فصل: باب القصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب القصاص:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْقَوَدِ وَاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ السِّلَاحُ هَكَذَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَمْدُ السِّلَاحُ وَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِسِلَاحٍ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالسَّيْفِ عَنْ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُعَدَّ لِلْقِتَالِ عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَ الْأَسْلِحَةِ هُوَ السَّيْفُ فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْقِتَالِ، وَقَدْ يُرَادُ بِسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى الْقِتَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ» يَعْنِي السِّلَاحَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْقِتَالِ فَيَكُونُ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالسِّلَاحِ حَتَّى إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أَوْ خَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، فَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْآلَةِ جَارِحَةً زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الْقَتْلُ وَلَا يُعْرَفُ مَحْضُ الْعَمْدِ إلَّا بِهَذَا.
وَالْآلَةُ الْجَارِحَةُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهَا كَانَ عَمْدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ وَمَا لَا تَلْبَثُ وَلَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ فِي كَوْنِهِ مُزْهِقًا لِلرُّوحِ أَبْلَغُ مِنْ الْفِعْلِ الْجَارِحِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهِ، وَالْفِعْلُ الْجَارِحُ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِوَاسِطَةِ الْجِرَاحَةِ، وَالْجُرْحُ وَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ وَمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنَفْسِهِ يَكُونُ أَبْلَغَ مِمَّا يَكُونُ عَامِلًا بِوَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فِي قَصْدِ النَّاسِ إلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِإِلْقَاءِ الْأُسْطُوَانَةِ، أَوْ رَفْعِ حَجَرِ الرَّحَى عَلَيْهِمْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ بِالْجُرْحِ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَهَذَا أَوْلَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَّا السَّيْفَ وَفِي كُلِّ خَطَإٍ الدِّيَةُ» وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآلَةَ لَا تَجْرَحُ وَلَا تَقْطَعُ، فَالْقَتْلُ بِهَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْقَتْلِ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَخْتَصُّ بِقَتْلٍ هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ.
وَصِفَةُ التَّمَحُّضِ أَنْ يُبَاشِرَ الْقَتْلَ بِآلَتِهِ فِي مَحَلِّهِ وَآلَةُ الْقَتْلِ هِيَ الْآلَةُ الْجَارِحَةُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ يَعْمَلُ فِي نَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَمَا سِوَاهَا يَدِقُّ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا وَقِوَامُ الْبِنْيَةِ بِالظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، فَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُون قَاصِرًا فِي نَفْسِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ بِهِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَمَا ادَّعَوْا مِنْ أَنَّ الْجُرْحَ وَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ غَلَطٌ فَإِنَّ إزْهَاقَ الرُّوحِ يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ، وَكَمَالُ الْجِنَايَةِ مِمَّا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنَقْضُ الْبِنْيَةِ بِجُرْحٍ فِي الرُّوحِ لَا يَتَأَتَّى؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَسُّ وَيَفْعَلُ فِي الْجِسْمِ مَا لَا يَكُونُ كَامِلًا فَإِنَّمَا الْكَامِلُ مِنْهُ مَا يَكُونُ بِفِعْلٍ فِي النَّفْسِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْآدَمِيِّ وَذَلِكَ الْفِعْلُ الْجَارِحُ الْمُؤَثِّرُ فِي تَسْيِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الذَّكَاةِ فَإِنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلٍ جَارِحٍ مُسِيلٍ لِلدَّمِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَحْصُلُ بِمَا يَعْمَلُ فِي الْجِسْمِ فَلَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْبِنْيَةِ ظَاهِرًا، وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَدِقُّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ كَالْقَوَدِ.
وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ النَّارُ فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا.
وَقِيلَ فِي الذَّكَاةِ أَيْضًا: إذَا قَرَّبَ النَّارَ مِنْ مَذْبَحِ الشَّاةِ حَتَّى انْقَطَعَ بِهَا الْأَوْدَاجُ وَسَالَ الدَّمُ تَحِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجَسِ لَمْ يَحْصُلْ، وَالْوَجْهُ الْأَخِيرُ أَنَّ آلَةَ الْقَتْلِ الْحَدِيدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، وَالْمُرَادُ الْقَتْلُ، وَكَذَلِكَ خَزَائِنُ أَسْلِحَةِ الْمُلُوكِ تَكُونُ مِنْ الْحَدِيدِ فَأَمَّا الْخَشَبُ، وَالْأَحْجَارُ فَمُعَدَّةٌ لِلْأَبْنِيَةِ، وَالْحَدِيدُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يُنْصَبُ الْمَنْجَنِيقُ لِتَخْرِيبِ الْأَبْنِيَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَدِيدَ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ غَرَزَهُ بِمِسَلَّةٍ، أَوْ إبْرَةٍ فِي مَقْتَلِهِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَمَا سِوَى الْحَدِيدِ الصَّغِيرِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَإِنْ تَحَقَّقَ بِهِ الْقَتْلُ، وَالْفِعْلُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِآلَتِهِ فَبِقُصُورٍ فِي الْآلَةِ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ النُّقْصَانِ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ الْقَتْلُ بِمُثْقِلِ الْحَدِيدِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ نَحْوَ مَا إذَا ضَرَبَهُ بِعَمُودِ حَدِيدٍ أَوْ بِصَنَجَاتِ الْمِيزَانِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ فِي كَوْنِهِ آلَةَ الْقَتْلِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ عَيْنَ النَّصِّ فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُحَدَّدًا نَحْوَ سَنِّ الْعَصَا، وَالْمَرْوَةِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَقُولُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا بِمَا هُوَ مُحَدَّدٌ، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ.
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ السِّيَاسَةِ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ بَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهَا وَبِهَا رَمَقٌ فَقِيلَ لَهَا أَقَتَلَك فُلَانٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا لَا حَتَّى ذَكَرُوا الْيَهُودِيَّ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، وَإِنَّمَا يَعُدْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ مَنْ يَكُونُ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِهِ وَعِنْدَنَا إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ فَأَمَّا الدَّمُ.
.
الْعَصَا الصَّغِيرَةُ إذَا، وَالَى بِهَا فِي الضَّرَبَاتِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا ضَرَبَهُ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصًا، وَهُوَ يَقُولُ الْقَصْدُ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْمُوَالَاةِ الْقَتْلُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ بِهَا عَمْدًا مَحْضًا بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ بِخِلَافِ الْعَصَا الصَّغِيرَةِ إذَا ضَرَبَهُ بِهَا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَاكَ التَّأْدِيبُ، وَالْغَالِبُ مَعَهُ السَّلَامَةُ وَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ بِهَا إلَّا نَادِرًا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَأَمَّا مَعَ الْمُوَالَاةِ، فَالْقَصْدُ مِنْهُ الْقَتْلُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ مَعَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّهْدِيدِ فَالْقَتْلُ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ بِخِلَافِ التَّهْدِيدِ بِضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ حُصُولُ الضَّرَبَاتِ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَتْلِ كَوْنُ النَّفْسِ مَعْمُودَةً لَا التَّيَقُّنُ بِكَوْنِ فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُزْهِقًا لِلرُّوحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الضَّرْبَةِ، وَالضَّرَبَاتِ أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ حَتَّى سَكِرَ لَزِمَهُ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ مُمْرِئٌ لِلطَّعَامِ، وَالْكَثِيرَ مُسْكِرٌ.
وَإِذَا حَصَلَ السُّكْرُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ لَا يُمَيَّزُ بَعْضُ الْفِعْلِ عَنْ الْبَعْضِ، بَلْ يُجْعَلُ الْكُلُّ كَفِعْلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْحَدُّ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ وَبِالرَّفْعِ قَتِيلُ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فَيَكُونُ خَبَرًا لِلِابْتِدَاءِ وَفِي كِلَيْهِمَا بَيَانُ أَنَّ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا يَكُونُ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ، وَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِمَجْمُوعِ أَفْعَالٍ لَوْ حَصَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِهَا كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَاتٍ خَطَأً، أَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ إذَا انْفَرَدَ فَانْضِمَامُ مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ كَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ انْضَمَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، فَإِذَا انْضَمَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ أَوْلَى بِخِلَافِ الْأَقْدَاحِ فَهُنَاكَ لَوْ حَصَلَ السُّكْرُ بِالْقَدَحِ الْأَوَّلِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ إذَا لَمْ يُسْكِرْ بِهِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهُنَا لَوْ حَصَلَ الْقَتْلُ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يُوجِبُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْحُجَّةِ وَشَرْطُ الْحُجَّةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَكُلُّ فِعْلٍ صَالِحٍ لِكَوْنِهِ عِلَّةً تَامَّةً، وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ أَظْهَرُ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ حَصَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ وَمَا لَمْ تَتَكَامَلْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الضَّرْبَةَ الْوَاحِدَةَ يُقْصَدُ بِهَا التَّأْدِيبُ قُلْنَا حَقِيقَةُ الْقَصْدِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْقَتْلُ حَرَامًا، وَكَذَلِكَ الْجُرْحُ الْيَسِيرُ مَشْرُوعٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِشْفَاءِ كَالْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَصْدِ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِالضَّرْبَةِ، وَالضَّرْبَتَيْنِ بِالسَّوْطِ وَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ بِأَنْ كَانَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِانْفِرَادِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَرْفِ أَيْضًا فَيُقَالُ الْعَصَا الْكَبِيرُ مَجْمُوعُ أَجْزَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ حَصَلَ الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ بِمَجْمُوعِهَا.
