فصل: بَابُ الْمُحْصَرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْمُحْصَرِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَصْلُ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أَيْ مُنِعْتُمْ مِنْ إتْمَامِهِمَا {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} شَاةٍ تَبْعَثُونَهَا إلَى الْحَرَمِ لِتُذْبَحَ ثُمَّ تَحْلِقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَعَلَى الْمُحْصَرِ إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ أَنْ يَبْعَثَ بِثَمَنِ هَدْيٍ يُشْتَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَيُذْبَحَ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَيُحِلُّ عَنْ إحْرَامِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَدْيَ الْإِحْصَارِ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، وَلَكِنْ يُذْبَحُ الْهَدْيُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُعْتَمِرًا فَأُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَذَبَحَ هَدَايَاهُ وَحَلَقَ بِهَا، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعُودَ مِنْ قَابِلٍ فَيُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَيَقْضِي عُمْرَتَهُ» فَإِنَّمَا «نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ»، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ لَا يَأْمَنُ أَنْ لَا يَفِيَ الْمَبْعُوثُ عَلَى يَدِهِ أَوْ يَهْلِكَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِذَا ذَبَحَهُ فِي مَوْضِعِهِ يُتَيَقَّنُ بِوُصُولِ الْهَدْيِ إلَى مَحِلِّهِ، وَخُرُوجِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ إرَاقَةِ دَمِهِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بَعْدَمَا ذَكَرَ الْهَدَايَا وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِإِرَاقَةِ دَمٍ هُوَ قُرْبَةٌ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً، وَنَقِيسُ هَذَا الدَّمَ بِدَمِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَحَلَّلَ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَكَذَا هَذَا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي نَحْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدَايَا حِينَ أُحْصِرَ فَرُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ لِيَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ حَتَّى قَالَ نَاجِيَةُ: مَاذَا أَصْنَعُ فِيمَا يَعْطَبُ مِنْهَا؟ قَالَ انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا، وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا»، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ إنْ صَحَّتْ فَنَقُولُ: الْحُدَيْبِيَةُ مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّ نِصْفَهَا مِنْ الْحِلِّ وَنِصْفَهَا مِنْ الْحَرَمِ الْحَرَمِ، وَمَضَارِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي الْحِلِّ، وَمُصَلَّاهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا سِيقَتْ الْهَدَايَا إلَى جَانِبِ الْحَرَمِ مِنْهَا، وَنُحِرَتْ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَكُونُ لِلْخَصْمِ فِيهِ حُجَّةٌ، وَقِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَجِدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَبْعَثُ الْهَدَايَا عَلَى يَدِهِ إلَى الْحَرَمِ.
(قَالَ) ثُمَّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ إلَى الْحَرَمِ فَذُبِحَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَلْقٌ، وَلَا تَقْصِيرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَلْقُ نُسُكٌ فَعَلَى الْمُحْصَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَمَّا قَضَاءُ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تَصِرْ مُؤَدَّاةً، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ نَظِيرُ الشَّارِعِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إذَا أَفْسَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ فَلِأَنَّهُ صَارَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ حِينَ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ أَيْضًا.
