فصل: كِتَابُ الْحِيَلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْحِيَلِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْ لَا كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: مَنْ قَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْحِيَلَ فَلَا تُصَدِّقْهُ، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّمَا جَمَعَهُ وَرَّاقُو بَغْدَادَ.
وَقَالَ: إنَّ الْجُهَّالَ يَنْسُبُونَ عُلَمَاءَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِيرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْ تَصَانِيفِهِ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْجُهَّالِ عَلَى مَا يَتَقَوَّلُونَ وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ الْكِتَابِ- قَوْله تَعَالَى- «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ» هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً، فَإِنَّهُ حِينَ قَالَتْ: لَهُ لَوْ ذَبَحْتَ عَنَاقًا بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْرَدَهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ- تَعَالَى-: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} إلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وَذَلِكَ مِنْهُ حِيلَةٌ، وَكَانَ هَذَا حِيلَةً لِإِمْسَاكِ أَخِيهِ عِنْدَهُ حِينَئِذٍ لِيُوقِفَ إخْوَتَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ.
وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا}، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ سَلَامَتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مَخْرَجٌ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى- {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اكْتِسَابُ حِيلَةٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ الْإِثْمِ بِتَقْيِيدِ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ وَلَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ قَالَ لَهُ: «طَلِّقْهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلِّمْ أَخَاكَ ثُمَّ تَزَوَّجْهَا».
وَهَذَا تَعْلِيمُ الْحِيلَةِ وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، مَنْ تَأَمَّلَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَجَدَ الْمُعَامَلَاتِ كُلَّهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ امْرَأَةً إذَا سَأَلَ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ تَزَوَّجْهَا، وَإِذَا هَوِيَ جَارِيَةً فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ: اشْتَرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ صُحْبَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا.
وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا إذَا نَدِمَ وَسَأَلَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُ رَاجِعْهَا؟ وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا إذَا تَابَتْ مِنْ سُوءِ خُلُقِهَا وَطَلَبَا حِيلَةَ قِيلَ لَهُمَا الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَيَدْخُلَ بِهَا فَمَنْ كَرِهَ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكْرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحْكَامَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا أَوَّلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- قَالَ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ- تَعَالَى- فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّائِلِ «لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى» فَأَهْلُ الْحَدِيثِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُك أَمَا تَدْرِي قَوْلَ اللَّهِ- تَعَالَى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ} قَالَ: كُنْت فِي الصَّلَاةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَا أُنَبِّئُك بِسُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَك بِهَا ثُمَّ شَغَلَهُ وَفْدٌ عَنِّي فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ جَعَلْت أَمْشِي مَعَهُ، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَقُلْت: السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاذَا تَقْرَأُ فِي صَلَاتِك قُلْت: أُمَّ الْقُرْآنِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَعَمْ إنَّهَا هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيت لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا».
وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَهُ بَعْدَ إخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ فَإِنَّ الْوَعْدَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحِنْثِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَا دَاخِلًا بِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَأَخْرَجَتْ إحْدَى رِجْلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْتِقَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْقَدَمَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْضِيلِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ عَلَى غَيْرِهَا هُوَ الثَّوَابُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ- تَعَالَى- غَيْرُ مُحْدَثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيِ فِي هَذَا وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقَارِئَ يَنَالُ الثَّوَابَ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَا لَا يَنَالُهُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ أُخْرَى بَيَانُهُ أَنَّهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِقِرَاءَةِ تَبَّتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْإِقْرَارُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ- تَعَالَى- بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي قِرَاءَةِ سُورَةِ تَبَّتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعَانِي الْأُخْرَى، وَمَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْآثَارِ مِنْ نَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّ «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا خَتَمَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ» تَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا: اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِلْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فَرْضًا.
وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ مَا يُغْنِي الْمُسْلِمَ عَنْ الْكَذِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَاَلَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ» تَأْوِيلُهُ فِي اسْتِعْمَالِ مَعَارِيضِ الرِّجَالِ الْكَلَامَ فَإِنَّ صَرِيحَ الْكَذِبِ لَا يَحِلُّ هُنَا كَمَا لَا يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ.
وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَبَ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ إنْ صَحَّ، فَتَأْوِيلُ هَذَا: أَنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا عَرَّضَ فِيهِ مَا خَفِيَ عَنْ السَّامِعِ مُرَادُهُ، وَأَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ خِلَافَ مَا أَظْهَرَهُ فَأَمَّا الْكَذِبُ الْمَحْضُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَانُوا مَعْصُومِينَ عَنْ ذَلِكَ وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرَائِعَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ.
وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمْرُ النَّعَمِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ يَتَخَلَّصُ الْمَرْءُ مِنْ الْإِثْمِ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْمَعَارِيضِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} الْآيَةَ فَقَدْ جَوَّزَ اللَّهُ- تَعَالَى- الْمَعَارِيضَ، وَنَهَى عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا}.
ثُمَّ بَيَانُ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَيِّدَ الْمُتَكَلِّمُ كَلَامَهُ بِلَعَلَّ وَعَسَى كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ»، وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذِبًا مِنْهُ لِتَقْيِيدِ كَلَامِهِ بِلَعَلَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُضْمِرُ فِي لَفْظِهِ مَعْنًى سِوَى مَا يُظْهِرُهُ وَيَفْهَمُهُ السَّامِعُ مِنْ كَلَامِهِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِتِلْكَ الْعَجُوزِ: إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعَجَائِزُ فَجَعَلَتْ تَبْكِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ» أَخْبَرَهَا بِلَفْظٍ أَضْمَرَ فِيهِ سِوَى مَا فَهِمَتْ مِنْ كَلَامِهِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلْت عُثْمَانَ وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ، وَمَا أَمَرْت وَلَا نَهَيْت فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلًا فَلَمَّا كَانَ فِي مَقَامٍ آخَرَ فَقَالَ مَنْ كَانَ سَائِلِي عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاَللَّهُ قَتَلَهُ، وَأَنَا مَعَهُ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ كَلِمَةٌ قُرَشِيَّةٌ ذَاتُ وُجُوهٍ أَمَّا قَوْلُهُ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ حَقِيقَةً وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ أَيْ كَانَ قَتْلُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَنَالَ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ فَمَا كَرِهْت لَهُ هَذِهِ الدَّرَجَةَ، وَمَا كَرِهْت قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاَللَّهُ قَتَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ مَقْتُولٌ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ بِقَوْلِهِ «وَإِنَّ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَنْ خَضَّبَ بِدَمِك هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى عُنُقِهِ وَلِحْيَتِهِ».
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اُبْتُلِيَ بِصُحْبَةِ قَوْمٍ عَلَى هِمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَقَدْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ، وَمِنْهُ مَا يُرْوَى عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا قَتَلَ الزَّنَادِقَةَ نَظَرَ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَاذَا فَنِيَتْ بِهِ الشِّيعَةُ مُنْذُ الْيَوْمِ أَرَأَيْت نَظَرَك إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفْعَك إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَوْلَك صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَشَيْءٌ عَهِدَ إلَيْك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته فَقَالَ عَلِيٌّ هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى الْأَرْضِ فَقُلْت لَا فَقَالَ وَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ فَقُلْت لَا فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَقُولَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقُلْت لَا فَقَالَ فَإِنِّي رَجُلٌ مُكَابِدٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَضَعُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ لِذَلِكَ.
