بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.

.كتاب الطهارة:

وفيه أحد عشر بابا:

.الباب الأول: في أحكام المياه وأقسامها:

قال الله تبارك وتعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}. وقال تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. فالمطهر للحدث والخبث هو الماء وحده من بين سائر المائعات.

.ثم المياه ثلاثة أقسام:

.الأول: المطلق:

الباقي على أوصاف خلقته من غير مخالط له، فهو طهور، ومنه ماء البحر وماء البئر، و كل ماء نبع من الأرض أو نزل من السماء على أي صفة كان من أصل الخلقة. ويلحق بهذا القسم المتغير بطول المكث، وبالتراب أو الزرنيخ لجريه عليهما، وبالطحلب، وكل ما كان من قراره أو متولدا عنه، أو لا ينفك عنه غالبا.

.القسم الثاني: ما خالطه ما لم يغير أحدا أوصافه:

فهو باق على حكمه في الطهورية. وأطلق ابن القاسم القول بترك استعمال القليل المخالط بالنجاسة وإن كان لم يتغير، والعدول إلى التيمم. وقال أيضا: إن توضأ به وصلى، أعاد ما دام في الوقت. فحمل قوله بالترك على الكراهية لتقييده الإعادة بالوقت، وحمل على التنجيس لإطلاقه القول بترك استعماله والعدول إلى التيمم. ورواية المدنيين أنه طهور، لكن كرهوه للخلاف فيه.
وقيل: هو مشكوك فيه، فيجمع بنيه وبين التيمم. ثم اختلف في البداية بالوضوء به قبل التيمم، أو بالتيمم قبل الوضوء على قولين:
أحدهما: أنه يتوضأ به ثم يتمم ويصلي صلاة واحدة، إذ الماء طهور والتيمم مراعاة للخلاف.
والثاني: أنه يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ به ويصلي، لئلا يلقي الأعضاء بذلك الماء، وهذا قول من قوي عنده تنجيسه، لكن أمرا بالوضوء به مراعاة للخلاف.
فرع:
فإن أحدث بعد وليس إلا ذلك الماء، فإنه يتوضأ به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة على القولين جميعا، لأن ملاقاة الأعضاء قد حصلت، قال ذلك أبو الحسن اللخمي وغيره.
ووقع للشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي في القليل إذا خالطه طاهر أنه يسلبه التطهير وإن لم يغيره.
فرع:
الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر مطهر إذا كان الاستعمال لم يغيره، لكنه مكروه مع وجود غيره مراعاة للخلاف. وقال أصبغ: طاهر غير مطهر، ونزله القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي على قول الشيخ أبي الحسن. وقيل: إنه طاهر مشكوك في تطهيره فيتوضأ به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة.

.القسم الثالث: ما خرج عن وصف خلقته لمخالط غير أحد أوصافه، لونه أو طعمه أو ريحه، مما ينفك عنه غالبا وليس بقرار له، ولا متولد عنه، فيسلبه ما خالفه فيه من أصل الطاهرة أو صف الطهورية.

ولم يعتبر عبد الملك بن الماجشون تغير الريح. قال الشيخ أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التتوخي: ورأى بعض أشياخي أن هذا القول منزل على التغير.
بالمجاورة لا بالحلول.
فرعان:
الأول: المتغير بالتراب المطروح قصدا، فيه قولان:
المشهور أنه طهور، إلحاقا للطارئ بالأصلي. ورأى في الشاذ عدم الانفكاك وتعذر الاحتراز في الأصلي قاطعا للإلحاق.
وفي تنزيل الملح منزلة التراب أو الأطعمة قولان للشيخين، أبي محمد عبد الله بن أبي زيد، وأبي الحسن. وفرق ثالث، فجعل المعدني كالتراب، والمصنوع كالطعام.
الفرع الثاني:
إذا كان عدم الانفكاك عن مخالط ما تختص ببعض المياه، فهل يؤثر فيما يختص به لأنه لا يعم أو لا يؤثر إذ لا ينفك الماء عنه؟ في ذلك قولان.

.الباب الثاني: في أحكام النجاسات:

وفيه فصول:

.الفصل الأول: في تمييز الأعيان الطاهرة عن النجسة:

والجمادات كلها على الطهارة إلا الخمر، وفي معناها كل نبيذ مسكر. ونعني بالجماد ما ليس بذي روح، ولا منفصل من ذي روح.
والحيوانات كلها على الطهارة، وأطلق ابن الماجشون وسحنون على الكلب لفظ التنجيس. قال الشيخ أبو الطاهر: ويحتمل هذا القول البقاء على ظاهره، فيكون نجس العين كما قاله المخالف، أو يكون المراد به أنه مما يستعمل النجاسات، فينجس سؤره لا عينه.
والميتات كلها على النجاسة إلا دواب البحر، وما ليس له نفس له سائلة من دواب البر، وكذا الآدمي على أحد القولين.
وكذلك دود الطعام طاهر ولا يحرم أكله مع الطعام، وكل ما ليس له نفس سائلة لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه من ماء أو مائع.
أما أجزاء الحيوان، فاللحم حكمه ما تقدم، والعظم والقرن والظلف والسن كاللحم.
وقال ابن وهب: لا ينجس شيء منه بالموت.
وحكى الشيخ أبو الطاهر قولين في إلحاق أطراف القرون والأظلاف التي لا تحلها الحياة بأصولها أو بالشعور.
والشعور طاهرة من كل حيوان، وقيل: باستثناء شعر الخنزير. والأصواف والأوبار في معنى الشعور.
فرعان:
الأول: حكم ناب الفيل:
وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
إلحاقه بالعظام، والحكم بطهارته، وهما على ما تقدم في أطراف القرون والأظلاف.
والقول الثالث: التفرقة بين أن يصلق فيكون طاهرا، أو لا يصلق فيكون نجسا.
الفرع الثاني:
حكم الريش:
وهو الطهارة في شبيه الشعر منه.
وأما ما فيه من شبيه العظم، فما حله الدم والرطوبة من ذلك، كالعظم، وما بعد فهو على القولين المتقدمين.
وأما الجلد فهو كاللحم أيضا، لكن أجازوا تذكية السباع لأخذ جلودها. قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا على القول بأنها مكروهة اللحم.
قال: وأيضا فإن الدباغ يعمل في جلد الميتة فينقله عن النجاسة، فقد صار الجلد أخف من اللحم.
هذا حكم الأجزاء بعد الموت. فأما ما أبين منها في حال الحياة، فهو ميت إلا الشعور وما في معناها.
و أما الأجزاء المنفصلة عن باطن الحيوان، فهي قسمان:
الأول: كل مترشح ليس له مقر يستحيل فيه، كالدمع والعرق واللعاب وما في معنى ذلك، فهو طاهر من كل حيوان.
فرع:
ما ذكرناه من طهارة اللعاب يقتضي طهارة أسآر جميع الحيوان، وقد انفرد سؤر الكلب بحكم أثبته له الحديث الصحيح، وهو غسل الإناء من ولوغه سبعا.
والنظر في سبب هذا الغسل وحكمه وما يتعلق به سوى ذلك ينحصر في ثمانية أحكام:
الأول: سببه هل هو الاستقذار والنهي عن مخالطته، أو التعبد؟ وظاهر إطلاق عبد الملك وسحنون يقتضي أنه النجاسة.
وإذا فرعنا على أن الغسل لغير النجاسة، فهل هو على الندب أو الوجوب؟ وهو الحكم الثاني، و فيه روايتان.
وكذلك في إلحاق الخنزير به، وهو الحكم الثالث، ويتخرجان على تحقيق العلة.
ويتخرج عليه أيضا، الخلاف في اختصاص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، أو تعميمه في جنس الكلاب، وهو الرابع.
الخامس: أنه في الماء خاصة، في رواية ابن القاسم. وروى ابن وهب أن إناء الطعام بمنزلته في ذلك.
السادس: إراقة الماء والطعام، وفيه ثلاثة أقوال: إراقتهما، وترك الإراقة فيهما، وتخصيصها بالماء دون الطعام.
الحكم السابع: وفي غسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه. وقد قال القزويني من علمائنا: لا أعلم لأصحابنا فيه نصا.
وحكى الشيخ أبو الطاهر عن بعض أشياخه: أنه ذكر أن المذهب على قولين في ذلك، وهما خارجان على تحقيق العلة أيضا.
الحكم الثامن: أنه يغسل لجماعة الكلاب سبعا، وللكلب الواحد إذا تكرر الفعل منه سبعا. وقيل: يغسل سبعا سبعا.
وسبب الخلاف: هل الألف واللام للجنس أو إشارة إلى الكلب الواحد، ويعتضد المشهور بأن الأسباب إذا تساوت موجباتها اكتفى فيها حبكم أحدها.
فرع مرتب:
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري: وحيث قلنا يغسل الإناء، فإنما ذلك عند إرادة الاستعمال، هذا مذهب الجمهور. قال: وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يرد استعماله.
القسم الثاني: من الأجزاء المنفصلة عن باطن الحيوان ما له مقر يستحيل فيه، وهو نوعان:
الأول: ما يستحيل إلى فساد، فأصله على النجاسة إلا المسك وفارته، وذلك: كالدم، والمسفوح منه متفق على نجاسته، وغير المسفوح غير نجس، وفيه خلاف شاذ، تبعا للخلاف في جواز أكله، ودم الحوت كغيره من الدماء. وقال الشيخ أبو الحسن: هو طاهر.
وقال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي: لمالك فيه وفي دم الذباب والقراد قولان. قال: و الصحيح أنه طاهر، لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته.
وفي معنى الدم المسفوح القيح والصديد وما في معناهما. وكالبول والعذرة وهما نجسان من بين آدم. وقيل بتخصيص من لم يأكل الطعام من الآدميين بطهارة بوله. وقيل: ذلك في الذكر دون الأنثى. وطاهران من كل حيوان مباح الأكل، نجسان من كل محرم الأكل، مكروهان من المكروه أكله، وقيل: بل نجسان منه أيضا. وكالمذي وهو نجس بإجماع، وفي معناه الودي.
والمذهب أن المني نجس وأصله دم، وهو يمر في ممر البول، فاختلف في سبب التنجيس، هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وعلى تحقيقه يخرج حكم طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوان.
النوع الثاني: ما يستحيل إلى صلاح، وذلك كالألبان والبيض.
فأما الألبان فإنها تتنوع إلى لبن الآدميات، وما يؤكل لحمه من الحيوانات، ولا خلاف في طهارته، وإلى لبن الخنزيرة، ولا خلاف في نجاسته، وإلى لبن سائر الحيوانات وفيه ثلاثة أقوال:
الأول: الطهارة قياسا على لبن بنات آدم.
الثاني: أنها تابعة للحومها، لأنها فضلاتها.
الثالث: أنها مكروهة من المحرم الأكل.
وأما البيض، فقال الشيخ أبو الطاهر: هو في معنى الألبان، ولا تفصيل عندنا فيه لأنه من الطير وهو مباح، قال: ولا نريد بذلك ما يحكى من بيض الحشرات، لأنه من الخبائث. قال: ويأتي بيان حكمها على أصل المذهب في كتاب الذبائح.
فروع:
الأول: استعمال الحيوان النجاسة، هل ينجس ما يكون منه؟ كعرق السكران والنصراني ولبن الجلالة ولبن المرأة إذا شربت الخمر، وبيض ما يأكل النجاسة أو يشربها.
حكى الشيخ أبو الطاهر عن المذهب في ذلك قولين، قال: وهما جاريان في كل نجاسة تغيرت أعراضها، كرماد الميتة، وما تحجر في أواني الخمر، وما في معنى ذلك.
وجعل مثار الخلاف النظر إلى الأصل وهو نجس، أو إلى الانتقال وقد تغيرت الأعراض.
وقال أبو محمد عبد الحق: الصواب طهارة جميع الأعراق، إذ ليس العرق نفس ما يؤكل ويشرب من النجاسة، قال: وعلى هذا حذاق أهل المذهب. واختار طهارتها أيضا الإمام أبو عبد الله.
الفرع الثاني:
ما عادته استعمال النجاسة في الغالب ولا يمكن الانفكاك عنه غالبا كالهر للحاجة إليه، وتلحق به الفأرة في تعذر الاحتراز منها، فلا أثر لشربه إلا أن تعلم نجاسة فمه عند الشرب، فيكون حكمه حكم ما حلته نجاسة.
الفرع الثالث:
ما يمكن الاحتراز منه، كالطير التي تأكل النتن، فإن قطع بنجاسة أفواهها أو طهارتها، عمل عليه، وإن لم يقطع بإحداهما، ففي الحكم لها بالأصل أو بالغالب ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فيحكم بالأصل في الطعام لحرمته، وبالغالب في الماء ليسارته.
الفرع الرابع:
من غالب حاله استعمال النجاسة، كأهل الذمة وشاربي الخمر، فسؤره ملحق بسؤر ما عادته استعمالها.
وحكم ما لبس هؤلاء من الثياب أن لا يصلي فيها حتى تغسل، لان الغالب نجاستها.
فإما ثياب غيرهم، فإن كانوا غير مصلين، فحكمها حكم ثيابهم، إلا فيما كان على الرأس. وإن كانوا يصلون، صلى بثيابهم وإن لم تغسل، إلا ما كان يشد في الوسط، فإنه يغسل على الإطلاق، لقلة من يعرف الاستبراء من غير العلماء، وفي معناه، ما يحاذي الفرج من غير حائل.

.الفصل الثاني: في إزالة النجاسة:

.والنظر في حكمها ومقصودها وكيفيتها:

.النظر الأول: في حكمها:

وقد اختلف المتأخرون من العراقيين وأهل المغرب في تقرير المذهب، فالقاضيان أبو الحسن علي بن عمر بن القصار، وأبو محمد عبد الوهاب في تلقينه، يريان أن المذهب كله على وجوب الإزالة، وإنما الخلاف في إعادة من صلى بنجاسة خلاف في كون إزالتها شرطا في صحة الصلاة أم لا؟ وغير هذين والقاضي أبو محمد أيضا في شرح الرسالة، يقولون: المذهب كله على أن الإزالة سنة، وإنما الخلاف في الإعادة خلاف في إعادة تارك السنن متعمدا.
وأبو الحسن اللخمي وغيره من متأخري المغاربة، يرون أن المذهب على ثلاثة أقوال:
وجوب الإزالة مطلقا، وهو مقتضى رواية ابن وهب، إذ فيها الإعادة، وإن خرج الوقت، عمدا، صلى بها، أو نسيانا.
ونفي الوجوب مطلقا، نو هو مقتضى قول أشهب، لأنه استحب الإعادة في الوقت، عمدا، صلى بها، أو نسيانا.
والوجوب مع الذكر والقدرة دون النسيان والعجز، وهو مقتضى الكتاب؛ لأنه أوجب الإعادة على غير المعذور وإن خرج الوقت، وأمر بها المعذور في الوقت خاصة.
وقال الإمام أبو عبد الله: اضطرب الحذاق من أهل المذهب في العابة عن ذلك، فالجاري على ألسنتهم في المذاكرات والإطلاقات أن المذهب على قولين:
أحدهما: أن غسل النجاسة فرض.
والآخر: أنه سنة، إطلاقا لهذا القول من غير تقييد، ثم قال ومن أشياخي من يعبر عن هذا، فيقول، المذهب على ثلاثة أقوال: وأشار إلى ما تقدم عن أبي الحسن اللخمي.

.النظر الثاني: في مقصودها:

وهو إذهاب العين والأثر، لكن خفف الشرع عن المكلف فعفا عنهما في بعض أقسامها، وعن بعض العين في قسم آخر، وعن الأثر دون العين في ثالث، فلا جرم انقسمت النجاسة في حكم الإزالة أربعة أقسام:

.القسم الأول: يعفى عن قليله وكثيره:

ولا تجب إزالته إلا أن يتفاحش جدا، فيؤمر بها، وهذا القسم هو كل نجاسة لا يمكن الاحتراز عنها، أو يمكن بمشقة كبرى، كالجرح يمصل، والدمل يسيل، والمرأة ترضع، والأحداث تستنكح، والغازي يفتقر إلى إمساك فرسه، وخص مالك هذا ببلد الحرب، وترجح في بلد الإسلام.

.القسم الثاني: يعفى عن اليسير منه إذا رآه في الصلاة:

ويؤمر بغسله قبل الدخول فيها.
وقيل: لا يؤمر بذلك، وهو الدم، وهل يلحق به، في العفو قليل القيح وقليل الصديد؟ أو يلحقان بقليل البول؟ في ذلك قولان.
فرعان:
الأول: أن الدماء كلها في ذلك سواء، ودم الحيضة ودم الميتة كغيرهما على المشهور.
وقال ابن وهب وابن الماجشون: أن يسير دم الحيض وكثيره سواء، ورواه ابن وهب وابن أشرس. وقال ابن وهب أيضا: لا يعفى عن قليل دم الميتة، كدم الحيض.
الفرع الثاني:
حيث قلنا بالعفو عن اليسير، فما حده؟
قال أبو بكر بن س ابق: لا خلاف عندنا أن ما فوق الدرهم كثير، وأن ما دون الدرهم قليل. وحكى في قدر الدرهم روايتين لعلي بن زياد، وابن حبيب، بالقلة والكثرة.
وحكى الشيخ أبو الطاهر أن اليسير هو مقدار الخنصر، وأن الخلاف فيما بين الدرهم إلى الخنصر.

.القسم الثالث: يعفي عن أثره دون عينه:

وهو الإحداث على المخرجين، والدم على السيف الصقيل، وفي معنى ذلك الخف يمشي به على أبوال الدواب وأرواثها، وفيه قول: أنه يغسل، كما لو مشى به على الدم والعذرة.
فروع أربعة:
الأول: لو مشى ماسح خفه على نجاسة ولا ماء معه، فليخلعه ويتيمم، لان التيمم بدل عن الوضوء، والنجاسة لا بدل لها.
الثاني: إلحاق النعل بالخف، فقال مالك: يدلكه ويصلي به. وقال ابن حبيب: لا يجزئه ذلك لخفة النزع. وقال القاضي أبو بكر: والأول أصح.
الثالث: الرجل يمشى بها على النجاسة، هل يجب غسلها لخفته أو تلحق بالنعل لتكرر ذلك؟ وفيه قولان أيضا. وقال القاضي أبو بكر: إن كان عن عذر فهو كالخف.
الرابع: إن المرأة لما كانت مأمورة بإطالة الذيل للستر كعادة العرب، جعل الشارع ما بعده مطهرا له كما جاء في الحديث. ولا خلاف في ذلك عندنا إذا كان جافا، ومعناه أنه بنشره لجفافه، فإن كان رطبا فلا بد من غسله كسائر النجاسات، وفيل: بل يطهره ما بعده لعموم الحديث.
وألحق الأصحاب بذلك من مشى برجل مبلولة على نجاسة، ثم على موضع جاف.
وأما طين المطر فمعفو عنه، قال الشيخ أبو محمد: ما لم تكن النجاسة غالبا أو عينها قائمة. قال الشيخ أبو الطاهر: قال المتأخرون: ولو كانت كذلك وغلبت وافتقر إلى المشي، لم يجب غسله، قياسا على الأم ترضع.

.القسم الرابع: ما عدا ما ذكرناه:

وهذا القسم يزال كثيره وقليله، وعينه وأثره.

.النظر الثالث: في كيفية إزالتها:

ولا يكفي مرور الماء على المحل، بل لا بد من إزالتها عنه بإذهاب العين والأثر.
ويتم الغرض من الإحاطة بالمقصود برسم فروع.
الأول: لو بقي الطعم بعد زال الجرم في رأي العين، فالمحل نجس؛ لان بقاءه دليل على بقائه. وكذلك لو بقي اللون أو الريح، وقلعه متيسر بالماء، فإن تعسر قلعه عفي عنه، وكان المحل طاهرا.
الفرع الثاني:
إذا انفصلت الغسالة عن المحل متغيرة، فهي نجسة وهو نجس، وإن انفصلت غير متغيرة فهما طاهران.
الثالث: أنه لا يشترط الاستقصاء في إزالة الغسالة عن محل النجاسة بعد انفصال الماء غير متغير بل يطهر وإن لم يعصر الثوب، ولا استقصي في إزالة الرطوبة عن الإناء، لأن المنفصل من الماء عن المحل جزء من المتصل، والمنفصل طاهر، فالمتصل مثله، فيستوي انفصال الكل والبعض.
الرابع: إن إزالة جرم النجاسة عن المحل بغير الماء لا يطهره، بل يبقي حكم النجاسة.
الخامس: إذا تدمى فمه فمجه بريقه حتى ذهب، ففي افتقاره إلى غسله أو طهارته بريقه، قولان لعلمائنا، حكاهما القاضي أبو بكر، ثم قال: والصحيح طهارته بالماء، وإن كان كثيرا، وإن كان يسيرا عفي عنه، ولا يطهر الريق بحال.
السادس: قال القاضي أبو بكر: إذا مسح الجسم الصقيل من النجاسة كالصارم والمدية ونحوه، فإن مسحه يجزي عن غسله لأنه يفسده، وقيل: لأنه لا يبقى من النجاسة فيه شيء.
فأما لو مسح موضع النجاسة من البدن أو الثوب مسحا بالغا فلم يبق منها شيء، يعني في رأي العين، فقال القاضي أبو بكر: اختلف المتأخرون فيه، هل يلزم غسله أم لا؟ ثم قال: والصحيح وجوب الغسل لأنه لا بد من بقاء جزء منها ملتصق بالمحل وإن خفي.
واعلم أن مفهوم هذا التعليل يشير إلى أنه لو تحقق زوال جميع أجزائها لطهر المحل، وإن لم يستعمل فيه الماء. وهذا إنما يستمر مع البناء على تعليل المسألة السالفة بالعلة الثانية، فإما على العلة الأولى، والمشهور الاعتماد عليها، فلا يطهر المحل بحال.
وأما لو مسح موضع المحاجم ولم يغسله، فيعيد إن صلى ما دام في الوقت. وقال ابن حبيب: لا إعادة عليه. قال القاضي أبو بكر: والصحيح أنه لا إعادة عليه، لأن ما بقي في محل المحجمة دم يسير في حد المعفو عنه، قال: والفرق بين هذا وبين ما تقدم، أن هذا الدم الباقي من نفس المحل دعت الحاجة إليه، والأول طرأ عليه من غير حاجة، فتضادا فافترقا.
فرع:
هذا حكم تحقق النجاسة وتحقق إصابتها للثوب أو للجسد، ويختص بمحل الإصابة إن تميز له، فإن لم يميزه كان الحكم عاما في جميع الثوب والجسد، كما لو أصابت جميعه.
فإن تحققها وشك في إصابتها للثوب فتطهيره النضح. وإن تحقق الإصابة وشك في النجاسة، فقولان. وإن شك فيهما فلا نضح.
ثم حيث قلنا: ينضح، ففي افتقاره إلى نية قولان للمتأخرين، مأخذهما النظر إلى كونه تعبدا، إذ هو تكثير للنجاسة لا إزالة لها، أو النظر إلى كونه تطهيرا عنها.
وحكم الجسد في النضح حكم الثوب في ظاهر المذهب. وقال بعض المتأخرين: يغسل، بخلاف الثوب، واستقرأه من المدونة.
فرع مرتب:
لو صلى من أمرناه بالنضح دون أن ينضح، فقال ابن القاسم وسحنون وعيسى بن دينار: يعيد الصلاة لأنه تارك فرض الطهارة، فلزمه إعادة الصلاة كالغسل.
وقال أشهب وابن نافع وابن الماجشون: لا إعادة عليه، وعلله القاضي أبو محمد بأن النضح مستحب.
وقال القاضي أبو بكر: وهذا ساقط بل النضح واجب، وإنما فيه نكتة بديعة، وذلك أن الغسل شرع لإزالة النجاسة لأجل الصلاة مع ضرب من التعبد، والنضح تعبد محض لا إزالة فيه، فتركه ترك فرض لا يؤثر في الصلاة.
وقال ابن حبيب: يعيد أبدا في العمد والجهل، إلا إنه لم ير ذلك فيمن احتلم في ثوبه فلم ينضح ما لم يره، لخفه النضح عنده في ذلك. قال بعض المتأخرين: ولم يقل أحد من الأصحاب بالإعادة مع النسيان.

.الفصل الثالث: في حكم النجاسة تطرأ على الماء كيف تزال:

أما إن غيرته، فيزال جميعه. فإن أقام حتى زال تغيره، فقولان:
أحدهما: أنه كالبول مثلا، فلا ينتقل حكمه.
الثاني: أنه يرجع إلى أصله. قال الشيخ أبو الطاهر: وهما على الخلاف في النجاسة إذا تغيرت أعراضها، كدماء الميتة وعرق السكران، وشبه ذلك.
ثم إذا أزيل جميعه كما قلنا، فإن كان له مادة كالآبار، فالاعتبار بأن يخلفه غير متغير، وإن لم تكن له مادة أزيل الجميع ما دام متغيرا، فإن أزيل بعضه فزال التغيير بإزالته ففي طهارته قولان، وهما على ما تقدم، إذا تغير ثم عاد إلى الأصل. وأما إن لم يتغير الماء، فيجري على الخلاف المتقدم، إلا أنه يؤمر بأن ينزح من البئر التي تموت فيها الدابة، وإن لم يتغير بحسب كبر الدابة وصغرها، وكثرة الماء وقلته. قال المتأخرون: وذلك توق واستحباب.
وأما ما تغير من الآبار، فلا بد من نزحه إجماعا، حتى يزول التغير. وقال الشيخ أبو بكر محمد بن صالح الأبهري: أصحاب مالك يفرقون بين ما وقع في الماء فمات، وبين ما وقع ميتا.
قال: فما فاضت روحه في الماء يأمرون بنزحه لجواز أن ينفصل منه شيء، أو يخرج مع الروح شيء من ريقها.
وأما ما وقع فيه ميتا وأخرج من غير تغيير الماء، لم يضره. والواجب أن الماء طاهر حتى يتغير من النجاسة.
قال أبو بكر بن سابق: والذي قاله الأبهري صحيح.

