فصل: كِتَابُ الرَّضَاعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الرَّضَاعِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَة سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ هَلْ هُوَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا صَنَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ لِيَرُوجَ بِهِ، وَفِي أَلْفَاظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ سَبَبَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ قَالَ: وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا كَانَ يُصَحِّحُ الْجَوَابَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا فِيهِ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفَاتِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: وَهُوَ مِنْ تَصْنِيفَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ تَصْنِيفَاتِهِ وَلِكُلِّ دَاخِلٍ دَهْشَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ صَنَّفَ الْكُتُبَ مَرَّةً ثُمَّ أَعَادَهَا إلَّا قَلِيلًا مِنْهَا فَهَذَا الْكِتَابُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعَادَ اكْتَفَى فِي أَحْكَامِ الرَّضَاعِ بِمَا أَوْرَدَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاكْتَفَى الْحَاكِمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُفْرِدْ هَذَا الْكِتَابَ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَكِنِّي لَمَّا فَرَغْت مِنْ إمْلَاءِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاقَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَأَتْبَعْته بِإِمْلَاءِ كِتَابِ الْكَسْبِ رَأَيْت الصَّوَابَ اتِّبَاعَ ذَلِكَ بِإِمْلَاءِ شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ فَفِيهِ بَعْضُ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ ثُمَّ إنَّهُ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ أَسْبَابُ حُرْمَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثَةٌ النَّسَبُ وَالصِّهْرُ وَالرَّضَاعُ وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ سَبْعَةٌ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} وَالْمُصَاهَرَةُ كَالنَّسَبِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِكْرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَالَ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعٌ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَقَالَ تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ثُمَّ حَرَّمَ بِالرَّضَاعِ مِثْلَ هَذَا الْعَدَدِ الَّذِي حَرُمَ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَنْصُوصٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ النَّصُّ خَاصَّةً، وَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْقِيَاسَ لَمْ نَقُلْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّ الْإِنَاثَ خُلِقْنَ لِلذُّكُورِ، وَهَذَا مَحَلُّ النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُنَّ مَكَانُ حَرْثٍ لِلْوَلَدِ وَأَنَّ التَّنَاسُلَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَبِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَخْتَلُّ هَذَا الْمَعْنَى وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَهِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا عِنْدَ رَفْضِ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ وَالْعَاقِلُ يَحْرِصُ عَلَى حِمَايَةِ أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَدَفْعِ الْعَارِ وَالشَّنَارِ عَنْهُمَا، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ الِاسْتِعْرَاضُ لِلْوَطْءِ وَالْعَاقِلُ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي أُمِّهِ وَابْنَتِهِ كَمَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الشَّرِيعَةَ وَكَانُوا عُقَلَاءَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} إلَى قَوْله تَعَالَى {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}، فَإِذَا كَانَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَهُ وَكَذَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ امْرَأَةِ أَبِيهِ الَّتِي رَبَّتْهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ بِاعْتِبَارِ التَّرْبِيَةِ، وَفِي حَقِّ امْرَأَةِ ابْنِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهَا يَكُونُ وَلَدًا لَهُ، وَكَذَلِكَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الرَّضَاعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ سَبَبَيْ الْكَوْنِ، فَإِنَّ النَّشْرَ وَالتَّسْوِيَةَ يَحْصُلُ بِهِ، وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الرَّضَاعِ، كَمَا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ النَّسَبِ ثُمَّ بِسَبَبِ النَّسَبِ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا الْعَصَبِيَّةُ أَوْ شِبْهُ الْعَصَبِيَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «أَوْلَادُنَا أَكْبَادُنَا» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي إلَّا مَا كَانَ لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ»، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِكَوْنِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ثُمَّ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ تُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعَصَبِيَّةِ، وَفِي الْمُصَاهَرَةِ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْوَاسِطَةِ، وَفِي الرَّضَاعَةِ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْبُنُوَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» ثُمَّ بَيَّنَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ الْحُرْمَةِ فَقَالَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَرُمَ بِالْكُفْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى لَيْسَ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فَتِلْكَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذِهِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحُرْمَةِ سَبْعَةٌ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: إذَا كَانَ تَحْتَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَى الْأُخْتِ كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا».
وَالثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعَةُ نِسْوَةٍ فَالْخَامِسَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُفَارِقَ إحْدَى الْأَرْبَعِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَبِإِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
وَالثَّالِثَةُ: إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَالْأَمَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ يُفَارِقَ الْحُرَّةَ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهِيَ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ شَرْعًا عِنْدَنَا لَا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى إنَّهَا وَإِنْ رَضِيَتْ لَمْ تَحِلَّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا رَضِيَتْ الْحُرَّةُ جَازَ وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْقَوْلَ مَنْسُوبًا إلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَمُرَادُهُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالرَّابِعَةُ: إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ فَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ انْقِضَاءُ عِدَّةِ هَذِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ كَأَصْلِ النِّكَاحِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ كَمَا يُجْعَلُ الرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ.
وَالْخَامِسَةُ: مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَوْ مُعْتَدَّةُ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} أَيْ أَخَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}.
وَالسَّادِسَةُ: مُكَاتَبَةُ الرَّجُلِ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لَا يَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ إلَى أَنْ تَعْتِقَ بِالْأَدَاءِ فَيَنْكِحَهَا أَوْ تَعْجِزَ فَيَطَأَهَا بِالْمِلْكِ.
وَالسَّابِعَةُ: الْمُشْرِكَةُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ.
وَزَعَمَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ لَا يَجُوزُ لِمُشْرِكٍ وَلَا لِلْمُسْلِمِ فَكَانَ يَقُولُ بِبُطْلَانِ أَنْكِحَةِ الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ لَمَا سَمَّاهَا امْرَأَتَهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ حِينَ أَسْلَمَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ بَلْ أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِلْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمَ الصِّحَّةِ، وَإِنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ خَاصَّةً لِخُبْثِهَا وَكَرَامَةِ الْمُسْلِمِ فَفِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ لَهُ عَنْ فِرَاشِ الْخَبِيثَةِ وَبِالنِّكَاحِ ثَبَتَ الِازْدِوَاجُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبِي الْحَالِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُسْلِمِ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤْمِنَ.
(قَالَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}) فَأَحَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَتَرَكَ بَاقِي أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ مُخْتَلٌّ، فَإِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ حَتَّى يُقَالَ إنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ الْكِتَابُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَعَطْفُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا} فَقَدْ عَطَفَ أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى الْمَجُوسِ وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ تَتَنَاوَلُهُمْ الْجِهَةُ الثَّابِتَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} فَعَرَفْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ خُصُّوا مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَخُصُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَكَانَ يَقُولُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْقَى لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابِيَّةً وَأَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْعَفَائِفُ مِنْهُنَّ أَوْ الْحَرَائِرُ مِنْهُنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ تَفْسِيرِ التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ:

وَهُوَ مَا نَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَمَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَمَّا مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَتَحْرِيمُ الْأُمِّ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْأُمِّ وَأُمَّ الْأَبِ، وَإِنْ بَعُدَتْ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ كَانَتْ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْجَدَّاتِ بِالنَّصِّ أَيْضًا فَاسْمُ الْأُمِّ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ، وَإِنَّ الْجَوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَصَحُّ، فَإِنَّ اسْمَ الْأُمِّ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّةَ مَجَازًا حَتَّى يَنْفِيَ عَنْهَا هَذَا الِاسْمَ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: إنَّهَا جَدَّةٌ وَلَيْسَتْ بِأُمٍّ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ أَدَاتَيْ لَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ فَمِنْ أُصُولِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ حَتَّى إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِلنَّهَارِ حَقِيقَةً وَيَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ مَجَازًا وَقَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ عَلَى بَنِيهِ دَخَلَ فِي الْأَمَانِ بَنُو بَنِيهِ مَعَ بَنِيهِ لِصُلْبِهِ وَالِاسْمُ لِبَنِيهِ حَقِيقَةٌ وَلِبَنِي بَنِيهِ مَجَازٌ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ اسْتِعَارَةُ الشَّيْءِ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمُسْتَعَارًا كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ عَلَى اللَّابِسِ مِلْكًا لَهُ وَعَارِيَّةً فِي يَدِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ دُخُولٌ لَا لِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ فِيمَا لَا يَمْتَدُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ وَقْتِ الْقُدُومِ لَا لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ فِيمَا يَمْتَدُّ يُحْمَلُ ذِكْرُ الْيَوْمِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ لِيَكُونَ مِعْيَارًا لَهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ رِوَايَتَانِ كِلَاهُمَا فِي السِّيَرِ.