فصل: كِتَابُ الشَّهَادَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الشَّهَادَاتِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الْمُعَايَنَةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ الْمُطْلَقَ لِلْأَدَاءِ الْمُعَايَنَةُ سُمِّيَ الْأَدَاءُ شَهَادَةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَقِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَعْنَى الْحُضُورِ يَقُولُ الرَّجُلُ شَهِدْت مَجْلِسَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْت قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِلْأَدَاءِ يُسَمَّى شَاهِدًا وَتُسَمَّى أَدَاءَ شَهَادَةٍ، ثُمَّ الْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً مُلْزِمَةً، وَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ فَالْقَضَاءُ أَوْلَى.
وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ لِلْأَحْكَامِ بِالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي»، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا حَاجَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالثَّانِي مَعْنَى إلْزَامِ الشُّهُودِ حَيْثُ جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ» وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْكَرَامَاتِ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وَقَدْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ.
ثُمَّ الْقِيَاسُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ يَظْهَرُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ وَكَمَا لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْعَدَدِ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ فَفِيهَا بَيَانُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا لَوْ تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِلْمُدَّعِي لَيْسَ لَك إلَّا شَاهِدٌ شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» فَإِنْ (قِيلَ) هَذِهِ النُّصُوصُ بَيَانُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ نَفْيِ ذَلِكَ بِدُونِ الْعَدَدِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَالْمَقَادِيرُ فِي الشَّرْعِ إمَّا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ، أَوْ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ كَأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَهُنَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ فَلَوْ لَمْ يُفِدْ مَنْعُ النُّقْصَانِ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فَائِدَةٌ وَحَاشَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَنْصُوصُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ، ثُمَّ فِيهِ مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدَدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَفِي الشَّهَادَةِ مَحْضُ الْإِلْزَامِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ بِخِلَافِ الدِّيَانَاتِ فَإِنَّ فِي الدِّيَانَاتِ الْتِزَامَ السَّامِعِ بِاعْتِقَادِهِ وَالْمُخْبِرُ يُلْزِمُ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلْزَامًا مَحْضًا؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَالتَّزْوِيرُ وَالتَّلْبِيسُ فِي الْخُصُومَاتِ يَكْثُرُ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَاتِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْلِ الْمُتَكَلِّمِ وَالشَّهَادَةُ بَيِّنَةٌ.
وَمَعْرِفَةُ عَقْلِ الْمَرْءِ بِاخْتِيَارِهِ فِيمَا يَأْتِي.
وَيَذَرُ وَحُسْنُ نَظَرِهِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الشَّيْءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْعَقْلِ سِوَى مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَدًّا وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَمَعْنَى الضَّبْطِ حُسْنُ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَتُعْتَبَرُ صِفَةُ الْكَمَالِ فِيهِ أَيْضًا لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ، أَوْ مُجَازَفَتُهُ فِيمَا يَقُولُ وَيَسْمَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فَلِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ.
فَالْحُجَّةُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ إلَّا الْعَدَالَةَ.
وَالْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ، وَلَيْسَ لِكَمَالِهَا نِهَايَةٌ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُمْكِنُ وَهُوَ انْزِجَارُهُ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا شَرْطُ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ لَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُجْعَلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ شَرْعًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْإِسْلَامُ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ يَظْهَرُ فِي خَبَرِهِ مَعَ كُفْرِهِ إذَا كَانَ مُنْزَجِرًا عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ غَيْرَ أَنَّ خَبَرَهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ السَّعْيَ فِي هَدْمِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ عَدَاوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَنْعَدِمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَسِوَى هَذَا.
يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ أَهْلِيَّةٌ لِلْوِلَايَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَمْلُوكُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ فِي الدِّيَانَات مَقْبُولًا لِمَا فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ وَإِلْزَامُ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وِلَايَةٍ فَشَرَطْنَا الْأَهْلِيَّةَ لِلْوِلَايَةِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا شَرَطْنَا الْعَدَدَ وَجَعَلْنَا النِّسَاءَ أَحَطَّ رُتْبَةً فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الرِّجَالِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ وَرَوَاهُ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ «مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ»، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبًا مِنْ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الضَّلَالَ وَالنِّسْيَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ وَيَقِلُّ مَعَهُنَّ مَعْنَى الضَّبْطِ وَالْفَهْمِ بِالْأُنُوثَةِ إلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَوَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ.
وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ تَيْسِيرًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْهَا وَلَا يُقَالُ فَالشُّبْهَةُ فِي شَهَادَةِ الرِّجَالِ قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِخَبَرِهِمْ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ فِي الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا فِي الْجِرَاحَاتِ يَعْنِي عِنْدَ إمْكَانِ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ، وَذَلِكَ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِلْإِنَاثِ الَّتِي بَلَوْنَا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ قَالَ، وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لِخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضْلٌ فِي شَهَادَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ خَصَّهُ بِذَلِكَ وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ، ثُمَّ جَحَدَ الْأَعْرَابِيُّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ وَجَعَلَ يَقُولُ وَاغَدْرَاهُ هَلُمَّ بِهِ شَهِيدًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا أَشْهَدُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ أَوْفَيْت الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَشْهَدُ لِي وَلَمْ تَحْضُرْنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّهَادَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ وَهُوَ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقَوْله تَعَالَى، {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا سِوَى الزِّنَا الْعُقُوبَاتُ وَغَيْرُ الْعُقُوبَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْنًى سِوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السِّتْرَ عَلَى الْعِبَادِ وَلَا يَرْضَى بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِي الزِّنَى زِيَادَةُ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ النِّسْبَةَ إلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْأَجَانِبِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَفِي الزَّوْجَاتِ مُوجِبًا لِلِّعَانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْفَوَاحِشِ لِسِتْرِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمِّهِ هَلَّا سَتَرْته بِثَوْبِك، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ شَيْنُ وَالِي الْيَتِيمِ أَنْتَ، وَفِي قِسْمٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ شَهِيدَانِ لِيَكُونَ تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} وَالْآيَةُ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّسَبُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى فِي الْمُدَايَنَاتِ كَثْرَةُ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يُجْعَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ خَاصَّةً وَهِيَ الْأَمْوَالُ وَحُقُوقُهَا.
فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا خَلَا الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا ضَرَرُ شُبْهَةٍ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخَبَرَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ يُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ تَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حَلِفٌ حَقِيقَةً حَتَّى لَا يُصَارَ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي صُورَةِ الْحَلِفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، وَلَيْسَ بِحَلِفٍ حَقِيقَةً حَتَّى يَجُوزَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِشْهَادِ رَجُلَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ لَمْ يُعَايِنْ السَّبَبَ وَلَا يَتَيَقَّنُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إنَّمَا فِيهِ تُهْمَةُ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ.
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَجْمَعَ.
الْعُقُوبَاتُ وَغَيْرُ الْعُقُوبَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ فِيمَا هُوَ الْمَشْهُورُ بِهِ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَثُبُوتِهِ بِأَدَائِهِمْ لَوْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَشَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْضُرْنَ مَحَافِلَ الرِّجَالِ عَادَةً فَلَا تُجْعَلُ حُجَّةً إلَّا فِيمَا تَكْثُرُ فِيهِ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَقْبُولٌ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا لِتَحْقِيقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ لِلْعِبَادِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي الرَّجْمِ فَالشَّاهِدُ عَلَى الزِّنَا فِي جُمْلَةِ مَنْ يُرْجَمُ يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ لَا مَحَالَةَ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُدُودِ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ إذَا ظَهَرَ السَّبَبُ عِنْدَهُ وَظَهَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِ إذَا تَأَمَّلْت.
وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ وَلَمْ يَسْمَعْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالشُّهُودِ بِهِ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا} وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُعْلِمُ الْقَاضِيَ حَقِيقَةَ الْحَالِ وَيُمَيِّزُ الصَّادِقَ الْمُخْبِرَ مِنْ الْكَاذِبِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَطَرِيقُ الْعَمَلِ الْمُعَايَنَةُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يُعَايَنُ وَالسَّمَاعُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْمَعُ كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الِاسْتِحْلَافِ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُسْتَحْلَفُ فِي الْخُصُومَاتِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَا أَنْكَرَ» إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي «لَك يَمِينُهُ» وَكَمَا لَا يَسْتَحْضِرُ وَلَا يَطْلُبُ الْجَوَابَ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي.
فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِهِ وَمَعْنَى جَعْلِ الشَّرْعِ الْيَمِينَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْغَمُوسَ مِنْ الْيَمِينِ مُهْلِكَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ وَجَدَلِهِ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْجَنَّةَ قِيلَ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَمِينٌ مُهْلِكَةٌ وَالْمُدَّعِي يَزْعُمُ أَنَّ الْمُنْكِرَ أَتْلَفَ حَقَّهُ بِجُحُودِهِ فَجَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ يَمِينَهُ حَتَّى تَكُونَ مُهْلِكَةً لَهُ إنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعِي فَالْإِهْلَاكُ بِمُقَابَلَةِ الْإِهْلَاكِ جَزَاءٌ مَشْرُوعٌ كَالْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ الْيَمِينُ الصَّادِقَةُ فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعَدْلِ فِي شَرْعِ الْيَمِينِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ لَهُ رَأْيٌ فِي تَأْخِيرِ الِاسْتِحْلَافِ فَرُبَّمَا يَرْجُو أَنْ يَحْضُرَ شُهُودُهُ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ خُصُومَتُهُ عِنْدَ قَاضٍ لَا يَرَى قَبُولَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ فَيُؤَخَّرُ اسْتِحْلَافُهُ لِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يَحْلِفُ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي.
وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْخَصْمُ إذَا زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ شُهُودَهُ حُضُورٌ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِهِ، ثُمَّ شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلِاسْتِحْلَافِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ حُضُورٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي «أَلَك بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَنْ لَك يَمِينُهُ»، وَلِأَنَّ الْمُنْكِرَ إنَّمَا يَكُونُ مُتْلِفًا حَقَّ الْمُدَّعِي بِإِنْكَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ حُضُورٌ وَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْقَاضِي الْخَصْمَ مَعَ حُضُورِ الشُّهُودِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُسْلِمِ إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا إذَا كَانَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
فَكَذَلِكَ يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ الْمُؤْنَةَ وَالْمَسَافَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فَيَتَوَصَّلُ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَهُ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَفِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَكَيْفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْغَيْرِ كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقْضِيَ عِنْدَ النُّكُولِ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخْذَ الْمَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُسْتَحْلَفُ الْخَصْمُ فِي الْأَخْذِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يَقْضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْأَخْذُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ.
فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِتْلَافِ وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِيهَا بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ وَهُمَا يَقُولَانِ يُسْتَحْلَفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فَالنُّكُولُ عِنْدَهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى، وَفِي دَعْوَى الْقِصَاصِ يُسْتَحْلَفُ لَا لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ بَلْ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ النُّفُوسِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ شُرِعَتْ مُكَرَّرَةً لِذَلِكَ، وَإِنَّ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ النِّسْبَةِ إلَى الْفَاحِشَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْتَحْلَفُ لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ عَامِلٌ فِي الْأَطْرَافِ كَهُوَ فِي الْأَمْوَالِ.
فَإِذَا كَانَ مُفِيدًا يَعْمَلُ فِي الْإِبَاحَةِ.
وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ يَعْمَلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ فَعِنْدَ النُّكُولِ يُقْضَى بِالْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْمُدَّعَى كَمَا يُقْضَى بِالْمَالِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ النَّفْسُ، وَمَا دُونَهَا سَوَاءٌ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَيْضًا.
(قَالَ) وَلَا يُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنْسَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ يَمِينٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ إقَامَةِ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ لِلنَّفْيِ وَالْمُدَّعِي مُحْتَاجٌ إلَى الْإِثْبَاتِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ لَا نَرُدُّ الْيَمِينَ وَلَا نُحَوِّلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ وَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَرَى اسْتِحْلَافَ الشَّاهِدِ وَاسْتِحْلَافَ الرَّاوِي إذَا رَوَى حَدِيثًا كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَا رَوَى لِي أَحَدٌ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا حَلَّفْته غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ أُحَلِّفْهُ وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ فَفِي النُّصُوصِ أَمْرُ الْحُكَّامِ بِالْتِمَاسِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُدَّعِي فَالْيَمِينُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ، ثُمَّ الْحَقُّ قَدْ ثَبَتَ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَّةِ فَالْبَيِّنَةُ سُمِّيَتْ بَيِّنَةً؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَحْصُلُ بِهَا، وَلَوْ ثَبَتَ حَقُّهُ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ لَمْ يَجُزْ اسْتِحْلَافُهُ مَعَ ذَلِكَ.
فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ، أَوْ أَقْوَى.
فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا} فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي بَيْعِهِ نُصْرَةُ الْحَقِّ وَالْإِنْكَارَاتُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ هُوَ النُّكُولُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَتَجَاسَرُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَطْ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي إنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ الَّذِي حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ»، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي آدَابِ الْقَاضِي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ حَسَنٌ بَعْدَ أَنْ لَا يُحَلِّفَهُ أَكْثَرَ مِنْ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ.
وَلَا يُحَلِّفُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَلَا يُدْخِلْهُ الْمَسْجِدَ وَحَيْثُمَا يُحَلِّفُهُ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَلَّفَهُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ، أَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ يَسْتَحْلِفُ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْتِ وَبِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الرَّوْضَةِ وَالْمِنْبَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحْلِفُونَ عِنْدَ الْبَيْتِ قَالَ أَعَلَى دَمٍ أَمْ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمَالِ لَقَدْ خِفْت أَنْ يَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِهَذَا الْبَيْتِ، وَهَذَا نَوْعُ مُبَالَغَةٍ لِلِاحْتِيَاطِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ تَعْدِلُ النَّسْخَ عِنْدَنَا، وَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَفِيهِ أَيْضًا بَعْضُ الْحَرَجِ عَلَى الْقَاضِي فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي فَحُجَّتُهُ الْبَيِّنَةُ أَوْ إقْرَارُ الْخَصْمِ أَوْ نُكُولُهُ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَقُولُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ الْقَاضِي أَيْ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ الطَّالِبِ عَنْهُ بِقَضَائِهِ، ثُمَّ إنْ أَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْهُ وَبَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانَ لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْخَصْمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ كَمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَنْظُرَ إلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ بَعْدَهُ.
فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الصِّدْقُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ جَوَّزَ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَقُولُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ يُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي إنْكَارِهِ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُخَاصِمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ.
فَإِذَا وَجَدَ الْحُجَّةَ كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِهَا وَلَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ إلَّا بِأَمْرِنَا لِإِكْرَامِ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ مِنْ إكْرَامِهِ اسْتِحْلَافُهُ، ثُمَّ الِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى الْخُصُومَةِ وَلَا خَصْمَ لِلشَّاهِدِ وَكَمَا يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ فِي الْخُصُومَاتِ تُسْتَحْلَفُ أَهْلُ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النُّكُولُ وَهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ.
(قَالَ) وَيَحْلِفُ النَّصْرَانِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْأَنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْيَهُودُ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ حَيْثُ قَالَ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ «أُنْشِدُك اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا، وَهَذَا»؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْتَنَعُ مِنْ الْيَمِينِ عِنْدَ التَّغْلِيظِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا لَا يُمْتَنَعُ بِدُونِهِ.
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ، وَلَيْسَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ أَحَدٌ إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا؛ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ النَّارَ عِنْدَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ وَالنَّارُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الشَّمْسَ.
فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ فَالْمَقْصُودُ النُّكُولُ قَالَ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ.
فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ لَا يُعَظِّمُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُذْكَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اسْتِحْلَافِ الْمُسْلِمِ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِزَعْمِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} فَيَمْتَنِعُونِ مِنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ النُّكُولُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ النَّارِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى تَعْظِيمِ النَّارِ.
وَإِذَا كَانَ لَا يُدْخِلُهُ الْمَسْجِدَ مَعَ أَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَلِئَلَّا يَدْخُلَ الْمَجُوسِيُّ بَيْتَ النَّارِ عِنْدَ الِاسْتِحْلَافِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا أَوْلَى وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَهَؤُلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سَوَاءٌ.
وَإِذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُحَلِّفَ زَوْجَهَا عَلَى الدُّخُولِ بِهَا لِتُؤَاخِذَهُ بِالْمَهْرِ.
وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي وَطَلَّقَنِي بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ قَالَتْ تَزَوَّجَنِي وَطَلَّقَنِي قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الْمَالَ وَالْعَقْدَ وَالْبَدَلَ يَعْمَلُ فِي الْمَالِ وَلَا يَعْمَلُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحْلَفُ لِدَعْوَى الْمَالِ، وَعِنْدَ النُّكُولِ يُقْضَى بِذَلِكَ دُونَ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.