.الباب الثالث: في الاجتهاد بين الطاهر والنجس:

ومهما اشتبه إناء نجس بإناء طاهر، قال العلماء: ويتصور ذلك على القول بأن ما لم يتغير لا ينجس، بأن يتغير الماء بالقرار ثم تطرأ عليه نجاسة كثيرة مما تغيره ولا يظهر التغير، أو تكون الأواني متغيرة تغيرا واحدا بعضها بشيء طاهر، لم يسلبه التطهير وبعضها بشيء نجس.
وإذا تقول ذلك، فقال سحنون: يتيمم ويتركها، وقال ابن الماجشون وسحنون في قول له آخر: يتوضأ بأحدها ويصلي، ثم يتوضأ بالآخر ويصلي، حتى يفرغ جميعها، وبه قال محمد بن مسلمة، وزاد: ويغسل أعضاءه من الإناء الآخر قبل أن يتوضأ به. قال الأصحاب: وهو الأشبه بقول مالك، واختاره القاضي أبو محمد، وقال به القاضي أبو الحسن إذا قلت الأواني: وقال محمد بن المواز ومحمد بن سحنون: يتحرى أحدهما فيتوضأ به ويصلي، ويجزيه كما يتحرى بالقبلة. وقال به القاضي أبو الحسن إذا كثرت الأواني، قالا: ولا يجوز له أخذ أحد الأواني إلا بالاجتهاد وطلب علامة تغلب على الظن الطهارة، ثم من شرط الاجتهاد أن يعجز عن الوصول إلى اليقين، فإن كان معه ماء يتقين طهارته أو كان على شط نهر امنتع الاجتهاد.
فروع:
الأول: لو صلى بماء غلب على ظنه أنه طاهر، ثم تغير اجتهاده واختلف اعتقاده، فإن كان على اليقين بخطئه في اجتهاده الأول، غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة. وإن تغير إلى الظن بذلك، فيتخرج على القولين في نقض الظن بالظن، كالمصلي إلى القبلة باجتهاده، ثم غلب على ظنه أنه أخطأ.
الفرع الثاني:
وهو مرتب على قول محمد بن مسلمة:
لو كان معه إناءان فتوضأ بهما وصلى على ما تقدم، ثم حضرت صلاة ثانية، فإن كانت طهارته باقية وهو يعلم الإناء الذي توضأ به ثانيا، صلى بالطهارة التي هو عليها، ثم غسل أعضاءه من الإناء الذي توضأ به أولا، ثم توضأ به وصلى. وإن لم يكن على طهارة، أو كان عليها ولم يعلم الإناء الذي توضأ به آخرا، توضأ بالإناءين كما فعل أولا.
الفرع الثالث:
إذا اشتبهت الأواني على رجلين، فتحرى كل واحد منهما غير ما تحراه غيره، فقال الإمام أبو عبد الله: لا يصلي أحدهما مؤتما بصاحبه في الصلاة التي تطهر لها بالماء الذي خالفه فيه، لاعتقاده أنه مخطئ.
قال: وكذلك لو كثرت الأواني وكثر المجتهدون واختلفوا، فكل من ائتم منهم بمن يعتقد أنه تطهر بالماء النجس، فلا تصح صلاته لما قدمناه.
الفرع الرابع:
حيث قلنا بالاجتهاد بين المائين، فهل يجتهد بين الماء والبول؟ قال الأستاذ أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي: يجوز التحري بينهما، قال: هكذا خرجه القاضي أبو محمد على قول ابن المواز. وقال القاضي أبو بكر أيضا: وهو الذي تقتضيه أصولنا، ثم قال: وبه أقول.

.الباب الرابع: في الأواني:

وفيه ثلاثة فصول:

.الفصل الأول: في المتخذ من الجلود:

واستعماله جائز، بشرط أن يكون الجلد طاهرا، وطهارته بالذكاة فيما يؤكل لحمه، وفي تطهيرها لجلد ما لا يؤكل لحمه خلاف. وبالدباغ في الجميع، إلا جلد الخنزير.
وكيفية الدباغ نزع الفضلات بالأشياء المعتادة في ذلك. قال ابن نافع: ولا يكفي التشميس.
ثم الجلد طاهر ظاهره وباطنه، وجائز بيعه على إحدى الروايتين، وبها قال ابن وهب.
والأخرى وهي المشهورة من المذهب، أنه طاهر طهارة مخصوصة يجوز بها استعماله في اليابسات، وفي الماء وحده من بين سائر المائعات، ولا يجوز بيعه ولا الصلاة فيه ولا عليه.

.الفصل الثاني: في المتخذ من العظام:

ويشترط أن يكون العظم طاهرا أيضا، وقد تقدم حكمه في الطهارة والنجاسة.

.الفصل الثالث: في أواني الذهب والفضة:

وهي محرمة الاستعمال على الرجال والنساء؛ للحديث الصحيح. قال القاضي أبو الوليد: ووجه تحريمه ما فيه من السرف والتشبه بالأعاجم.
وأما اتخاذها من غير استعمال، فقال الشيخ أبو القاسم بن الجلاب: اقتناؤها محرم. وقال القاضي أبو محمد: لا يجوز اتخاذها.
وقال القاضي أبو الوليد: لو لم يجز اتخاذها لوجب فسخ بيعها، وقد أجازه في غير مسألة من المدونة، قال أبو بكر بن سابق: هذا غير صحيح، لأن ملكها يجوز إجماعا، بخلاف اتخاذها، قال: وإنما نتصور فائدة الخلاف بأنا لا نجيز الاستئجار على عملها، ولا نوجب الضمان على من أفسدها إذا لم يتلف من عينها شيئا، والمخالف يجيز الاستئجار ويوجب الضمان.
ثم اختلف المتِأخرون في إلحاق غير الذهب والفضة من الجواهر النفيسة بهما، فقال القاضي أبو الوليد: لا يتعدى التحريم إلى الياقوت والفيروزج وشبه ذلك بمجرد نفاستها، يريد لأن أحد وصفي العلة لا يستقل بإفادة حكمها على ما تقدم. وقال القاضي أبو بكر: ما يصنع من الياقوت واللؤلؤ والمرجان أولى بالتحريم في الاستعمال من أواني الذهب والورق، وقال ابن سابق: المتخذة من الياقوت والبلور. والحكم الظاهر أنها جائزة، وإنما تكره للسرف.
فرعان:
الأول: لو عمل الآنية من ذهب وغشاها برصاص أو غيره مما يجوز اتخاذ الآنية منه، أو اتخذها من ذلك وموهها بالذهب، فحكى ابن سابق في ذلك قولين، ونزلهما على الخلاف في تحقيق العلة، هل هي الزينة والفخر أو عين الذهب؟.
الفرع الثاني:
إذا... وصلت الآنية بذهب أو فضة في شعب أو تضبيب، فقال القاضي أبو بكر: لا يمنع ذلك من استعمالها، قال: لأنه تبع فلا يجري عليه حكم المقصود.
وقال القاضي أبو الوليد: واستعمال آنية فيها تضبيب بذهب أو فضة ممنوع.
وفي العتبية: قال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه إذا كانت فيه حلقة فضة أو تضبيب شعبه بها. وكذلك المرآة تكون فيها الحلقة من الفضة لا يعجبني أن ينظر فيها الوجه.
هذا تمام قسم المقدمات.
أما قسم المقاصد ففيه سبعة أبواب:

.الباب الأول: في فروض الوضوء وسننه وفضائله:

.أما فروضه فهي ستة:

.الأول: النية.

وحقيقتها القصد إلى الفعل، والعزيمة عليه. والغرض بها تخصيصه ببعض أحكامه وأوصافه، وهي شرط في كل طهارة عن حدث، ولا تجب في إزالة النجاسة.
ولا يصح وضوء الكافر ولا غسله إذا لم يكن اعتقد الإسلام بقلبه قبل الغسل؛ إذ لا عبرة بنيته، وتستثنى من ذلك الذمية تحت المسلم، فإنها تجبر على الغسل عن الحيض لحق الزوج، وعلى النص. وقال محمد بن عبد الحكم: لا تجبر، لأنه لا نية هلا، ورواه أشهب.
فرع:
لو رفض النية بعد كمال الطهارة، ففي نقضها بذلك روايتان، منشؤهما أنها كجزء من أجزاء الوضوء فيجب استصحابها، أو المقصود بها تصحيح الفعل وقد حصل.
ثم وقت النية، هل هو أول واجبات الوضوء لتقارن ما تجب له، أو أول أفعاله؛ إذ يؤمر بالقصد إلى السنة أيضا؟ في ذلك قولان. ثم لا يضر اختلاس النية بعد الإتيان بها في محلها.
وكيفيتها: أن ينوي بها رفع الحدث أو استباحة الصلاة، أو ما لا يستباح إلا بالطهارة أو أداء فرض الوضوء.
فإن نوى رفع بعض الحدث ناسيا لغيره أجزأه، إلا في الحائض الجنب تقتصر على نية الجنابة، فإن فيها قولين، لاختلاف الممنوعات. فإن نوت الحيض خاصة، فالمنصوص الإجزاء، لأن ممنوعاته أعم. وخرج القاضي أبو الوليد نفي الإجراء على القول بأن الجنابة تمنع القراءة ظاهرا دون الحيض.
فأما لو نوى رفع بعض الحدث دون بعض حتى يكون ناويا عدم حصول الباقي، لفسدت نيته.
فإن قصد استباحة صلاة بعينها خاصة دون غيرها، كما في الحدث، فقيل: يستبيح به ما نواه وما لم ينوه، وقيل: يستبيح ما نواه خاصة نو هما على الخلاف في إبطال الرفض وتصحيحه، وقيل: تفسد نيته للتضاد.
ورأى الشيخ أبو الطاهر تنزيل القولين الأولين على تقدم الاستباحة، وتنزيل الثالث على المقارنة.
ولو نوى ما يستحب له الوضوء، كقراءة القرآن للمحدث من غير مس مصحف، فقولان، المشهور أن حدثه لا يرتفع.
ولو شك في الحدث، وقلنا: لا يجب عليه استئناف الوضوء بالشك على إحدى الروايتين.
أو كان شكه غير مقتض للوضوء كالتردد من غير استناد إلى سبب مع تقدم يقين الطهارة، فتوضأ احتياطا، ثم تبين له يقين الحدث، ففي وجوب الإعادة قولان للتردد في النية. وكذلك لو توضأ مجددا ثم تبين له الحدث. فقال أشهب: يجزئه، وفي كتاب ابن سحنون لا يجزئه.
ولو نوى بوضوئه رفع الحدث والتبرد لم يضره. ولو نوى غسل الجنابة وغسل الجمعة معا، فالإجزاء في الكتاب.
وقال الشيخ أبو القاسم: بنفي الإجزاء فيهما لاختلاف السببين وتنافي القصدين.
ورأى في الكتاب أن الاستحباب زائد على الوجوب فلا تنافي بينهما، ولا بين رفع الحدث وتطييب الرائحة.
ولو اغتسل للجنابة ناسيا للجمعة، فروى عيسى عن ابن القاسم: أنه لبا يجزئه عن غسل الجمعة. قال القاضي أبو محمد: وزعم ابن حبيب أن ذلك إجماع من مالك وأصحابه، ثم قال: وقال ابن القاسم في العتبية: إن غسل الجنابة ينوب عن غسل الجمعة إذا كان عند الرواح، ثم قال: ولا يجوز أن يحمل على ما إذا نوى به الجمعة؛ لأنه إذا نواه لم يكن الغسل مضافا إلى الجنابة وحدها.
ولو اغتسل للجمعة ناسيا للجنابة، فروى ابن القاسم أنه لا يجزئه أيضا، وبه قال ابن عبد الحكم وأصبغ. وروى مطرف وابن الماجشون وابن كنانة وابن نافع وابن وهب وأشهب: أنه يجزئه، وأفتوا به.
ولو أغفل المتوضئ لمعة من الكرة الأولى، فانغسلت في الكرة الثانية على قصد الفضيلة، ففي ارتفاع الحدث بذلك قولان.
ولو فرق النية على أعضاء الوضوء، ففي الإجزاء قولان بناهما الشيخ أبو الطاهر على الخلاف في أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بالفراغ من تطهيره أو بإكمال طهارة جميع الأعضاء؟ قال: وعلى هذا الأصل ينبني أيضا خلاف الشيخين أبي محمد وأبي الحسن فيمن أحدث حدثا أصغر في أضعاف طهارته الكبرى، ثم أمر يديه على أعضاء الوضوء، هل يفتقر في إمرارهما إلى تجديد نية أم لا؟، قال: وينبني عليه أيضا الخلاف فيمن غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، هل يمسح عليهما أم لا؟ وسيرد كلام القاضي أبي بكر في هذ... ه المسألة، وإنكاره لهذا الأصل، وتخريج الخلاف فيها على غيره إن شاء الله.