(قَالَ) وَإِذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ فَإِنْ شَاءَ أَقَامَ مَكَانَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالِانْصِرَافِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُحْصَرًا بِعَدُوٍّ فَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا بِمَرَضٍ أَصَابَهُ فَعِنْدَنَا هُوَ وَالْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ سَوَاءٌ يَتَحَلَّلُ بِبَعْثِ الْهَدْيِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْآيَةُ فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْصَرًا بِالْعَدُوِّ فَفِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ النَّصُّ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ لُزُومُ الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَفْعَالَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّحَلُّلُ لَهُ حَقًّا بِالشَّرْطِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ضُبَاعَةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ شَاكِيَةً فَقَالَ لَهَا أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنْ تَحِلِّي حَيْثُ حُبِسْت» فَلَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَمَّا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ كَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ أَخْطَأَ الْعَدَدَ أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ هُنَاكَ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ شَرُّ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ إنَّ الْإِحْصَارَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَرَضِ، فَفِي الْعَدُوِّ يُقَالُ حُصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَفِي الْمَرَضِ يُقَالُ أُحْصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَالُ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ جَمِيعًا أُحْصِرَ، وَحُصِرَ فِي الْعَدُوِّ خَاصَّةً فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْإِحْصَارِ تَتَنَاوَلُ الْمَرِيضَ، وَقَوْلُهُ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} لَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرَضِ، وَمَعْنَاهُ إذَا بَرِئْتُمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ، وَالدَّمَامِلُ أَمَانٌ مِنْ الطَّاعُونِ» فَعَرَفْنَا أَنَّ لَفْظَةَ الْأَمْنِ تُطْلَقُ فِي الْمَرَضِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَا صَدَقَ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مِنْ الْبَصْرَةِ عُمَّارًا أَيْ مُعْتَمِرِينَ فَلُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَعْرَضْنَا الطَّرِيقَ لِنَسْأَلَ مَنْ نَجِدُهُ فَإِذَا نَحْنُ بِرَكْبٍ فِيهِمْ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِيَبْعَثْ صَاحِبُكُمْ بِدَمٍ وَيُوَاعَدْ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ فَإِذَا ذَبَحَ عَنْهُ حَلَّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ حَقُّ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ مَوْجُودٌ هُنَا، وَهُوَ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَعْمَالَ الْحَجِّ، وَبِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ تَزْدَادُ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ، وَيَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ ضَرْبُ مَشَقَّةٍ فَأَثْبَتَ لَهُ الشَّرْعُ حَقَّ التَّحَلُّلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَقَدْ يَزْدَادُ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَالْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي الْمُكْثِ مُحْرِمًا مَعَ الْمَرَضِ أَكْثَرُ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّحَلُّلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هَذَا لَا مَا قَالَ إنَّ الْعَدُوَّ إذَا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ حَبَسُوهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَزُولُ مَا بِهِ بِالتَّحَلُّلِ بِأَنْ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ مَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّحَلُّلِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى مَا قُلْنَا فَأَمَّا الَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ عِنْدَنَا فَلَيْسَ مُحْصَرًا لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَ مَنْ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ عَلَى يَدِهِ فَذَلِكَ الرَّجُلُ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّحَلُّلِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ، وَعَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَاَلَّذِي أَخْطَأَ الْعَدَدَ فَائِتُ الْحَجِّ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَأَمَّا إذَا سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ فَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْبَيْتِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةُ التَّطَوُّعِ ابْتِدَاءً، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ فِيهَا، وَالْفَقِيرُ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ فِيهَا (قَالَ) وَإِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَأُحْصِرَ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ لِمَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَالْمُعْتَمِرُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ «رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ»، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَلْدُوغِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ، وَالْمُعْتَمِرُ فِي هَذَا كَالْحَاجِّ فَيَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ هُنَا إلَّا أَنَّهُ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ هُنَا يُوَاعِدُ صَاحِبَهُ يَوْمًا أَيُّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّ عَمَل الْعُمْرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ فَكَذَا الْهَدْيُ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي بِهِ يَتَحَلَّلُ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَهَا لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا قَدْ صَحَّ (قَالَ) وَالْقَارِنُ يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، وَتَحَلُّلُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْصُلُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَلِهَذَا يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ، وَإِذَا تَحَلَّلَ بِهِمَا فَعَلَيْهِ عُمْرَتَانِ، وَحَجَّةٌ يَقْضِيهُمَا بِقِرَانٍ أَوْ إفْرَادٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إحْدَى الْعُمْرَتَيْنِ تَلْزَمُهُ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَالْأُخْرَى لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ عُمْرَةً وَحَجَّةً إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ.
(قَالَ) وَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَلَّلُ بِهِ لِأَنَّ أَوَانَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَلَا أُحِلُّ مِنْهُمَا»، وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا.
