فصل: كتاب المأذون الكبير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب المأذون الكبير:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا وَرَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حُكْمًا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لَا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِعِوَضٍ، وَالْإِذْنُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَخَلُّوهُ عَنْ الْعِوَضِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَعَ الْمُسْتَفَادِ بِالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ بَعْدَ حُدُوثِ الرِّقِّ فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّقِيقِ وَاعْتِبَارُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ صَادِرًا عَنْ مُمَيَّزٍ أَوْ مُخَاطَبٍ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ وَمَحِلُّ التَّصَرُّفَاتِ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ فَإِنَّ صَلَاحِيَّةَ الذِّمَّةِ لِلِالْتِزَامِ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ وَبِالرِّقِّ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَشَرِ إلَّا أَنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالرِّقِّ فَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِيهَا إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ يَسْقُطُ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ فَكًّا لِلْحَجْزِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ نَظِيرُ مِلْكِ الْحِلِّ فَإِنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ يُنْتَقَصُ حَتَّى أَنَّ الْحِلَّ فِي حَقِّ الرَّقِيقِ نِصْفُ مَا هُوَ فِي حَقِّ الْحُرِّ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَمْلُوكًا مَالًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا مَالًا وَكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمَالِكِيَّةِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَمْلُوكًا نِكَاحًا.
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَدِمَ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِمِلْكِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ عَلَيْهِ.
قُلْنَا إنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا بِنَفْسِهِ بَيْعًا أَوْ تَزْوِيجًا فَلَا جَرَمَ تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ لِمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَيَكُونُ نَائِبًا فِيهِ عَنْ الْمَوْلَى مَتَى بَاشَرَ بِأَمْرِهِ وَلَكِنَّهُ مَا صَارَ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ ابْتِدَاءً فَتَبْقَى لَهُ الْأَهْلِيَّةُ فِي مِلْكِ هَذَا التَّصَرُّفِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ بَقِيَ مَالِكًا لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَإِنْ قِيلَ انْعِدَامُ الْأَهْلِيَّةِ لِخُرُوجِهِ بِالرِّقِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُرَادُ لِعَيْنِهَا بَلْ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ، وَالرَّقِيقُ أَهْلٌ لِذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى): أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْيَدِ يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَأَدْنَى طَرِيقِ الْحَاجَةِ مِلْكُ الْيَدِ فَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْعِتْقِ مَشْرُوعٌ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِيهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ، ثُمَّ مَاتَ فَمَتَى اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثَبَتَ مِلْكُ الْعَيْنِ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْمُوَرِّثُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ شَرْعًا الْآثَارُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الْكِتَابَ.
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رُكُوبَ الْحِمَارِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَقَدْ كَانَ يَعْتَادُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُوِيَ «أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا» وَرُوِيَ «أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ وَأَرْدَفَ» وَذَلِكَ مِنْ التَّوَاضُعِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ مَنْ رَكِبَ الْحِمَارَ وَسَعَى فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ»، وَفِي لِسَانِ النَّاسِ رُكُوبُ الْفَرَسِ عِزٌّ، وَرُكُوبُ الْجِمَالِ كَمَالٌ، وَرُكُوبُ الْبَغْلِ مَكْرَمَةٌ وَرُكُوبُ الْحِمَارِ ذُلٌّ وَلَا ذُلَّ كَالتَّرَجُّلِ وَكَذَلِكَ إجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَجَابَ دَعْوَةَ عَبْدٍ».
وَرُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الرَّجُلِ الدُّونِ يَعْنِي الْمَمْلُوكَ»، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَادِ الدَّعْوَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَطَرِيقُ الِاكْتِسَابِ التِّجَارَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَأَنَّ مَا يَكْسِبُهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِذْنِ حَلَالٌ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِأَنْ يَتَّخِذَ الدَّعْوَةَ بَعْدَ أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَكَانَ يَقُولُ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ».
، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ كُلُّ دَيْنٍ حَتَّى يُحْجَرَ عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُولُ إذَا حَجَرَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَعْنَاهُ يَلْزَمُهُ كُلُّ دَيْنٍ يَكْتَسِبُ سَبَبَ وُجُوبِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْإِقْرَارِ، وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ مَنْ الْتَزَمَ الدَّيْنَ بِسَبَبِهِ كَالْحُرِّ وَإِذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَيْ لَا يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ بِمُبَاشَرَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَلَا يَجِبُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ فَكَأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ.
، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْحَجْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا مُنْتَشِرًا، وَأَنَّ الِانْتِشَارَ فِيهِ بِكَوْنِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَأَنَّهُ رَفَعَ الْإِذْنَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ مُنْتَشِرٌ، وَفِي تَصْحِيحِهِ بِدُونِ الِانْتِشَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ، وَالْغُرُورِ كَمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ رَأَيْتُ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلَّهُمْ يَتَّجِرُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْإِذْنِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاكْتِسَابِ الْغِنَى، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِلِّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى غِنَى الْعَبَّاسِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا رَأْسُ مَالِ كُلِّ عَبْدٍ عَشَرَةٌ آلَافٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ سَبَبُ ثَرْوَتِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ فِي الْفِدَاءِ حِينَ أُسِرَ فَلِمَا أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَانَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُظْهِرُ السُّرُورَ بِغِنَاهُ وَيَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَنِي بِشَيْئَيْنِ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا، وَالْمَغْفِرَةَ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ أَنْجَزَ لِي أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْرِمَنِي مِنْ الْآخَرِ إنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ الضَّرِيبَةَ فَهِيَ تِجَارَةٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنْ الْمَوْلَى اسْتَأْدَى عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ فَذَلِكَ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَلِتَحَصُّلِهِ طَرِيقَانِ التَّكَدِّي، وَالتِّجَارَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَهُ الْمَالَ بِالتَّكَدِّي فَالسُّؤَالُ يُدْنِي الْمَرْءَ وَيَبْخَسُهُ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ» أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الِاكْتِسَابُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَرِضَاهُ بِالتِّجَارَةِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ كَمَا ثَبَتَتْ نَصًّا.
، وَعَنْ شُرَيْحٍ فِي عَبْدٍ تَاجِرٍ لَحِقَهُ دَيْنٌ أَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ كُلَّ دَيْنٍ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى يُبَاعُ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ مَحْسُوسٌ لَا يَنْعَدِمُ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ فَكَذَلِكَ دَيْنُ التِّجَارَةِ بَعْدَ الْإِذْنِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُبَاعُ فِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ رَجُلًا فِي دَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سَرَفٌ» فَحِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ جَائِزًا بَاعَ الْحُرُّ فِي دَيْنِهِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ جَائِزٌ فِي الْحَالِ فَيُبَاعُ فِي كُلِّ دَيْنٍ يَظْهَرُ وُجُوبَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى.
، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى عَبْدِ رَجُلٍ دَيْنًا فَقَالَ الرَّجُلُ عَبْدِي مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي فِي السُّوقِ وَيَبِيعُ بِعِلْمِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى مِنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْإِذْنَ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِذْنَ يُثْبِتُهُ بِالدَّلَالَةِ، وَأَنَّ مَنْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ.
، وَعَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ خَيَّاطًا وَأَذِنَ آخَرُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ صَبَّاغًا فَأَجَازَ شُرَيْحٌ عَلَى الْخَيَّاطِ ثَمَنُ الْإِبَرِ، وَالْخُيُوطِ وَأَجَازَ عَلَى الصَّبَّاغِ ثَمَنُ الْغَلِيِّ، وَالْعُصْفُرِ وَمَا كَانَ فِي عَمَلِهِ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ مَبْنَى الْإِذْنِ عَلَى التَّعَدِّي، وَالِانْتِشَارِ، وَأَنَّ الْمَوْلَى، وَإِنْ خَصَّ نَوْعًا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِالْبَعْضِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى فَإِنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِشِرَاءِ الصَّبْغِ، وَالْخَيَّاطَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِشِرَاءِ السِّلْكِ، وَالْإِبْرَةِ وَالْخُيُوطِ، ثُمَّ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ يُبَاعُ بِالنَّقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ، وَإِنَّمَا يُبَاعُ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِيُعْطِيَهُ فِي ثَمَنِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَشْتَرِي ذَلِكَ بِالدَّنَانِيرِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُصَارَفَةِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ لِيَحْصُلَ الثَّمَنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّعَدِّي، وَالِانْتِشَارِ فَيَتَعَدَّى الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَيَقُولُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ عَمَلِهِ خَاصَّةً وَعِنْدَنَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ عَمَلِهِ، وَمَا اسْتَدَارَ فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ يُكَاتَبَ فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّتَهُ فَأَكَلَ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ وَأَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَقَبِلَهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ».
(قَالَ الشَّيْخُ) الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ وَجَعَلَ يَتَنَقَّلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ يَطْلُبُ الْحَقَّ حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ لَعَلَّكَ تَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ وَقَدْ قَرُبَ أَوَانُهَا وَعَلَيْكَ بِيَثْرِبَ، وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَرَقَّهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الطَّرِيقِ وَجَاءَ بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعَهُ مِنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَكَانَ يَعْمَلُ فِي نَخِيلِ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَتَاهُ سَلْمَانُ بِطَبَقٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ فَقَالَ: صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، فَقَالَ سَلْمَانُ فِي نَفْسِهِ هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْغَدِ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ، فَقَالَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ قَالَ هَدِيَّةٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا فَقَالَ سَلْمَانُ: هَذِهِ أُخْرَى، ثُمَّ تَحَوَّلَ خَلْفَهُ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَهُ فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ كَتِفَيْهِ حَتَّى نَظَرَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَأَسْلَمَ».
وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونَ أَنْ يَهْدِيَ فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّتَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ.
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ قَالَ بَنَيْتُ بِأَهْلِي وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالُوا لَهُ: أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ فِي بَيْتِهِ فَقَدَّمُونِي وَصَلَّيْتُ بِهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يَتَّخِذَ الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ كَمَا يَتَّخِذُ الدَّعْوَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ إذَا أَتَوْهُ بِتِجَارَةٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجَابُوا دَعْوَتَهُ وَأَبُو ذَرٍّ مَعَ زُهْدِهِ أَجَابَ دَعْوَتَهُ وَهُوَ عَبْدٌ.
وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَؤُمَّ غَيْرَهُ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي ذَرٍّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْعَبْدِ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ فَقِيهًا وَرِعًا فَلَا بَأْسَ بِإِمَامَتِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ زُهْدِهِ قَدَّمَهُ وَاقْتَدَى بِهِ لِفِقْهِهِ وَوَرِعِهِ.

.باب الإذن للصبي الحر والمعتوه:

وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ قَدْ أَذَنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا لِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ الْإِذْنِ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَى أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَكٌّ لِلْحَجْرِ كَالْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَوْلَى عَادَةً أَنْ يُحَصِّلَ الْعَبْدُ الرِّبْحَ بِكَسْبِهِ وَاعْتِبَارُ إذْنِهِ شَرْعًا لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَاشْتِرَاطِ مَالًا يُفِيدُ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ قِيَامُ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا وَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ قَبْلَ التَّنْصِيصِ عَلَى جِنْسِ مَا يَشْتَرِيهِ لَهُ، ثُمَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَتَمَّ رِضَا الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الِالْتِزَامِ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ هُوَ حَقُّهُ مِنْ تَعَامُلِهِ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَلِأَنَّ الْمَأْذُونَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إقَامَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مِنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ حِسْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْجَارِ الْإِجْرَاءَ لِإِقَامَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فِيمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ عِنْدَنَا.
وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ كَسْبَهُ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ وَهُوَ إنَّمَا جَعَلَهُ نَائِبًا فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، وَمَنَافِعُ بَدَنِهِ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ بَعْدَ الْإِذْنِ كَمَا قَبِلَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا رَهْنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ وَمَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ الْمَأْذُونِ فَكَانَ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يُقَالُ الْكِتَابَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْإِذْنُ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ لَا يَخْتَلِفُ لِكَوْنِهِ لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ مَعَ الْهِبَةِ فَإِنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيْنُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الْمُوجِبُ الرُّجُوعَ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً، وَالْأَجْرُ لَا يَلْزَمُ وَنَحْنُ إنَّمَا شَبَّهْنَا الْإِذْنَ بِالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ، ثُمَّ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ يَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ عَلَى مَنَافِعِهِ فَيَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَلَيْهَا كَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَلَمَّا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ لِمَنَافِعِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْمَوْلَى مِنْ الْإِعَانَةِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ، وَالْمُسْتَعِيرُ إنَّمَا لَا يُؤَاجِرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا، ثُمَّ إجَارَةُ النَّفْسِ نَوْعُ تِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ التِّجَارَةِ وَهُمْ الْبَاعَةُ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَمَلِ، وَالْمَوْلَى حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا بِرَأْسِ مَالٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَ رَأْسَ مَالِهِ مَنَافِعَهُ وَطَرِيقَ تَحْصِيلِ الْمَالِ مِمَّا جَعَلَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَبِيعُ نَفْسَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى وَلِأَنَّ حُكْمَهُ ضِدُّ حُكْمِ الْإِذْنِ فَإِنَّ بَيْعَ الرَّقَبَة إذَا صَحَّ أَوْجَبَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ لَا يَرْهَنُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ضِدُّ مُوجِبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ يَدًا مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ضِدُّ مُوجِبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ الْإِذْنَ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ يَدًا مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا يُسْتَفَادُ مَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ ضِدُّهُ مُوجِبُهُ.
وَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَلَا تُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَلَا تَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَجَرَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ كَسْبَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَهَا مُزَارَعَةً كَمَا يَأْخُذُ الْحُرُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْمَأْذُونُ مُؤَاجِرُ نَفْسِهِ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَجْرُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَارِجُ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَهُنَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ فَإِذَا مَلَكَ اسْتِئْجَارَهُ بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ فَبِبَعْضِ الْخَارِجِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مِنْ التِّجَارَةِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبُّهُ»، وَالتُّجَّارُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَادَةً قَالَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ طَعَامًا إلَى رَجُلٍ لِيَزْرَعَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِهِ بِالنِّصْفِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَرْضًا وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَلَطٌ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذَا دَفَعَ الْبَذْرَ مُزَارَعَةً، وَدَفْعُ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ، وَشَرْطُ الْإِجَارَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْأَرْضِ قَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهُ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِهِ.
هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَفِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ قَالَ إذَا دَفَعَ الْبَذْرَ مُزَارَعَةً إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ، وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا مَا قَالَ فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ نَمَاءُ الْبَذْرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَذْرِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَوَجْهُ مَا قَالَ هُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ إنَّمَا يَرْضَى بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّصْفِ فَبِدُونِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بَلْ الزَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لِبَذْرِهِ.
وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ بَذْرًا وَزَرَعَهُ فِي أَرْضِهِ كَانَ الْخَارِجُ لِلزَّارِعِ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا غَصَبَ وَقِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ فَهُنَاكَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحُرِّ وَإِذْنُ الْحُرِّ فِي اسْتِهْلَاكِ الْبَذْرِ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَإِنْ فَسَدَتْ بَقِيَ إذْنُهُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِهْلَاكِ الْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْبَذْرِ كَإِلْقَائِهِ بِنَفْسِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَأَمَّا إذْنُ الْعَبْدِ فِي اسْتِهْلَاكِ بَذْرِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْذَنَ فِي إتْلَافِ الْبَذْرِ وَلَا أَنْ يُقْرِضَ الْبَذْرَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ إذْنِهِ فَكَانَ لِزَارِعٍ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ الْمُسْتَهْلِكِ لِلْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَذْرِ لِلْعَبْدِ.
(قَالَ الشَّيْخُ) الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ بِالنِّصْفِ فَمَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «ازْرَعْهَا لِنَفْسِكَ» يَكُونُ إقْرَاضًا لِلْبَذْرِ، ثُمَّ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ نِصْفَ الْخَارِجِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالزَّارِعُ فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ.
وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُشْهَدْ الشُّهُودَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُنْدَبُ الْإِشْهَادُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحَقِّ اللَّازِمِ كَمَا يُنْدَبُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ}، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَازِمٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ فِي ذَلِكَ.
وَإِذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَى عَبْدِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ إنْ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَإِنْ قَالَ: اعْمَلْ فِي الْبُرِّ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي النَّوْعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً فَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَصَرَّفَ لِلْمَوْلَى بِإِذْنِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ كَالْوَكِيلِ، وَالْمُضَارِبِ، وَالْمُسْتَبْضِعِ، وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعَنَانِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَالرِّقُّ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِيهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى، وَأَنَّ الْعَبْدَ بِسَبَبِ الرِّقِّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ بِالْكِتَابَةِ عِنْدِي يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ حَقٌّ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ يَدًا، ثُمَّ الْمَأْذُونُ عِنْدِي يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ لِرُجُوعِهِ مَحِلًّا وَهُوَ كَسْبُهُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَهَكَذَا مَذْهَبِي فِي الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ رُجُوعَهُ بِالْعُهْدَةِ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ رُجُوعَهُ بِالْعُهْدَةِ فِيمَا يَشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي التَّصَرُّفِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ وَمَقْصُودَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ، وَلَئِنْ كَانَ الْإِذْنُ إطْلَاقًا وَتَمْلِيكًا لِلْيَدِ مِنْهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُكُمْ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ كَتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ إطْلَاقٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْوِلَايَةِ، ثُمَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَالْإِعَارَةَ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ، ثُمَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْإِذْنِ كَذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُفِيدٌ فَمَقْصُودُ الْمَوْلَى تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِتِجَارَتِهِ فِي نَوْعٍ لِكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِيهِ، ثُمَّ يَفُوتُ ذَلِكَ بِتِجَارَتِهِ فِي نَوْعٍ آخَرَ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ.
وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ إنَّمَا أَثْبَتْنَا حُكْمًا عَامًّا عِنْدَ سُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَذَلِكَ يَسْقُطُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ إذَا صَرَّحَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ مَضَى شَهْرٌ أَوْ يَوْمٌ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْإِذْنُ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ طُرُقٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ يَسْتَدْعِي الْإِذْنَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ التِّجَارَاتِ بِالْبَعْضِ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي الْبُرِّ بِمَا يَشْتَرِي ذَلِكَ الْبُرَّ بِالطَّعَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِ الْبُرِّ بِالْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ التِّجَارَاتِ بِالْبَعْضِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكٌّ لِلْحَجْرِ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ الْإِذْنِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ كَالْمُكَاتَبِ، وَكَمَا أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ فَكَذَلِكَ فِي الْإِذْنِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بِمُطْلَقِ الْإِذْنِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، وَالْإِنَابَةُ لَا تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى التَّصَرُّفِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ لِلْغَيْرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَأَنَّهُ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَكَانَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا يُؤَدِّي مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ كَالْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رُجُوعُ الْوَكِيلِ فِيمَا يَحْصُلُ تَصَرُّفُهُ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْفَوَاتِ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَهُنَا، وَإِنْ هَلَكَ كَسْبُهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ وَدَلَّ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالرِّقِّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَلَا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى كَسْبِهِ وَلَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فَالْإِذْنُ لِإِزَالَةِ الْمَنْعِ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ بِالْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ أَوْ يُجْعَلُ كَالْحُرِّ يَدًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِحَقِّ الْعِتْقِ مَتَى ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالِاسْتِيلَادِ فَثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ، وَالْإِذْنُ مِثْلُهُ، ثُمَّ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْفَكِّ التَّامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعِتْقِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَوْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ يُلَاقِي مَحِلًّا هُوَ مِلْكُهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفَاتِ بَعْدَ الْإِذْنِ مِنْ الْعَبْدِ شِرَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَشْتَرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ وَهُوَ بِالشِّرَاءِ يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّمَّةَ مَمْلُوكَةٌ بِمَنْزِلَةِ ذِمَّتِهِ فَكَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى هُنَا لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَالرِّضَى بِصَرْفِهَا إلَى الدَّيْنِ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ وَنَوْعٍ فَتَقْيِيدُهُ بِنَوْعٍ غَيْرِ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَيْعِ الْعَيْنِ مِنْ زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو أَوْ رَضِيَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الْمُشْتَرَى مِنْ زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ نَوْعٍ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إسْقَاطَ حَقِّ الْمَبِيعِ فَأَهْلُ التَّصَرُّفِ يَكُونُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ لَا يَكُونُ مُفِيدًا وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَالرِّقُّ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَكَانَ هُوَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي النِّكَاحِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَوْلَى يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَأَمَّا هَذَا التَّصَرُّفُ فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى إسْقَاطًا لِحَقِّهِ لَا إنَابَةَ الْعَبْدِ مَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِ الْعَيْنِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَيْف يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِيمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَحَلٍّ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ بِإِيجَابِ صَاحِبِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِيجَابُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِإِيجَابِ الْمَوْلَى لَهُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ فَكَيْف يُوجِبُ لَهُ مَالًا يَمْلِكُهُ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ عَنْ النَّهْيِ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ إذْنًا قَبْلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ نَصًّا فِي نَوْعٍ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَكَذَلِكَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِي نَوْعٍ فَسُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ إذْنُهُ فِي نَوْعٍ يُوجِبُ الْإِذْنَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِدَفْعِ الْغُرُور، وَالضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ فَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفًا مِنْهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ وَحُجَّتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلرِّضَى بِتَصَرُّفِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى إنْسَانًا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِإِذْنٍ فَالْإِذْنُ مَا يَقَعُ فِي الْإِذْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ كَيْفَ يَكُونُ إذْنًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يُبَاشِرُهُ لَا يَنْفُذُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى، وَأَنَّهُ إذَا رَآهُ يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ فَسَكَتَ لَا يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَالْحَاجَةُ إلَى رِضًى مُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالسُّكُوتِ كَمَنْ رَأَى إنْسَانًا يُتْلِفُ مَالَهُ فَسَكَتَ فَلَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِسُكُوتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ سُكُوتِ الْبِكْرِ إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِتَرْجِيحِ الرِّضَا فِيهِ وَهُوَ أَنَّ لَهَا عِنْدَ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ كَلَامَيْنِ لَا أَوْ نَعَمْ، وَالْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَعَمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ وَهِيَ تُسْتَقْبَحُ مِنْهَا لَا يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَا فَسُكُوتُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجَوَابِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ هَهُنَا فَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِالطَّلَبِ فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ، وَهَهُنَا حَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الرِّضَا الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ فَإِعْرَاضُهُ عَنْ الطَّلَبِ الْمُؤَكِّدِ لِحَقِّهِ يَجْعَلُ دَلِيلَ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ إذَا بَقِيَ حَقُّ الشَّفِيعِ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى فَأَمَّا هُنَا فَحَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مُتَأَكِّدٌ، وَفِي إسْقَاطِهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ عِنْدَ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَمَّنْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ مَعَهُ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، وَقَالَ «أَلَا مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَةُ الرِّضَا عِنْدَ سُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَحْضَرِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ سَاكِتًا وَإِذَا لَحِقَتْهُ دُيُونٌ، ثُمَّ قَالَ الْمَوْلَى كَانَ عَبْدِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَتَتَأَخَّرُ الدُّيُونُ إلَى وَقْتِ عِتْقِهِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يُعْتَقُ وَهَلْ يُعْتَقُ أَوْ لَا يُعْتَقُ فَيَكُونُ فِيهِ أَنْوَاءُ حَقِّهِمْ وَيَلْحَقُهُمْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَيَصِيرُ الْمَوْلَى غَارًّا لَهُمْ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ جَعَلْنَا سُكُوتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالسُّكُوتُ مُحْتَمَلٌ كَمَا قَالَ وَلَكِنْ دَلِيلُ الْعُرْفِ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرِّضَا فَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يُظْهِرُ النَّهْيَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ شَرْعًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ فَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الرِّضَا فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ كَمَا فِي سُكُوتِ الشَّفِيعِ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُ فِي أَهْلِ سُوقِهِ لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِحَّ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ فَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَجْرِهِ نَصًّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ عَدَمِ الرِّضَا مِنْ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى وَلَئِنْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ يُبْنَى عَلَى الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهَا أَوْضَحُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مِنْ يُعَامِلُ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَ الْمُوَكِّلِ رِضًى فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ نَافِذٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ يُعَامِلُهُ لَا يُطَالِبُ الْمُوَكِّلَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْوَكِيلَ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ إزَالَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى عَمَّا يَبِيعُهُ، وَفِي إزَالَةِ مِلْكِهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ لِلْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِسُكُوتِهِ وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَوْلَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الدَّيْنُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِهِ تَضَرَّرَ النَّاسُ الَّذِينَ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الْعَبْدُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ بِهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ وَأَمَّا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَالْحَاجَةُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِأَجْلِ الرِّضَا تَصَرُّفُ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ إلَى الدَّيْنِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَالِ وَسُكُوتُهُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ جَانِبِ الرِّضَا هُنَاكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ الْمُتْلَفِ وَهُوَ مُلْتَزِمُ الضَّرَرِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْدَاءُ الْمَالِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ يَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِالِاكْتِسَابِ ضَرُورَةً وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الِاكْتِسَابُ بِالتَّكَدِّي فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الِاكْتِسَابُ بِالتِّجَارَةِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا فِي الْحُكْمِ كَصَرِيحِ الرِّضَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ حَثَّهُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ بِإِزَاءِ الْمَالِ مِنْ الْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَدَاءَ الْأَلْفِ إلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا الْمُفِيدُ فِي حَقِّهِ أَدَاءُ الْأَلْفِ إلَيْهِ مِنْ كَسْبٍ يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتِ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْتَ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ فِي الْحَالِ أَدَّى أَوْ لَمْ يُؤَدِّ وَلَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ فِي الْحَالِ أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَتَّصِلُ بِالشَّرْطِ عَلَى أَنْ يَتَعَقَّبَ نُزُولَهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ، وَالتَّعْقِيبِ فَيَتَّصِلُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا حَرْفُ الْوَاوِ فَلِلْعَطْفِ لَا لِلْوَصْلِ وَعَطْفُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ تَنْجِيزًا، وَأَمَّا جَوَابُ الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاوِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَالِ أَيْ، وَأَنْتَ حُرٌّ فِي حَالِ أَدَائِكَ وَأَمَّا صِفَةُ الْأَمْرِ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ يَقُولُ الرَّجُلُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاكَ الْغَوْثُ يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ أَتَاكَ الْغَوْثُ فَإِذَا قَالَ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّكَ حُرٌّ فَلِهَذَا يَتَنَجَّزُ بِهِ الْعِتْقُ فِي الْحَالِ وَعَلَى هَذَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ افْتَحُوا الْبَابَ، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ فَمَا لَمْ يَفْتَحُوا لَا يَأْمَنُوا وَلَوْ قَالَ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ كَانُوا آمِنِينَ فَتَحُوا أَوْ لَمْ يَفْتَحُوا وَلَوْ قَالَ إذَا فَتَحْتُمْ الْبَابَ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ لَا يَأْمَنُونَ مَا لَمْ يَفْتَحُوا، وَلَوْ قَالَ، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ كَانُوا آمِنِينَ فِي الْحَالِ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ فَأَجِّرْ نَفْسَكَ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اُقْعُدْ قَصَّارًا وَصَبَّاغًا فَإِنَّ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَعْتِقْ مَنْ يُعَامِلُهُ فَقَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ التِّجَارَةِ وَهَهُنَا عَيَّنَ مَنْ يُؤَاجِرُ الْعَبْدَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُفَوِّضْ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِيهِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ رَسُولًا قَائِمًا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَلَى مَنَافِعِهِ هَهُنَا وَمَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ لَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ أَمَرَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ إجَارَةَ نَفْسِ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ لَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ أَمَرَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ إجَارَةَ نَفْسِ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْبَلَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَاسْتَشْهَدَ بِمَا لَوْ أَرْسَلَ عَبْدًا لَهُ يُؤَاجِرُ عَبْدًا لَهُ آخَرَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لِوَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ فِي النَّقَّالِينَ أَوْ فِي الْحَنَّاطِينَ أَوْ قَالَ أَجِّرْ نَفْسَكَ فِي النَّقَّالِينَ أَوْ الْحَنَّاطِينَ فَهَذَا مِنْهُ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُعَامِلُهُ بَلْ جَعَلَ تَعْيِينَهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِهِ وَالنَّقَّالُونَ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ الْخَشَبَ مِنْ الشَّطْءِ إلَى الْبُيُوتِ، وَالْحَنَّاطُونَ يَنْقُلُونَ الْحِنْطَةَ مِنْ مَوْضِعِ السَّفِينَةِ إلَى الْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْعَبِيدُ، وَالْأَقْوِيَاءُ.
وَلَوْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ يَشْتَرِي لَهُ ثَوْبًا أَوْ لَحْمًا بِدَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اخْتِيَارَ مَنْ يُعَامِلُهُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ فِي عَادَةِ النَّاسِ هَذَا اسْتِخْدَامٌ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ إذْنًا فِي التِّجَارَةِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى اسْتِخْدَامُ الْمَمَالِيكِ فَإِنَّ الِاسْتِخْدَامَ يَكُونُ فِي حَوَائِجِ الْمَوْلَى وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَقْدِ مِنْ حَوَائِجِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَقْصِدُ التِّجَارَةَ بِهَذَا الشِّرَاءِ إنَّمَا يَقْصِدُ كِفَايَةَ الْوَقْتِ مِنْ الْكِسْوَةِ، وَالطَّعَامِ، وَالتِّجَارَةِ مَا يَقْصِدُ بِهِ الْمَالَ، وَالِاسْتِرْبَاحَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبَ كِسْوَةٍ لِلْمَوْلَى أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ أَوْ طَعَامًا رِزْقًا لِأَهْلِهِ أَوْ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْعَبْدِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَقْلًا بِفَلْسَيْنِ أَكَانَ يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اشْتَرِ مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فَاقْطَعْهُ قَمِيصًا أَوْ اشْتَرِ مِنْ فُلَانٍ طَعَامًا فَكُلْهُ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَاوِيَةً وَحِمَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِمَوْلَاهُ وَلِعِيَالِهِ وَلِجِيرَانِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ: اسْتَقِ عَلَى هَذَا الْحِمَارِ الْمَاءَ وَبِعْهُ كَانَ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ وَقَصَدَ بِهِ تَحْصِيلَ الْمَالِ، وَالرِّبْحِ.
وَلَوْ أَنَّ طَحَّانًا دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ حِمَارًا لِيَنْقُلَ عَلَيْهِ طَعَامًا لَهُ فَيَأْتِيهِ بِهِ لِيَطْحَنَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ فِي نَقْلِ الطَّعَامِ إلَيْهِ، وَمَا أَمَرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَاتِ وَلَا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَمَلِ لَا تَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ الطَّعَامَ إلَيْهِ لِيَبِيعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الطَّعَامَ مِنْ النَّاسِ بِأَجْرٍ وَيَنْقُلَهُ عَلَى الْحِمَارِ كَانَ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَأَمَرَهُ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ لَهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ تَاجِرًا وَلَهُ غِلْمَانٌ يَبِيعُونَ مَتَاعَهُ بِأَمْرِهِ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَةِ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ جُعِلَ إذْنًا فَتَمْكِينُهُ إيَّاهُمْ مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِ فِي حَانُوتِهِ أَوْ أَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إذْنًا وَلِذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا لِغَيْرِهِ مَتَاعَهُ فَإِنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِمْ وَرَضِيَ بِالْتِزَامِهِمْ الْعُهْدَةَ فِيمَا يَبِيعُونَهُ لِغَيْرِهِمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ مَتَاعًا أَوْ يَشْتَرُوا ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَاشْتَرَوْهُ لَزِمَهُمْ الثَّمَنُ وَهُمْ تُجَّارٌ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمْ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبَهُمْ بِالثَّمَنِ.
وَلَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ فِي حَانُوتِهِ مَتَاعَهُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ مَأْذُونًا لِسُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ مَا بَاعَ مِنْ مَتَاعِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ يَعْتَمِدُ التَّوْكِيلَ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَمْرِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ أَمْرًا وَلَا إجَازَةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوْكِيلُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِيمَا يَبِيعُ مِنْ مَتَاعِ الْمَوْلَى بِأَمْرِهِ إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى، وَأَنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَتَاعِ فِي الْحَالِ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالسُّكُوتِ بِخِلَافِ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْتَمِدُ الرِّضَى لَا التَّوْكِيلَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا وَكَذَلِكَ عَبْدٌ دَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ مَتَاعًا لِيَبِيعَهُ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى يَرَاهُ يَبِيعُ وَلَا يَنْهَاهُ فَهُوَ إذْنٌ مِنْ الْمَوْلَى لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْبَيْعُ فِي الْمَتَاعِ جَائِزٌ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ لَا بِسُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى وَإِنْ نَهَاهُ أَوْ لَمْ يَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الْمَتَاعِ فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ تَأَثُّرَ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعُهْدَةَ تَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَوْ نَهَاهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَرَهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَا يَلْزَمُ الْعُهْدَةَ فِي تَصَرُّفِهِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ الْعُهْدَةُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ بَعْدَهُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ لَهُ.
وَإِذَا اغْتَصَبَ الْعَبْدُ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعًا فَبَاعَهُ وَمَوْلَاهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ حِينَ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ وَلَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ فَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ مَتَاعًا لَهُ بِخَمْرٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتِجَارَتِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً، وَإِنْ فَسَدَ ذَلِكَ الْعَقْدُ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فِيهِ خَمْرًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْفُصُولَ لِإِزَالَةِ إشْكَالِ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِسُكُوتِهِ فَكَيْف يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَمْرِهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لَا يَنْعَقِدُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ بِهِ مَأْذُونًا.
وَلَوْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ إلَى أُفُقٍ مِنْ الْآفَاقِ بِمَالٍ عَظِيمٍ يَشْتَرِي لَهُ الْبَزَّ وَنَهَاهُ عَنْ بَيْعِهِ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَهُوَ شِرَاءُ الْبَزِّ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِشِرَاءِ الْبَزِّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ.
وَلَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَشْتَرِي بِمَالِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَالُ الْمَوْلَى دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا اشْتَرَاهُ الْعَبْدُ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الَّذِي أَجَازَهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ لَا يُعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرَى الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى بِسُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ رَاضِيًا بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَوْلَى مَالٌ آخَرُ لَهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ كَالْمُسْتَقِرِّ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَالْإِقْرَاضُ بِالسُّكُوتِ لَا يَثْبُتُ فَلِهَذَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَقْبُوضِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُهُ وَيَبْقَى الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى حَالِهِ وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَوْلَى ذَلِكَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ، وَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَهُ انْتَقَضَ شِرَاءُ الْعَبْدِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فَصَارَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ فَإِذَا فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى بَطَلَ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا دَفَعَ إلَى غُلَامِهِ مَالًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا وَيَدْفَعُهُ إلَى فُلَانٍ فَيَشْتَرِي بِهِ الْبَزَّ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ مَوْلَاهُ فَفَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ حِينَ أَمَرَهُ بِحَمْلِ الْمَالِ إلَيْهِ وَلَمْ يُفَوِّضْ شَيْئَا مِنْ الْعُقُودِ إلَى رَأْيِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشِّرَاءَ بِهِ إلَى فُلَانٍ، ثُمَّ الْعَبْدُ يَأْتِيهِ بِمَا يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ لَهُ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِخْدَامًا وَإِرْسَالًا لَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ أَرْضًا لَهُ بَيْضَاءَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فَيَزْرَعَهَا وَيَتَقَبَّلَ الْإِجْرَاءَ فِيهَا فَيَكْرِيُونَ أَنْهَارَهَا وَيَسْقُونَ زُرُوعَهَا وَيَكْرُبُونَهَا وَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ الْعَقْدِ إلَى رَأْيِهِ وَقَصَدَ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ، وَالْمَالِ بِتَصَرُّفِهِ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ ثَمَنِ الطَّعَامِ وَأُجْرَةُ الْإِجْرَاءِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ بِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ.