.الفرض الثاني: استيعاب غسل جميع الوجه:

وحقيقة الغسل: نقل الماء إلى العضو مع الدلك، وحد الوجه طولا من منابت الشعر المعتاد إلى منتهى الذقن، وعرضا من الأذن إلى الأذن، وقيل: من العذار إلى العذار، وقيل: إن كان نقي الخد فكالأول، كان اكتسى الشعر فكالثاني.
ومنشأ الخلاف التنازع في المواجهة هل تتناول ما اختلف فيه أم لا؟ وانفرد القاضي أبو محمد بقول رابع، فجعل غسل ما بين الأذن والعذار سنة.
ولا تدخل النزعتان، ولا موضع الصلع في التحديد.
وموضع الغمم من الوجه يجب عليه غسله.
ويجب إيصال الماء إلى منابت الشعور الخفيفة التي تطهر البشرة منها بالتخليل، كالحاجبين والأهداب والشارب والعذارين وغيرهما، ولا يجب ذلك فيما إذا كانت كثيفة، وقيل: يجب.
وظاهر المذهب: وجوب غسل ما طال من اللحية، وقيل: إنه غير واجب، وسبب الخلاف تشبيه بمباديه أو بما يحاذيه، وهو سبب الخلاف أيضا في مسح ما طال من شعر الرأس.

.الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين، وقيل: إليهما دونهما، فلو قطع من الساعد غسل الباقي، ولو قطع من المرفق لم يجب عليه شيء، لأن القطع أتى على جميع الذراع، والمرافق في الذراع، إلا أن يكون بقي شيء من المرفق في العضد، يعرف ذلك الناس وتعرفه العرب، فيغسل وفي تخليل أصابع اليدين قولان بالوجوب والندب.

وفي وجوب إجالة الخاتم ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فيوجبها في الضيق دون الواسع.

.الفرض الرابع: استيعاب مسح جميع الرأس من مبدأ منقطع الوجه على ما قلاه في المعتاد، وفي منتهاه خلاف. وقيل: إلى ما تحوزه الجمجمة، وقيل: إلى آخر منبت الشعر من القفا، فلو اقتصر بالمسح على بعضه لم يجزه، على النص.

واختلفت مذاهب الأصحاب في الإجزاء، فذهب محمد بن مسلمة إلى إجزاء الثلثين. وذهب القاضي أبو الفرج عمر بن محمد الليثي إلى إجزاء الثلث. وروي عن أشهب روايتان: إحداهما إجزاء الناصية.
والثانية مطلقة، قال: فإن لم يعم رأسه أجزأه ولم يقدر ما لا يضره تركه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقاويل مذاهب لأصحابه لا أنها تخريج على مذهبه. قال: فأما مذهبه فهو الإيعاب كما تقدم.
ولا يستحب فيه التكرار، ولا الغسل، ويجزئ عن المسح إن فعل، وحكى سابق الصحة عن الشيخ أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان، ثم قال: وقال غيره لا يصح، وكرهه آخرون.

.الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين، وقيل: إليهما دونهما، وهما الناتئان في الساقين.

وذكر القاضي أبو محمد عن مالك من رواية ابن القاسم وغيره: أنهما اللذان عند معقد الشراك، ورأى الأول أصح في النظر.
وفي حكم تخليل أصابعهما ثلاثة أقوال: الوجوب، والندب، والإنكار.

.الفرض السادس: الموالاة، وهي أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق متفاحش، فإن فرقه تفريقا يسيرا غير متفاحش فلا يفسد الوضوء سهوا ولا عندا. حكى القاضي أبو محمد أن المذهب لا يختلف في ذلك.

وإن كان التفريق متفاحشا، قال ابن وهب: يفسده في العمد والسهو. وحكى عن محمد بن عبد الحكم أنه لا يفسده في الوجهين، وذهب إليه بعض البغداديين.
وفرق ابن القاسم فحكم بفساده في العمد دون النسيان، وروى عبد الملك بن الماجشون في الثمانية أن التفرقة في العمد والسهو سواء، في أنها تفسد الطهارة، إلا في الرأس وحده. وقيل: تفسد إذا كان الممسوح بدلا لا أصلا.
وقال القاضي أبو الحسن: ومن أصحاب مالك من قال إن الموالاة مستحبة.

.وأما سننه، فست أيضا:

.الأولى: أن يبدأ بغسل يديه قبل أن يدخلهما في إناء وضوئه:

وهل ذلك على وجه النظافة أو العبادة؟ فيه قولان، ينبني عليهما فرعان:
أحدهما: هل يغسلهما مجموعتين أو متفرقتين؟ فالنظافة تناسب الجمع، والتعبد يقتضي الافتراق، وقد جاء في لفظ الحديث. ما يقتضي الخلاف في ذلك، وهو قوله: غسل يديه مرتين. وروي في بعض طرقه: مرتين مرتين.
الفرع الثاني:
من شرع في طهارته بعد غسلهما ثم أحدث في أضعافها، فلا يعيد غسلهما في ظاهر رواية أشهب، ويعيده عند ابن القاسم.

.السنة الثانية: المضمضة:

وهي تطهير باطن الفم، وأما غسل ما يظهر من الشفتين فواجب، وصفتها أن يأخذ الماء بفيه فيخضخضه ثم يمجه.
قال أبو الحسن اللخمي: وإن أدخل أصبعه ودلك بها أسنانه فحسن.

.الثالثة: الاستنشاق:

وهو غسل باطن الأنف، وأما ما يبدو منه فهو من الوجه، وصفته أن يجتذب الماء بخياشيمه ويجعل إبهامه وسبابته على أنفه ثم ينثر النفس، ويبالغ في الاستنشاق ما لم يكن صائما.
فرعان:
الأول: في كيفيتهما: حكى ابن سابق في ذلك قولين:
أحدهما: يغرف غرفة واحدة لفيه وأنفه.
والثاني: يتمضمض ثلاثا من غرفة، ثم يستنشق ثلاثا من غرفة.
قال: وهذا اختيار مالك، والأول اختيار الشافعي، وكلاهما مروي في الحديث.
الفرع الثاني:
لو توضأ وترك المضمضة والاستنشاق حتى صلى، فإن كان ناسيا لم يعد الصلاة، وإن كان عامدا ففي استحباب الإعادة له في الوقت قولان، ولا شك أنه يؤمر بإعادة ما ترك.

.الرابعة: أن يمسح أذنيه بماء جديد لهما:

ظاهرهما وباطنهما، ويدخل إصبعية في صماخيه ويمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه.
فرع:
قال أبو بكر بن سابق: اختلف المتأخرون في ظاهرهما على وجهين، فمنهم من قال: هو ما وقعت به المواجهة. وقال آخرون: هو ما يلي الرأس، قال: وهو الأطهر.

.الخامسة: رد اليدين من مؤخر الرأس إلى مقدمه إن بدأ به.

.السادسة: أن يرتب وضوءه:

فيبدأ بغسل يديه، ثم يتمضمض، ثم يستشف، ثم يغسل وجهه، ثم يده اليمنى، ثم يده اليسرى، ثم يمسح رأسه ثم أذنيه ثم يغسل رجله اليمنى، ثم رجله اليسرى.
والمشهور أن الترتيب المذكور سنة، وهي رواية المصرتين، وروى علي بن زياد وجوبه، وقيل: إنه مستحب.
فروع ثلاثة:
الأول: إذا فرعنا على الوجوب مخالفة، فمقتضى ذلك أنه يبتدئ، وكذلك روى علي بن زياد، لكن حكى القاضي أبو الوليد خلافا في الترتيب، هل هو من شرط الصحة، وإن قيل بالوجوب، أم لا؟ فعلى هذا يختلف في الابتداء على قولين، وإن قلنا بالوجوب.
الفرع الثاني:
إذا فرعنا على أنه سنة، فنكس متعمدا، فهل يساوي من نكس ناسيا؟ قولان:
أحدهما: أنه يعيد مع العمد، قريبا كان أو بعيدا.
والثاني: أنه كالناسي فلا يعيد، وهما على ما تقدم في تارك السنن متعمدا هل تجب عليه الإعادة أم لا؟ فأما على القول بالاستحباب فلا إعادة أصلا.
الفرع الثالث:
مرتب على هذا، وهو إذا قلنا يتلافي، فكيف ذلك؟ أما إن كان بحضرة الماء فإنه يبتدئ ليسارة الأمر عليه. وأما إن بعد عن الماء حتى جف وضوءه، فقولان:
أحدهما: أنه يعيد ما نكسه لا غير.
والثاني: أنه يعيده وما بعده.

.وأما فضائله، فأربع:

.التسمية:

وروى الواقدي: ليس ذلك مما يؤمر به، من شاء قال ذلك، ومن شاء لم يقله. وروى علي بن زياد إنكارها.

.والسواك بعود رطب أو يابس:

والأخضر أحسن ما لم يكن صائما، فإن لم يجد عودا استاك بأصبعه.

.وأن يبدأ بمقدم رأسه في المسح:

إذ المستحب في صفة مسحه أن يبدأ بيديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي منه بدا، وإن كان الإيعاب مجزيا كيف ما حصل.
فأما ما ذكر الشيخ أبو القاسم في تفريعه في صفة المسح من رفع الراحتين عن الفودين في الابتداء وإلصاقهما بهما في الانتهاء، وكذلك في الأصابع، فقال القاضي أبو محمد: كان رحمه الله يقول: إنما قلت ذلك لئلا يكون مكرا للمسح، وفضيلة التكرار مقصورة على الغسل دون المسح.
قال القاضي أبو محمد: وسألت القاضي أبا الحسن شيخنا رحمه الله عن ذلك، فقال هذا غير محفوظ عن مالك، ولا عن أحد من أصحابنا، قال: والاحتراز الذي ذكر أنه لأجله اختار هذا، لا معنى له؛ لأن التكرار الذي نمنعه ونقول: إن لا فضيلة فيه، هو أن يكون بماء جديد، فأما بماء واحد فلا يمنعه أصحابنا.

.وأن يكرر المغسول ثلاثا:

وتكره الزيادة على الثلاث.
ولو شك هل غسل ثلاثا أو اثنين اقتصر على ما فعل، بخلاف الشك في أصل الغسل، فإنه يعيد كل ما شك في غسله أو مسحه من جميع أفعال الوضوء، وليس المسح بالمنديل من الفضائل، ولكن لا بأس به.

.الباب الثاني: في الاستنجاء:

وهو إزالة النجو، والنجو هو الحدث نفسه وتسميته بذلك تجوز واتساع، كتسميته بالغائط. وفيه فصول:

.الفصل الأول: في آداب قضاء الحاجة:

وهي أن يطلب الموضع البعيد الساتر، وأن يتقي الملاعن، وهي مواضع جلوس الناس وطرقاتهم، وظلال الجدر والشجر، وشاطئ النهر.
وأن يتجنب البول في الحجر، وفي الماء الدائم. وأن يستعد ما يقلع الحدث.
ويقدم الذكر قبل الوصول إلى موضع الحدث، ويجوز له أيضا بعد وصوله أن كان موضعا غير معتاد للحدث، وإن كان معتادا له، فقولان في جوازه ومنعه، وهما جاريان أيضا في جواز الاستنجاء بالخاتم مكتوب فيه ذكر.
وأن يديم الستر حتى يدنو من الأرض إن أمن نجاسة ثوبه، وأن يبول جالسا إن كان المكان طاهرا، فإن كان نجسا رخوا فله أن يبول قائما، وإن كان نجسا صلبا تجنبه وعدل إلى غيره.
وأن يترك التشاغل بالحديث وإنشاد الشعر عند قضاء الحاجة، وأحرى أن لا تجوز القراءة.
وأن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها إذا كان الموضع عاريا من الساتر وبناءات المراحيض، وله أن يستقبل أو يستدبر إذا كان ذا ساتر مراحيض تلجئ إليه، وإن لم يكن ساترا، وفي جواز الاستقبال والاستدبار، مع وجود الساتر وإن لم تكن مراحيض ومنعهما، روايتان، سببهما: هل النهي لحرمة المصلين أو لحق القبلة؟
وهل يتنزل الوطء منزلة قضاء الحاجة أو يجوز مطلقا مستقبلا ومستدبرا؟ قولان،
مثارهما: هل النهي للعورة فيستويان، أو الخارج فيفترقان؟ وحكى ابن سابق عن ابن حبيب: أنه لا يجوز في صحراء ولا بنيان.

