فصل: باب الصلح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الصلح:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُبْطِلُهُ غَيْرُنَا يَعْنِي شَرِيكًا وَابْنَ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: هَذَا تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ يَعْنِي إنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمِائَةَ فِي نُجُومِهَا، وَلَا يَدْرِي أَيُؤَدِّي أَمْ لَا يُؤَدِّي وَتَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ لَا يَجُوزُ فَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَحُطَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْهُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَاجِلًا ثُمَّ يُصَالِحَهُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَهْرِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَشَرْطَانِ فِي عَقْدٍ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقَ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ فِي السَّنَةِ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ يُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عَلَى بَدَلٍ مُسَمًّى، وَيَكُونُ الصُّلْحُ صَحِيحًا عَلَى مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ يَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ، وَمِثْلُ هَذَا الصُّلْحِ يَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ فَبَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا كَانَ جَائِزًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى شَرْطٍ أَوْلَى.
رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا فِي يَدِ ابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ فَصَالَحَهُ الِابْنُ وَالْمَرْأَةُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا كَانَتْ الْمِائَةُ عَلَيْهِمَا أَثْمَانًا وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِنْكَارِ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إسْقَاطُ دَعْوَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ وَخُصُومَةٌ تَلْزَمُهُ لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ وَلِهَذَا جَازَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مِنْهُ تَمْلِيكًا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ بَقِيَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الصُّلْحِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى، وَقَدْ كَانَتْ أَثْمَانًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ ثَبَتَ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِمَا يَتَوَزَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ قَبُولِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَالِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ صَالَحَاهُ بَعْدَ إقْرَارِهِمَا بِهَا لَهُ، وَأَرَادَا بِالْإِقْرَارِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ فَالْمِائَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا أَنَّهَا لِلْمُدَّعِي ثُمَّ صَالَحَاهُ فَكَأَنَّهُمَا اشْتَرَيَا الدَّارَ بِالْمِائَةِ وَظَهَرَ بِإِقْرَارِهِمَا أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَكُنْ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا وَبِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِيَيْنِ فِي الْمَنْزِلِ نِصْفَيْنِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقِرَّا لِلْمُدَّعِي بِالدَّارِ ثُمَّ يُصَالِحَهُمَا مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنُ الدَّارِ وَلِلِابْنِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهَا، فَإِذَا صَرَّحَا بِذَلِكَ كَانَ الْمِلْكُ فِي الدَّارِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَا بِهِ، وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَيَاهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُمُنُهَا، وَلِلْآخَرِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهَا.
رَجُلٌ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي؛ وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى دَارٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَفِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْ الدَّارِ مِائَةَ ذِرَاعٍ بِمِلْكِهِ الْقَدِيمِ إلَّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى ذِي الْيَدِ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ صَحِيحًا، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِعِوَضٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا.
مَرِيضٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا، وَلَهُ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَأَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ ثُمَّ مَاتَ جَازَ إقْرَارُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ وَرَثَتِهِ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْمَالِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ بِذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ مُحَابَاةً، وَهُوَ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَإِقْرَارُهُ بِمَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ بِإِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ يَكُونُ صَحِيحًا وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَهُوَ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا مُطْلَقًا عَلَيْهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ إذَا ادَّعَوْا ذَلِكَ.
رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُنَجِّمَهُ نُجُومًا عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ أَخَّرَا نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ، فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا حَالٌّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِالْمَالِ كَفِيلًا كَانَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ كَالْأَصِيلِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ مَالٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَنَجَّمَهُ عَلَيْهِمَا نُجُومًا عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ أَخَّرَا نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا حَالٌّ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَنْجِيمَ الْمَالِ عَلَيْهِمَا صُلْحٌ فَقَدْ عَلَّقَ بُطْلَانَ الصُّلْحِ بِعَامِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ إنَّمَا أَخَذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ نَجْمٍ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْمَالِ عَلَى النُّجُومِ الَّتِي سَمَّيَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الْمَالِ بِالْمَالِ بِحَظْرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، فَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَضْمَنَ الْكَفِيلُ الْمَالَ عَلَى أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ بِدَفْعِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ مَحَلِّهِ إلَى الطَّالِبِ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَاشْتِرَاطُ بَرَاءَتِهِ عِنْدَ إيفَاءِ الْكَفِيلِ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ صَحِيحًا.