(قَالَ) وَإِذَا بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي لِلْعُمْرَةِ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي لِلْحَجِّ لِأَنَّ هَذَا التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَاعَدَ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدِهِ بِأَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْعَشْرِ جَازَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِيَوْمٍ فَالْإِهْدَاءُ دَمٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ عَلَى مَكَان بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَالتَّقْيِيدُ بِالزَّمَانِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ ثُمَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِلْإِحْلَالِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَدِمَاءُ الْكَفَّارَاتِ تَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ وَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ نُسُكٌ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْبَدَلِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ فَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِزَوَالِ الْإِحْصَارِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَهُ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ غَرَضٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنَفِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا هَذَا الْهَدْيُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ قَدْ ارْتَفَعَ بِزَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ضَاعَ مَالُهُ فَإِنَّ الْهَدْيَ مِلْكُهُ جَعَلَهُ لِمَقْصُودٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُهُ، وَلَا يَتَحَلَّلُ بِهِ يُضَيِّعُ مَالَهُ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ فَكَمَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ، وَهُوَ أَدَاءُ مَا شَرَعَ فِيهِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ، وَلَا زَوْجٌ يَخْرُجُ مَعَهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِسَفَرِ الْحَجِّ إلَّا مَعَ مُحْرِمٍ أَوْ زَوْجٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا وَجَدَتْ رُفْقَةَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُحْرِمًا، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاشْتِرَاطُ الْمُحْرِمِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَعْدِلُ عِنْدَكُمْ النَّسْخَ ثُمَّ هَذَا سَفَرٌ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرَائِطَ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْمَرْءِ عَادَةً، وَلَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْمَحْرَمِ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَحْرَمِ الْخُرُوجُ مَعَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَجْلِ هَذَا الْخُرُوجِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَرَّزَ عَنْ الْفِتْنَةِ، وَفِي اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ فِتْنَةٌ، وَهِيَ تَسْتَوْحِشُ بِالْوَحْدَةِ فَتَخْرُجُ مَعَ رُفْقَةِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ لِتَسْتَأْنِسَ بِهِنَّ، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَإِنَّ امْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَمَاذَا أَصْنَعُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُخْرُجْ مَعَهَا، لَا تُفَارِقْهَا» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ السَّفَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَفَرَ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ السَّائِلُ مَا قَالَ، وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّوْجَ بِأَنْ يَتْرُكَ الْغَزْوَ، وَيَخْرُجَ مَعَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْشِئُ سَفَرًا عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ كَسَائِرِ الْأَسْفَارِ بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ فَإِنَّهَا لَا تُنْشِئُ سَفَرًا، وَلَكِنَّهَا تَقْصِدُ النَّجَاةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ هُنَاكَ لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَهُنَا لَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِلْحَجِّ، وَتَأْثِيرُ فَقْدِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ كَتَأْثِيرِ الْعِدَّةِ فَإِذَا مُنِعَتْ مِنْ الْخُرُوجِ لِسَفَرِ الْحَجِّ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ فَقْدِ الْمَحْرَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ عُرْضَةٌ لِلْفِتْنَةِ، وَبِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ تَزْدَادُ الْفِتْنَةُ، وَلَا تُرْفَعُ إنَّمَا تُرْفَعُ بِحَافِظٍ يَحْفَظُهَا، وَلَا يَطْمَعُ فِيهَا، وَذَلِكَ الْمَحْرَمُ، وَتَفْسِيرُهُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِيهَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ أَبَدًا فَكَذَلِكَ يُسَافِرُ بِهَا.
(قَالَ) وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِ مَحَارِمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهَا لَهُ فَلَا يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْهَا فَلِهَذَا لَا تُسَافِرُ مَعَهُ، وَلَا يَخْلُو بِهَا.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَحْرَمَ، وَقَدْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ شَرْعًا فَصَارَتْ كَالْمُحْصَرِ تَبْعَثُ بِالْهَدْيِ فَتَتَحَلَّلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْمَحْرَمِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْمَمْلُوكَةِ لَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَهِيَ بِهَذَا الْخُرُوجِ تَحُولُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ حَقِّهِ أَوْ تَلْزَمُهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِزِيَارَةِ الْأَقَارِبِ، وَكَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَكِنَّا نَقُولُ فَرْضُ الْحَجِّ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، وَبِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ الْمَنْعِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ مَمْلُوكَهُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا فَإِنَّ هُنَاكَ الْفَرْضَ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ شَرَائِطِهِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ لَا تَحْتَاجُ إلَى سَفَرٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَحْرَمِ لِلسَّفَرِ لَا لِمَا دُونَهُ، وَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ فَالْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهَا فَإِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَيُحَلِّلَهَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَتَأَخَّرُ تَحْلِيلُهُ إيَّاهَا إلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَلَكِنْ يُحَلِّلُهَا مِنْ سَاعَتِهِ، وَعَلَيْهَا هَدْيٌ لِتَعَجُّلِ الْإِحْلَالِ، وَعُمْرَةٌ، وَحَجَّةٌ لِصِحَّةِ شُرُوعِهَا فِي الْحَجِّ بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِهَا لَوْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ لِفَقْدِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، وَهُنَا تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَكَمَا لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُبْطِلَ حَقَّ الزَّوْجِ، لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ حَقَّ الزَّوْجِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ سَاعَتِهِ، وَتَحْلِيلُهُ لَهَا أَنْ يَنْهَاهَا، وَيَصْنَعَ بِهَا أَدْنَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ ظُفْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَكُونُ التَّحْلِيلُ بِالنَّهْيِ، وَلَا بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ إلَّا بِارْتِكَابِ مَحْظُورِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فِيهِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا إلَّا بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ نَهَاهَا عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَا تَصِيرُ خَارِجَةً عَنْ الصَّوْمِ بِمُجَرَّدِ نَهْيِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ يُهِلُّ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ لِقِيَامِ حَقِّهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَمَنَافِعِهِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي هَذَا كَالزَّوْجَةِ فِي حَجَّةِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ حَلَّ بِأَوَّلِهِمَا لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَالْإِحْلَالُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَدْيِ التَّطَوُّعِ (قَالَ) وَإِنْ حَلَّ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ قَبْلَ أَوَانِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وَيَعُودُ حَرَامًا كَمَا كَانَ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ لِأَنَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ مُتَعَيَّنٌ لِلتَّحَلُّلِ فَلَا يَحِلُّ بِغَيْرِهِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَيَّنًا لِلْإِحْلَالِ بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِهِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمُحْصَرُ مُعْسِرًا لَمْ يَحِلَّ أَبَدًا إلَّا بِدَمٍ لِأَنَّ الدَّمَ مُتَعَيَّنٌ لِإِحْلَالِهِ بِالنَّصِّ كَمَا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُتَعَيَّنٌ لِإِحْلَالِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكَمَا لَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِهِ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَكَانَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ نَظَرَ إلَى قِيمَةِ الْهَدْيِ فَجَعَلَ ذَلِكَ طَعَامًا يُطْعِمُ بِهِ الْمَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا فَيَتَحَلَّلُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَدْيِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا هَكَذَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ صَامَ مَكَانَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عَلَى قِيَاسِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ لَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ (قَالَ) وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْرِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَكَذَلِكَ إنْ ذُبِحَ عَنْ الْمُحْصَرِ هَدْيُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَبْقَى حَرَامًا عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَبْعَثَ بِهَدْيٍ فَيُذْبَحَ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا (قَالَ) وَيُجْزِئُهُ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ، وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «أَشْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَدَنَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا مَا يَجْزِي فِي الضَّحَايَا، وَاَلَّذِي يَجْزِي فِي الضَّحَايَا مَا سَمَّيْنَا فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ سُرِقَ الْهَدْيُ بَعْدَمَا ذُبِحَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَلَغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الَّذِي ذَبَحَهُ بَعْدَمَا ذُبِحَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمَبْعُوثِ عَلَى يَدِهِ لَا تَأْكُلْ أَنْتَ، وَلَا رُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا»، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ اللَّحْمِ عَنْ الْمُحْصَرِ فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ ضَامِنًا بَدَلَهُ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِبَدَلِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ أَيْضًا (قَالَ) وَإِنْ قَدِمَ مَكَّةَ قَارِنًا فَطَافَ وَسَعَى لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَأُحْصِرَ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ وَيَحِلُّ بِهِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَ حَجَّتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ حِينَ طَافَ لَهَا وَسَعَى، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ فَلِهَذَا لَا يَبْعَثُ بِهَدْيٍ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ طَافَ وَسَعَى لِحَجَّتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ لِلتَّحَلُّلِ كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ قُلْنَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطَّوَافِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِمِثْلِهِ فَلِهَذَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ لِلْحَجِّ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّوَافَ، وَالسَّعْيَ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَقْصِيرِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَهَذَا الدَّمُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْحَلْقُ لِلْعُمْرَةِ يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا (قَالَ) فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَحُصِرْتُمْ} أَيْ مُنِعْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» فَإِنَّمَا مُنِعَ هَذَا بَعْدَ الْإِتْمَامِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ، وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَطَوَافَ الصَّدَرِ، وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلِرَمْيِ الْجِمَارِ دَمٌ، وَلِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ دَمٌ، وَلِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ وَالطَّوَافِ شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إنَّكُمْ قُلْتُمْ إذَا ازْدَادَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ ازْدَادَتْ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ هُنَا فَلِمَاذَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَقِّهِ؟ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ هُنَا (قَالَ) وَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ فَأُحْصِرَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا فَقُلْت أَلَيْسَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ»، وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ فَقَالَ إنَّ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ فَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّمَا أَنَا أَقُولُ إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ جَمِيعًا فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الطَّوَافِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ فَيَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَإِنْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الْوُقُوفِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لِيُتِمَّ حَجَّهُ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ وَالتَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ فَيَكُونُ مُحْصَرًا كَمَا لَوْ أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ (قَالَ) رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا فَسَارَ إلَى مَكَّةَ لِيَقْضِيَهُمَا ثُمَّ أُحْصِرَ قَالَ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِوَاحِدٍ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نَقُولَ: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا أَوْ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَدَاءُ عُمْرَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْعَقْدُ إذَا خَلَا عَنْ مَقْصُودِهِ لَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا أَصْلًا فَإِذَا خَلَا أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ هُنَا عَمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِحْرَامُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَقَاسَا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَفِي صَلَاتَيْنِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا فِي أَحَدِهِمَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاضِحٌ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْإِحْرَامَ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ مِنْ الشَّرَائِطِ فَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ جُعِلَ مِنْ الْأَرْكَانِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْإِحْرَامَ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرَائِطِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْأَرْكَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْمَثْنَى مِنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالْوُقُوفِ لِحَجَّتَيْنِ وَالطَّوَافِ لِعُمْرَتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدُهُمَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنَافَاةٌ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَحَدُهُمَا كَنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ مَعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ ثُمَّ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ، وَالتَّنَافِي بَيْنَهُمَا فِي أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَإِذَا كَانَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَالشُّرُوعُ هُنَاكَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَيَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ وَالْوَقْتُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ الْإِحْرَامُ سَبَبٌ لِالْتِزَامِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْأَدَاءُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ.
وَالنَّذْرُ بِالْعُمْرَتَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ أَعُطِيَ لَهُ حُكْمُ الْأَرْكَانِ انْتِهَاءً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُنَافَاةُ فِيهِ كَمَنْ تَطَهَّرَ لِأَدَاءِ الصَّلَاتَيْنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَقَدَ إحْرَامَهُ بِهِمَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامِ جَاءَ أَوَانُ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُنَافَاةُ مُلْتَحِقَةٌ فَيَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَيَمْضِي فِي الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَهَا، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِرَفْضِ أَحَدِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ لِلْآخَرِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يَسِيرُ إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي الطَّوَافِ لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَنَافَ الْإِحْرَامَانِ ابْتِدَاءً لَا يَتَنَافَيَانِ بَقَاءً بَلْ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ،
وَإِنَّمَا الْمُنَافَاةُ فِي الْأَعْمَالِ فَمَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِلْآخَرِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أُحْصِرَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَى مَكَّةَ.
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ لِلتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّمَا أُحْصِرَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَبْعَثُ إلَّا بِهَدْيٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ سَارَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ أُحْصِرَ فَإِنَّمَا يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا حِينَ سَارَ فِي عَمَلِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّفْضِ، وَدَمٌ آخَرُ لِلتَّحَلُّلِ فَأَمَّا حُكْمُ الْقَضَاءِ فَإِنَّ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّتَيْنِ، وَعُمْرَتَيْنِ (قَالَ) رَجُلٌ أَهَلَّ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ مَعَ الْإِبْهَامِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَ أَهْلَلْتُمَا قَالَا أَهْلَلْنَا بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَدْ صَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْرَامَهُمَا مَعَ الْإِبْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِلنُّسُكِ ابْتِدَاءً، وَالْإِبْهَامُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَبَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ مُبْهَمًا فَلِلْخُرُوجِ مِنْهُ طَرِيقَانِ شَرْعًا أَمَّا الْحَجُّ أَوْ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ خَرَجَ عَنْهُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ، وَكَانَ تَعْيِينُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ أُحْصِرَ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ فَالتَّحَلُّلُ عَنْ إحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنْ كَانَ لِلْحَجِّ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمُتَيَقَّنُ بِهِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَقَطْ، وَالْمُتَيَقَّنُ الْعُمْرَةُ، وَلَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ هَذَا الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْإِحْصَارِ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ.