.الفصل الثاني: فيما يستنجي عنه:

ويستنجي عن كل ما يخرج من المخرجين معتادا سوى الريح، ويجزي الاستجمار، فيما عدا المني، وكذلك المذي على المشهور، من جميع المعتاد.
قال الشيخ أبو بكر وغيره: ويجزي في النادر كالحصا والدم والدود، كما في الغائط؛ لأنه ليس بآكد منه.
وإذا فرعنا على منع إجزاء الاستجمار من المذي وهو المشهور، فهل يجزي فيه الاقتصار على غسل موضع الأذي؟ قولان:
رأى المغاربة وبعض البغداديين: أنه لا يجزي، بل يغسل جميعه. واجتزأ فيه الشيخ أبو بكر وابن المنتاب بغسل موضع الأذي خاصة؛ كالبول والودي، قال الشيخ أبو بكر: وما سمعت بغسل الذكر منه إلا من المغاربة.
التفريع: إن قلنا بغسل موضع الأذى خاصة، كما قال البغداديون، فلا تفريغ.
وإن قلنا لا بد من غسل جميعه كرأي المغاربة فقد اختلفوا، هل يفتقر إلى نية لغسله؛ إذ هو عبادة، لأنه تعدى محل موجبه أو لا يفتقر إلى إحضار نية عند غسله، لأن تعديه معلل بالقصد إلى قطع أصل المذي؟ قولان لأبي العباس الإبياني، والشيخ أبي محمد.

.الفصل الثالث: فيما يستنجى به:

وهو الماء والأحجار على الجمع وعلى التفريق بحسب الاختيار. وقال ابن حبيب: لا يقتصر على الأحجار إلا عند عدم الماء.
ثم حيث جوزناه بالأحجار، فيقوم مقامها في الجواز على المشهور كل جامد طاهر منق ليس بمطعوم ولا ذي حرمة، فلا يجوز بالنجس ولا بالروث والزجاج الأملس والمطعوم. والعظم مطعوم.
فرع:
لو استجمر بالنجس أو بالعظم أو الروث إذا صححنا ورود النهي عنهما أو بالحممة وصلى، ففي إعادة الصلاة في الوقت المختار خلاف.
والاحتراز بذي الحرمة من جدران المساجد والأوراق المكتوبة، ويلحق بذلك ما في الاستجمار به سرف كالجواهر النفيسة، ويجري هذا كله، على ما تقدم في المنهي عنه، وذلك إذا أنفى.
وقيل: يقتصر على الأحجار ولا يلحق بها غير ها سوى ما في معناها من الجواهر الأرضية، ما دامت من جنس الأرض.
فإن انتشرت الحدث عن المخرج فلا بد من الماء، إلا أن يقرب جدا بحيث لا ينفك عن الإصابة في العادة، فلا يطلب بغسله. وقيل: يؤمر به ولا يكفي الاجتزاء فيه بالحجر عن الماء، وإن كان من القرب كما ذكر.

.الفصل الرابع: في كيفية الاستنجاء:

والأولى فيه الجمع بين الماء والأحجار، فالأحجار لتخفيف العين عن الموضع، ثم الماء للإنقاء ولإزالة الأثر، فإن شاء الاقتصار على أحدهما، فالماء أفضل؛ لأنه يذهب العين والأثر.
والمستحب في صفة استعمال الماء أن يبدأ بغسل يده اليسرى قبل ملاقاة الأذى بها، ثم يغسل محل البول، ثم ينتقل إلى محل الغائط فيرسل الماء ويوالي الصب على يده غاسلا بها المحل، ويسترخي قليلا ليتمكن من الإنقاء، ويجيد العرك حتى ينقي وتزول اللزوجة، ولا يضره بقاء الرائحة بيده إذا أنقى.
وأما الأحجار فليستنج بثلاثة أحجار لكل مخرج، وليبدأ بمخرج البول، ولا يلزمه طلب الثلاثة إذا أنقى بدونها.
وقال القاضي أبو الفرج والشيخ أبو إسحاق: يلزمه طلبها، ثم حيث أمر بطلبها ففي الاجتزاء عنها بحجر له ثلاث شعب خلاف.
ولو لم يحصل الإنقاء بالثلاثة طلب الرابع والخامس حتى يحصل، ثم كيف ما حصل الإنقاء أجزأ.
لكن اختلف هل الأولى أن يمر كل حجر على جميع الموضع، أو يمر واحدا على الصفحة اليمنى وآخر على اليسرى والثالث على الوسط على طريقين للأصحاب.
فروع ثلاثة:
الأول: أنه ليس على من بال أن يقوم ويقعد ويزيد في التنحنح، ولكن ينتر ويستفرغ جهده على ما يرى أن حاله يقتضيه من إطالة أو اقتصار، ويستبرئ ذلك بالنفض والسلت الخفيف.
الفرع الثاني:
لو ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى، أعاد في الوقت. وروى ذلك محمد بن مسلمة في المبسوط. وقال أبو زيد عن ابن القاسم. وروى أشهب: أرجو أن لا تكون عليه إعادة. قال الشيخ أبو محمد: أراه يريد إذا مسح أو كان يبعر.
وأجرى أبو الحسن اللخمي فيه قولا بالإعادة أبدا على القول بأن إزالة النجاسة فرض.
الفرع الثالث:
إذا عرق في الثوب بعد الاستجمار، فقال القاضي أبو الحسن ينجس.
وأبى ذلك القاضي أبو الوليد، وعلل بأنه مما لا يمكن الاحتراز منه، وتلحق به المشقة كموضع النجو.

.الباب الثالث: في موجبات الوضوء:

وفيه فصلان:

.الأول في بيانها:

ولا تنتقض الطهارة بالفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة وغيرها، ولا من أكل شيء، مسته النار أو لم تمسه، ولا من شرب شيء، وإنما تنتفض بأمرين: أحداث وأسباب.

.القسم الأول: الأحداث:

ونعني هبا ما ينقض الوضوء بنفسه، لا بما يؤدي إليه، وهي ما خرج من أحد السبيلين معتادا في جنسه وأوقاته، وذلك من القبل ثلاثة: البول والمذي والودي. ومن الدبر: الغائط والريح. قال الشيخ أبو الطاهر: وزاد بعض أشياخي الصوت، قال: وما أظنه يكون بغير ريح.
فإن فارق الخارج العادة في النجس، فكان غير معتاد، أعني غير هذه، فلا ينقض. ورأى محمد بن عبد الحكم أنه ينقض نظرا إلى المخرج.
وإن فارقها في الوقت فكان سلسا على وجه الاستنكاح لم ينقض، على المعروف من المذهب.
وقال الإمام أبو عبد الله: وقد روي عن مالك رضي الله عنه ما ظاهره ترك العذر بالتكرار، وإجراء ما تكرر من ذلك على الأصل، ولم يعذر فيه بالحرج والمشقة.
وإذا فرعنا على المعروف، فللخارج أربعة أحوال:
أحدها: أن يلازم ولا يفارق، فها هنا لا يجب الوضوء؛ لأن وجوبه حرج، ولا يستحب، إذ لا فائدة والخارج يسيل مع الوضوء.
الحال الثاني: أن يلازم أكثر مما يفارق، فلا يجب الوضوء لسقوط الحرج، ويستحب ما لم يكن بردا وضرورة.
الحال الثالث: أن يتساوي لزومه ومفارقته، ففي الوجوب قولان، وهما خلاف في شهادة بوجود الحرج وعدمه.
الحال الرابع: أن تكون مفارقته أكثر، فمذهب الكتاب الإيجاب شهادة بفقد الحرج أو بقد ما يسقط العبادة. ومذهب العراقيين سقوط الوجوب تعويلا على أن الوجوب متعلق بالاعتياد، ولا قياس ها هنا، أو نظرا إلى وجود الحرج.
فرعان:
الأول: أن هذا الذي قلنا، إذا لم يقدر على معالجته، فإن قدر كالمذي يلازم لطول عزبة يقدر على رفعها نفقد اختلف فيه العراقيون على قولين، أنه: من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا؟
الفرع الثاني:
حيث قلنا بإسقاط الوضوء، فهل يكون ذلك رخصة لمن نزل به لا يتعداه، أو سقوط ذلك يجعل الخارج كالعدم؟ فيه قولان، ينبني عليها جواز إمامته لغيره.
وكذلك الخلاف في إمامة من تنفصل منه نجاسة لا يقدر على الاحتراز منها، كمن به قروح.
ولو فارق في المحل خاصة، كما لو خرج المعتاد على العادة من غير المخرج، فللمتأخرين في نقض الطهارة به قولان، سببهما النظر إلى العادة والخارج، أو النظر إلى المخرج، فإن لم يخرج على العادة وخرج نادرا لم ينقض الوضوء.
وقال أبو الحسن اللخمي في القيء يتصف بأحد أوصاف نواقض الطهارة: أنه ينقض، ورآه القياس، وعلل بأن الانتقاض للخارج لا للمخرج.

.القسم الثاني: الأسباب:

ونعني بها ما لا ينقض الوضوء بنفسه، ولكن بما يؤدي إليه.
وهي ثلاثة أنواع:

.الأول: زوال العقل بإغماء أو جنون أو سكر أو نوم:

كل ذلك ينقض الطهارة مطلقا، إلا النوم ففيه تفصيل واختلاف، واختلفت طريقنا أبي الحسن اللخمي وأبي محمد عبد الحميد في تحرير المشهور من ذلك، فاعتبر أبو الحسن اللخمي زمانه وكيفيته، فقسمه، بحسب ذلك أربعة أقسام.
[1] طويلا ثقيلا، يؤثر في نقض الوضوء بلا خلاف في المذهب.
[2] وقصيرا خفيفا لا يؤثر على المعروف منه.
[3] وخفيفا طويلا يستحب منه الوضوء.
[4] وثقيلا قصيرا في تأثيره في النقض قولان.
وقال بعض المتأخرين: القولان جاريان في الثالث أيضا.
واعتبر أبو محمد عبد الحميد الهيئات، فقال: إن كان النائم على هيئة يتهيأ منه الطول وخروج الحدث كالساجد، نقض. وإن كان بالعكس فيهما كالقائم والمحتبي لم يؤثر.
وقال: وإن انقسم الأمر فكان إمكان الطول مع عدم إمكان خروج الحدث غالبا، كالجالس مستندا أو عكسه كالراكع، ففي كل هيئة منها قولان، سببهما تعارض موجب ومسقط.
قال الشيخ أبو الطاهر: وهذه الطريقة أشبه بمقتضى الروايات، ثم قال: ومقصود الجميع النظر إلى الغالب، فإن كان يمكن خروج الحدث ولا يشعر به، وجب الوضوء، وإن كان الأمر بالعكس لم يجب. وغن أشكل الأمر فهو بمنزلة من تيقن الطهارة ثم شك في خروج الحدث.

.النوع الثاني: لمس من توجد اللذة بلمسه في العادة:

إذا وجدها اللامس، وإن لم يقصدها، وكذلك إذا قصدها وإن لم يجدها على المنصوص.
واستقرأ بعض المتأخرين من مسألة الرفض أنه لا ينقض وتعقب بالفرق بمقارنة الفعل، فإن لم يقصد ولم يجد، فلا ينتقض وضوءه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وهو ما روى أبو بكر البزار، عن إسماعيل بن يعقوب بن صبيح، عن محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه عن عبد الكريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ».
قال عبد الحق: عبد الكريم هو الجزري، ثقة جليل.
وأما الملموس فإن وجد اللذة توضأ، وإن لم يجدها فلا وضوء عليه ما لم يقصد، فيكون لامسا إلا أن تكون القبلة على الفم، فلا تراعي اللذة فيها، لأنها لا تكاد تعدم معها.
وروي أنها تراعي، وهو خلاف في شهادة.
ولو كان اللمس من وراء حائل، فروي ابن القاسم وجوب الوضوء مطلقا. وقيد علي بن زياد هذه الرواية بأن يكون الحائل خفيفا.
فأما لو نظر فالتذ بمداومة النظر ولم ينتشر ذلك منه، فلا يؤثر في نقض الطهارة؛ لأن تأثيره حرج. وانفرد ابن بكير بأنه يؤثر. ولو أنعظ فكمل إنعاظه، فقولان للمتأخرين، ورويا وسببهما الشهادة بأنه لا ينكسر في العادة إلا عن مذي أو قد ينكسر دونه.