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ثَوْبًا وَاحِدًا يُرِيدُ بِذَلِكَ الرِّبْحَ، وَالتِّجَارَةَ فَهُوَ إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ بِاخْتِيَارِ مَنْ يُعَامِلُهُ فِي عَقْدٍ هُوَ تِجَارَةٌ وَكَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَصَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ.
وَلَوْ قَالَ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِذَا مَضَى رَأَيْتُ رَأَيَا فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَبَدًا حَتَّى يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ؛ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْوَقْتِ كَمَا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْمَكَانِ.
وَلَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذَا الْحَانُوتِ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَكَّ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ هُوَ لَازِمٌ تَامٌّ كَالْإِعْتَاقِ وَنَوْعٌ هُوَ لَازِمٌ غَيْرُ تَامٍّ كَالْكِتَابَةِ وَنَوْعٌ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا تَامٍّ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَمَا أَنَّ النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَا يَقْبَلَانِ التَّخْصِيصَ بِالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ فَكَذَلِكَ هَذَا النَّوْعُ، ثُمَّ تَقْيِيدُ هَذَا الْإِذْنِ بِوَقْتٍ كَتَقْيِيدِهِ بِنَوْعٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ يَكُونُ إذْنًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي يَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ يَكُونُ إذْنًا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَإِذَا مَضَى هَذَا الشَّهْرُ فَقَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ فَلَا تَبِيعَنَّ وَلَا تَشْتَرِيَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَجْرُهُ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَجْرَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَقَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ كَانَ هَذَا بَاطِلًا فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْمَحْجُورِ: إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِطْلَاقِ مَعْنَى إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ نَظِيرَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فَأَمَّا الْحَجْرُ فَمِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْإِطْلَاقِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى إحْرَازٌ لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ، وَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَوْ يُجْعَلُ الْحَجْرُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَبِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فِي الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ.
وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِذْنٍ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَاجِرُهُ لِلِاسْتِخْدَامِ وَلَوْ اسْتَخْدَمَهُ لِنَفْسِهِ لَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ لَهُ الْبُرَّ وَيَشْتَرِيَهُ جَازَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ فَصَارَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتِجَارَتِهِ، وَالْتِزَامِهِ الْعُهْدَةَ لِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَمَا لَزِمَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيمَا اشْتَرَى لِلْمُسْتَأْجِرِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ نَائِبٌ كَالْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَمَا لَزِمَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيمَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ أَوْ يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، ثُمَّ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التُّجَّارُ تَحْصِيلَ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمَأْذُونُ، وَالْمُكَاتَبُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى الْمُضَارِبِ مَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ.
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي فَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ إذَا أَذِنَ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ أَمْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَتِهِ.
(قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ فَكُّ الْحَجْرِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْآذِنُ لَهُ مُضَارِبًا لَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ لِعُهْدَةِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا هَذَا الْعَبْدُ فَلَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ، وَالْمَأْذُونُ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ سَوَاءٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدَ الْمُضَارَبَةِ لَوْ جَنَى جِنَايَةً لَا يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لِهَذَا الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُضَارِبِ وَلَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَيُجْعَلُ فِيهِ كَالْمَأْذُونِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِقَبْضِ غَلَّةِ دَارٍ أَوْ أَمَرَهُ بِقَبْضِ كُلَّ دَيْنٍ لَهُ عَلَى النَّاسِ أَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِإِذْنٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِيَامِ عَلَى زَرْعٍ لَهُ أَوْ أَرْضٍ أَوْ عَلَى عُمَّالٍ فِي بِنَاءِ دَارِهِ أَوْ أَنْ يُحَاسِبَ غُرَمَاءَهُ أَوْ أَنْ يُقَاضِيَ دَيْنَهُ عَنْ النَّاسِ وَيُؤَدِّيَ مِنْهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ أَوْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ دَيْنًا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِخْدَامِ لَا مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ مَا فَوَّضَ شَيْئًا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَلَا رَضِيَ مِنْهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا.
فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَفِي الْقَبْضِ اكْتِسَابُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مُسْتَحَقٌّ.
قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِهَذَا السَّبَبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى بِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ إذَا قَبَضَ مَالًا مِنْ إنْسَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ أَنْ يَرْضَى الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِسَبَبٍ لَوْلَا إذْنُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ.
وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَرْيَةٍ لَهُ عَظِيمَةٍ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهَا وَيَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَيَزْرَعَ فِيهَا وَيَبِيعَ الثِّمَارَ فَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا كَانَ إذْنًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التِّجَارَاتِ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدُّيُونِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِتِلْكَ التِّجَارَاتِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَاتِ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ لِي الْبُرَّ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ اشْتَرِ لِفُلَانٍ الْبُرَّ أَوْ الطَّعَامَ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتِجَارَتِهِ وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ سَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَوْ إلَى الْعَبْدِ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لِنَفْسِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا إلَّا أَنَّهُ يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا وَبَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا فِي تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَكَذَلِكَ إذْنُ الْقَاضِي لِعَبْدِهِ الْيَتِيمِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا لِلْأَبِ ذَلِكَ وَلِلْوَصِيِّ، ثُمَّ إذْنُهُمَا فِي التِّجَارَةِ لِعَبْدِ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إذْنُ الْقَاضِي.
وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي لِلْعَبْدِ اتَّجِرْ فِي الطَّعَامِ خَاصَّةً فَاتَّجَرَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْمَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَالِغًا فَقَالَ لِعَبْدِهِ: اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْقَاضِي لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَفْعَهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي: اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً وَلَا تَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ فَإِنِّي قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَقَوْلُ الْقَاضِي ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِنَوْعٍ كَانَ بَاطِلًا، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ أَوْ حَجْرٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنْ دَفَعَ هَذَا الْعَبْدِ إلَى الْقَاضِي، وَقَدْ اتَّجَرَ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنٌ فَأَبْطَلَهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَمْضَى قَضَاءَهُ وَأَبْطَلَ دَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ بِقَضَائِهِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ هَلْ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِهِ إيَّاهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي كَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَمْرِ فَأَمَّا قَضَاؤُهُ بِإِبْطَالِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ فَقَضَاءٌ صَحِيحٌ مِنْهُ لِوُجُودِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى سَفِيهٍ فَإِنَّ حَجْرَهُ لَا يَكُونُ قَضَاءً مِنْهُ حَتَّى أَنَّ لِغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَ حَجْرَهُ وَلَوْ تَصَرَّفَ هَذَا السَّفِيهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَرَفَعَ تَصَرُّفَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَبْطَلَهُ كَانَ هَذَا قَضَاءً صَحِيحًا مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُصَحِّحَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ أَوْ فِي جِنْسٍ مِنْهَا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا مِثْلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بَاطِلٌ إذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَعْتُوهًا حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِبَارَتَهُ صَالِحَةٌ لِلْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَضَرَّةِ وَعِنْدَهُ هِيَ غَيْرُ صَالِحَةٍ حَتَّى لَوْ تَوَكَّلَ بِالتَّصَرُّفِ عَنْ الْغَيْرِ نَفَذَ تَصَرُّفَهُ عِنْدَنَا وَلَمْ يَنْفُذْ عِنْدَهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} فَقَدْ شَرَطَ الْبُلُوغَ وَإِينَاسَ الرُّشْدِ لِجَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، وَالْمُرَادُ الصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينَ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} فَالْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ كَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ، وَإِنَّمَا تُبْنَى الْأَهْلِيَّةُ عَلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِكَلَامٍ مُلْزِمٍ شَرْعًا وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لِعَدَمِ الْخِطَابِ بَقِيَ مُولًى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَوْ صَارَ بِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ أَهْلًا لِمُبَاشَرَتِهَا لَمْ يَبْقَ مُولًى عَلَيْهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُولًى عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِنَفْسِهِ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلتَّصَرُّفِ آيَةُ الْقُدْرَةِ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ مَعَ النُّقْصَانِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِوَلِيِّهِ فَجُعِلَ عَقْلُهُ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرًا؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَخِيرَتُهُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِوَلِيِّهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فِيهِ وَلِأَنَّ مَا بِهِ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ يَزُلْ بِالْإِذْنِ فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الصِّبَا أَوْ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ لَا لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي مَالِهِ إذْ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَلَوْ زَالَ سَبَبُ الْحَجْرِ بِإِذْنِ الْوَلِيّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْحَجْرَ هُنَاكَ لَحِقَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ وَبِالْإِذْنِ صَارَ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ فِي كَسْبِهِ وَبِخِلَافِ السَّفِيهِ فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ لَازِمٍ وَلَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ إلَّا أَنَّ إذْنَ الْقَاضِي إيَّاهُ دَلِيلُ زَوَالِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، وَالِابْتِلَاءُ هُوَ الِامْتِحَانُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُ وَصَلَاحُهُ فَلَوْ تَصَرَّفَ بِدُونِ مُبَاشَرَتِهِمْ لَا يَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، ثُمَّ عَلَّقَ إلْزَامَ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِالْبُلُوغِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ زَوَالِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عَنْهُ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَبْلُغْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وَاسْمُ الْيَتِيمِ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ فَعَرَفْنَا أَنْ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ وَتَمْكِينَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ جَائِزٌ إذَا صَارَ عَاقِلًا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ أَوْ الْمُرَادُ النِّسَاءُ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَدْفَعُ الْمَالَ لِزَوْجَتِهِ وَيَجْعَلُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَيْهَا وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «وَقُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَبِيعُ لُعَبَ الصِّبْيَانِ فِي صِغَرِهِ فَقَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ» فَقَدْ مَكَّنَ الصَّبِيَّ مِنْ التَّصَرُّفِ فَدَلَّ أَنَّ عِبَارَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ لَهُ وَعَرَّفَهُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالْعَبْدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الصِّغَرِ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ إذَا كَانَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ مُمَيِّزٌ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلتَّصَرُّفِ بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا عَنْ تَمْيِيزٍ وَبَيَانٍ لَا عَنْ تَلْقِينٍ وَهَذَيَانٍ وَقَدْ صَارَ مُمَيَّزًا إلَّا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ؛ لِأَنَّ فِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ إضْرَارًا بِهِ عَاجِلًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ جُعِلَ أَهْلًا لِلنَّوَافِلِ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَوْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ رُبَّمَا لَا يُؤَدِّي لِلْحَرَجِ وَيَبْقَى فِي وَبَالِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُقَرَّبُ مِنْ الْمَنَافِعِ وَيُبَعَّدُ مِنْ الْمَضَارِّ فَإِنَّ الصِّبَا سَبَبٌ لِلْمَرْحَمَةِ وَاعْتِبَارُ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِالْبَيَانِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا لَهُ بِرَأْيِ الْمَوْلَى؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً وَهُوَ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَضَرَّةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ انْضِمَامُ رَأْيٍ إلَى رَأْيِهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَلَوْ نَفَّذْنَا ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِذْنِ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَيَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَصَرَّفَ قَبْلَ إذْنِ الْوَلِيِّ فَأَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ عِنْدَنَا.
وَهَذَا لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ حَالُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ بِمَا أَصَابَ مِنْ الْعَقْلِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ بِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلَا يَحِلُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ شَرْعًا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ حُسْنُ النَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَكَانَ إذْنُ الْوَلِيِّ لَهُ دَلِيلُ كَمَالِ عَقْلِهِ أَوْ حُسْنِ نَظَرِهِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ كَإِذْنِ الْقَاضِي لِلسَّفِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ حِينَ لَزِمَ التَّصَرُّفَ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ فَإِذَا اعْتَبَرْنَا عَقْلَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ اتَّسَعَ تَوْفِيرُ طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَنْفَعَةُ التَّصَرُّفِ بِمُبَاشَرَتِهِ وَبِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهِ أَخْذَ النَّاسِ وَيَجْعَلَ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ طَرِيقًا وَاحِدًا إلَّا أَنَّ نَظَرَهُ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ مُتَرَدِّدٌ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَلِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ ظَاهِرًا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وَلِتَوَهُّمِ الْقُصُورِ فِيهِ يَبْقَى وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ مَا أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْجُرَ وَعَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إقْرَارُهُ بَعْدَ إذْنِ الْوَلِيِّ لَهُ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِغَيْرِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فَهُوَ كَمَا لَوْ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَهَذَا إشْكَالُ الْخَصْمِ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ يَقُولُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ بَاطِلٌ فَكَيْفَ يَسْتَفِيدُ هُوَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ مَا لَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ مُبَاشَرَتَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْوَلِيُّ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالْإِقْرَارُ قَوْلٌ مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا ثَبَتَ عَلَى الْغَيْرِ فَهُوَ شَهَادَةٌ وَإِقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّبِيّ قَوْلٌ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ شَهَادَةٌ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ الْإِذْنِ إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا لَا تَتِمُّ التِّجَارَةُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَمَنْ يُعَامِلُهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ فَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ يَجُوزُ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِي كَسْبِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فِي التِّجَارَاتِ وَهَذِهِ الْحَاجَة تَنْعَدِمُ فِي الْمَوْرُوثِ مِنْ أَبِيهِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فِي حُكْمِ إقْرَارِهِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فَكَذَلِكَ فِيمَا وَرِثَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ مَلَكَهُ وَهُوَ فَارِغٌ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا انْضَمَّ رَأْيُ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ الْتَحَقَ بِالْبَالِغِ؛ وَلِهَذَا نَفَّذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ يَلْتَحِقُ بِالْبَالِغِ، ثُمَّ صِحَّةُ الْإِذْنِ لَهُ فِي وَلِيِّهِ وَوَلِيُّهُ أَبُوهُ، ثُمَّ وَصِيِّ الْأَبِ، ثُمَّ الْجَدِّ أَبِ الْأَبِ، ثُمَّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ وَصِيِّ الْقَاضِي فَأَمَّا الْأُمُّ أَوْ وَصِيُّ الْأُمِّ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ مِنْهُمْ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَلِيٍّ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بَيْعَ عَقَارِهِ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ.
وَلَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ فِي حَالِ إذْنِهِ أَوْ أَضَافَهُ إلَى مَا قَبْلَ الْإِذْنِ جَازَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَالِاسْتِهْلَاكِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْإِذْنِ.
وَلَوْ كَاتَبَ هَذَا الصَّبِيُّ مَمْلُوكَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يَمْلِكُهَا وَلَا يُقَالُ فَالْأَبُ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فِي عَبْدِ الصَّبِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَيَتَحَقَّقُ فِي الْكِتَابَةِ النَّظَرُ وَأَمَّا تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ فَمُقَيَّدٌ بِالتِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكَانِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْعَبْدِ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَلَا يَمْلِكُهُ أَبُوهُ وَوَصِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَإِلْزَامُ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلصَّبِيِّ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَبُرَ الصَّبِيُّ فَأَجَازَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ وَلَا مُجِيزَ لِهَذَا التَّصَرُّفِ حَالَ وُقُوعِهِ فَتَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ فِي الْحَالِ بِبَدَلٍ فِي ذِمَّةِ مُفْلِسِهِ وَلَوْ أَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْكِبَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجِيزَ لَهُ عِنْدَ وُقُوعِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ زَوَّجَ الْأَجْنَبِيُّ أُمَّتَهُ أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فَأَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لِهَذَا التَّصَرُّفِ مُجِيزًا حَالَ وُقُوعِهِ وَهُوَ وَلِيُّهُ، وَالْوَلِيُّ فِي الْإِجَازَةِ نَاظِرٌ لَهُ فَإِذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالنَّظَرِ لِنَفْسِهِ نَفَّذَ بِإِجَازَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ أَنْ يَفْعَلَاهُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَإِذَا فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ تَنْفُذُ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ مِمَّنْ قَامَ رَأْيُهُ مَقَامَ رَأْيِ الصَّبِيِّ فَيَنْفُذُ بِالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْآذِنِ أَوْ مِنْ الصَّبِيِّ بَعْدَ مَا كَبِرَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا النَّظَرِ وَلَوْ زَوَّجَ هَذَا الصَّبِيُّ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ قَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ بِيعَتْ فَأُعْتِقَتْ لَحِقَ الْعَبْدَ نَفَقَتُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الضَّرَرِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَوِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ لَا تَتَعَيَّنُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ.
وَلَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ امْرَأَةٌ فَخَلَعَهَا أَبُوهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَجَازَ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجِيزَ لِهَذَا التَّصَرُّفِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ مَحْضُ ضَرَرٍ عَاجِلٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عَقْلُهُ وَلَا وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَإِذَا قَالَ حِينَ كَبِرَ قَدْ أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهَا فُلَانٌ أَوْ قَدْ أَوْقَعْتُ عَلَى الْعَبْدِ ذَلِكَ الْعِتْقِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فُلَانٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إيقَاعُ مُسْتَقْبَلٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ ابْتِدَاءً بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَكُونُ إضَافَتُهُ إلَى أَوْقَعَ، فُلَانٌ لِتَعْرِيفِ الْعَدَدِ وَالصِّفَةِ لَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْإِيقَاعِ مِنْ فُلَانٍ لَكِنَّهُ مِنْ الْمَوْقِعِ فِي الْحَالِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ تَقَيُّدٌ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي بَاشَرَهُ فُلَانٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً وَقَدْ تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَاشَرَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَإِجَازَتُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَكُونُ لَغْوًا.
وَإِذَا بَاعَ الصَّبِيُّ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَدَفَعَ الْعَبْدُ، ثُمَّ ضَمِنَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي مَا أَدْرَكَهُ فِي الْعَبْدِ مِنْ دَرَكٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ فَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مُطَالَبٌ بِضَمَانِ الدَّرَكِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُ الْكَفِيلِ عَنْهُ ذَلِكَ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الصَّبِيِّ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ عَلَى الصَّبِيِّ لَا مِنْهُ وَهُوَ فِي التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ كَالْبَالِغِ وَأَمْرُ الْغَيْرِ بِالْكَفَالَةِ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مَأْذُونًا بِمَنْزِلَةِ اسْتِقْرَاضِهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَالضَّمَانُ عَنْهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ فَالْكَفِيلُ عَنْهُ الْتَزَمَ مَا لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ أَيْضًا إنْ كَانَ الثَّمَنُ قَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ بِتَسْلِيطٍ صَحِيحٍ مِنْ الْمُشْتَرِي حِينَ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي فِي أَصْلِ الشِّرَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الصَّبِيِّ، ثُمَّ وَقَعَ الثَّمَنُ عَلَى لِسَانِ الْكَفِيلِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ فَالضَّمَانُ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْكَفِيلَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الصَّبِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَفِيلَ ضَامِنٌ لَهُ فَتَسْلِيمُهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُلْتَزِمٌ لِهَذَا الضَّمَانِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الدَّفْعُ حَصَلَ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ ضَامِنٌ لَهُ، وَالصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ هَذَا الضَّمَانِ، ثُمَّ الْكَفِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ الْتَزَمَ مُطَالَبَةً لَيْسَتْ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَانَ بَاطِلًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ ادْفَعْ إلَى هَذَا الصَّبِيِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا حَتَّى أَرُدَّهَا عَلَيْكَ، وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَفَعَلَ كَانَ ضَمَانُهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَلَوْ كَانَ دَفَعَ الدَّرَاهِمَ أَوَّلًا إلَى الصَّبِيِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ ضَمِنَهَا لَهُ رَجُلٌ بَعْدَ الدَّفْعِ كَانَ ضَمَانُهُ بَاطِلًا، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا.
وَإِذَا اشْتَرَى الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَكَذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا فِي كَسْبِهِ، وَإِنَّ مَأْذُونًا صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ بِخِلَافِ دَيْنِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَصِيرُ الْمَوْلَى- مِنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقَا وَإِذْنُ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لِعَبْدِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ لِلْقَاضِي أَوْ الْوَالِي وَإِذْنُ أَمِيرِ الشَّرْطِ، وَمِنْ لَمْ يُوَلَّ الْقَضَاءَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِهَؤُلَاءِ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
، وَالْمَعْتُوهُ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُولًى عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ وَلَكِنَّهُ يَعْقِلُ التَّصَرُّفَ، وَفِي اعْتِبَارِ عَقْلِهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَرَّرْنَا فِي الصَّبِيِّ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ عَقْلُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَخْتَارُ مَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى مَنْ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالْآدَابِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّخْيِيرِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ عَقْلُهُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي فِيهَا الْمَنْفَعَةُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ بَلْ هُوَ نَظِيرُ الْهِبَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْتُوهُ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فَأَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ هَذَيَانٍ لَا عَنْ بَيَانٍ وَلَوْ أَذِنَ لِلْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فِي التِّجَارَةِ ابْنَهُ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا وَعَلَى هَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَقْرِبَائِهِ سِوَى الْأَبِ، وَالْجَدِّ فَإِذْنُهُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا.