِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَرَابَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَفِي الرَّدِّ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ.
فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ قَبُولُ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ إذَا دَخَلَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ الْبَابِ خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ مِنْ الْكُوَّةِ.
وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْلُوَ فِي مَنْزِلِهِ مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ كَمَا لَا يُسَارُّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، وَلِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ طَاعَةً لَا يَكُونُ فَوْقَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» فَأَحْسَنُ ذَلِكَ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ حَيْثُ تُقَامُ جَمَاعَةُ النَّاسِ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَوْضِعُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَهْدِيه إلَى ذَلِكَ مِنْ الْغُرَبَاءِ كَانَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَا يَقْضِي وَهُوَ يَمْشِي وَيَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الزَّلَلِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فَيَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْمَشْيِ أَوْ السَّيْرِ فَلَا يَتَفَرَّغُ بِالنَّظَرِ فِي الْحُجَجِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الِاسْتِخْفَافِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا بَأْس بِأَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ؛ لِأَنَّ التُّكَأَةَ نَوْعُ جِلْسَةٍ كَالتَّرَبُّعِ وَنَحْوِهِ وَطِبَاعُ النَّاسِ فِي الْجُلُوسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اتِّكَاؤُهُ أَرْوَحَ لَهُ وَاعْتِدَالُ حَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَظْهَرُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا فَقَدْ نَظَرَ فِي خُصُومَتِهِمَا حِينَ كَانَ مُتَّكِئًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ أَتَاهُ شَيْءٌ لَمْ يَجِدْهُ فِيهِ قَضَى فِيهِ بِمَا أَتَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا أَتَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَقَضَى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ لَهُ قَوْلٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَضَى بِهِ وَقَدَّمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ»، وَلِأَنَّ فِيمَا يَبْلُغُهُ عَنْ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ احْتِمَالُ السَّمَاعِ فَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُفْتُونَ بِهِ تَارَةً وَيَرَوْنَ أُخْرَى، وَفِيهِ أَيْضًا احْتِمَالُ تَرْجِيحِ الْإِصَابَةِ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَقَدْ وُفِّقُوا لِمَا لَمْ يُوَفَّقْ غَيْرُهُمْ بَعْدَهُمْ فَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِيهِ تَخَيَّرَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَحْسَنَهَا فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ جَمِيعًا وَيَبْتَدِعَ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُمْ.
فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ فَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو مِمَّا قَالُوا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُمْ وَيَبْتَدِعَ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَارُ أَحْسَنَ الْأَقَاوِيلِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالرِّوَايَةِ فَقَدْ انْقَطَعَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ فَتَعَارُضُ أَقَاوِيلِهِمْ كَتَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصِيرَ إلَى التَّرْجِيحِ وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ الرُّجْحَانُ فِيهِ.
فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ فَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ الْأَقَاوِيلِ شَاءَ؛ لِأَنَّ بِالتَّعَارُضِ لَا تَنْعَدِمُ الْحُجَّةُ فِي أَقَاوِيلِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِأَحْسَنِهَا فِي نَفْسِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَمَلًا مِنْهُ بِالْحُجَّةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي مَا جَاءَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَقَاسَهُ بِمَا جَاءَ مِنْهُ، ثُمَّ قَضَى بِاَلَّذِي يَجْتَمِعُ رَأْيُهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ.
وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ عِنْدَ انْقِطَاعِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ عَنْهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ كَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَالِاعْتِبَارُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَالْعِبْرَةُ هُوَ الْبَيَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وَالْبَيَانُ يَرُدُّ الشَّيْءَ إلَى نَظِيرِهِ.
فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَاوَرَ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِيَقْضِيَ بِهِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ إدْرَاكِهِ بِنَفْسِهِ فَلْيَرْجِعْ إلَى مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ كَمَا إذَا احْتَاجَ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ شَيْءٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرَ إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فَأَخَذَ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ رَأَى خِلَافَ رَأْيِهِمْ فَإِنْ اسْتَحْسَنَ وَأَشْبَهَ الْحَقَّ قَضَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ رَأْيِهِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ رَأْيَهُ أَقْوَى فِي حَقِّهِ مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِ فَلَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ كَانَ قَاضِيًا بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ.