.النوع الثالث: مس الذكر:

وينتقض الوضوء به في الرواية الأخيرة لحديث بسرة، لكن قيد بكونه على صفة مخصوصة اختلف في تعيينها، فرأى العراقيون أنها اللذة. ورآها في المجموعة العمد، واعتبر أشهب مسه بباطن الكف، واعتبر في الكتاب باطن الكف أو باطن الأصابع.
قال الشيخ أبو الطاهر: والكل مجمعون على مراعاة وجود اللذة وفقدها لكن عدوا في الروايات أن فقدها، مع ما قيدوه، نادر فلا يراعى، وراعاه العراقيون.
وقال شيخه الإمام أبو عبد الله: من لم يراع اللذة من أصحابنا، ورأى أن مجرد مسه بباطن الكف، سهوا وعمدا، ينقض الوضوء، فإنه يرى أن نقض الوضوء بمسه حكم غير معلل.
فرعان:
الأول: لو مسه بأصبع زائدة، فقال القاضي أبو بكر: اختلف فيه أصحابنا قال: والأظهر وجوب الوضوء.
الفرع الثاني:
لو مسه من فوق حائل، فقال القاضي أبو الحسن: العمل من الروايات على أنه إذا مسه من فوق ثوب أو من تحته انتقضت طهارته. وقال القاضي أبو بكر: روى ابن وهب: إذا مسه على غلالة خفيفة انتقض وضوؤه، ولا حكم لمس الذكر المبان ولا لمس ذكر الغير، إلا من باب الملامسة، ولا ينتقض وضوء من مس ذكره غيره. وقال الأيلي البصري من أصحابنا: ينتقض وضوؤه.
وفي مس المرأة فرجها ثلاث روايات.
النقض ونفيه، لعلي بن زياد وابن القاسم.
والتفرقة بين أن تلطف فيجب الوضوء، وبين أن لا تلطف فلا يجب، وهي رواية ابن أبي أويس.
واختلف المتأخرون في بقاء هذه الروايات على ظاهرها وعدها ثلاثا، أو عد المفصل مفسرا، أو عد المذهب على قولين: نفي النقض مطلقا، والتفصيل على ثلاث طرق.
فرع:
قال إسماعيل بن أبي أويس: قلت لمالك: ما ألطفت؟ بقال: تدخل يدها في ما بين الشفرين.
ولا ينقض الوضوء من مس الدبر. وانفرد حمديس ببانه إذا مس حلقة الدبر وجب عليه الوضوء على القول بإيجاب الوضوء على المرأة في مس فرجها، قال: وعلى القول الآخر لا وضوء عليه.
قال عبد الحق: الفرق بينهما أن المرأة تلتذ بمس فرجها، وليس في مس الدبر لذة، قال ابن سابق: ولا يلزم هذا حمديسا، لأنه لم يعلل باللذة بل بمجرد اللمس.
وأما مس الخنثى المشكل لفرج نفسه، فقال الإمام أبو عبد الله: عندي أنه يتخرج على القولين في من أيقن بالوضوء وشك في الحدث، ثم قال وهذا على مذهب المغاربة، وأما على مذهب البغداديين، ففي أي الفرجين اعتاد وجود اللذة، تعلق الحكم به.
فإن قيل: أوضحوا حكم الشاك في الطهارة والمرتد، فإنه لم يبق مما يتعلق بإيجاب الوضوء سواهما. قلنا: أما الشك فله حالتان.
الأولى: حالة المستنكح ولا اعتبار بها، بل يعمل على أول خاطريه، لأنه مساو فيه لمن خاطره سليم، ويضرب عما سواه.
الحالة الثانية: حالة سلامة خاطره، وهي المعتبرة فينتقض وضوءه إذا شك في وجود الطهر والحدث جميعا، أو تيقن بهما جميعا وشك أيهما قبل صاحبه،؛ إذ لا يقين معه في الصورتين يستصحبه ويبني عليه.
وكذلك إن تيقن الحدث وشك في الوضوء أو في بعضه، لأنه على أصل الحدث، وكذلك لو شك مع ذلك أكان قبل الحدث أو بعده؟ فأولى بإيجاب الوضوء.
فإن أيقن بالطهارة وشك في طروء الحدث عليها، فروى ابن القاسم في الكتاب: أنه يعيد الوضوء، وروى ابن وهب في غيره: أحب إلي أن يتوضأ.
واختلف الأصحاب في تأويل رواية ابن القاسم، فأجراها القاضي أبو الفرج على الوجوب.
قال القاضي أبو الحسن: وإلى هذا كان ذهب شيخنا أبو بكر الأبهري، وأنا أختاره. وحملها أبو يعقوب الرازي على الاستحباب.
قال القاضي أبو محمد: وقد ذكر بعض المدنيين عن الأسلمي عن مالك فيمن أثبت أنه على وضوء، ثم شك في الحدث، قال: هو على وضوءه. قال القاضي أبو محمد: وهذا يؤيد قول من حمل رواية ابن القاسم على الاحتياط.
واعلم أن سبب القولين تقابل الأصليين؛ إذ استصحاب أصل الطهارة يقابله أصل آخر وهو كون الصلاة في ذمته بيقين، وقد اشترط في براءته منها أن يدخلها متيقنا كونه متطهرا حالة الدخول، ولا يجتمع اليقين والشك، فتعينت الطهارة لبراءة الذمة.
ولو كانت الصورة بحالها، إلا أنه شك مع ذلك هل كان حدثه قبل الوضوء أو بعده؟ فالقولان جاريان، وأولى ها هنا بعدم إيجاب الوضوء.
وأما المرتد إذا عاد إلى الإسلام قبل أن يحدث، فقد اختلف في تأثير الارتداد في نقض وضوئه على روايتين، سببهما الخلاف في الإحباط بدون الموافاة، هل يحصل أم لا؟ وجعله أبو الحسن اللخمي من الرفض.

.الفصل الثاني: في حكمها:

وهو المنع من الصلاة، ومس المصحف، وحمله قصدا إليه، ويستوي في المس الجلد والحواشي و محل الكتابة، ولا يحمله في خريطة، ولا بعلاقة، ولا في صندوق، ولا يقلب أوراقه بقضيب. ولا بأس بحمله في صندوق أو غرارة أو غير ذلك إذا كان فيها أمتعة مقصودة بالحمل، إلا أن يكون المقصود بحمل ذلك حمل المصحف.
ويجوز مس كتاب التفسير والفقه والدرهم المنقوش وما كتب للدراسة كاللوح للصبيان، فلا يكلف المتعلم الطهارة لمس اللوح. قال ابن القاسم: ولا المعلم عندما يشكلها. و قال ابن حبيب: يكره مسها للمعلم إلا على وضوء، ويستحب للصبيان مس الأجزاء للتعليم كالألواح والأكتاف، ويكره لهم مس المصحف الجامع إلا على وضوء.

.الباب الرابع: في الغسل:

.والنظر في موجبه وكيفيته.

.النظر الأول: في الموجب.

.وموجباته خمسة:

.الأول: انقطاع دم الحيض والنفاس:

وسيأتي حكمها.

.الثاني: الموت:

وسيأتي في الجنائز.

.الثالث: الولادة:

فيجب عليها الغسل وإن كانت ذات جفاف. روى ذلك عبد الله بن عبد الحكم وأشهب. وقال أبو الحسن اللخمي: طلا غسل عليها، قال: واستحب مالك الغسل، وقال: لا يأتي الغسل إلا بخير.

.الرابع: الإسلام:

فيجب على من أسلم أن يغتسل، وروي أنه مستحب، وبذلك قال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق.
وسبب الخلاف: أن الغسل لكونه جنبا على الرواية المشهورة، وقال القاضي أبو إسحاق: بل هو تعبد، وقد بطل حكم الجنابة بالإسلام، وينبني على ذلك فرعان:
الأول: غسل من لم تتقدم منه جنابة قبل إسلامه.
والثاني: أنه يتيمم إذا فقد الماء، وهو على المنصوص، قال الشيخ أبو الطاهر: وقد يقال: إن من لم يجعل غسله للجنابة لا يلزمه التيمم.

.الخامس: الجنابة:

وهي المقصودة بالذكر، وتحصل بالتقاء الختانين بمغيب الحشفة، وبخروج المني، ثم ليس المقصود الختان، بل لهو قطعت الحشفة فغيب مثلها كفى.
وكذلك إذا أولج في فرج ميتة أو بهيمة أو في الدبر، ولا ختان فيه، وكذلك لو فعلته امرأة بذكر بهيمة. فأما الإيلاج في قبل خنثى مشكل، فخرجه الإمام أبو عبد الله على نقض الطهارة بالشك كاللمس.
فرعان:
الأول: إذا عدم البلوغ في الواطئ والموطوءة أو في أحدهما، فأما إن كانا غير بالغين، فقال الشيخ أبو الطاهر: مقتضى المذهب إلا غسل، قال: وقد يؤمران به على جهة التدرب.
وإن وطء الصغيرة كبيرة فلا يجب عليها الغسل، إلا أن تنزل. وقيل: يجب.
وإن وطئ الكبير صغيرة ممن تؤمر بالصلاة، فقال أشهب: تغتسل: وفي مختصر الوقار: لا تغتسل.
قال القاضي أبو محمد: الخلاف في أمر البالغة بالغسل من وطء غير البالغ إنما هو في حق من تلتذ النساء بوطئه، كالمراهق ومن يقاربه، وقال أيضا: الاتفاق حاصل على سقوط الوجوب عن الموطوءة إذا كانت غير بالغ، وإن كان الواطئ بالغا. لكن أمرها أشهب به إذا كانت ممن تؤمر بالصلاة لأنها لا تصح إلا به، كما يأمرها بالوضوء.
وقال الوقار: لا تؤمر به، لأنها أنما أمرت بالوضوء للتدرب عليه لتكرره، بخلاف الغسل كالصلاة مع الصوم.
الفرع الثاني:
لو جامع فيما دون الفرج، فأنزل، فوصل الماء إليه، فإن أنزلت وجب الغسل، وإن لم تنزل ولم تلتذ لم يجب، وإن التذت ولم يظهر منها إنزال، فقولان:
وجوب الغسل لأن التذاذها قد يحصل به الإنزال ولا يبرز، وغالب حالها الإنزال عند ذلك. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الاختيار للاحتياط. وقال القاضي أبو الوليد: وهو عندي، معنى قول مالك.
والقول الثاني: نفي الغسل، وهو تأويل ابن القاسم عن مالك.
أما خروج المني، فوجب للغسل إذا كان مقارنا للذة المعتادة. ومني الرجل في اعتدال الحال: أبيض ثخين دافق ذو دفعات يخرج بشهوة ويعقب بخروجه فتورا، ورائحته رائحة الطلع، ويقرب من رائحة الطلع رائحة العجين، ومني المرأة رقيق أصفر.
فلو خرج المني عريا عن اللذة، مثل أن يمرض فيخرج لمرضه، فلا يوجب الغسل، وقيل: يوجبه.
وإذا فرعنا على الأول، فهل يجب الوضوء أو يستحب؟ قولان ينبنيان على نوادر ما ي خرج من السبيلين كما تقدم.
ولو قارنته لذة غير معتادة كمن به حكة في جسده حكها، أو اغتسل لها بالماء الحار، فأمنى، ففي إيجاب الغسل عليه بذلك خلاف. وقول سحنون فيهما الوجوب.
واختلف أيضا في وجوبه إذا لدغته عقرب أو ضرب أسواطا أو ضرب بسيف فأمنى، واختيار الشيخ أبي إسحاق: الوجوب في الجميع.
ولو وجدت اللذة المعتادة، لكن تقدمت على خروجه، كمن يجامع فيجد اللذة، أو يلتذ بغير جماع، ولا يكون في شيء من ذلك مني، ثم بعد ذهاب تلك اللذة جملة يكون منه المني، ففي وجوب الغسل ونفيه ثلاثة أقوال:
ـ الوجوب التفاتا إلى اللذة المتقدمة لتأثيرها في انفصال الماء عن محله.
ـ والنفي لأنه لا حكم له ما لم يبرز مقارنا لها.
ـ والتفرقة بين أن يكون عن جماع واغتسل له قبل بروز الماء، ثم برز، فلا يعيد الغسل، وبين أن يكون لم يغتسل له، فإنه يغتسل.
وضعف الإمام أبو عبد الله القول بالتفرقة، ورأى أنه لا وجه له. واختار القاضي أبو بكر وجوب الغسل.
التفريع: إن قلنا بوجوب الغسل، وكان بروز الماء بعد الصلاة، فعليه إعادتها. وقال ابن المواز: لا تلزمه الإعادة، وهو رأي أبي عبد الله، والقاضي أبي بكر والقولان خلاف في تأثيره بالمفارقة أو البروز، وإن قلنا بإسقاط الغسل أمر بالوضوء، وهل هو على جهة الوجوب أو الندب؟ قولان للبغداديين.
فرع:
لو شك في انتفاض الطهر بأن انتبه فوجد بللا على إحليله لا يرى غير ذلك، ولا يذكر أنه رأى في منامه شيئا، ولا يدري أمذي هو أو مني، وقد أيقن أنه ليس بعرق، فقال مالك: لا أدري ما هذا. وقال ابن نافع: إن شك اغتسل، وقال علي بن زياد، لا يلزمه إلا الوضوء مع غسل الذكر. وقال ابن سابق: وهي مبنية على أصل مالك فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث.
ولو تيقن بأنه مني اغتسل.
ولو رأى في ثوبه احتلاما، وشك في زمن خروجه، إذ كان يابسا ففي الواضحة: يعيد ما صلى من أول نومة نامها فيه. وقال ابن عبد الحكم: يعيد الصلاة من أحدث نومة نامها فيه. قال في كتاب ابن حبيب: إلا أن يكون يلبسه ولا ينزعه، فإنه يعيد من اول نوم نام فيه.
ولو كان الاحتلام طريا، أعاد من أقرب نومة نامها فيه، قولا واحدا. حكى ذلك ابن سابق.
والمرأة إذا تلذذت بخروج مائها لزمها الغسل، ثم حكم الجنابة حكم الحدث، مع زيادة تحريم قراءة القرآن، ودخول المسجد، وله أن يقرأ الآية ونحوها للتعوذ.
ويفارق الجنب الحائض في جواز قراءة القرآن لها ظاهرا في أشهر الروايتين لحاجة التعلم وخوف النسيان، وفضل ماء الحائض والجنب طهور.
ولا بأس لجنب أن يجامع ويأكل ويشرب، لكن يتوضأ وضوءه للصلاة عند إرادته للنوم، واختلف هل هو مندوب أو واجب؟ والوجوب هو رأي ابن حبيب، واختيار القاضي أبي بكر. وهل سببه رجاء أن ينشط فيغتسل أو لينام على إحدى الطهارتين وعلى تحقيقه يخرج وضوء الحائض وتيمم العاجز.