رَجُلٌ صَالَحَ غَرِيمًا لَهُ عَلَى أَنْ يُؤَجِّلَهُ بِمَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ فُلَانٌ الْمَالَ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، وَالْمَالُ حَلَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا آمَنُ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَعْنِي بِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الصُّلْحَ قِيَاسُ الْبَيْعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَإِذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ ضَمَانَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ كَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ فَالْفِقْهُ فِي ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فَيَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَضْمَنُ الْكَفِيلُ الْمَالَ أَوْ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا ضَمِنَهُ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغُرُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَالْفِقْهُ فِيهِ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَا ذَكَرْت عَلَى أَنَّ فُلَانًا إنْ ضَمِنَ هَذَا الْمَالَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ كَذَا فَالصُّلْحُ تَامٌّ وَإِلَّا فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بِهَذِهِ كَانَ تَمَامُ الصُّلْحِ بِقَدْرِ مَا ضَمِنَ فُلَانٌ، وَلَا يَبْقَى غَرَرٌ إذَا ضَمِنَ فُلَانٌ فَالصُّلْحُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ.
وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَطْلُوبِ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَا وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَالُهُ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَبْدَأَ بِضَمَانِ الْمَالِ فَيَقُولَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ وَافَيْت بِهِ إلَى كَذَا مِنْ الْأَجَلِ، فَأَنَا بَرِيءٌ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ رَهْنًا بِمَا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ مِنْهُ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَقَطْ، وَأَرَادَ الْكَفِيلُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ رَهْنًا وَلَا إشْكَالَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَسْتَدْعِي دَيْنًا وَاجِبًا، وَصِحَّةُ الرَّهْنِ تَسْتَدْعِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالدَّرْكِ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالدَّرْكِ ثُمَّ الْحِيلَةُ فِي هَذَا: أَنْ يُقِرَّ الْمَطْلُوبُ أَنَّ هَذَا الْكَفِيلَ ضَمِنَ عَنْهُ مَالًا لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ بَاشَرَهُ وَلَا يُسَمِّيَ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَلَا مِقْدَارَ الْمَالِ ثُمَّ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِذَلِكَ فَيَكُونَ صَحِيحًا فِي الْحُكْمِ، وَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَيُمَكَّنَ بِأَدَائِهِ مِنْ إخْرَاجِ الرَّهْنِ، فَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ: مَقْصُودِي لَا يَتِمُّ بِهَذَا وَرُبَمَا يَقُولُ: الْمَطْلُوبُ بَعْدَ كَفَالَتِي بِالنِّصْفِ أَنَّ الْمَالَ دِرْهَمٌ فَيُعْطِينِي ذَلِكَ وَيَسْتَرِدَّ النِّصْفَ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا ثِقَةً يَثِقَانِ بِهِ، وَيَكُونَ ارْتِهَانُ الْكَفِيلِ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الرَّهْنَ قَبْلَ بَرَاءَتِهِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.
رَجُلٌ أَخَذَ مِنْ غَرِيمِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ كَذَا فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِنَفْسِ فُلَانٍ غَرِيمٌ آخَرُ لِلطَّالِبِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا آمَنُ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا لَا يَجُوزُ، فَالْفِقْهُ فِيهِ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَى بِفُلَانٍ أَحَدُهُمَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ الْأُخْرَى فَيَكُونُ جَائِزًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُوَافَاةِ وَبِنَفْسِ أَحَدِهِمَا، وَكَمَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِالْمُوَافَاةِ بِالْمَالِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُوَافَاةِ بِنَفْسِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ غَدٍ فَمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِحَظْرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: لَا آمَنُ أَنْ يُبْرِئَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَالُ دُونَ النَّفْسِ وَبَعْدَ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَتَمَكَّنَ الطَّالِبُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَبْقَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي مَعْنَى تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ فِيهِ فَشَرَطَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ، فَلَا تَبْقَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا ثُمَّ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُضَمِّنَّهُ الْمَالَ وَالنَّفْسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَاهُ بِنَفْسِهِ لِوَقْتِ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ بِهِ لِذَلِكَ الْأَجَلِ فَالنَّفْسُ وَالْمَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ لَهُ كَفَالَةً مُطْلَقَةً.
(مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ) قَالَ: وَإِذَا خَافَ الْوَصِيُّ جَهْلَ بَعْضِ الْقُضَاةِ فِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا أَنْفَقَ وَعَمِلَ، وَإِنَّمَا سَمَّى هَذَا جَهْلًا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ فَالْوَصِيُّ أَمِينٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْمُحْتَمَلِ قَوْلُ الْأَمِينِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي قَبُولِ الْوِصَايَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَكَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُوصِيَ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْمَالِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْوَصِيَّ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْقُضَاةِ كَانَ جَهْلًا، وَلَكِنْ رَأَى بَعْضُ الْقُضَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيَعُدُّوهُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَبَيَّنَ الْحِيلَةَ لِلْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ فِي قَبْضِ التَّرِكَةِ وَبَيْعِهَا وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَشْهَدُ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَيْهِ وَلَا يُبَاشِرُهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ وَلَا عَمِلَ فِي التَّرِكَةِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ مَا قَضَيْت دَيْنًا وَلَا وَصَلَ إلَيْك تَرِكَةٌ وَلَا أَمَرْت بِشَيْءٍ مِنْهَا يُبَاعُ وَلَا وَكَّلْت بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ، وَضَعَ التَّرِكَةَ مَوَاضِعَهَا عَلَى حُقُوقِهَا فَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَيَسَعُهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيَنْوِيَ غَيْرَ مَا اسْتَحْلَفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَظْلُومًا فَيَمِينُهُ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَوَسَّعَ فِي كِتَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ: يَنْوِي مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتِ كَذَا لِوَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا لِمَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ أَوْ مَعَ إنْسَانٍ غَيْرِ الَّذِي عَامَلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ صَحِيحَةٌ كَمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ فَإِنَّ الْمُقْتَضِي عِنْدَهُ كَالْمَنْصُوصِ فِي أَنَّ لَهُ عُمُومًا فَتَجُوزُ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ الْمُسَاكَنَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا، وَهُوَ يَنْوِي مُسَاكَنَتَهُ فِي بَيْتِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَصَحَّتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ.
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: إذَا حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَنَوَى السَّفَرَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَخْرُجُ إلَيْهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ وَصَحَّ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى: إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ غُلَامٍ صَغِيرٍ فَجَاءَتْ أُمُّ الصَّغِيرِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَطْلُبُ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ يَقْتَضِي الْفِرَاشَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ أُمِّ الصَّغِيرِ، فَجُعِلَ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَأَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ وَنَوَى طَعَامًا بِعَيْنِهِ أَوْ شَرَابًا بِعَيْنِهِ لَمْ تُعْتَبَرْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ فِعْلُ الْأَكْلِ، فَأَمَّا الْمَأْكُولُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضَى لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ، وَالثَّابِتُ بِالْحَاجَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْعُمُومِ لِلْمُقْتَضَى، وَلَا إلَى جَعْلِهِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَاكَنَةِ فَهُنَاكَ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَكَانِ لَا تَعْمَلُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ الْمُسَاكَنَةَ فِي بَيْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِ الْمَنْصُوصِ فَالْمُسَاكَنَةُ تَكُونُ تَارَةً فِي بَلَدِهِ وَتَارَةً فِي مَحِلِّهِ وَتَارَةً فِي دَارٍ وَأَيًّا مَا كَانَ مِنْ الْمُسَاكَنَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَهُوَ إنَّمَا نَوَى صِفَةَ الْكَمَالِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ لَا نَقُولُ بِنِيَّتِهِ فِي تَخْصِيصِ الْمَكَانِ حَتَّى لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، فَإِذَا نَوَى السَّفَرَ، فَإِنَّمَا نَوَى نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ أَنْوَاعٌ شَرْعًا خُرُوجٌ لِلسَّفَرِ وَلِمَا دُونَ السَّفَرِ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي تَنَوُّعِ الْخُرُوجِ فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ كَذِكْرِ الْمَصْدَرِ، وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ الْفِرَاشُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَلَكِنْ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ الثَّابِتِ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَهُوَ مِلْكُ الْبَدَلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ الْمُصَرَّحِ بِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ أَوْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى تَخْصِيصِ مَا فِي لَفْظِهِ حَتَّى يَكُونَ عَامِلًا وَأَسْهَلُ طَرِيقٍ قَالُوا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَيْمَانِ: إنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَالَ لَهُ: قُلْ وَاَللَّهِ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ اللَّهُ فَدَغَمَ الْهَاءَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْطِنُ بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ يَمْضِي فِي كَلَامِهِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ يَمِينًا وَلَا يَأْثَمُ بِهِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا.