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَدْخُلُ بَنُو الِابْنِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُمْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَأَدْنَى الشَّبَهِ يَكْفِي لِإِثْبَاتِهِ وَالسَّبَبُ الدَّاعِي لَهُ إلَى طَلَبِ هَذَا الْأَمَانِ شَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَشَفَقَتُهُ عَلَى بَنِيهِمْ كَشَفَقَتِهِ عَلَى بَنِيهِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُمْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَرَفْنَا أَنَّ حُرْمَةَ الْجَدَّاتِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ وَعَلَى هَذَا حُرْمَةُ الِابْنَةِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ ابْنَةِ الْبِنْتِ وَابْنَةِ الِابْنِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ قَالَ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ بِالنَّسَبِ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ وَالْأَخِ إلَى أَسْفَلِ الدَّرَجَةِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَمَّةَ بِالنَّسَبِ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْعَمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهَا أُمَّ الْأَبِ أَوْ غَيْرَ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ إنْ كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأُمٍّ، فَإِنَّ الْعَمَّةَ أُمُّهَا أُمُّ الْأَبِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَمَّةُ لِأَبٍ فَأُمُّهَا امْرَأَةُ أَبِ الْأَبِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَأَقَامَتْ السُّنَّةُ امْرَأَةَ الْجَدِّ مَقَامَ امْرَأَةِ الْأَبِ، وَعَمَّةُ الْعَمَّةِ حَرَامٌ إذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ أَبِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، كَمَا أَنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}، وَهُوَ كَانَ عَمًّا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُؤْذُونِي فِي بَقِيَّةِ آبَائِي» يَعْنِي الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ أَوْ الْأَبِ فَعَمَّةُ الْعَمَّةِ بِمَنْزِلَةِ عَمَّةِ الْأَبِ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ أُخْتَ الْأَبِ لِأُمٍّ فَعَمَّةُ عَمَّتِهَا لَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَالَةَ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْخَالَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْخَالَةِ هِيَ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ فَأُمُّ الْخَالَةِ امْرَأَةُ أَبِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةُ بِالسُّنَّةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْأَبِ فَامْرَأَةُ الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ كَامْرَأَةِ الْأَبِ فِي الْحُرْمَةِ وَخَالَةُ الْخَالَةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، كَمَا بَيَّنَّا فِي عَمَّةِ الْعَمَّةِ فَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ الْخَالَةُ فَخَالَتُهَا تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَنْهَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي عَمَّةِ الْعَمَّةِ فَأَمَّا ابْنَةُ الْعَمِّ وَابْنَةُ الْعَمَّةِ وَابْنَةُ الْخَالَةِ وَابْنَةُ الْخَالِ فَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحَلَّلَاتِ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} وَيُتْلَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ قَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فَمَا تَنَاوَلَهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ تَنَاوَلَهُ هَذَا النَّصُّ وقَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.
وَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الِابْنِ وَعَلَى ابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ بِاعْتِبَارِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَيَسْتَوِي إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ فَأَمَّا الرَّبَائِبُ فَلَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَالْحِجْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَذَكَرَ الْحِجْرَ فِي قَوْلِهِ {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} بِطَرِيقِ الْعَادَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْحِجْرُ مُؤَثِّرًا فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ امْرَأَةٌ لَهَا وَلَدٌ يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُ الِابْنَةَ إذَا كَبِرَتْ فَيَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي نِكَاحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي حِجْرِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْحِجْرِ وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَالْمُبَاشَرَةُ حَرَامٌ عَلَى الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَذَكَرَ الْمَسَاجِدَ لِلْعَادَةِ إذْ الِاعْتِكَافُ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَحَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا تَكُونُ حَرَامًا لِلْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} وَلَكِنْ نَقُولُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَصْلَابِكُمْ يَعْنِي حُرْمَةَ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ التَّبَنِّي مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ مَشْرُوعًا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}، وَتَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ امْرَأَةَ زَيْدٍ بَعْدَ مَا فَارَقَهَا، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} فَالْمُرَادُ بِالتَّقْيِيدِ نَفْيُ حُرْمَةِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي ثُمَّ تَحْرِيمُ حَلِيلَةِ ابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ثَبَتَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}، فَإِنَّ ابْنَ ابْنِهِ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ؟ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ صُلْبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وَالْمَخْلُوقُ مِنْ التُّرَابِ هُوَ الْأَصْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا سِوَى هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ إلَى تَفْسِيرِ لَبَنِ الْفَحْلِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَبَعْضُ هَذِهِ الْفُصُولِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَمْ تُسْتَقْصَ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.