.وأما كيفية الغسل:

فأوله النية، واستيعاب البدن يصب الماء، والدلك، وقيل: لا يجب الدلك. ووقع القاضي أبي الفرج: أنه يجب لا لنفسه، بل ليصل الماء إلى جميع الجسد.
وسبب الخلاف: هل يسمي أهل اللغة صب الماء من غير ذلك غسلا حقيقة أم لا؟ وإذا فرعنا على المشهور، ففي اشتراط مقارنته لصب الماء من غير تراخ خلاف.
ولا تجب المضمضة والاستنشاق.
ويؤمر إيصال الماء إلى منابت الشعور وإن كثفت، ولا يجب على المرأة نقض ضفائرها، بل تحثي عليها الماء، وتضغثها بيديها، كما جاء في الحديث.
ويخلل الرجل لحيته، وهل ذلك على جهة الوجوب أو الندب؟ روايتان.
والأكمل أن يبدأ بغسل يديه، ثم يزيل ما على بدنه من أذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، وإن لم يكن محدثا، ويؤخر غسل الرجلين إلى آخر الغسل في إحدى الروايتين ويفعله في مكانه من الوضوء في الأخرى، ثم يفيض الماء على رأسه، ثم يكرره ثلاثا ويضغثه في كل دفعة.
وماء الوضوء والغسل غير مقدر، وقد ير فق بالقليل فيكفي، ويخرق الكثير فلا يكفي.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يتقدر في الأقل بالمد والصاع، قال القاضي أبو بكر: ومراده التقدير بهما في الكيل لا في الوزن.

.الباب الخامس: في التيمم:

وفيه ثلاثة فصول:

.الفصل الأول: فيما ينقل إلى التيمم:

وهو العجز عن استعمال الماء، وللعجز أسباب ستة:

.الأول: فقد الماء.

وللمكلف أربع أحوال:
الأولى: أن يتحقق عدم الماء حواليه، فيتيمم من غير طلب.
الثانية: أن يتوهم وجوده حواليه، فليتردد إلى حد لا يدخل عليه ضرر ولا مشقة، ولا يتحدد ذلك بحد؛ إذ الشاب القوي لا يشق عليه ما يشق على المرأة والرجل المسن.
الثالثة: أن يعتقد وجود الماء في حد القرب، فيلزمه السعي إليه.
وحد القرب ما لم ينته إلى المشقة أو خوف فوات الأصحاب. وروي في كتاب محمد: إذا لم يخف في نصف الميل إليه العناء والمشقة، فمن الناس من يشق عليه. وقال سحنون: لا يعدل الميلين وإن كان آمنا.
فإن انتهى البعد إلى حيث لا يجد الماء في الوقت، فلا يؤخر إليه.
ويطلب المسافر من رفقته، ولا يلزمه أن يطلب من جميعهم إذا كانوا كثيرا، بل ممن يليه منهم، وإن كانوا قليلا طلب من جميعهم، فإن ترك الطلب من الرفقة، فقال الإمام أبو عبد الله: ذكر بعض أصحابنا أنه إن لم يكن معه إلا الرجلان والثلاثة، فلم يطلب منهم أعاد الصلاة أبدا، وإن ترك طلب العدد القليل الذي أمر به في الرفقة القليلة أعاد في الوقت، وإن ترك الطلب أصلا من الرفقة الكثيرة، لم يعد. قال الإمام: وهذا ضعيف؛ لأن القليل من الرفقة الكثيرة، إذا أمرناه بالطلب منه، كالقليل الذي ليس معه غيره.
فرعان:
الأول: وقت التيمم، وهو بعد دخول وقت الصلاة على المعروف من المذهب، وأجازه الشيخ أبو إسحاق قبل دخوله، وبناه بعض المتأخرين على القول برفع الحدث.
وإذا فرعنا على المعروف فما محله من الوقت؟ قال الإمام أبو عبد الله: اختلفت روايات المذهب في ذلك، قال: والمشهور أن الآيس يتيمم أوله، والراجي يتيمم آخر وقت الاختيار. ومن تساوى عنده الأمران يتيمم وسطه. قال: وروي أن المتيمم على الإطلاق يتيمم آخر الوقت، وقيل: بل وسط الوقت، إلا الراجي فإنه يؤخر. وقيل: بل آخر الوقت، إلا الآيس، فإنه يقدم أول الوقت.
الفرع الثاني:
لو صلى أحد هؤلاء ثم وجد الماء بعد الصلاة، فلا إعادة على من أوقع الصلاة في الوقت المأمور بإيقاعها فيه إلا الشاك المتردد في إدراك الماء في الوقت مع علمه بوجوده، فإنه يعيد في الوقت، لأنه كالمقصر في اجتهاده، والمخطئ في حدسه، ولو أنهاه نهايته لأوشك أن يظهر له أنه يبلغ الماء في الوقت. وينخرط في سلكه الخائف من لصوص على الماء لجواز تقصيره، وكذلك المريض العادم من يناوله الماء لتقصيره في الاستعداد، فحكم هؤلاء التيمم وسط الوقت لأجل الشك، واختصوا بالإعادة في الوقت، دون من لا علم عنده من الماء، لما ذكرناه من تقصيرهم.
فأما من خالف المشهور، فإن آخر ما أمر بتقديمه فلا خفاء بسقوط الإعادة عنه إذا بالغ في الاستظهار، وإن قدم أول الوقت ما أمر بتأخيره إلى آخره، فقيل: يعيد في الوقت خاصة، وقيل: في الوقت وبعده.
وسبب الخلاف: هل التأخير من باب الأولى والأحسن، أو من باب الأوجب؟ إذ به تتحقق الضرورة، وهو محل الوجوب على هذا الرأي. وقيل: بالفرق بين العالم والظان، فتجب الإعادة مطلقا في حق العالم، وتتخصص بالوقت في حق الظان.
وأما إن قدم من أمرنا بالتوسط، فلم يختلف هؤلاء في أنه لا يعيد بعد الوقت.
فرع مرتب: من أمرناه بالإعادة في الوقت، فلم يفعل لأنه نسى أن يعيد بعد أن ذكر، فهل يعيد بعده؟ المشهور أنه لا يعيد، وهو الأصل. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بالإعادة عند ابن حبيب، ثم قال: ويجزئه في كل من أمر أن يعيد في الوقت، قال: لأنه يرى أنه إذا أمر بالإعادة فقد ترتبت في ذمته، فلا يبرأ إلا بفعلها.
الحالة الرابعة: أن يكون الماء حاضرا بين يديه في بئر، لكن ليس معه آلة يتوصل بها إليه، فيتيمم لأنه فاقد.
ولو وجد الآلة، لكن كان الماء في مهواة بعيدة، فإن اشتغل بالنزع فإنه الوقت، فروايتان. واختيار المغاربة أنه يشتغل بنزع الماء لوجوده، واختيار العراقيين أنه يتيمم لأن عدم القدرة على الاستعمال في الوقت كالعدم المطلق.
وكذلك لو كان الماء بين يديه يمكنه استعماله، لكن لو تشاغل باستعماله خرج الوقت لضيقه، فأولى بوجوب استعماله عند المغاربة لأنه واجد. وقال القاضي أبو محمد: يتيمم، وحكاه القاضي أبو جعفر الأبهري رواية.
فرع:
لو وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه أو لغسله لم يلزمه استعماله قبل التيمم، بل هو كالفاقد جملة.

.السبب الثاني: أن يخاف على نفسه أو ماله السبع أو سارقا:

فله التيمم، وقيل: إن الخوف على المال لا يلحق بالخوف على النفس في الإباحة.
ولو وهب منه الماء، فقال القزويني: يلزمه قبوله، ليس له أن يتيمم ويترك القبول للمنة، لأنها لا تدرك في مثل هذا. وقال القاضي أبو بكر: لا يلزمه القبول.
وقال غيرهما: ولا يلزمه القبول إذا وهب ثمن الماء، فإن المنة فيه تثقل.
وقال ابن سابق: يلزمه قبول الماء قولا واحدا، بخلاف الثمن، فإنه لا يلزمه قبوله ويتيمم.
ولو بيع بثمن يجحف به لقلة دراهمه أو لكثرة الزيادة على ثمنه المعتاد، ولم يلزمه شراؤه. وبثمن المثل وما لا يجحف به، يلزمه، إلا احتاج إلى الثمن لنفقة سفره.

.السبب الثالث: أن يحتاج إليه لعطشه في الحال:

أو لتوقعه في المآل بأن يغلب على ظنه أنه لا يجد ماء، أو لعطش من معه، فله التيمم إن خاف العطش الذي يهلك. وإن خاف عطشا يمرضه، جرى على الخلاف فيمن خاف من استعمال الماء المرض، كما سيأتي في السبب الخامس.
ولو مات صاحب الماء ومعه جنب الماء إنما يكفي أحدهما، غسل به صاحبه، وهو أولى به؛ إلا أن يحتاج إليه الحي لشربه، فحينئذ هو أولى به، ثم يقوم بثمن الماء للوارث وليس له دفع مثله إذا رجع إلى بلده.
وإن كان الماء بينهما، فقال ابن القاسم: الحي أولى به، وييمم الميت. وقال القاضي أبو بكر: الميت أولى به.

.السبب الرابع: العجز بسبب الجهل:

كما إذا نسي الماء في رحله وتيمم، فإن ذكر بعد الفراغ فثلاثة أقوال:
نفي الإعادة مطلقا، لأنه ليس بقادر في حال نسيانه، قال: وإن أعاد في الوقت فحسن، وهي رواية عبد الله بن عبد الحكم في مختصره.
وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: يعيد أبدا، نسيه أو خفي عليه، أو لم ي علم به؛ لأنه بنسيانه مفرط مقصر في الطلب. وقال ابن القاسم: يعيد في الوقت، وهو قول مراع للخلاف.
وإن ذكر في الصلاة، فعلى الأمر بالإعادة يقطع، وعلى القول بنفيها يتمادى، وتجزئه الصلاة.
فلو أدرج في رحله ولم يشعر به ولم يقطع ولم يقض؛ إذ لا تفريط، وكذلك لو أضل الماء في رحله، فلم يجده مع الإمعان في الطلب، وخشي فوات الوقت، وأولى بعدم القضاء.
وظاهر رواية مطرف ومن ذكر معه يقتضي جريان الخلاف فيهما، فأما لو أضل رحله في الرحال، وبالغ في طلبه حتى خاف فوات الوقت، فإنه يتيمم، ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره.