وَإِذَا قَضَى بِرَأْيِ غَيْرِهِ كَانَ قَاضِيًا بِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ وَقَضَاؤُهُ بِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِيَخْتَارَ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ نَظَرَ إلَى أَفْقَهِهِمْ عِنْدَهُ وَأَوْرَعِهِمْ فَقَضَى بِفَتْوَاهُ فَهَذَا اجْتِهَادٌ مِثْلُهُ وَلَا يُعَجِّلُ بِالْحُكْمِ إذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَفَكَّرَ فِيهِ وَيُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَلَا يَسْتَدْرِك ذَلِكَ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالْمَشُورَةِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ تُرْفَعُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُبَّمَا يَتَأَمَّلُ فِي ذَلِكَ شَهْرًا وَيَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ وَالْيَوْمَ يُفْصَلُ فِي الْمَجْلِسِ مَا بِهِ قَضِيَّةٌ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُفَوِّضَةِ مَعْرُوفٌ فَإِنَّهُ رَدَّهُمْ شَهْرًا، ثُمَّ قَالَ أَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ الْحَدِيثَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَأَنَّى وَيُشَاوِرَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ.
وَإِذَا قَضَى بِقَضَاءٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَضَى بِهِ خَطَأً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ رَدَّهُ وَأَبْطَلَهُ يَعْنِي إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ، أَوْ لِإِجْمَاعٍ فَالْقَضَاءُ بِخِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ وَهُوَ جَهْلٌ مِنْ الْقَاضِي، وَفِي الْحَدِيثِ «رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ» فَإِنْ كَانَ خَطَأً مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَمْضَاهُ عَلَى حَالِهِ وَقَضَى فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِاَلَّذِي أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْضِي فِي حَادِثَةٍ بِقَضِيَّةٍ، ثُمَّ تُرْفَعُ إلَيْهِ تِلْكَ الْحَادِثَةُ فَيَقْضِي بِخِلَافِهَا فَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا يُقْضَى وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَفِظْت مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِّ سَبْعِينَ قَضِيَّةً لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ يَقْضِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَأَصْلُهُ فِي التَّحَرِّي لِلْقِبْلَةِ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْجِعُ عَنْهُ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا كَانَ قَضَى بِهِ يَعْنِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَنِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَمْ يَنْقُضْ مَا كَانَ قَضَى بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا أَدْرَكَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ مَعَهُمْ فَإِنَّ رَأْيَهُ يُعَارِضُ رَأْيَهُمْ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ كَانَ يَبْنِي الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا كَانَ يَبْدُو لَهُ، وَقَدْ سَوَّغُوا لَهُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَهُ قُلْ لِي يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ أَلَا تَنْظُرُ، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ نَحْرِ الْوَلَدِ وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فَيُمْضِي مَا قَضَى بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ فِي مَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُعَجِّلُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ.
فَإِذَا انْقَطَعَ طَمَعُهُ عَنْ الْوَحْيِ فِيهِ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ وَصَارَ ذَلِكَ شَرِيعَةً، ثُمَّ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَنَظِيرُهُ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُبْطِلُ مَا قَضَى بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يُنْهِي مُدَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقًّا قَبْلَ نُزُولِ النَّاسِخِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا كَانَ قَضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّأْيَ لَا يَنْسَخُ الرَّأْيَ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةِ مِنْ النَّارِ» مَعْنَى قَوْلِهِ أَلْحَنُ أَفْطَنُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَاللَّحْنُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفَطِنَةُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلُّ مَا كَانَ حَرَامًا فَيَكُونُ حُجَّةً لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمُرَادُ الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَدَّعِي الْبَاطِلَ وَيُقِيمُ عَلَيْهِ شُهُودَ الزُّورِ فَالْوَعِيدُ يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِسَبَبِهِ قَالَ وَأَكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ لِلْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْلَمَ الْخُصُومُ قَوْلَهُ فَتَحْتَرِزَ مِنْهُ بِالْبَاطِلِ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَبْسِ قَالَ إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَصْلًا وَقَالُوا يُفْتِي فِي الْعِبَادَاتِ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُهِمٌّ.