وَإِذَا أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْوَرَثَةِ أَمْوَالَهُمْ، وَيَكْتُبَ عَلَيْهِمْ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أَيُّهُمَا أَوْثَقُ لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا جَرَى عَلَى يَدِهِ، وَمَا أَعْطَاهُمْ أَوْ لَا يُسَمِّي قَالَ: الْأَوْثَقُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَلَا يُسَمِّيَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ وَارِثٍ فَيُضَمِّنَهُ مَا سَمَّى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِذَا كَتَبَ بَرَاءَتَهُ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ أَنْ يُضَمِّنُوهُ شَيْئًا فَهَذَا أَوْثَقُ لَلْوَصِيِّ وَلَكِنَّ الْأَوْثَقَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يُخْفِي الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ، فَإِذَا كَتَبُوا لَهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا سَمَّوْا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا فِيمَا يَظْهَرُ فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذُكِرَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لِيُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَأْمُرْهُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ: هَذَا مَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا، وَالنِّكَاحُ سُنَّةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ارْتِفَاعَ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُمَا لِيَمْنَعَهُمَا بِذَلِكَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَيُوصِلَهُمَا إلَى مُرَادِهِمَا بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَتَكُونَ إعَانَةٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَادِمٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ خُصُوصًا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَلَوْ امْتَنَعَ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ رُبَمَا يَحْمِلُهَا النَّدَمُ أَوْ فَرْطُ مَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ فَهُوَ يَسْعَى إلَى إتْمَامِ مُرَادِهِمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْدُبَانِ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِيهِ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِدُخُولِ الزَّوْجِ الثَّانِي بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لَهُ: تَزَوَّجْنِي فَحَلِّلْنِي أَوْ قَالَ لَهُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ: تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَحَلِّلْهَا لِي أَوْ قَالَ الثَّانِي لِلْمَرْأَةِ: أَتَزَوَّجُكِ فَأُحَلِّلُكِ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيُحَلِّلُهَا لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْهِيَّ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّوْقِيتِ لِلنِّكَاحِ وَالتَّوْقِيتُ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَهْدِمُ الشَّرْطَ وَلَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إلَّا أَنَّهُمَا لَوْ قَصَدَا الِاسْتِهْجَانَ عِوَضًا بِالْحِرْمَانِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ قَتَلَ مُورِثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ إنْ خَطَبْت فُلَانَةَ أَوْ تَزَوَّجْتهَا فَأَجَازَتْ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَرْفُ أَوْ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ أَحَدَهُمَا، وَتَتَحَلَّلُ الْيَمِينُ بِوُجُوبِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، فَإِنْ خَطَبَهَا أَوَّلًا انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمِينَ فَلَا تَطْلُقُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَبَّلْتهَا أَوْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَقَبَّلَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَهَا ثُمَّ بَلَغَهَا فَأَجَازَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُنَا شَرْطُ التَّزَوُّجِ وَإِتْمَامُ ذَلِكَ بِإِجَازَتِهَا وَهِيَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ فِي نِكَاحِهِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ قَبَّلْتهَا أَوْ تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ خَطَبْت فُلَانَةَ فَهِيَ كَذَا أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ خَطَبْتهَا فَهِيَ كَذَا أَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ غَيْرُ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَسْبِقُ الْعَقْدَ فَلَا يَكُونُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى الْمِلْكِ، وَهَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ عَقَدَ يَمِينَهُ بِلِسَانِ الْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ: أكر فُلَانَة رَابِحُوا همه مَا هُوَ دى لَهُ بَحْرَاهُمْ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ يُفْهِمُ غَيْرَ الْخِطْبَةِ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ أَيْضًا هَكَذَا الْعُرْفُ بِخُرَاسَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَأَمَّا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّزَوُّجَ فَيَنْعَقِدُ الْيَمِينُ إذَا كَانَ مُرَادُهُ هَذَا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا تَزَوَّجَهَا.
رَجُلٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ بِالْكُوفَةِ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ وَكِيلٌ لَهُ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ حَتَّى لَا يَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَمُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ لَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَيْئًا بِالْكُوفَةِ فَاشْتَرَى لَهُ وَكِيلُهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ ثُمَّ الْحِيلَةُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ: أَنْ تُوَكِّلَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا يُزَوِّجُهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْرُجَ الْوَكِيلُ وَالزَّوْجُ إلَى الْحِيرَةِ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَا مِنْ أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ ثُمَّ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بِالْكُوفَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُقِيمَ بِالْكُوفَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ كَانَ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّزَوُّجَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ تَزْوِيجًا بِالْكُوفَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَوْكِيلَهَا لِئَلَّا تُبْتَلَى بِالْخُرُوجِ مَعَ غَيْرِ الْمَحْرَمِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ قَدْ أَذِنْت لَك أَنْ تَتَزَوَّجَ كُلَّ أَمَةٍ تَشْتَرِيهَا فَاشْتَرَى الْعَبْدُ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَاهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَقَدْ أَقَامَهُ الْمَوْلَى مُقَامَ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ زَوَّجَ بِنَفْسِهِ أُمَّتَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ جَازَ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَخْرُجُ فِي حَوَائِجِهِ، وَهُوَ يَطَؤُهَا فَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ وَسِعَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَأَنْ يَبِيعَهُ مَعَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَدَعُهَا تَخْرُجُ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، وَلَا يَطْلُبُ وَلَدَهَا لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ إذَا حَبَسَهَا وَمَنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ لَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ إذَا حَصَّنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا أَوْ لَا يَعْزِلُ فَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا وَأَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَشَدْتُك بِاَللَّهِ: هَلْ كُنْتَ تَعُودُ إلَى جِمَاعِهَا قَبْلَ أَنْ تَبُولَ؟ قَالَ نَعَمْ فَمَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَنْفِيَهُ فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الَّتِي قَدْ حَصَّنَتْ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ بَعْضِ الْمَنِيِّ فِي إحْلِيلِهِ فَبِالْمُعَاوَدَةِ يَصِلُ إلَيْهَا إذَا عَادَ فِي جِمَاعِهَا قَبْلَ الْبَوْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَتَى أَهْلَهُ وَاغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ ثُمَّ سَالَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ ثَانِيًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَصَبَّ الْمَاءَ مِنْ فَوْقُ فَرُبَّمَا يَعُودُ إلَى فَرْجِهَا فَتَحْبَلُ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسَعُهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْعَزْلِ قَالَ «إذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ مِنْ مَاءٍ فَهُوَ خَالِقُهَا، وَإِنْ صَبَبْتُمْ ذَلِكَ عَلَى صَخْرَةٍ فَاعْزِلُوا أَوْ لَا تَعْزِلُوا».
وَإِذَا غَابَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَأَرَادَ الثَّانِي مِنْهُمَا أَنْ يُبْطِلَ الشَّرِكَةَ فَالْحِيلَةُ لَهُ: أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ فَارَقَهُ وَنَقَضَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا بَلَغَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَقَدْ انْقَضَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِنَقْضِ الشَّرِكَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَالْغَرَرُ عَنْ شَرِيكِهِ بِذَلِكَ وَعِبَارَةُ الرَّسُولِ فِي إعْلَامِهِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ، وَهَذَا فِي كُلِّ عَقْدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ نَحْوُ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَفَسْخِ الْمُضَارَبَةِ وَنَقْضِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ إذَا كَانَ الْأَسْفَلُ غَائِبًا فَأَرَادَ الْأَعْلَى أَنْ يَنْقُضَ وَلَاءَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ نَقَضَ مُوَالَاتَهُ فَيَكُونُ تَبْلِيغُ الرَّسُولِ إيَّاهُ كَتَبْلِيغِ الْمُرْسِلِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْأَسْفَلُ فَلَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ الْأَعْلَى، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْمُوَالَاةِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.