فَأَمَّا بَيَانُ نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَبِهَا يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ الْقِصَاصَ مَتَى وَجَبَ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ حَزِّ الرَّقَبَةِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا بِهِ حَصَلَ الْقَتْلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْظَرُ إلَى الْقَتْلِ بِمَاذَا حَصَلَ، فَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَنْ سَقَاهُ الْخَمْرَ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ لَاطَ بِصَغِيرٍ حَتَّى قَتَلَهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَيُمْهَلُ مِثْلُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ نَحْوَ مَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِرَضْخِ رَأْسِ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» وَكَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَاعْتَرَفَ الْيَهُودِيُّ «فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ وَأَمَرَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ الْتَقَى الدَّيْنَانِ فَتَقَاصَّا أَيْ تَسَاوَيَا أَصْلًا وَوَصْفًا وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ إلَى الْمُسَاوَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ وَتَعَذُّرُهُ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْمَشْرُوعِ بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا، أَوْ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ مَا يَكُونُ مُتَمِّمًا لَهُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَمِّمًا لِلْأَوَّلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَجُعِلَ الْفِعْلُ الثَّانِي تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ»، وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَتْلٌ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا فَيُسْتَوْفَى بِالسَّيْفِ كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْفِي الْمُسْتَحَقُّ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ طَرِيقٌ لَهُ وَحَزُّ الرَّقَبَةِ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ طَرِيقُ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ فَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فَلَا يَكُونُ طَرِيقًا لِذَلِكَ إلَّا بِشَرْطٍ، وَهُوَ السِّرَايَةُ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْطِ فَقَبْلَ السِّرَايَةِ هَذَا الْفِعْلُ غَيْرُ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا وَصُورَةُ الْفِعْلِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إزْهَاقُ الرُّوحِ عُرْفًا لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ شَرْعًا فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَلَا يُقَالُ لَا يَقْمَعُ النَّاسُ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مُؤَثِّرًا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْمَعُ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَقْصُودِ صَاحِبِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، ثُمَّ هَذَا اعْتِبَارُ مُعَادِلَةٍ تُوقِعُنَا فِي الظُّلْمِ فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَاخَتْ يَدُهُ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ، وَالْفِعْلُ الثَّانِي بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَكُونُ إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ بِدَلِيلِ الْخَطَأِ فَيُؤَدِّي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِلَى الْمُثْلَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، فَإِنْ قِيلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ تَسْقُطُ حُرْمَةُ ذَبْحِ الْقَاتِلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ فِي مَذْبَحِ الْمَقْتُولِ قُلْنَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسْقُطُ عِنْدَكُمْ حُرْمَةُ مَذْبَحِهِ إذَا تَرَاخَتْ يَدُهُ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ قَطْعِ الْيَدِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَا بَيَّنَّا وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالْقِصَاصِ شَاذٌّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَوْ قَالَهُ الرَّاوِي بِنَاءً عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ.
، وَإِنْ اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ بِالسِّلَاحِ فَعَلَيْهِمْ فِيهِ الْقِصَاصُ بَلَغْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ الْقِصَاصُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّي وَلِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ الْبَخْسِ بِحَقِّ الْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ، وَالْوَاحِدِ وَهَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ، فَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ وَلِأَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ كَمَا قَرَّرْنَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّغَالُبِ، وَالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ فَلَوْ لَمْ نُوجِبْ الْقِصَاصَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ وَإِبْطَالِ الْحِكْمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالنَّصِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِي الْقَتْلِ سِوَى التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ بِكَمَالِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْوَاحِدُ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِمْ جَمِيعًا عَلَى سَبِيلِ الْكَفَاءَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ قَتَلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُقْضَى بِالدِّيَاتِ لِمَنْ بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي تَرِكَتِهِ.
وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَيُقْضَى بِالْقَوَدِ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَبِالدِّيَةِ لِلْبَاقِينَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّفْسَ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ قِصَاصًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النَّفْسَ بِمُقَابَلَةِ النُّفُوسِ قِصَاصًا بِالرَّأْيِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الْعَشَرَةِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ لَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْقَتْلِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ فِيهِ إلَى التَّعَاوُنِ، وَالتَّغَالُبِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ هُنَاكَ تَحْقِيقَ مَعْنَى الزَّجْرِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَمَا قَتَلَ الْوَاحِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ، وَإِنْ قَتَلَ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ أَخَذَ يَتَجَاسَرُ عَلَى قَتْلِ الْأَعْدَاءِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى الدِّيَاتُ مِنْ تَرِكَتِهِ يُتَحَرَّزُ مِنْ ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ الْعَنَاءِ لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيمَا قُلْنَا وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَلَ عَشَرَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِإِسْقَاطِ مَا بَقِيَ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ كَمَا إذَا غَصَبَ سَاحَةً وَبَنَى عَلَيْهَا سَقَطَ حُرْمَةُ بِنَائِهِ لِوُجُوبِ رَدِّ السَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدِي فِي السَّاحَةِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَقْتُولِينَ قَدْ اسْتَحَقَّ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسًا كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ وَفَاءٌ بِالنُّفُوسِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ أَوَّلُهُمْ بِالسَّبْقِ فَإِنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ فَارِغٍ، وَإِذَا قَتَلَهُمْ مَعًا رَجَّحَ بِالْقُرْعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبِي فِي نَظَائِرِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ يَسْتَوْفِي الْجَزَاءَاتِ فِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْفَاعِلِينَ مُخْطِئًا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً بَعْضَهُمْ عَمْدًا وَبَعْضَهُمْ خَطَأً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِمَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا يَقْتُلُونَ بِهِ وَكَانُوا مَثَلًا لَهُ جَزَاءً لِدَمِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ وَاحِدًا يُقْتَلُ بِهِمْ وَيَكُونُ مَثَلًا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَثَلًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مَثَلًا لَهُ كَأَسَمِّ الْأَخِ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ أَخًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَخًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُمْ الْقِصَاصُ لِرَدِّ غَلَّةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْقَدْرِ أَبْلَغَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْوَصْفِ، وَإِذَا كَانَ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَعَلَى قَوْلِهِ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى رَدِّ الْقَتْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَأَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ نَحْوِ كَسْرِ الْعِظَامِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَالْحَاجَةُ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ هَاهُنَا بِغَيْرِ حَقٍّ يَتَحَقَّقُ هُنَا وَمَعَ ذَلِكَ يُوهَمُ الزِّيَادَةَ بِمَنْعِ الْقِصَاصِ فَتَحَقَّقَ الزِّيَادَةُ؛ لَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ.
وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَأَمَّا أَنْ يَنْعَدِمَ أَصْلًا أَوْ يَتَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِوُجُوبِ كَمَالِ الشَّرْطِ وَفِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكَفَّارَةُ كَامِلَةً وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بِقَتْلٍ كَامِلٍ فَأَمَّا الدِّيَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ فَلِصِيَانَتِهِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءَ الْفِعْلِ، وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ بِمُقَابِلَتِهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَتْلَ يَخْرُجُ بِبَعْضِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ حِسًّا فَطَرِيقُ أَثَرِهَا فِيهِ قَصْدًا هَذَا وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْحُكْمُ إذَا حَصَلَ عَقِيبَ عِلَلٍ يُضَافُ جَمِيعُهُ إلَى كُلِّ عِلَّةٍ فَيُجْعَلُ زَهُوقُ الرُّوحِ مُحَالًا بِهِ عَلَى فِعْلٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي التَّزْوِيجِ بِتَكَامُلِ الْوِلَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ، وَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا اجْتَمَعُوا وَقَتَلُوا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَا بِكَمَالِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَزَاءِ، وَالْعُدْوَانِ، وَهُوَ يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ بِكَمَالِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَصِيرِ إلَى الدِّيَةِ وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحُ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفِرَاشُ، وَالنَّسْلُ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالِاشْتِرَاكِ فَلَا يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّجَزُّؤَ فِي الْمَحَلِّ انْعَدَمَ أَصْلًا عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْعَدِمْ الْقَتْلُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامُلٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَا قَالَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ عُشْرُ الْقَتِيلِ كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ اسْتِيفَاءً لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وُجُوبًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ نَفْسِهِ قِصَاصًا وَكَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَوْ عَفَى أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى حَيِيَ جُزْءٌ مِنْ الْمَقْتُولِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ، فَإِذَا كَانَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ يَسْقُطُ إذَا لَمْ يَبْقَ مُسْتَحَقًّا فِي بَعْضِ النَّفْسِ بَعْدَ الْعَفْوِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ النُّفُوسِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْلَى وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ سِوَى مَا قُلْنَا إنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ إذَا اجْتَمَعُوا وَاسْتَوْفَوْا الْقِصَاصَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا لَهُ عَلَى الْكَمَالِ مِقْدَارَ حَقِّهِ لِيُحْيُوهُ بِدَفْعِ شَرِّ قَاتِلِ أَبِيهِ عَنْ نَفْسِهِ وَكَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى- الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ وَلَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالسَّبْقِ، أَوْ إلَى الْقُرْعَةِ.
قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْمَمْلُوكُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَمُقَابَلَةُ الْحُرِّ بِالْحُرِّ يَقْتَضِي نَفْيَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْقِصَاصِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَيَكُونُ بَيَانُ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ مُعْتَبَرَةٌ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَا عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَا: السُّنَّةُ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِسَبَبِ الْمَمْلُوكِ كَالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الطَّرَفِ دُونَ حُرْمَةِ النَّفْسِ، فَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ طَرَفُ الْحُرِّ لَا يُقْطَعُ بِطَرَفِ الْعَبْدِ مَعَ خِفَّةِ حُرْمَةِ الطَّرَفِ فَلَأَنْ لَا يَقْتُلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ مَعَ عِظَمِ حُرْمَةِ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ، وَالْعَبِيدِ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ مَالًا، وَالْحُرُّ مَالِكٌ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي نِهَايَةٍ مِنْ الْعِزِّ، وَالْكَمَالِ، وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي نِهَايَةٍ مِنْ الذُّلِّ، وَالنُّقْصَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقَّ تَلَفٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا بِالْوَلَاءِ إلَى الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِالْإِعْتَاقِ حُكْمًا وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْقَائِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَيْنَ الْقَائِمِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْهَالِكُ مِنْ وَجْهٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّفَاوُتَ ظَاهِرٌ بَيْنَهُمَا فِي بَدَلِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْمَالُ وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ الرِّقَّ أَثَّرَ فِي النَّفْسِيَّةِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَوْلَى بِقَتْلِ عَبْدِهِ وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ الرِّقُّ فِي النَّفْسِيَّةِ لَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ مِنْ خَوْلِ الْقَاتِلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ كُلِّ قَتْلٍ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَأَمَّا قَوْلُهُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، فَهُوَ ذَكَرَ بَعْضَ مَا شَمَلَهُ الْعُمُومُ عَلَى مُوَافَقَةِ حُكْمِهِ فَلَا يَجِبُ تَخْصِيصُ مَا بَقِيَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَمَا قَابَلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ قَابَلَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مُقَابَلَةَ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَفِي مُقَابِلَةِ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرَّةِ بِقَتْلِ الْأَمَةِ وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ وَكَانُوا يَعُدُّونَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُمْ فَتَوَاضَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ بِمُقَابَلَةِ الذَّكَرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا أَنَّ الْحُرَّ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ، وَالْعَبْدَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِمُقَابَلَةِ الْأُنْثَى مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَحْمُولٌ عَلَى السَّيِّدِ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ، فَقَدْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دَمَ الْعَمْدِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ فَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا كَدَمِ الْحُرِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَتَلَ عَبْدًا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبُهَا انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ عَنْ الدَّمِ وَبَعْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ الْحُرُّ، وَالْعَبْدُ فِيهِ سَوَاءٌ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيِّ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الذِّمِّيِّ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، فَالرِّقُّ، وَالْمَمْلُوكِيَّة لَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّمِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْقَهْرِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَجْزَاءُ الْجِسْمِ فَأَمَّا الْحَيَاةُ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ فِيهِ إقْرَارًا عَلَيْهِ بِهِ وَلَا اسْتِيفَاءً مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِي بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ، وَالْقَتْلِ لَا يُحَرِّمُهُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا الْعُقُوبَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَنُقْصَانَ بَدَلِ الدَّمِ كَنُقْصَانِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي مَحَلِّهِ لَا فِي غَيْرِهِ كَنُقْصَانِ بَدَلِ الدَّمِ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُلُوكِيَّةِ فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا الْحَيَاةُ فَلَا تَحِلُّهَا الْأُنُوثَةُ، وَالثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ إنَّمَا يَكُونُ بِالدَّارِ، أَوْ بِالدَّيْنِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي ذَلِكَ مُسَاوٍ لِلْحُرِّ، وَالْحِكْمَةُ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ الْحَيَاةُ وَفِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْحُرُّ، وَالْمَمْلُوكُ سَوَاءٌ، وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ قِيَاسُ الْأَطْرَافِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ هُنَاكَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَالرِّقُّ ثَابِتٌ فِي أَجْزَاءِ الْجِسْمِ فَتَنْعَدِمُ بِسَبَبِهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ مَعَ أَنَّ طَرَفَ الْعَبْدِ فِي حُكْمِ الْمَالِ عِنْدَنَا؛ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ عَلَى أَحَدٍ عَبْدًا كَانَ، أَوْ حُرًّا بِخِلَافِ النَّفْسِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحَيَاةِ؛ وَلِهَذَا لَا نَقْتُلُ النَّفْسَ الصَّحِيحَةَ بِالنَّفْسِ الزَّمِنَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ هَاهُنَا.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ صَبِيًّا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَخَيَّرُ أَوْلِيَاؤُهَا بَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفُوا دِيَتَهَا وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوا الْقَاتِلَ نِصْفَ دِيَتِهِ، ثُمَّ يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ أَفْقَهَ مَنْ أَنْ يَقُولَ الْقِصَاصُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، ثُمَّ يَجِبُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْحُرَّ عَمْدًا، وَالْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَالِفُنَا فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَرَى اسْتِيفَاءَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ قِصَاصًا، وَإِنَّمَا يَأْبَى اسْتِيفَاءُ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ هَذَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ حَتَّى إذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ فِي قَتْلِ حُرَّةٍ، أَوْ أَمَةٍ فَعَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ حُرٍّ.
، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ وَيَحْكِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَضَى بِالْقِصَاصِ عَلَى هَاشِمِيٍّ بِقَتْلِ ذِمِّيٍّ فَجَعَلَ أَوْلِيَاءُ الْقَاتِلِ يُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُونَ يَا جَائِرُ يَا قَاتِلُ مُؤْمِنٍ بِكَافِرٍ فَشَكَاهُمْ إلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالَ اُرْفُقْ بِهِمْ فَلَمَّا عَلِمَ مُرَادَ الْخَلِيفَةِ خَرَجَ وَأَمَرَ بِإِعَادَتِهِمْ إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ هَاتُوا بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ طَوْعًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ؛ فَلِهَذَا قَتَلَهُ وَلَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ فَدَرَأَ الْقَوَدَ بِهِ وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَضَحِكَ وَقَالَ مَنْ يُقَاوِمُكُمْ يَا أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}، فَالْقِصَاصُ يَبْنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَبَعْدَ مَا انْتَفَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا بِالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا يُكَافِئُ دِمَاءَهُمْ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الِاسْتِيفَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْوُجُوبِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَنْقُوصٌ بِنَقْصِ الْكُفْرِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ أَعْظَمِ النَّقَائِصِ، فَالْكَافِرُ كَالْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أَيْ كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ هُوَ مَيِّتٌ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ حَيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا، فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُسَاوَاةُ هُنَاكَ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةً حَصَلَتْ عَلَى حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي النَّفْسِ، وَالطَّرَفِ جَمِيعًا، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مُهْدِرٌ لِلدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِبَاحَةِ، فَإِذَا وُجِدَ وَلَمْ يُبَحْ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ مُبِيحٌ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يُبَحْ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مُهْدِرٌ لِلدَّمِ أَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ، وَالذَّرَّارِي إذَا قَتَلَهُمْ إنْسَانٌ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا لِوُجُودِ الْمُهْدِرِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا الْكُفْرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا أُمِرْنَا بِقَتْلِ الْكُفَّارِ لِكُفْرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يَعْنِي فِتْنَةَ الْكُفْرِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَهَذَا الْكُفْرُ قَائِمٌ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي إبَاحَةِ الدَّمِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ إلَى الدَّيْنِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَبَقِيَ بِاعْتِبَارِهِ شُبْهَةً يَنْتَفِي بِهَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ بِمَنْزِلَةِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ مَعَ طَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ فَإِنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ الَّذِي هُوَ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ مَعَ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي الْوَقْتِ وَمَعَ هَذَا لَا تَكُونُ طَهَارَتُهَا طَهَارَةَ الْأَصِحَّاءِ حَتَّى لَا تَصْلُحَ لِإِمَامَةِ الْأَصِحَّاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ، وَهُوَ الْكُفْرُ لَيْسَ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْسِ، فَهُوَ نَظِيرُ حَقِيقَةِ الْإِبَاحَةِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْمَالِ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدٍ بِقَتْلِهِ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوُجُوبُهُ يَعْتَمِدُ الْجِنَايَةَ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْمُسَاوَاةِ وَمَعْنَى الْجِنَايَةِ يَتَحَقَّقُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ بِثُبُوتٍ إلَّا مَنْ لَهُمَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ الْقَطْعُ إلَّا نَظِيرَ الْكَفَّارَةِ، وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ كَمَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» وَهَذَا التَّعْلِيلُ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ وَاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ».
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُ فَارِسٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ فَكَتَبَ فِيهِ أَنْ لَا يُقْتَلَ يَعْنِي يَسْتَرْضُوا الْأَوْلِيَاءَ فَيُصَالِحُوا عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَتَلَ هُرْمُزَانَ بِتُهْمَةِ دَمِ أَبِيهِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى عُثْمَانَ فَطَلَبَ مِنْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ يُدَافِعُ فِي ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ فَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أَقْتُلَهُ الْيَوْمَ، وَإِنَّ هُرْمُزَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ وَأُؤَدِّي الدِّيَةَ فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ عَلَى مُسْلِمٍ بِقَتْلِ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ رَأَى الْوَلِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْت قَالَ: إنِّي رَأَيْت أَنَّ قَتْلِي إيَّاهُ لَا يَرُدُّ أَخِي، وَقَدْ أَعْطَوْنِي الْمَالَ فَقَالَ: فَلَعَلَّهُمْ خَوَّفُوكَ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ الدِّيَةَ وَتَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُكُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُكُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ حَتَّى إذَا كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ عَنْ الدَّمِ وَبَعْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا لَيْسَ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ فِي دَمِ الِابْنِ، بَلْ لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْأُبُوَّةِ تُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا الْقَوَدَ عَلَى وَالِدِهِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُبَاحَ الدَّمِ بِأَنْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا، أَوْ زَانِيًا، وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأُبُوَّةَ إذَا طَرَأَتْ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَالشُّبْهَةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ وَحَيْثُ كَانَ طَرَيَان الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ قِيَاسٌ، أَوْ اسْتِحْسَانٌ فِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ أُسْتَاذِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَقَالُوا: مَا ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ بِنَاءً عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ عَنْ الدَّمِ تُنْفَى بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا فَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَقُولُ بَقِيَتْ الشُّبْهَةُ الْمُبِيحَةُ فِي دَمِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْلِمًا وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا لِوُجُودِ التَّسَاوِي فِي حَقْنِ الدَّمِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ فَإِنَّ حَقْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَبَّدٌ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلْفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي مَعْنَى الْحَقْنِ، وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ وَهَذَا الْحَقْنُ، وَالتَّقَوُّمُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالذِّمِّيُّ فِي الْإِحْرَازِ مُسَاوٍ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِحْرَازَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ، وَالنَّفْسِ جَمِيعًا، ثُمَّ فِي الْمَالِ إحْرَازُ الذِّمِّيِّ كَإِحْرَازِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ يُبَاحُ قَتْلُهُ لِنُقْصَانٍ فِي إحْرَازِ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى جَرِيمَتِهِ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ فَقَائِمٌ فِي الْمَالِ، وَالنَّفْسِ جَمِيعًا وَهَاهُنَا إنْ سَلَّمَ لَنَا أَنَّ الْإِحْرَازَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاَلَّذِي سَوَاءٌ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَاءَ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ هُوَ الْقِتَالُ دُونَ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَلَمَّا «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً قَالَ: هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ» وَالْقِتَالُ يَنْعَدِمُ بِالْإِحْرَازِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ أَصْلًا كَمَا يَنْعَدِمُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي السِّيَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِحْرَازِ ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَضِيلَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْقَاتِلِ مَانِعًا؛ لِأَنَّ طَرَيَان هَذِهِ الْفَضِيلَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ فَلَوْ كَانَ اقْتِرَانُهَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لَكَانَ طَرَيَانُهَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ كَفَضِيلَةِ الْأُبُوَّةِ وَفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا لِلْكَافِرِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَ بَعْدَ النِّكَاحِ.
فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِحْرَازِ، فَالْمُسْتَأْمَنُ غَيْرُ مُحْرِزٍ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ وَهِيَ الْمُحَارَبَةُ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَعُودُ حَرْبِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْرِزٌ نَفْسَهُ بِدَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ فَأَمَّا الْآيَاتُ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَالْمُرَادُ بِهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي آخِرِ كُلِّ آيَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا بَيَانُ أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَا تُكَافِئُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، فَهُوَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا أَسْلَمَ يُقْتَلُ قِصَاصًا وَفِيهِ قَتْلُ مُؤْمِنٍ بِكَافِرٍ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَعْنِي مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» أَيْ وَلَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ بِالْكَافِرِ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا ابْتِدَاءٌ أَيْ لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ فِي مُدَّةِ عَهْدِهِ قُلْنَا ابْتِدَاءُ الْوَاوِ حَقِيقَةً لِلْعَطْفِ خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ وَلَا بِذِي عَهْدٍ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُقْتَلُ بِذِي الْعَهْدِ قُلْنَا إنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَتْلِ ذِمِّيٍّ قُتِلُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمُسْلِمِينَ.
وَكُلُّ قَطْعٍ مِنْ مَفْصِلٍ فَفِيهِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَفِي الْقَطْعِ مِنْ الْمَفَاصِلِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فَأَمَّا كُلُّ قَطْعٍ لَا يَكُونُ مِنْ مَفْصِلٍ، بَلْ يَكُونُ بِكَسْرِ الْعَظْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الزَّجْرِ، وَالْجِنَايَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا تَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَلَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَوْ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ» وَلِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعِظَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْكَسِرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَرِئَ كَسْرُهُ وَبِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَا خَلَا السِّنَّ، فَالْقِصَاصُ يَجِبُ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَلَا تُقْطَعُ الْيَسَارُ بِالْيَمِينِ وَلَا الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ وَلَا الْيَدُ بِالرِّجْلِ وَلَا الْإِبْهَامُ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَصَابِعِ وَلَا أُصْبُعٌ مِنْ يَدٍ بِأُصْبُعٍ مِنْ الرِّجْلِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا لَا مُسَاوَاةٌ يَعْنِي مَقْصُودُ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ، وَالْعَمَلِ بِهَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ، وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ تَفَاوُتٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ، وَالْهَيْئَةِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَصَابِعِ وَبَيْنَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ وَأَصَابِعِ الْيَدِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلِ فَيُمْتَنَعُ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عَظْمٍ مَا خَلَا السِّنَّ، وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَسْنَانِ قَوْله تَعَالَى «وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» وَرُوِيَ «أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، أَوَيُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ بِسِنِّ جَارِيَةٍ فَرَضُوا بِالْأَرْشِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَوْ أَقْسَمُوا عَلَيْهِ لَأَبَرَّهُمْ مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ»، وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ وَفِي الْمَحَلِّ أَمَّا الْمَأْخُوذُ بِالْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي كُلِّ مَا يَتَأَتَّى، وَالْمُتَأَتَّى اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَعْنِي بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْمَأْخُوذِ بِالْفِعْلِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْأَصْلُ فَلَأَنْ تَنْعَدِمَ الْمُمَاثَلَةُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى انْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمُبْدَلِ، وَهُوَ قِيمَتُهُ، فَالتَّفَاوُتُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْمُبْدَلِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْأَطْرَافِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَجْرِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيَسْلُكُونَ فِي الْبَابِ طَرِيقًا سَهْلًا، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَطْرَافِ بِالنُّفُوسِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ فَكَمَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِي النُّفُوسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَطْرَافِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ طَرَفِ الرَّجُلِ وَطَرَفِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي الْبَدَلِ، وَالْمُمَاثَلَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُسْتَوْفَى بِالشَّلَّاءِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ، وَالْمَنْفَعَةِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ الشَّلَّاءَ مَيِّتَةٌ لَا رُوحَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا فِي الْقِصَاصِ جَائِزٌ وَبِقَطْعِهَا يَتَأَلَّمُ صَاحِبُهَا وَيَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِقَطْعِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِيهَا بَاقِيَةٌ، وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَدَلِ فَلَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِهَا بِخِلَافِ النُّفُوسِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى تُسْتَوْفَى النَّفْسُ الصَّحِيحَةُ بِالزَّمِنَةِ، فَإِنْ قِيلَ التَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ وَلَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ حَتَّى إنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَعِنْدَكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ قُلْنَا نَعَمْ إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِسَبَبٍ حِسِّيٍّ كَالشَّلَلِ وَفَوَاتُ بَعْضِ الْأَصَابِعِ، فَهُوَ كَمَا قُلْنَا فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ فِي التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ بِنُقْصَانٍ حِسِّيٍّ فَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا رَضِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ هُوَ بِالْبَعْضِ حَقَّهُ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى الْأَكْمَلُ بِالْأَنْقَصِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْقَاطِعُ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّضَا يَكُونُ بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ بِالْبَدَلِ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَلَا وَجْهَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هَاهُنَا بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْبَعْضِ وَلَا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْطَعُ يَدُ الْعَبْدِ بِيَدِ الْحُرِّ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ الْعَبْدِ بِيَدِ الْعَبْدِ كَمَا يُقْتَلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَلَا تُقْطَعُ يَدُ الْحُرِّ بِيَدِ الْعَبْدِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ وَلَا بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِيَمُ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوَتْ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْحَزْرِ كَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا وَلَا يُقَالُ نِصَابُ السَّرِقَةِ يُعْرَفُ بِالتَّقْوِيمِ وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِيمَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ مَعْرِفَةَ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ، وَالظَّنِّ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ ثُبُوتَ الْمُسَاوَاةِ بِالْحَزْرِ قَطْعًا وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ لَا إلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَا يُقَالُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَهَاهُنَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي بَدَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ فَأَمَّا بَدَلُ طَرَفِهِ فَلَا يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ شَرْعًا، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَيَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَطْرَافَ الْعَبْدِ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَمْوَالِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ طَرَفُ الذِّمِّيِّ بِطَرَفِ الْمُسْلِمِ وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْمُسْلِمِ بِطَرَفِ الذِّمِّيِّ اعْتِبَارًا بِالنَّفْسِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا لِلتَّفَاوُتِ فِي الْبَدَلِ، وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمِقْدَارِ وَتَأْثِيرُ التَّفَاوُتِ فِي الْمِقْدَارِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ التَّفَاوُتُ فِي الْمِقْدَارِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ، ثُمَّ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَةِ هَاهُنَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ كَالصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْمِقْدَارِ أَوْلَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ إذَا وَضَعَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا لِلْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ إلَّا أَنَّ فِي الْأَطْرَافِ إذَا وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ، وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ وَأَمَرَّا حَتَّى الْتَقَى السِّكِّينَانِ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقٌ لِلْحَيَاةِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِحَالٍ فَبِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا يَثْبُتُ التَّجَزُّؤُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا لَوْ اتَّحَدَ مَحَلُّ فِعْلِهِمَا فَأَمَّا الْقَطْعُ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مَحْسُوسٌ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ نَوْعٌ مِنْهُ يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمْرَارُ السِّلَاحِ إلَّا عَلَى بَعْضِ الْعُضْوِ، وَنَوْعٌ مِنْهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي، وَهُوَ مَا اتَّحَدَ مَحَلُّ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَّ السِّلَاحَ عَلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَحَلِّ فَيُقَالُ الْقَطْعُ بِفِعْلِ هَذَا دُونَ فِعْلِ ذَلِكَ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يُقَالُ هَذَا الْجَانِبُ انْقَطَعَ بِفِعْلِ هَذَا، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ انْقَطَعَ بِفِعْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَجَزِّي كَانَ قِيَاسُ النَّفْسِ يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعًا بِجَمِيعِ الْيَدِ حُكْمًا فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ عِنْدَ تَمَيُّزِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَكُمْ نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ لَوْ أَنَّ مُحْرِمَيْنِ قَتَلَا صَيْدًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَوْ جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ عَلَى حِدَةٍ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَةِ صَاحِبِهِ فَبِهِ يَتَّضِحُ هَذَا الْفَرْقُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، أَوْ اتَّحَدَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ هُوَ الْفِعْلُ بَيْنَ مُتَّصِلَيْنِ؛ وَلِهَذَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْخَشَبِ، وَالنَّبَاتِ، وَالْجِبَالِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ مَا انْقَطَعَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِفِعْلِ الْآخَرِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّلَاحُ عَلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ إمْرَارَ السِّلَاحِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْقَطْعِ بِهِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَمَا انْقَطَعَ بِقُوَّةِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِقُوَّةِ الْآخَرِ هَذَا شَيْءٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعُ بَعْضِ الْيَدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ يَدِهِ بِقَطْعِهِ بَعْضَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ لَا مُحَالَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَمَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي إذَا اشْتَرَكَ فِيهِ اثْنَانِ يُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ، وَإِنْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُتَجَزِّي كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي تَمْزِيقِ ثَوْبٍ، أَوْ فِي اسْتِهْلَاكِ دُرَّةٍ، أَوْ فِي جَمَلٍ حَبَسَهُ يُضَافُ نِصْفُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُتَجَزِّئٍ فَأَمَّا النَّفْسُ، فَالْقِيَاسُ فِيهَا هَكَذَا، وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ حَدِيثُ عُمَرَ، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِحَالٍ، وَالْفِعْلُ فِي الطَّرَفِ يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنْ يُقْطَعَ بَعْضُ الْيَدِ وَيَتْرُكَ مَا بَقِيَ وَفِي النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ إزْهَاقُ بَعْضِ الْحَيَاةِ دُونَ الْبَعْضِ فَلِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّجَزُّؤِ هُنَاكَ يُجْعَلُ كَامِلًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِاحْتِمَالِ التَّجَزُّؤِ هَاهُنَا يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعًا لِلْبَعْضِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ يَكْمُلُ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ لَوْ جُرِحَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ كَانَ مُبَاشِرًا قَتْلَهُ، وَالْفِعْلُ فِي الطَّرَفِ لَا يَكْمُلُ بِسِرَايَةِ الْفِعْلِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ فَسَرَى إلَى مَا بَقِيَ حَتَّى سَقَطَ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَسِرَايَةُ فِعْلِهِ أَقْرَبُ إلَى فِعْلِهِ مِنْ فِعْلِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَكْمِيلُ فِعْلِهِ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ تَكْمِيلُهُ بِفِعْلِ شَرِيكِهِ أَوْلَى.
وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الزَّجْرِ.
فَإِنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْحُرِّ بِيَدِ الْعَبْدِ وَلَا الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْقَطْعُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ وَاحِدٍ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دُرَّةً لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَبِهِ فَارَقَ النَّفْسَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَدْنَى مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَلْزَمُهُمَا الْقَتْلُ، نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَيُعْتَبَرُ حَقُّ الْعَبْدِ بِحَقِّ اللَّهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا قُلْنَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ لِلنِّصْفِ، وَالْفِعْلُ عَمْدٌ، وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ فَإِنَّا إنْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطَعَ نِصْفَ الْيَدِ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَطَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ النِّصْفِ.
وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ رِجْلِهِ مِنْ نِصْفِ السَّاقِ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَحَلِّ فَإِنَّ فِعْلَهُ كَانَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ دُونَ الْقَطْعِ مِنْ الْفَصْلِ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيْ رَجُلٍ الْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى قُطِعَتْ يَدَاهُ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَطَعَهُمَا مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَحَلِّ، وَالْمَأْخُوذُ بِالْفِعْلِ مَوْجُودٌ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَا فَوَّتَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَإِذَا قَطَعْنَا يَدَهُ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ قُلْنَا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ مَا يَسْتَوْفِيهِ هُوَ، وَلَيْسَ فِي اسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا، وَالِاسْتِهْلَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَكَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ، فَالِاسْتِهْلَاكُ الْحَقِيقِيُّ مَشْرُوعٌ إذَا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ فَكَذَلِكَ الِاسْتِهْلَاكُ الْحُكْمِيُّ.
وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ قُطِعَتْ يَمِينُهُ بِهِمَا وَغَرِمَ دِيَةُ يَدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ قَطَعَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا وَلِلثَّانِي الْأَرْشُ، وَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَ الْقِصَاصُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَالْأَرْشُ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَطَعَ يَدَ أَحَدِهِمَا، فَقَدْ صَارَتْ مَشْغُولَةً بِحَقِّهِ مُسْتَحِقَّةً لَهُ قِصَاصًا، وَالْمَشْغُولُ لَا يُشْغَلُ كَمَنْ رَهَنَ عَيْنًا مِنْ إنْسَانٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ رَهَنَهَا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الثَّانِي مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَهُنَا حَقُّ الْأَوَّلِ بَاقٍ فَمَنَعَ ذَلِكَ ثُبُوتُ حَقِّ الثَّانِي فِي الْيَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا عُفِيَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ إذْ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ إذَا بَادَرَ الثَّانِي وَاسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ حَقٌّ فِي الْمَحَلِّ لِفَوَاتِهِ فَكَانَ الثَّانِي مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، فَإِذَا حَضَرَا جَمِيعًا فَحَقُّ الْأَوَّلِ قَائِمٌ فَيَتَرَجَّحُ بِالسَّبْقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى إنَّ عِنْدَكُمْ يَقْضِي بِأَرْشِ يَدٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قُطِعَا جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا لَمْ يَجِبْ لَهُمَا شَيْءٌ آخَرُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ كَمَا قُلْتُمْ فِي النَّفْسِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي عَيْنِهِ وَفَاءً بِحَقِّ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَرَجَّحْنَا بِالسَّبْقِ أَوْ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ إذَا حَصَلَ الْفِعْلَانِ جَمِيعًا كَمَا هُوَ أَصْلٌ، ثُمَّ فِيمَا قُلْتُمْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ فِعْلِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِكُمْ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْقَطْعُ الْمَحْسُوسُ وَكَوْنُهُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْأَوَّلِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ تَقَرُّرَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي عَبْدِهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَالْحَقُّ دُونَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ هُنَاكَ بِطُرُقِ الْحُكْمِ وَاشْتِغَالِ الْمَحَلِّ بِحَقِّ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي حُكْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَفَى الْأَوَّلُ كَانَ لِلثَّانِي أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَتَأْثِيرُ الْعَفْوِ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِصَاصُ بِأَصْلِ الْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ بِالْعَفْوِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّانِيَ لَوْ بَادَرَ وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْقِصَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ، وَالشَّفِيعَيْنِ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِهِمَا، فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ حَقِّهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ مُتَجَزِّئًا فَإِنَّ الْقَطْعَ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ يَقَعُ مِنْ اثْنَيْنِ بِصِفَةِ التَّجَزُّؤِ فَكَذَلِكَ الْقَطْعُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ مَا هُوَ ظُلْمٌ هُنَاكَ لَا يَقَعُ مُتَجَزِّيًا فَكَذَلِكَ مَا هُوَ جُزْءٌ.
وَإِذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ الْيَدِ، فَقَدْ قَضَى بِنِصْفِ طَرَفِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ يَقْضِي لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بِالْأَرْشِ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ وَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ نِصْفُ الْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ فَلَا يَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْأَرْشِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَبِهِ فَارَقَ النَّفْسَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ قَضَى بِنَفْسِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِأَنْ قَتَلَ رَحِمًا لَا يَقْضِي لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصَ بِشَيْءٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا عَنْهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ أَقْتَصَّ مِنْهُ لِلْبَاقِي وَلَا شَيْءَ لِلْعَافِي؛ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ لِثُبُوتِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ فَقَطْ وَلَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَظِرْ الْغَائِبَ وَيُقْتَصُّ لِهَذَا الْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ وَمُزَاحَمَةُ الْآخَرِ مَعَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مَوْهُومٌ عَسَى يَحْضُرُ وَعَسَى لَا يَحْضُرُ فَلَا يُؤَخَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْلُومِ لِمَكَانِ الْمَوْهُومِ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ يَقْضِي لَهُ بِجَمِيعِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إذَا قَدِمَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِجَمِيعِ طَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَقْضِي لِلْآخَرِ بِالْأَرْشِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ لَا يَقْضِي لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي نَفْسِهِ وَفَاءً بِحَقِّهِمَا فَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَوْفِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَلَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْوَاحِدِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا فَإِنَّ مَا تَعَذَّرَ عَلَى الثَّانِي لِلِاسْتِيفَاءِ بِقَضَائِهِ بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ قَضَى بِهَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا سَالِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَقَوُّمُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا مَاتَ فَأَمَّا فِي الطَّرَفِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الطَّرَفُ كَالسَّالِمِ لَهُ حِينَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَأَنْ يَتَقَوَّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَالْحَابِسِ لِطَرَفِهِ حُكْمًا؛ فَلِهَذَا يَقْضِي لِلثَّانِي بِالْأَرْشِ، وَإِنْ اجْتَمَعَا فَقَضَى لَهُمَا بِالْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ فَأَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَفَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْقِصَاصِ جَازَ عَفْوُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ، وَإِنَّمَا لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا الْأَرْشَ بِالْقَبْضِ وَبَعْدَ تَمَامِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْيَدِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا بَقِيَ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا سَقَطَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِعَفْوِهِ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَوْفِيَا الدِّيَةَ حَتَّى عَفَى أَحَدُهُمَا بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كَمَا لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ اسْتِحْسَانًا كَمَا لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ وَبِالْأَرْشِ بَيْنَهُمَا قَدْ نَفَذَ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ضَرُورَةُ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَبْقَى حَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ وَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْيَدِ قِصَاصًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَرْشَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي صَارَ مَمْلُوكًا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَكَا الْأَرْشَ بِالِاسْتِيفَاءِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَمْلِكَا الْأَرْشَ بَعْدُ فَيَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّفِيعَيْنِ لَوْ سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُمَا بِالدَّارِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِرَاءَ عَيْنٍ مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، ثُمَّ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْآخَرِ بِالْبَيْعِ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ وَبَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي لَهُمَا لَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ إلَّا النِّصْفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا: الْقَاضِي إنَّمَا قَضَى بِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى وَلَوْ اسْتَفْتَيَا فَأَفْتَى لَهُمَا الْقَاضِي أَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَكُمَا أَوْ أَنَّ الْأَرْشَ بَيْنَكُمَا، ثُمَّ عَفَى أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا فَقَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْمِيرَاثِ أَثْلَاثًا كَانَ هَذَا كَفَتْوَى الْمُفْتِي.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا فَقَضَى الْقَاضِي لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ هَذَا كَفَتْوَى الْمُفْتِي حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا الْمُتْعَةُ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْوَصْفِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ إذَا زَاحَمَهُ الْآخَرُ وَبَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْقِصَاصِ وَيَكُونُ الْأَرْشُ لِلْآخَرِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَوْلٌ مِنْ الْقَاضِي، وَالْقِصَاصُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ لَا يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بِقَوْلٍ بِحَالٍ كَمَا لَوْ جَعَلَ نِصْفَ الْقِصَاصِ لِغَيْرِهِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ لَغْوًا بِخِلَافِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَبِالْفِعْلِ يَصِيرُ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا، وَالْقَاضِي، وَإِنْ قَضَى بِالْأَرْشِ بَيْنَهُمَا، فَالْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتِمُّ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ فِي مَعْنَى الصِّلَاتِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْقَبْضِ لَا بِالْقَضَاءِ كَمَنْفَعَةِ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ بِالْقَبْضِ لَا بِنَفْسِ الْقَضَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاؤُهُ بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا إذَا اسْتَوْفَيَا الْأَرْشَ فَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ هُوَ الْقَبْضُ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ وَبِهَذَا فَارَقَ فَصْلَ الشُّفْعَةِ، وَالْبَيْعِ، فَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ هُنَاكَ غَيْرَ الْأَمْرِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ بَيْعً كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَأَبْطَلَ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ فِي النِّصْفِ الَّذِي قَضَى بِهِ الْآخَرُ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالْأَرْشُ كَذَلِكَ أَمَّا إذَا حَصَلَ الْفِعْلَانِ مَعًا، فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ إنْ حَصَلَا عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ لَكَانَ الْقَاضِي مُسْقِطًا حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْقِصَاصِ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالْقِصَاصُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي إسْقَاطًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ عَفَا عَنْ النِّصْفِ سَقَطَ جَمِيعُ حَقِّهِ وَهَاهُنَا لَمَّا نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ مُزَاحَمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ فَتَقَرَّرَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ بِالْعَفْوِ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ فَيَكُونُ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَلَوْ لَمْ يَكُونَا أَخَذَا الْمَالَ وَأَخَذَا بِهِ كَفِيلًا، ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْكَفَالَةِ فِي تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَرْشِ عَلَى الْكَفِيلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُمَا بِالْأَرْشِ عَلَى الْأَصِيلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ هُنَاكَ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَا أَخَذَا بِالْمَالِ رَهْنًا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَالِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ أَبَدًا مَا لَمْ يَقْبِضَا وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ أَبَدًا سَوَاءٌ قَبَضَا الْمَالَ، أَوْ لَمْ يَقْبِضَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ، وَالِاسْتِحْسَانَ فِي فَصْلِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ، وَالِارْتِهَانِ بِالْأَرْشِ جَمِيعًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ، وَالِاسْتِحْسَانَ فِي فَصْلِ الِارْتِهَانِ بِالْأَرْشِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالْأَرْشِ كَالْكَفَالَةِ فَكَمَا أَنَّ عَفْوَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ بِالْأَرْشِ لَا يَمْنَعُ الْآخَرَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ أَيْ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ بِالِارْتِهَانِ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُمَا فِي الْأَرْشِ وَلَا فِي بَدَلِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتِمُّ اسْتِيفَاؤُهُمَا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَتُقَامُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ بِالْكَفَالَةِ تَزْدَادُ الْمُطَالَبَةُ وَلَا تَثْبُتُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَبَقِيَ كُلُّ حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْكَفَالَةِ فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ.
، وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمَفْصِلِ مِنْ يُمْنَاهُ، ثُمَّ قَطَعَ يَمِينًا أُخْرَى وَبَدَأَ بِالْيَدِ، ثُمَّ قَطَعَ الْأُصْبُعَ، ثُمَّ حَضَرَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يَقْطَعُ أُصْبُعَهُ أَوَّلًا بِأُصْبُعِ الْآخَرِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْبُدَاءَةِ بِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ إيفَاءَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ حَقِّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فَمهمَا أَمْكَنَ إيفَاءُ الْحَقَّيْنِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْأُصْبُعِ مَقْصُودٌ وَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْأُصْبُعِ تَبَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ قَطْعَ الْأَصَابِعِ، أَوْ بَعْضَهَا وَتَرْكَ الْكَفِّ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ التَّبَعِ، وَالْمَقْصُودِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَقَتَلَ آخَرَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُقْتَصُّ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْتَلُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أُصْبُعَهُ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ يَتَخَيَّرُ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مَا بَقِيَ وَيُضَمِّنَهُ خُمْسَ دِيَةِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ خُمْسُ الْيَدِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَرْشَ كُلِّ أُصْبُعٍ يَكُونُ خُمْسَ أَرْشِ الْيَدِ، فَهُوَ إنَّمَا اسْتَوْفَى أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ حَقِّهِ فَيَقْضِي لَهُ بِالْأَرْشِ فِيمَا بَقِيَ كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرِ خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ وَاسْتَوْفَاهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِيمَةَ الْقَفِيزِ الْخَامِسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ اسْتَوْفَى مَحَلَّ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ فَلَا يَرْجِعُ مَعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ فَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ صِفَةٌ لِلْيَدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَدِ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ وَبِفَوَاتِ الْأُصْبُعِ يُنْتَقَصُ مَعْنَى الْبَطْشِ وَلَا يَنْعَدِمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْيَدِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ الْأَصَابِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ مِنْ مَفْصِلِ الْيَدِ أَوْ يَتْرُكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَصَابِعَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَمَنْ تَجُوزُ بِحَقِّهِ مَعَ نُقْصَانِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ كُرًّا جَيِّدًا فَوَجَدَ عِنْدَهُ كُرًّا رَدِيئًا وَقَبَضَهُ بِخِلَافِ الْقُفْزَانِ فَإِنَّهُ مِقْدَارٌ، وَلَيْسَ بِصِفَةٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ عَنْ بَعْضِ الْأَقْفِزَةِ وَيَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ وَهَاهُنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الْأَصَابِعِ وَيَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوَّلًا قُطِعَتْ لَهُ الْيَدُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِمَكَانِ حَقٍّ مَوْهُومٍ لِغَائِبٍ لَا يَدْرِي أَيَطْلُبُ، أَوْ يَعْفُو، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْآخَرُ قَضَى لَهُ بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ قَضَى بِمَحَلِّ حَقِّهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ الْأَرْشُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا مَعَ قَوْلِكُمْ إنَّ الْأُصْبُعَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ هَذَا الْوَصْفِ كَانَ يَتَخَيَّرُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَخَيَّرْ هَاهُنَا لِبَقَاءِ الْأُصْبُعِ فَكَانَ هُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاضِيًا بِالْأُصْبُعِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوَّلًا وَاسْتَوْفَى لَمْ يَكُنْ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فَوَاتَ الطَّرَفِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ النَّفْسِ.
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ أُصْبُعٍ رَجُلٍ مَفْصِلًا، وَمِنْ أُصْبُعِ رَجُلٍ آخَرَ مَفْصِلَ ذَلِكَ الْأُصْبُعِ، وَمِنْ رَجُلٍ ثَالِثٍ الْأُصْبُعَ كُلَّهَا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بُدَاءَتِهِ بِحَقِّهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ الْآخَرَيْنِ وَبِالْبُدَاءَةِ بِأَخْذِ حَقِّ الْآخَرَيْنِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّهِ وَلِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مَقْصُودٌ وَحَقَّ الْآخَرَيْنِ فِيهِ تَبَعٌ، وَإِذَا قَطَعَ هَذَا الْمَفْصِلَ تَخَيَّرَ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَوْسَطَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَحَلَّ حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةِ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ مِنْ أُصْبُعِهِ لِوُجُودِ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ مِنْ الْمِرْفَقِ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فَإِنَّ الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبُدَاءَةِ بِحَقِّهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ الْآخَرِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ بِحَقِّهِ لِوُجُودِ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَثْبُتُ لِلثَّانِي الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ قَائِمَةٌ فِي طَرَفِهِ وَلَا تَنْعَدِمُ بِثُبُوتِ حَقِّ الْأَوَّلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِاسْتِيفَائِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ خِيَارُهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا شَجَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مُوضِحَةً فَأُخِذَتْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ لَا تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَإِنَّ الْمَشْجُوجَ يُخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اُقْتُصَّ لَهُ يَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ أَحَبَّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَهَا فِي طُولِهَا إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ، ثُمَّ يُكَفُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشُجَّهُ شَجَّةً تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيَّ عَنْ الرَّازِيِّ الْكَبِيرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَحَلِّ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ أَكْبَرُ مِنْ يَدِ الْمَقْطُوعِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي الشِّجَاجِ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِسَاحَةِ، وَالسَّيْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَهَاهُنَا لَوْ شَجَّهُ شَجَّةً تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ كَانَ فِي الْمِسَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَلَمِ وَلَوْ شَجَّهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ وَفِي الْمِسَاحَةِ كَانَ فِي السَّيْرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى أَخَذَتْ مَا بَيْنَ قِرْنَيْهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ بِقَدْرِ الْأُولَى فِي الْمِسَاحَةِ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فِي السَّيْرِ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ فَلَعَلَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ فِي الْيَدِ الصَّغِيرَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْيَدِ الْكَبِيرَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ أَرْشَ الْيَدِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَدِ فِي الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ بِحَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ لِكِبَرِ رَأْسِهِ وَهِيَ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ وَتَفْضُلُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى مِثْلَ حَقِّهِ فِي الْمِسَاحَةِ كَانَ هَذَا أَزِيدَ فِي السَّيْرِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي السَّيْرِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فِي الْمِسَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ مِنْ الشَّاجِّ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَجَّهُ مِثْلَ شَجَّتِهِ فِي الطُّولِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى السَّبْرِ أَزْيَدَ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ شَجَّهُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ رَأْسِهِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فِي الطُّولِ فَيُخَيَّرُ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ الْمَشْجُوجِ مَا بَيْنَ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ إلَّا إلَى نِصْفِ ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ وَيَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ أَحَبَّ لِمَا قُلْنَا وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ.
حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَبْرَأَ وَلَا قِصَاصَ فِي الْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالْجَائِفَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ فِي الْعَظْمِ فَاعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبَلَغْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا قِصَاصَ فِي آمَّةٍ وَلَا جَائِفَةَ وَلَا مُنَقِّلَةٍ وَلَا عَظْمٍ يَخَافُ عَلَيْهِ تَلَفٌ وَكُلُّ عَظْمٍ كُسِرَ مِنْ سَاعِدٍ، أَوْ سَاقٍ أَوْ ضِلْعٍ، أَوْ تَرْقُوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ حُكْمُ عَدْلٍ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَرْشِ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَدْلِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ.
، وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ، أَوْ نَاقِصَةٌ أُصْبُعًا قِيلَ لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ إنْ شِئْت وَإِلَّا فَخُذْ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ جِنْسَ حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ فِي الصِّفَةِ فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ، فَإِنْ سَقَطَتْ يَدُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَنَا وَلَهُ الْأَرْشُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةً فَسَقَطَتْ لِأَكَلَةٍ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ الْأَرْشُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفْسِ لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُ الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا الْقِصَاصُ، أَوْ الْأَرْشُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ لَا غَيْرُ وَقَدْ سَقَطَ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ فِي مَحَلٍّ مَقْصُورٍ عَلَيْهِ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِيَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ يَدُهُ شَلَّاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْقِصَاصِ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ سَقَطَتْ يَدُهُ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَرْشَ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ زَالَ الشَّلَلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَرْشَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ.
وَلَوْ قُطِعَتْ أُصْبُعٌ مِنْ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ لِغَيْرِ قِصَاصٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ إلَّا أَنَّهُ يُقْطَعُ مَا بَقِيَ وَلَا أَرْشَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ أُصْبُعٌ مِنْ أَصَابِعِهِ فِي قِصَاصٍ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ بِالْكُلِّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا.
، وَإِذَا اقْتَصَّ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ فِي عُضْوٍ، أَوْ شَجَّهُ فَمَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مَنْ ذَلِكَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ يَقُولَانِ الْحَقَّ قَبْلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ وَيَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ أَرْشُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَكَانَ يَرْوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ اسْتَقَادَ مِنْ إنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ وَبَرِئَ الْمُسْتَقِيدُ ضَمِنَ الْمُسْتَقِيدُ دِيَتَهُ» وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا قَطْعٌ بِحَقٍّ، أَوْ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ، فَالسِّرَايَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْفِعْلِ فَلَا تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ وَلَمَّا اتَّصَلَ أَصْلُ الْفِعْلِ بِالْخَفِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ، ثُمَّ نَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ صَارَتْ فِي حُكْمِ نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ يَكُونُ حَقًّا مُبَاحًا وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ عُدْوَانًا، وَإِنَّ مَحَلَّ حَقِّهِ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَالْفِعْلُ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ جَزَاءً وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ عُدْوَانٌ.
فَإِذَا تَمَيَّزَ أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ حُكْمًا يُجْعَلُ كَالتَّمْيِيزِ حِسًّا وَلَا تَنُوبُ السِّرَايَةُ مِنْ بَدَنٍ إلَى بَدَنٍ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُجْعَلُ عَقِيبَ الْقَطْعِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْبُرْءُ فَلَا تُعْتَبَرُ السِّرَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَالسِّرَايَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي، أَوْ قَالَ: مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ اقْطَعْ- يَدِي قِصَاصًا فَقَطَعَ وَسَرَى فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ، وَالْفِصَادُ، وَالْحِجَامُ، وَالْخِتَانُ لَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالسِّرَايَةِ شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ هَذَا قَطْعٌ لَوْ اقْتَصَرَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَلَا تَكُونُ السِّرَايَةُ مَضْمُونَةً كَقَطْعِ يَدِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ قَطْعِ الْيَدِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَالسِّرَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِعَجْزِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَالْبُرْءِ وَبِقُوَّةِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُسْتَوْفِي لِحَقِّهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ طَرَفَهُ كَانَ سَالِمًا بِلَا خَطَرٍ فَلَا يَتَمَيَّزُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَهُوَ طَرَفٌ يَسْلَمُ لَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَضْمُونًا وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِجُرْحٍ يَعْقُبُهُ زَهُوقُ الرُّوحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْقَتْلِ، فَالْقَطْعُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ جُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَالْقَتْلُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا حَتَّى إذَا قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ، أَوْ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ: أَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَّ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا، لَا أَنْ يُقَالَ: كَانَ قَطْعًا فَصَارَ قَتْلًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ يَصِيرَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إذْ لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيكِ الْخَشَبَةِ إنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا كَانَ تَحْرِيكًا، وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى مَا انْكَسَرَ بِهَا كَانَ كَسْرًا.
وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى حَيَوَانٍ فَمَاتَ بِهَا كَانَ قَتْلًا وَهَاهُنَا لَمَّا انْزَهَقَ الرُّوحُ بِهَذَا الْفِعْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَتْلِ فَيَكُونُ هَذَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَزَّ رَقَبَتَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ مَا قَصَدَ قَتْلَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ فِعْلٍ هُوَ حَقٌّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ، أَوْ حَرْبِيٍّ فَأَصَابَ مُسْلِمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ حَقُّهُ وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ، وَالْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ يُبْنَى عَلَى مَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِصُورَتِهِ وَصِفَةُ الْحَقِيَةِ فِي صُورَتِهِ تَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا ادَّعَوْا مِنْ تَمْيِيزِ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ حُكْمًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ الَّذِي هُوَ قِصَاصٌ فَقَطْ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَنَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافُهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ لِحَقِّهِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنَّمَا يَكُونُ جَزَاءً إذَا كَانَ قَطْعًا لَا إذَا كَانَ قَتْلًا وَطَرَفُ مَنْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ حُكْمًا حَتَّى إذَا قَطَعَ كَانَ الْبَدَلَ لِمَنْ عَلَيْهِ لَا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَهُ وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ يَكُونُ بِفِعْلٍ هُوَ قَطْعٌ لَا بِفِعْلٍ هُوَ قَتْلٌ قَوْلُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْعَفْوَ، وَالتَّرْكَ فِي وُسْعِهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْوُسْعِ مَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ وَتَعْزِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فَمُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَجْزُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا حُرْمَةَ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَتَقَابَلَ حَقَّانِ حَقُّ هَذَا فِي طَرَفٍ يُسَلَّمُ لَهُ بِلَا خَطَرٍ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَتَتَرَجَّحُ حُرْمَةُ النَّفْسِ عَلَى حُرْمَةِ الطَّرَفِ أَوْ يُعْتَبَرُ الْحُرْمَتَانِ فَلِحَقِّهِ فِي الطَّرَفِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْآخَرِ فِي النَّفْسِ يَتَقَيَّدُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ إنْسَانٍ فَاسْتَوْفَى حَوْلًا فَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، ثُمَّ نَبَتَ السِّنُّ الْمَقْلُوعُ أَوَّلًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُ سِنِّ الْقَالِعِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا بِخِلَافِ قَطْعِ الْإِمَامِ يَدَ السَّارِقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إقَامَتُهُ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا فِي وُسْعِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ قَطْعٌ مُطْلَقٌ وَفِعْلُهُ فِي الصُّورَةِ قَطْعٌ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْآمِرِ وَيَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْلِمِ إلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ الْحَقَّ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بَعْدَمَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ فَأَمَّا هُنَا فَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ قَبْلَ الْبُرْءِ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي قَطْعٍ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ قِصَاصًا، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَ فَسَرَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي قَطْعٍ مُطْلَقٍ فَكَمَا أَنَّ بِهِ تَحَوَّلَ فِعْلُهُ إلَى الْآمِرِ وَخَرَجَ الْقَاطِعُ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَكَذَلِكَ النَّزَّاعُ، وَالْفَصَّادُ، وَالْحَجَّامُ إنَّمَا أُمِرُوا بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ وَكَمَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَى أَمْرِهِمْ بِذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ اقْطَعْ يَدِي قِصَاصًا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَبْلَهُ كَيْفَ وَقَدْ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ اقْطَعْ قِصَاصًا، فَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ فَهَذَا عَلَى الْخِلَافِ، وَالْحَرْفُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ سِرَايَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ قَطْعٍ مَضْمُونٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ فَيَكُونُ وَاجِبًا بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَمَا يُسْتَوْفَى جَبْرًا يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي بِمَا كَانَ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْجُبْرَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ كَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَلَى إنْسَانٍ مَالًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلَهُ كَانَ الْمُسْتَوْفَى مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَوْفِي وَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْفِعْلِ مَضْمُونًا، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُهُ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ حَدًّا فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْإِمَامِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ مِنْهُ وَفِيمَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَافِذَ الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْآمِرِ لِأَمْرِهِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ يَدِ الْمُرْتَدِّ وَأَمَّا فِعْلُ الْفَصَّادِ، وَالنَّزَّاعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ ضَمَانَ عَقْدٍ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَلَّدُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ وَمَاتَ الْمُقْتَصُّ لَهُ قُتِلَ بِهِ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إذَا قَطَعَ يَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ؛ فَلِهَذَا قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا.
وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَدَفَعَ إلَى وَلِيِّهِ فَقَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا أَوْ مَثَّلَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَفْسٌ، وَالْيَدُ مِنْ النَّفْسِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِيفَاءَ النَّفْسِ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ لَمَّا بَاشَرَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ فَإِنَّ الْمُثْلَةَ حَرَامٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْمُثْلَةِ وَمَا كَانَ يُمْنَعُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ بَعْدَمَا قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَفَا عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى طَرَفًا مِنْ نَفْسٍ لَوْ اسْتَوْفَاهَا لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَى جُزْءًا مِنْهَا لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِي الْأَطْرَافِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي التَّبَعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَفْوِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ فَإِنَّ مَا يَنْصَرِفُ إلَى الْبَاقِي لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، ثُمَّ قَطَعَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ عَفَا عَنْ الْيَدِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ الْأُصْبُعِ، وَالْأَصَابِعِ لِلْكَفِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَطْرَافِ لِلنَّفْسِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْقَبَ الْقَطْعَ قَتْلًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الطَّرَفِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْقَبَهُ عَفْوًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَفْوِ مُحْسِنٌ وَإِحْسَانُهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا عَلَيْهِ الضَّمَانَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ الْعَفْوِ لَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَالْقَطْعُ السَّارِي أَفْحَشُ مِنْ الْمُقْتَصِرُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَضْمَنُ بَعْدَ الْعَفْوِ إذَا سَرَى شَيْئًا، فَإِذَا اقْتَصَرَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ اسْتَوْفَى طَرَفًا لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مِنْ نَفْسٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مُتَقَوِّمَةٌ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ تَقَوُّمَهَا سَقَطَ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ بِمَا سَبَقَ وَلَا حَقَّ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي اسْتِيفَاءِ الطَّرَفِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الطَّرَفِ قَطْعٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ غَيْرُ الْقَتْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَطْعَ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الطَّرِيقِ وَهَاهُنَا غَيْرُ مُخْطِئٍ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الطَّرَفِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّفْسِ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِي اسْتِيفَائِهَا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا.