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسٍ يُخَافُ الْخَلَلُ فِيهِمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْتِي وَيَقْضِي وَالْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَهُ كَذَلِكَ وَلِلْقَضَاءِ فَتْوَى فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ مُلْزِمٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ لِلْخَصْمِ فِيمَا خَاصَمَ فِيهِ إلَيْهِ لِمَا قِيلَ إنَّ الْخَصْمَ إذَا وَقَفَ عَلَى رَأْيِهِ رُبَّمَا اشْتَغَلَ بِالتَّلْبِيسِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُفْتِي لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْخُصُومَةُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَدُهُمَا عَالِمٌ بِالْخُصُومَةِ وَالْآخَرُ جَاهِلٌ بِهَا فَلَمْ يَلْبَسْهُ الْعَالِمُ أَنْ قَضَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَقَعَدَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ حَقِّي لَحَقٌّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأَتَى بِهِ فَأَخْبَرَهُ بِاَلَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ شِئْت عَاوَدْتُهُ الْخُصُومَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاوِدْهُ فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يَلْبَسْهُ أَنْ قَضَى لَهُ فَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَقَعَدَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ إنَّ حَقِّي لَحَقٌّ يَعْلَمُ ذَلِكَ نَفْسَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأَتَى بِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ إنْ شِئْت عَاوَدْتُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا، وَلَكِنْ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وَجَدَلِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا يَقْتَطِعُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ فَقَالَ الرَّجُلُ الْحَقُّ حَقُّهُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ» وَقَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وَجَدَلِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَلِيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْقَضَاءِ مَخَافَةَ تَلْبِيسِ بَعْضِ الْخُصُومِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ مَعْصُومٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا فَقَدْ حَلَفَ الرَّجُلُ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا ارْتَابَ فِي شَيْءٍ مِنْ قَضَائِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَاطَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْمُعَاوَدَةِ حِينَ حَلَفَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَّ حَقَّهُ حَقٌّ وَكَانَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ مَالَ الْغَيْرِ لَا يَحِلُّ لِلْغَيْرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْوَعِيدِ الثَّانِي أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ» فَكَمَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَجَزَاؤُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}.
فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ أَخْذَ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّلْبِيسِ.
(قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ، وَلَكِنْ يَدَعُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ جَائِزَةً قَبِلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ جَائِزَةٍ رَدَّهَا وَلَا يَقُولُ لَهُ اشْهَدْ بِكَذَا فَإِنَّ هَذَا تَلْقِينٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدَا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَرَأَى مَا بِالشُّهُودِ مِنْ الْخَبَرِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ فَإِنَّ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ هَيْبَةٌ وَلِلْقَاضِي حِشْمَةٌ وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْ التَّكَلُّمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إذَا لَمْ يُعِنْهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مِنْ بَابِ الْبِرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَأُمِرْنَا بِإِكْرَامِ الشُّهُودِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي بِهِمْ الْحُقُوقَ»، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّلْقِينِ يَرْجِعُ إلَى إكْرَامِهِ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَيَقُولَ أَتَشْهَدُ بِكَذَا لِمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَهُوَ التَّلْقِينُ الْمَكْرُوهُ، وَفِي مَذْهَبِهِ نَوْعُ رُخْصَةٍ وَالْعَزِيمَةُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ إعَانَةُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ إمَّا صُورَةً، أَوْ مَعْنًى وَتَلْقِينُ الشَّاهِدِ لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ.
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ مَعَ أَنَّ الدَّعْوَى لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ عَادَةَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْمُحْتَشَمَ إذَا لَقَّنَ أَحَدَهُمْ شَيْئًا تَرَكَ مَا كَانَ قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِمَا لَقَّنَهُ تَعْظِيمًا لَهُ فَلَا يَأْمُرُ الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ الشَّاهِدُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَدَعُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَقَّنَهُ الْقَاضِي وَالتَّلْقِينُ تَعْلِيمٌ وَالْقَاضِي إنَّمَا جَلَسَ لِسَمَاعِ الشَّهَادَةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ لَا لِتَعْلِيمِ الشَّاهِدِ؛ فَلِهَذَا أَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ.