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَهُ رِيبَةٌ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ جَعَلَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ: مَا كَذَبْت وَلَا كِدْت يُوهِمُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِحَالِهِمْ فَيُظْهِرُونَ لَهُ مَا فِي بَاطِنِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَغْسِلُ شَعْرِي حَتَّى أَفْتَحَ مِصْرَ وَأَتْرُكَ الْبَصْرَةَ كَجَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ وَأَعْرُكَ أُذُنَ عَمَّارٍ عَرْكَ الْأَدِيمِ، وَأَسُوقَ الْعَرَبَ بِعَصَايَ فَذَكَرُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ عَلِيًّا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا يَصْدُرُ، وَهَا غُرَّةُ هَامَتِهِ عَلَى مِثْلِ الطَّشْتِ لَا شَعْرَ عَلَيْهَا، فَأَيُّ شَعْرٍ يَغْسِلُهُ بِهَذِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَقَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا لَهَا فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ عَلَى مَاذَا شَهِدْتُمْ قُلْنَا شَهِدْنَا عَلَى أَنَّكَ جَعَلْتَ الْجَارِيَةَ لَهَا فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ إنَّمَا قُلْت لَكُمْ اشْهَدُوا أَنَّهَا لَهَا، وَأَنَا أَعْنِي الْمِرْوَحَةَ الَّتِي كُنْت أُشِيرُ إلَيْهَا وَكَانُوا يُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ لِي مَعَك حَقًّا قَالَ لَا فَقَالَ احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ- تَعَالَى- فَقَالَ: احْلِفْ وَاعْنِ مَسْجِدَ حَيِّك، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِيءٌ فَعَلَّمَهُ الْحِيلَةَ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ- تَعَالَى- يَعْنِي مَسْجِدَ حَيِّهِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ- تَعَالَى- أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قَالَ- عَزَّ وَجَلَّ- {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}.
وَلَكِنْ فِيهِ بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ بَرِيئًا عَنْ الْحَقِّ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرِيئًا مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْحَقَّ وَلَا كَانَ يَحِلُّ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يُعَلِّمَهُ هَذَا لِيَمْنَعَ بِهِ الْحَقَّ، وَمَا كَانَ يَنْفَعُهُ هَذِهِ النِّيَّةُ فَإِنَّ الْحَالِفَ إنْ كَانَ ظَالِمًا فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ لَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِنِيَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنْته فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ لِي؟ فَقَالَ: قُلْ وَاَللَّهِ لَا أُبْصِرُ إلَّا مَا بَصَّرَنِي بِهِ غَيْرِي، وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا مَا سَدَّدَ لِي غَيْرِي يَعْنِي إلَّا مَا بَصَّرَك رَبُّك فَيَقَعُ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ فِي بَصَرِهِ ضَعْفًا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُبُ مِنْهُ فَلَا يَسْتَوْجِسُ بِامْتِنَاعِهِ، وَهُوَ يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى صَحِيحًا فَلَا تَكُونُ يَمِينُهُ كَاذِبَةً.
وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ مُوَابَأَةُ النَّاسِ فِيمَا لَا يَأْثَمُ بِهِ» وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ عَيُونًا فَرَأَى بَغْلَةً لِشُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ أَمَا إنَّهَا إذَا رَبَضَتْ لَمْ تَقُمْ حَتَّى تُقَامَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهَا بِقُدْرَتِهِ، وَقَالَ الرَّجُلُ: أُفٍّ أُفٍّ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمَّا أَبْصَرَ الْبَغْلَةَ فَأَعْجَبَتْهُ رَبَضَتْ مِنْ سَاعَتِهَا فَقَالَ شُرَيْحٌ مَا قَالَ فَلَمَّا قَالَ الرَّجُلُ: أُفٍّ أُفٍّ قَامَتْ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ السُّوءِ»، وَمِنْهُ يُقَالُ إنَّ الْعَيْنَ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ فَأَرَادَ شُرَيْحٌ أَنْ يَرُدَّ عَيْنَهُ بِأَنْ يُحَقِّرَهَا فِي عَيْنِهِ، وَقَالَ مَا قَالَ وَأَضْمَرَ فِيهِ مَعْنًى صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- يُقِيمُهَا بِقُدْرَتِهِ وَذُكِرَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سِيدَةَ قَالَ جَعَلَ حُذَيْفَةُ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَشْيَاءَ بِاَللَّهِ مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُهَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْنَاك تَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ مَا قُلْتهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاك قُلْتهَا فَقَالَ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ وَإِنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضُ الْمُدَارَاةِ فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِيمَا يُخْبِرُهُ بِهِ وَيَحْلِفُ لَهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَشْكَلَ عَلَى السَّامِعِ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ يَعْنِي أَسْتَعْمِلُ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَاةِ أَوْ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ مَا قَالَهَا، وَيَعْنِي مَا قَالَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ يَعْنِي الَّذِي فَإِنَّ مَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الَّذِي فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ وَبَيَانُهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لِي رَجُلٌ: إنِّي أَنَالُ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَيَبْلُغُهُ عَنِّي فَكَيْفَ أَعْتَذِرُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ مَا قُلْت لَك مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ أَيْ أَضْمِرْ فِي قَلْبِك الَّذِي مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ الَّذِي قُلْت لَك مِنْ حَقِّك مِنْ شَيْءٍ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ غَرَّارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ الْحَجَّاجِ فَكُنَّا إذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ يَقُولُ لَنَا: إنْ سُئِلْتُمْ عَنِّي وَحَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ مَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا وَلَا لَكُمْ عِلْمٌ بِمَكَانِي وَلَا فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَنَا وَاعْنُوا أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَنَا فِيهِ قَاعِدٌ أَوْ قَائِمٌ فَتَكُونُونَ قَدْ صَدَقْتُمْ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فِي الدِّيوَانِ فَقَالَ إنِّي اعْتَرَضْت عَلَى دَابَّةٍ، وَقَدْ نَفَقَتْ وَهُمْ يُرِيدُونَ يُحَلِّفُونَنِي أَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا فَكَيْفَ أَحْلِفُ فَقَالَ ارْكَبْ دَابَّةً وَاعْتَرِضْ عَلَيْهَا عَلَى بَطْنِك رَاكِبًا ثُمَّ احْلِفْ لَهُمْ أَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا فَيَفْهَمُونَ الْغَرَضَ وَأَنْتَ تَعْنِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا عَلَى بَطْنِك وَيُحْكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَكِبَ رَشَادًا وَأَرَادَ فَرَسَ الْبُخْتِ وَقَالَ لِجَارِيَتِهِ قُولِي: إنَّ الشَّيْخَ قَدْ رَكِبَ وَرُبَّمَا يَقُولُ لَهَا: اضْرِبِي قَدَمَكِ عَلَى الْأَرْضِ وَقُولِي: لَيْسَ الشَّيْخُ هُنَا أَيْ تَحْتَ قَدَمِي.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ- تَعَالَى- فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ» فَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ كَاذِبًا أَوْ صَادِقًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّخْصَةَ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكِّدَهُ بِالْيَمِينِ فَكَيْفَ يُرَخِّصُ فِيهِ مَعَ التَّأْكِيدِ بِالْيَمِينِ وَقَدْ أَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ- تَعَالَى- وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ، فَهُوَ مُعَظِّمٌ اسْمَ اللَّهِ- تَعَالَى- فِي حَلِفِهِ، وَيَرْوُونَ فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ حَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَكَانَ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّهُ غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ بِتَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ.
وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَيَقُولُ: الْمَظْلُومُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ شَرْعًا فِي وَإِنَّمَا يَحْلِفُ لَهُ لِيَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَتُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَالظَّالِمُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْكَفِّ عَنْ الظُّلْمِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُحِقًّا فَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِحَقِّهِ يَمْتَنِعُ الظَّالِمُ عَنْ الْيَمِينِ لِحَقِّهِ فَيَخْرُجُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ يَهْلَكُ إنْ حَلَفَ كَاذِبًا كَمَا أَهْلَكَ حَقَّهُ فَيَكُونُ إهْلَاكًا بِمُقَابَلَةِ إهْلَاكٍ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إذَا اعْتَبَرْنَا نِيَّةَ الْمُسْتَحْلِفِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا فَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِحَقِّهِ، وَهَذَا رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ، وَانْقِطَاعُ مُنَازَعَةِ الْمُدَّعِي مَعَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْحَالِفِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْيَمِينِ عِلْمُهُ أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَلَا يَسْتَثْنِي فَالْإِثْمُ وَالْبِرُّ فِيهِمَا عَلَى عِلْمِهِ يَعْنِي إذَا حَلَفَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي يَمِينِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ يَمِينِ اللَّغْوِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ ظَالِمًا حِينَ كَانَ لَا يَعْلَمُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَاعْتَبَرْنَا مَا عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ فِي يَمِينِهِ فَيَكُونُ آثِمًا وَيُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ مَا عِنْدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.