(قَالَ) وَإِنْ لَمْ يُحْصَرْ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ فَإِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا فَهِيَ عُمْرَةٌ لِأَنَّ طَوَافَ الْعُمْرَةِ وَاجِبٌ، وَالتَّحِيَّةُ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلِهَذَا جَعَلْنَا طَوَافَهُ لِلْعُمْرَةِ، وَيَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِهِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ إذَا جَامَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْجِمَاعِ وَالْمُضِيُّ فِي أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ بِهِ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا، وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْعُمْرَةُ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لِلْحَجِّ، وَقَدْ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَيَفُوتُهُ الْحَجُّ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ أَصْلًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ لِلْعُمْرَةِ، لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ.
(قَالَ) وَلَوْ أَهَلَّ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَسَمَّى ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ.
(قَالَ) وَإِذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ، وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَأَخْذٌ بِالثِّقَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حِينَ أَحْرَمَ نَوَى الْحَجَّ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْحَجَّ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ نِيَّةِ الْحَجِّ فَإِذَا تَيَقَّنَ هُنَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْحَجَّ لَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مَعْنًى، وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ حِينَ أَحْرَمَ نَوَى الْحَجَّ فَكَانَ هَذَا أَوَانَ الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا يَحْتَاطُ وَيَقْضِي عُمْرَةً وَحَجَّةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ فِي الِابْتِدَاءِ وَبَيْنَ مَا إذَا عَيَّنَ ثُمَّ نَسِيَ ظَاهِرٌ فِي الْمَسَائِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهُمَا، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهُمَا إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُحْصَرْ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَكِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُمْرَةً وَحَجَّةً، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْقَارِنَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَوَى إحْرَامَ الْحَجِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَوَى إحْرَامَ الْعُمْرَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَا يَعْرِفُهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ هُنَا.
(قَالَ) وَلَوْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ لِلْجِمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ إتْمَامُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ قَبْلَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْإِفْسَادِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ، وَالْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ صِحَّةِ النُّسُكَيْنِ.
(قَالَ) وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَمَا نَوَى أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَحَجَّةً، وَلَبَّى بِهِمَا فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بَعْدَمَا لَبَّى بِهِمَا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ بِطَرِيقَةِ إضَافَةِ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِلْجِمَاعِ، وَحُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ مِثْلُ الْأَوَّلِ كَمَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَلَوْ أَهَلَّ بِشَيْئَيْنِ ثُمَّ نَسِيَهُمَا فَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَإِذَا تَحَلَّلَ بِهَدْيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ نَوَى عِنْدَ إحْرَامِهِ حَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتَيْنِ وَحَجَّتَيْنِ احْتِيَاطًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ فِعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ فَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ بِحَجَّةٍ عُمْرَةً كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَهُوَ الْقِرَانُ، وَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ بِحَجَّتَيْنِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَدَاءً فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ كَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِذَا تَحَلَّلَ بِهَدْيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَارِنِ، وَإِنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ يَجْعَلُ إحْرَامَهُ عُمْرَةً وَحَجَّةً كَمَا يَعْمَلُ الْقَارِنُ اسْتِحْسَانًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ أَحَدِهِمَا، وَقَضَاءٌ، وَحَجَّةٌ، وَعُمْرَةٌ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فَقُلْنَا إنَّهُ يَحْتَاطُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَيَقْضِي عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِاحْتِمَالِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِاحْتِمَالِ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ فَقَدْ أَتَى بِأَعْمَالِ إحْدَاهُمَا، وَقَضَى الْأُخْرَى مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ فَيَصِيرُ خَارِجًا مِمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ،
وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَهُ قَارِنًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَعَلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ فِيهِمَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَارِنِ إذَا جَامَعَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.