وَلَا يَضُرُّ الْقَاضِيَ أَنْ يُقَدِّمَ الشُّهُودَ جَمِيعًا، أَوْ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ جَانِبُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ يَكُونُ زِيَادَةً وَالْقَاضِي لَا يَتَكَلَّفُ لَهَا إلَّا أَنْ يَرْتَابَ فِي أَمْرِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ مَعَهُمْ فَإِنَّ التَّعَنُّتَ يَخْلِطُ عَلَى الرَّجُلِ عَقْلَهُ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي شَهَادَتِهِ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ أَمِينٌ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِيَانَتُهُ لِلْقَاضِي فَلَا يَتَعَنَّتُ مَعَهُمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْرَامِهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا اتَّهَمَهُمْ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَيْنَ كَانَ هَذَا وَكَيْفَ وَمَتَى كَانَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَدَفْعِ الرِّيبَةِ لَا مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا يُفْسِدُ الشَّهَادَةَ أَبْطَلَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُفْسِدُهَا أَجَازَهَا وَلَا يَطْرَحُهَا بِالتُّهْمَةِ وَالظَّنِّ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ» فَمَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُمْ سَوَاءٌ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ عِنْدَ السُّؤَالِ اخْتِلَافًا مُفْسِدًا لِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَإِذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفْتِي فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَقَدْ شَهِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ وَالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» الحديث وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْعُدُولِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَلِهَذَا كَانَ يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَهُمَا أَفْتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِهِ بِالْكَذِبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَيْرِ الْعُدُولِ فَقَالَ لَا بُدَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقِيلَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ مُحْتَمَلَةٌ فِيهِمَا وَالشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ تَوْضِيحُهُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَقَدْ أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لِحَقِّ الْخَصْمِ فَلَيْسَ لِكُلِّ خَصْمٍ يُبْصِرُ حُجَّتَهُ فَرُبَّمَا يَهَابُ الْخَصْمُ الشُّهُودَ فَلَا يُجَاهِرُ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْحُدُودِ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ لِهَذَا الْمَعْنَى.
فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» فَهَذَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَعْدِيلٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَتَعْدِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكِّي، ثُمَّ الْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ لِلْجَادَّةِ طَرِيقٌ عَدْلٌ وَلِلْبَيَانِ طَرِيقٌ عَدْلٌ جَائِزٌ، وَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي مِنْهُمْ الِاسْتِقَامَةَ وَاعْتَقَدَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي التَّعَاطِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَوْقَ خَبَرِ مُزَكًّى، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ هَذَا الدَّلِيلُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ.
فَأَمَّا بَعْدَ طَعْنِهِ يَقَعُ التَّعَارُضُ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُسْلِمٌ وَدِينُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُجَازِفَ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ فَلِلتَّعَارُضِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُرَجِّحَ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِخَبَرِ الْمُزَكِّي.
فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ يَسْأَلُ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَقَدْ أُمِرَ بِدَرْءِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إنْ وَقَعَ فِيهَا غَلَطٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَبِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ لَا تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ فَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ.
فَأَمَّا الْمَالُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ.
وَإِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ فَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ.
وَإِذَا سَأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَ مَسْأَلَتُهُ مُزَكَّاةً يَعْنِي أَنَّ الْمُزَكِّيَ إنْ كَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُمْ عُدُولٌ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ فَالْعَدْلُ قَدْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْعَبْدِ عَدْلٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ عُدُولٌ أَحْرَارٌ فَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حُرٌّ عَدْلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ أَنَّهُ نَفَذَ فَقَدْ بَطَلٌ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَسْتُورِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ مُزَكًّى فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمُزَكِّي التَّزْكِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى مَا طَلَبَ بِلَفْظِهِ كَمَا أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِذَا اخْتَصَمَ إلَى الْقَاضِي قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ لِسَانَهُمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتَرْجِمَ عَنْهُمْ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ وَاِتِّخَاذُ التُّرْجُمَانِ لِلْحَاجَةِ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَمَّا جَاءَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسْلِمَ تَرْجَمَ يَهُودِيٌّ كَلَامَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِبْرَانِيَّةَ وَكَانَ يُتَرْجِمُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِتِلْكَ اللُّغَةِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَبَرِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ بِالْعَدَالَةِ وَيُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُعَادُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْجِنَايَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أُمُورِكُمْ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي التَّرْجَمَةَ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ عَدْلٍ وَالْوَاحِدُ لِذَلِكَ يَكْفِي وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ لِكَلَامِ الْخَصْمِ أَوْ لِشُهُودِ الشَّاهِدَيْنِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي التَّزْكِيَةِ عِنْدَهُمَا تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ يَكْفِي وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدِ الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مَا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ وَمَعْنَى هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْمَعُ مِنْ الْمُتَرْجِمِ؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ قَوْلَ الْمُتَرْجِمِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحُكْمُ فَكَانَتْ التَّرْجَمَةُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ.