فَإِذَا اسْتَوْفَى الطَّرَفَ مَقْصُودًا كَانَ مُسْتَوْفِيًا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعَفْوِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُ تَبَعًا لِلنَّفْسِ بِأَنْ يَقْتُلَهُ فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَتْلًا وَيَصِيرَ الطَّرَفُ تَبَعًا لِلنَّفْسِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا فَأَمَّا بَعْدَ الْعَفْوِ، فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَبَقِيَ الطَّرَفُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى امْرَأَةٍ فَرَمَى بِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَلَوْ ثَبَتَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي أَطْرَافِهَا مَقْصُودًا لَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى عَبْدِ إنْسَانٍ إذَا تَصَرَّفَ فِي مَالِيَّتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ ثَبَتَ فِي مَالِيَّتِهِ تَبَعًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْمَالِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الطَّرَفِ إنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي أَطْرَافِهِ لِإِنْسَانٍ وَفِي نَفْسِهِ لِآخَرَ فَجَاءَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ طَرَفَهُ لَمْ يَضْمَنْ مَنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ وَلَوْ كَانَ حَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ثَابِتًا فِي الطَّرَفِ لَصَارَ هُوَ قَاضِيًا بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ الْأَرْشَ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْأُصْبُعِ مَعَ الْكَفِّ فَإِنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ثَابِتٌ فِي الْأَصَابِعِ هُنَاكَ بِدَلِيلِ أَنَّ فَوَاتَ بَعْضِ الْأَصَابِعِ يُثْبِتُ لَهُ الْخِيَارَ، وَأَنَّ الْكَفَّ تَابِعَةٌ لِلْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْأَرْشِ فَأَمَّا هُنَا فَفَوَاتُ الْأَطْرَافِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ النَّفْسِ وَلَا يَنْقُصُ بَدَلُ النَّفْسِ بِفَوَاتِ الْأَطْرَافِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِي الزِّيَادَاتِ، وَالْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَى الْقَطْعُ إلَى النَّفْسِ بَعْدَ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ كَانَ قَتْلًا، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْقَبَ الْقَطْعُ قَتْلًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتْلٌ، وَالْقَتْلُ حَقُّهُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَذَا قَتَلَهُ، فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الطَّرَفِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ عَفْوَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدِ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مِنْ الْقَتْلِ حَتَّى يُقَالَ يَنْصَرِفُ عَفْوُهُ إلَى مَا بَقِيَ.
قَالَ: وَفِي الْعَيْنِ الْقِصَاصُ وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ إذَا قُلِعَتْ، أَوْ كُسِرَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَسْوَدَّ مَا بَقِيَ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ فِعْلِ مِثْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْسِرَ بَعْضَ السِّنِّ عَلَى وَجْهٍ يَسْوَدُّ مَا بَقِيَ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَآخِرُهُ مُوجِبٌ لِلْأَرْشِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي جَمِيعِهِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَشُلَّتْ بِجَنْبِهَا أُخْرَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ مَحَلٌّ عَلَى حِدَةٍ وَوُجُوبُ الْأَرْشِ بِالْفِعْلِ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِالْفِعْلِ فِي الْمَحَلِّ الْآخَرِ وَهُنَا الْمَحَلُّ كُلُّهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا خَرَجَ آخِرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ يَخْرُجُ أَوَّلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَأَمَّا فِي الْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ نُورُهَا بِالضَّرْبَةِ وَلَمْ تُخْسَفْ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَصُورَتُهُ أَنْ تُحْمَى لَهُ مِرْآةٌ، ثُمَّ تُقَرَّبَ مِنْهَا حَتَّى يَذْهَبَ نُورُهَا وَيَرْبِطَ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى وَعَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا حَتَّى قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ وَبَيَّنَ طَرِيقَ الِاسْتِيفَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا إذَا انْخَسَفَتْ، أَوْ قُلِعَتْ الْحَدَقَةُ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي السِّنِّ، وَالْمَحَلِّ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْرِ الْعَظْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ.
، وَإِذَا أَحْرَقَ رَجُلٌ رَجُلًا بِالنَّارِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ الْمَوْلَى بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتُلُهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَهُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْرِقُهُ بِالنَّارِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا» وَقَالَ «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا».
وَإِذَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا سِنَانَ لَهُ فَأَجَافَهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْجُرْحِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ غَيْرَ الْحَدِيدِ إذَا كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْحَدِيدِ فِي الْقَطْعِ، وَالْجَرْحِ، فَالْفِعْلُ بِهِ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَقَّ بَطْنَهُ بِعُودٍ أَوَذَبَحَهُ بِقَصَبَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ وَفِي مُثْقِلِ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْكَلَامُ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ، وَالْعَصَا قَدْ تَقَدَّمَ.
، وَإِذَا غَرَّقَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي مَاءٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ مِنْهُ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُرَادُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مَنْ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ عَلَى قَوْلِهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ فِيهِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَمَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ» وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: هَذَا لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا هَذَا كَلَامُ زِيَادٍ ذَكَرَهُ فِي خُطْبَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِيهِ، وَمَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَبِالْإِجْمَاعِ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ، ثُمَّ الْمَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السِّلَاحِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ فِي الظَّاهِرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ وَالْعَصَا عَلَى قَوْلِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْغَرِيقَ يَجْتَذِبُ الْمَاءَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالْمُعِينِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ.
وَلَوْ خَنَقَ رَجُلًا فَمَاتَ، أَوْ طَرَحَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِ جَبَلٍ، أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مِنْ مِثْلِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ خِنَاقًا مَعْرُوفًا قَدْ خَنَقَ غَيْرَ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَالْإِمَامُ يَقْتُلُ السَّاعِيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَدًّا لَا قِصَاصًا.
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَوْ حَبَسَهُ فِي الْبَيْتِ فَطَبَّقَ عَلَيْهِ الْبَابَ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى مَا صَنَعَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِإِتْلَافِهِ عَلَى وَجْهٍ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ حَبْسُهُ وَتَطْبِيقُ الْبَابِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ إتْلَافَهُ، وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ مَعْنَى آخَرُ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ وَبُعْدُ الطَّعَامِ عَنْهُ وَلَا صُنْعَ لِلْجَانِي فِي ذَلِكَ فَلَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ حَبْسِهِ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْيَدِ.
وَلَوْ سَقَى رَجُلًا سُمًّا، أَوْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: سَقَاهُ سُمًّا أَوْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا لَهُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ حَتَّى شَرِبَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الشَّارِبَ مُخْتَارٌ بِهِ فِي شُرْبِهِ فَيَكُونُ قَاتِلًا نَفْسَهُ، وَمَنْ أَعْطَاهُ غَرَّهُ حِينَ لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا فِيهِ مِنْ السُّمِّ، وَلَكِنْ بِالْغُرُورِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ النَّفْسِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ «أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ حِينَ أَتَتْ بِالشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ هَدِيَّةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ فَمَاتَ، ثُمَّ لَمْ يُضَمِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ»؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَأَمَّا إذَا أَوْجَرَهُ إيجَارًا، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا لَهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا دِيَتَهُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ سُمًّا قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَإِ فَأَمَّا إذَا كَانَ سُمًّا ذُعَافًا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَلْبَثُ.
وَإِذَا جَرَحَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا بِالسَّيْفِ فَأَشْهَدَ الْمَجْرُوحُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَجْرَحْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى فُلَانٍ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يُبْنَى عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ، وَالْوَارِثُ فِي الدَّعْوَى قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَكَمَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُوَرِّثِ بَعْدَ إقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يُجْرَحْ فَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ مِنْ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى أَصْلَ الْجُرْحِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ نَفْيُ الْقَتْلِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمَجْرُوحُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ عَفَى عَنْ الْجَارِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَفِي الْقِيَاسِ عَفْوُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَكُونُ لِلْوَارِثِ لَا لِلْمُوَرِّثِ، فَالْوَارِثُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ دُونَ الْمُوَرِّثِ فَيَكُونُ الْمُوَرِّثُ بِعَفْوِهِ مُسْقِطًا حَقَّ الْغَيْرِ وَمُسْقِطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَفْوَ الْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ عَنْ الْقِصَاصِ صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ يَجِبُ لِلْمُوَرِّثِ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْوَارِثِ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافُهُ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْوَارِثِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ لَا ابْتِدَاءً؛ وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمُوَرِّثِ وَتَنْفُذُ وَصَايَا فَاصِلِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ ثَابِتٌ لِلْمُوَرِّثِ فَيَصِحُّ بَعْدَ مَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ كَمَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ، ثُمَّ عَفْوُهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِذْنُهُ فِي الِابْتِدَاءِ مُسْقِطٌ لِلْقَوَدِ عَنْ الْجَانِي حَتَّى إذَا قَالَ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ فَسَرَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَذَلِكَ عَفْوُهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَلَوْ عَفَا الْوَلِيُّ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْنِ حَقُّهُ بَعْدُ فَإِنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ قَبْلَ أَوَانِهِ كَانَ بَاطِلًا كَمَا إذَا أَبْرَأَ عَنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ لِمُوَرِّثِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ يُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَهَذَا السَّبَبُ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِلْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ فَيُقَامُ مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي تَصْحِيحِ عَفْوِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الْحَقُّ لِلْمُوَرِّثِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ بَعْدَ هَذَا السَّبَبِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْوَاجِبِ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْمُوَرِّثُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فَيَجِبُ لِلْوَارِثِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعًى فَلِمُرَاعَاةِ السَّبَبِ صَحَّحْنَا عَفْوَ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا وَلِمُرَاعَاةِ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ صَحَّحْنَا عَفْوَ الْوَارِثِ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَقَالَ {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.