فَكَذَلِكَ الْعَدَدُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ، وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِلْزَامِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ كَالشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لَيْسَ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لِمَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ فَقَوْلُهُ أَشْهَدُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحْلِفُ؛ وَلِهَذَا أُعْظِمَ الْوِزْرُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشُّهُودِ فَلِمَكَانِ احْتِمَالِ الْمُوَاضَعَةِ وَالتَّلْبِيسِ بَيْنَهُمْ شَرَطْنَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا الْمُتَرْجِمُ بِحِيَازَةِ الْقَاضِي فَيَنْعَدِمُ فِي حَقِّهِ مِثْلُ تِلْكَ التُّهْمَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ الْمُتَرْجِمُ مُخَيَّرٌ غَيْرُ مُلْزَمٍ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ مُلْزَمًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَاسْتَوَى فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ الشَّهَادَةَ كَاخْتِصَاصِ الشَّهَادَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ فَفِي الْعَدَدِ أَوْلَى وَاشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْغَيْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمَ شَيْئًا فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالرِّقِّ تَبْقَى الْوِلَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ لِذَلِكَ وَمَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَلَكِنْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاحْتِيَاطِ أَقْرَبُ.
قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَكْتُبَ مَا جَرَى فِي مَجْلِسِهِ وَرُبَّمَا يَعْجَزُ عَنْ مُبَاشَرَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَتَّخِذْ كَاتِبًا لِذَلِكَ وَالْكَاتِبُ نَائِبُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَهُ فِي الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالْكَاتِبُ مِنْ أَقْوَى مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَلَا يُفَوِّضُهُ إلَّا إلَى مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافُ حَتَّى لَا يُخْدَعَ بِالرِّشْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يُقْعِدْهُ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ أَمَّا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَلِيَكُنْ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْدَعَهُ بَعْضُ الْخُصُومِ بِالرِّشْوَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْقَاضِي، ثُمَّ يَكْتُبُ خُصُومَةَ كُلِّ خَصْمَيْنِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّهَادَةِ فِي صَحِيفَةٍ بَيْضَاءَ وَحْدَهَا، ثُمَّ يَطْوِيهَا وَيَخْرِمُهَا وَيَخْتِمُهَا بِخَاتَمِهِ لِلتَّوَثُّقِ كَيْ لَا يُزَادَ فِيهَا، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَيْهَا خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي شَهْرِ كَذَا فِي سَنَةِ كَذَا حَتَّى يَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهَا مِنْ سَائِرِ الصَّحَائِفِ إذَا اخْتَلَفَتْ بِهَا وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى فَتْحِ الْخَاتَمِ فَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَجْعَلُ خُصُومَةَ كُلِّ شَهْرٍ فِي قِطَمْرٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهَا شَيْءٌ آخَرُ وَالْقِطَمْرُ اسْمٌ لِخَرِيطَةِ الْقَاضِي، وَفِيهِ لُغَتَانِ قِمَطْرَةٌ وَقِطَمْرٌ، وَإِنَّمَا يَتَّخِذُ لِخُصُومَةِ كُلِّ شَهْرٍ خَرِيطَةً عَلَى حِدَةٍ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ وُجُودُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَيَجِدَهَا بِأَدْنَى طَلَبٍ وَيَكْتُبُ التَّارِيخَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ وَالْأَصْلُ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبْ إلَى الْآفَاقِ قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُلُوكَ لَا يَقْبَلُونَ الْكِتَابَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَرَّخًا فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّارِيخَ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ وَبَقِيَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا قَالَ وَلِيُبَاشِرْ هُوَ بِنَفْسِهِ مَسَائِلَ الشُّهُودِ فَيَكْتُبُهَا، أَوْ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا فِي السِّرِّ إلَى أَهْلِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ فَيَبْعَثُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مَعَ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَلَا يَطَّلِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَدَعُ فِي بَابِهَا أَقْصَى مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ كَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَانِيَةً، ثُمَّ أَحْدَثَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَزْكِيَةَ السِّرِّ فَقِيلَ لَهُ أَحْدَثْت يَا أَبَا أُمَيَّةَ فَقَالَ أَحْدَثْتُمْ فَأَحْدَثْنَا فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَيَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ، ثُمَّ يَحْضُرُ الشُّهُودُ وَالْمُزَكَّوْنَ لِيُزَكُّوهُمْ عَلَانِيَةً فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَكَّيْنَاهُمْ وَهُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ تَرَكُوا بَعْدَ ذَلِكَ تَزْكِيَةَ الْعَلَانِيَةِ وَاكْتَفَوْا بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ إبْقَاءً لِلسِّتْرِ عَلَى النَّاسِ وَتَحَرُّزًا عَنْ الْغَيْبَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُزَكِّينَ وَبَعْضِ الشُّهُودِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إذَا مَيَّزُوا الْمَجْرُوحَ؛ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فِي زَمَانِنَا، وَإِنَّمَا لَا يُطْلِعُ وَاحِدًا مِنْ الرَّسُولَيْنِ عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ كَيْ لَا يَتَوَاضَعَا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْضُ الْخُصُومِ فَيَخْدَعُهُ بِالرِّشْوَةِ أَوْ تُخَوِّفُهُ بَعْضُ الشُّهُودِ فَيُزْكِي الْمَجْرُوحَ لِذَلِكَ وَيُلْبِسُ عَلَى الْقَاضِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ، وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا اتَّخَذُوا التَّزْكِيَةَ عَمَلًا فَيَشْتَهِرُ الْمُزَكِّي لِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُدُولِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ مِمَّنْ يَقِفُ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَلَا يَعْرِفُهُ الْخُصُومُ.
وَإِذَا أَتَاهُ تَزْكِيَةُ رَجُلٍ مِنْ ثِقَةٍ وَأَتَاهُ مِنْ ثِقَةٍ آخَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَإِنَّ النَّافِيَ مُعَارِضٌ لِلْمُثْبِتِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى التَّزْكِيَةِ عَمِلَ بِقَوْلِهِمَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي خَرَجَ؛ لِأَنَّ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَحْدِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَرَجُلَانِ عَدْلَانِ عَلَى الْجَرْحِ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ زَكُّوا اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَالِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَا عَرَفَهُ اللَّذَانِ جَرَحَا مِنْ الْعَارِضِ الْمُوجِبِ لِلْجَرْحِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ خَبَرَ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ.
(قَالَ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَحِلْيَتَهُ وَمَنْزِلَهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ أَوْ فِي دَارِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْأَلَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ مَنْزِلَهُ؛ لِأَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِحَالِ الْمَرْءِ جِيرَانُهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمَّا قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ كَيْفَ أَنَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْ جِيرَانَك»، وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ جِيرَانَهُ عَنْ حَالِهِ إلَّا إذَا عَرَفَ مَنْزِلَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَمَّى رَجُلٌ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَنْزِلَهُ وَيَسْأَلَ عَنْ التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُزَكِّي، أَوْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ فَيُزْكِي غَيْرَ مَنْ شَهِدَ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْوَهْمُ عِنْدَ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ تَرْكُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْفِتْنَةِ.
وَإِذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ صَحِيفَةً فِيهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ لَا يَحْفَظُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ إنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا وَجَدَ ذَلِكَ فِي قِمَطْرَةٍ تَحْتَ خَاتَمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَهَذَا مِنْهُمَا نَوْعُ رُخْصَةٍ فَالْقَاضِي لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ يَعْجَزُ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ؛ وَلِهَذَا يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَ النِّسْيَانِ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عِنْدَ النِّسْيَانِ.
(أَلَا تَرَى) إلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْسَى وَسُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا؛ لِأَنَّهُ يَنْسَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ عِنْدَ نِسْيَانِهِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، ثُمَّ مَا كَانَ فِي قِمَطْرَةٍ تَحْتَ خَاتَمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا زَائِدَةٌ فِيهِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْعَزِيمَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابِ أَنْ يَتَذَكَّرَ إذَا نَظَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْقَلْبِ كَالْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمِرْآةُ لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ بِالْعَيْنِ.
فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
فَكَذَلِكَ الْكِتَابُ لِلتَّذَكُّرِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِذْ لَمْ يَتَذَكَّرْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ وَيُفْتَعَلُ بِهِ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إلَّا بِعِلْمٍ وَبِوُجُودِ الْكِتَابِ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مَعَ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ وَالِافْتِعَالِ فِيهِ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا وَالثَّانِي فِي الشَّاهِدِ إذَا وَجَدَ شَهَادَتَهُ فِي صَكٍّ وَعَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ وَالثَّالِثُ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ فَوَجَدَهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ وَوَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا غَيْرُهُ وَهُوَ خَطٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الْكِتَابَ؛ وَلِهَذَا قُلْت لَهُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ فِي الرِّوَايَةِ الْحِفْظَ مِنْ حِينِ سَمِعَ إلَى أَنْ يَرْوِيَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا» وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ.
وَقَالَ يُعْتَمَدُ خَطُّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي وَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَقَالَ الصَّكُّ الَّذِي فِيهِ الشَّهَادَةُ كَانَ فِي يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ فِيهِ فَلَا يُعْتَمَدُ خَطُّهُ فِي الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ، وَإِنْ وَجَدَ الْقَاضِي سِجِلًّا فِي خَرِيطَتِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَاجَةَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَمْ يَكُنْ سَجَّلَ فَشَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَعْتَمِدُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ فَيَقْضِي بِهِ وَعَلَى هَذَا مَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ رَاوِي الْأَصْلِ فَسَمِعَهُ مِمَّنْ يَرْوِي عِنْدَهُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ رِوَايَةَ الْغَيْرِ عَنْهُ كَمَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ شَاهِدُ الْأَصْلِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ ذَلِكَ لِلتَّيْسِيرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا وَعَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ سَمِعَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ لَا يَعْتَمِدَ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ لَا يَدَعُ الرِّوَايَةَ مَعَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فَحَالُ الْقَاضِي كَذَلِكَ.
وَمَا وُجِدَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ إقْرَارٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ وَلَا مَقْبُولٍ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَضَى بِهِ، وَأَنْفَذَهُ وَهُوَ قَاضٍ يَوْمَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَوِلَايَةُ الْقَاضِي فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ.
فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَلِئَلَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ»، ثُمَّ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا حِينَ قَضَى بِهَذَا فَلَعَلَّهُ أَنَفَذَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْقَضَاءُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَزْلِ لَا يَكُونُ نَافِذًا وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَسَأَلَهُ عَنْ كَاتِبِهِ فَقَالَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ وَأَبْعِدُوهُمْ وَأَذِلُّوهُمْ فَاِتَّخَذَ أَبُو مُوسَى كَاتِبًا غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ كَاتِبُ الْقَاضِي مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَهُمْ يَخُونُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِيُفْسِدُوهُ عَلَيْهِمْ.
(قَالَ) اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} الْآيَةَ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بحنس.
وَقَالَ لَوْ كُنْتَ عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا، وَلِأَنَّ كَاتِبَ الْقَاضِي يُعَظَّمُ فِي النَّاسِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا كَاتِبًا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ»؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا هُوَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِهِ فَلَا يَخْتَارُ لِذَلِكَ إلَّا مِنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، أَوْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْخُصُومِ إلَى شَهَادَتِهِ فَلَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَلِّفَ الْقَاضِي الطَّالِبَ صَحِيفَةً يَكْتُبُ فِيهَا حُجَّتَهُ وَشَهَادَةَ شُهُودِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَهُ وَاَلَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَةُ الْقَضَاءِ.
فَأَمَّا الْكِتَابَةُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّخَاذُ الصَّحَائِفِ لِذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِعَمَلِهِ وَكِفَايَتِهِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَمَا يَتَّصِلُ بِهِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا أَجْرُ كَاتِبِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إنْ جَعَلَ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِكِفَايَةِ الْقَاضِي لِيَحْتَسِبَ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهُ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ قَاسِمِ الْقَاضِي.
وَإِذَا هَلَكَ ذَكَرَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ مِنْ دِيوَانِ الْقَاضِي فَشَهِدَ عِنْدَهُ كَاتِبَانِ لَهُ أَنَّ شُهُودَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَدْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَشْهَدَ الْكَاتِبَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ.
وَإِذَا لَمْ يُشْهِدْهُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ بِمَحْضَرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ وَكِيلِهِ حَتَّى لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنْ زَادُوا، أَوْ حَرَّفُوهُ طَعَنَ فِيهِ وَخَاصَمَ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي نَائِبُهُ وَكَوْنُ الْكَاتِبِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ أَقْرَبَ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَإِلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي، وَإِنْ كَتَبَهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَا سَمِعَ وَهُوَ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ تَظْهَرْ خِيَانَتُهُ.
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ كِتَابَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُهَا عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَعْرِفَ هَلْ زَادَ شَيْئًا، أَوْ حَرَّفَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فَيَسْتَقْصِي فِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَرْضِ عَلَى الشَّاهِدِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعَرَبِيَّةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بِلَفْظِهِ وَلَا يُحَوِّلَهُ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى مَخَافَةَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.