.السبب الخامس: المرض الذي يخاف من الوضوء معه فوت الروح:

أو فوت منفعة، وكذلك لو خاف زيادة المرض، أو تأخر البرء، أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه، فإنه يتيمم على المعروف من المذهب، قال القاضي أبو الحسن: وكذا إن خاف الصحيح نزله أو حمى، فإن كل ذلك ضرر ظاهر، وروى بعض البغداديين رواية شاذة: أنه لا ينتقل إلى التيمم بمجرد خوف حدوث المرض، أو زيادته إن كان مريضا أو تأخر برؤه.
فإن كان إنما يتألم في الحال، ولا يخاف عاقبة، لزمه الوضوء والغسل.

.السبب السادس: استيعاب الشجاج أو الجروح أو القروح أكثر جسد الجنب:

أو أكثر أعضاء الوضوء من المحدث حتى لم يبق إلا يد أو رجل فيسقط عنه استعمال الماء ويتيمم، ولا يلزمه الجمع بين الماء والتيمم ولا الإعادة إذا صح.
فرعان:
الأول: لو ترك من هو بهذه الحال التيمم، وغسل ما صح من جسده، ومسح على الجبائر في سائره لم يجزه ما فعل؛ لأنه ترك فرضه وهو التيمم. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: وهو بمثابة من وجد من الماء دون كفايته للغسل، أو للوضوء، فأراد أن يمسح به جسده أو أعضاءه، فإن المسح لا يجزئه.
الفرع الثاني:
عدم الحاضر الصحيح الماء، وخشي فوات الوقت، فمقتضى التأصيل المتقدم أنه يتيمم، وهي الرواية المشهورة، وروي في غير الكتاب: أنه لا ي تمم بحال.
وإذا فرعنا على الأول، فهل يعيد؟ المشهور أنه لا إعادة عليه. وقال ابن عبد الحكم وابن حبيب: يعيد أبدا، قال ابن حبيب: وإليه رجع مالك.

.الفصل الثاني: في كيفية التيمم:

وله أربعة أركان:

.الأول: القصد إلى الصعيد:

وهو وجه الأرض ولا يتخصص بذلك التراب على المشهور، ولا يلزم النقل، بل يجزي التيمم على الحجر الصلد والرمل والسباخ والنورة والزرنيخ وجميع أجزاء الأرض، ما دامت على جهتها لم تغيرها صنعة آدمي بطبخ ونحوه، وسواء فعل ذلك مع وجود التراب أو عدمه. وقيل: لا يجزئ بغير التراب مطلقا. وخصص ابن حبيب الإجزاء بعدم التراب.
وفي جواز التراب على الثلج ومنع روايتان لابن القاسم وأشهب، وفي التيمم على الملح خلاف أيضا، وأولى بالصحة.
فرع:
لو تيمم على موضع نجس، فقال ابن القاسم: يعيد في الوقت. قال القاضي أبو محمد: ويحكى منع التيمم بالصعيد النجس عن محمد بن عبد الحكم، ثم اختاره، وذكر أنه اختيار الشيخ أبي بكر.

.الركن الثاني: أن ينوي استباحة الصلاة:

ويستوي في ذلك حال المحدث والجنب في حالة الذكر، وفي استوائهما في حالة النسيان روايتان.
ولو نوى استباحة الفرض جاز النفل أيضا معه للتبعية، لكن بعده، فلا يصلي ركعتي الفجر بتيمم الصبح، وقيل: يصليهما، ورواه محمد بن يحيى.
ولو نوى فرضين صح تيممه، ولا يصلي به أكثر من فرض واحد على المشهور.

.الركن الثالث: أن يستوعب وجهه بالمسح:

يبدأ مارا بيديه من أعلاه إلى أن يستوفيه، ويراعي الوترة، وهي حجاب ما بين المنخرين.

.الرابع: مسح اليدين إلى المرفقينك

ولا يغفل شيئا، ويخلل الأصابع، وينزع الخاتم على المنصوص.
وقيل: إن اقتصر على المسح إلى الكوعين أجزأه.
فرعان:
الأول: إذا فرعنا على المشهور، فاقتصر على الكوعين، فقال ابن القاسم: يعيد في الوقت، وقال غيره: يعيد أبدا.
الفرع الثاني:
هل تراعى الصفة في مسح اليدين أم لا؟ قولان، المشهور مراعاة الصفة فيهما، وهي أن يبدأ بيسرى يديه يمسح بها ظاهر اليمنى مارا إلى المرفق، ثم يعيد على الباطن مارا إلى الكف، وفي اليسرى كذلك، ولم يراع هذه الصفة محمد بن عبد الحكم.
وأجرى أبو الحسن اللخمي الخلاف في ذلك على مراعاة التراب، فتراعى الصفة، وعدم مراعاته فلا تراعى. وقال غيره من المتأخرين: إنا وإن لم نراع التراب فنراعي حكمه، قال: ودليله أنا لا نراعيه على المشهور، وقد راعينا الصفة فيه.
فرع مرتب: إذا قلنا بالمشهور في مراعاة الصفة، فهل يمسح كفه اليمنى قبل الشروع في اليسرى أو يشرع فيها إذا وصل إلى الكوع، ثم إذا وصل إليه من الأخرى مسح الكفين بعضهما ببعض؟ قولان: والأول اختيار الشيخ أبي الحسن وأبي محمد عبد الحق، والثاني قول ابن حبيب وروايته، وقد تؤولا من لفظ الكتاب.
والمأمور به ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين.
فإن اقتصر على ضربة واحدة، فقال ابن نافع: يعيد أبدا. وروى ابن القاسم: إذا تيمم بضربة واحدة للوجه واليدين رجوت أن تجزئه. قال ابن القاسم: ولا يعيد في وقت ولا غيره، وفي المختصر أيضا: لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب: وقيل: يعيد في الوقت.
ومما يندرج تحت الكلام على الكيفية حكم الترتيب والموالاة، وحكمهما في ذلك حكمهما في الوضوء.

.الفصل الثالث: في أحكام التيمم:

وله حكمان:

.الأول: أنه يبطل برؤية الماء قبل الشروع في الصلاة:

إلا أن يخشى فوات الوقت باستعماله لضيق الوقت فيخرج على ما تقدم، وأولى ها هنا بترك الاستعمال. ولا تبطل الصلاة بعد الشروع فيها، ولا توجب الإعادة بعد الفراغ منها.

.الثاني: أنه لا يجمع بين فرضين بتيمم واحد على المشهور:

وقال القاضي أبو محمد: وهو معلل بثلاث علل:
الأولى: أنه لا يرفع الحدث، ولا يستباح به إلا أقل ما يمكن فيه.
الثانية: أنه لا يتقدم على الوقت.
الثالثة: أن الطلب واجب لكل صلاة.
وروى القاضي أبو الفرج: أنه لا بأس أن يجمع بين صلاتين من الفوائت بتيمم واحد، وأجاز الشيخ أبو إسحاق أن يجمع المريض بين فرضين بتيمم واحد.
وخرج بعض المتأخرين الخلاف في ذلك على الخلاف في وجوب الطلب وشرطية دخول الوقت، ورأى بعضهم تخريجه على الخلاف في كون التيمم يرفع الحدث، وقد اشتد نكير القاضي أبي محمد على من يضيف هذا القول إلى المذهب.
تنبيه:
رأيت للقاضي أبي بكر في بعض كتبه: أن التيمم يرفع الحدث، وعزاه إلى المذهب ونصره، ثم رأيت له في غيره ما نصه: إن الحدث سبب تثبت عنه أحكام، فاستعمال الماء يرفع السبب، فترتفع الأحكام بارتفاع سببها. والتيمم يرفع الأحكام رخصة مع بقاء سببها، فلا يبقى حكم، لكن السبب باق، ونصر هذا. ويظهر لي أنه آخر قولية، وهو عندي أحسنها.
فرع:
فإن جمع بين فرضين بتيمم واحد، فقال ابن القاسم في العتبية: يعيد في الوقت، ولو أعاد أبدا كان أحب إلي، وقال في كتاب محمد: يعيد أبدا. وقال أصبغ: إن كانتا مشتركتي الوقت كالظهر والعصر والمغرب والعشاء، أعاد الثانية في الوقت، وإن كانتا غير مشتركتي الوقت كالعصر والمغرب، أعاد الثانية أبدا، وقال: هذا معنى قول ابن القاسم.
ويجمع بين فرض ونوافل وبعده بتيمم واحد، ويجمع بين الطواف وركعتيه بتيمم واحد، لأنهما كالتابع له.
ولو نسي صلاة من خمس صلوات صلى الخمس بتيمم لكل واحدة على المشهور.
وقد تقدم أنه لا يتيمم لفريضة قبل دخول وقتها على المعروف من المذهب، ودخول وقت الفائتة بتذكرها.
ولو خشي فوات الجمعة إن تشاغل بالماء، ففي جواز التيمم له ليدركها قولان.
فرع:
من لم يجد ماء ولا ترابا، على رأي من يشترطه، أو تعذر عليه الوصول إلى الصعيد، فقال مالك وابن نافع: لا صلاة ولا قضاء، وقال ابن القاسم: يصلي ويقضي، وقال أشهب: يصلي ولا يعيد، وقال أصبغ: يصلي إذا قدر.
والشيخ أبو الطاهر يرى سبب هذا الخلاف الاختلاف في كون الطهارة شرطا في الوجوب، فتسقط الصلاة عمن تعذرت عليه، أو شرطا في الأداء، فيقف الفعل على الوجود.
قال: وأما الصلاة في الحال دون الإعادة أو معها، فمبنيان على الأخذ بالأحوط وبالغ أحدهما في الاحتياط.
والقاضي أبو بكر يرى كون الطهارة شرطا في الأداء لا في الوجوب متفقا عليه مع وجود هذا الاختلاف.

.الباب السادس: في المسح على الخفين والجبائر:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في المسح على الخفين:

هو مشروع رخصة للرجال والنساء في السفر وفي الحضر أيضا على الرواية المشهورة.
قال ابن وهب: وإلهيا رجع مالك رحمه الله قال: وآخر ما فارقته عليه إجازة المسح في الحضر والسفر. قال القاضي أبو محمد: وهي أصح وأقيس.

.والنظر في شرط المسح وكيفيته وحكمه:

.وله شرطان:

الأول: في الملبوس: ولا شك في جواز المسح على الخف الذي اعتادته العرب إذا كان مفردا ساترا لمحل الوضوء صحيحا، وينتج من هذا التقييد فروع لتخلف بعض هذه القيود.
الأول: أن يكون الملبوس غير خف كالجورب واللفافة وشبه ذلك، فلا يمسح عليه.
الثاني: أن يكون خفا غليظا ليس له ساقان، ففي المسح عليه قولان، وهما على القياس على الرخص.
الثالث: الجرموق، واختلف في المراد بهذه اللفظة، فقيل: الجرموقان هما الجوربان المجلدان، وقيل: هما خف على خف، وق يل: هما خفان ذوا ساقين غليظين، يستعملهما المسافرون مشاة. والصور الثلاث مختلف في جواز المسح عليها في المذهب.
فرع مرتب:
إذا قلنا بأنهما خف على خف، وقلنا بالمسح على أحد القولين، فمسح على الأعليين ثم نزعهما، فليمسح على الأسفلين، كما يغسل الرجلين إذا نزع الخفين.
الرابع: أن يكون الخف غير ساتر لمحل الوضوء كالمحرم، يقطعه أسفل من الكعبين، فالمعروف من المذهب أنه لا يمسح عليه، وانفرد الوليد بن مسلم، فروي أنه يمسح عليه ويغسل ما بدا من كعبيه.
وأنكر القاضي أبو الوليد هذه الرواية عن مالك، وقال: إنها مذهب الأوزاعي، قال: والوليد كثير الرواية عنه.
الخامس: أن يكون الأرض خف مخرقا، فإن كان الخرق قليلا مسح عليه، ولا يمسح إذا كان كثيرا.
ثم في تحديد الكثير مذهبان: رواية المتقدمين أن المراعي ظهور القدم كلها أو جلها، فإن ظهر ذلك لم يمسح. قال في الكتاب: إن كان الخرق قليلا لا تظهر منه القدم، فليمسح عليه، وإن كان كثيرا فاحشا تظهر منه القدم، فلا يمسح عليه. ورأى البغداديون اعتبار إمكان مداومة المشي، فإن لم يمكن لم يمسح، فراعى الأولون ظهور المبدل، وراعى العراقيون فقد علة اللبس.
فرع:
لو شك في مجاوزة الخرق للقدر المعفو عنه لم يمسح؛ لأن الأصل الغسل، وقد شك في محل الرخصة.
الشرط الثاني: في اللابس:
وإذا لبسهما على طهارة بالماء كاملة لبسا مباحا للوجه المعتاد من المشي أو التوقي، مسح عليهما.
ويحدث من هذا التقييد فروع:
الأول: أنه لو لبسهما على طهارة التيمم لم يمسح، وقال أصبغ: يمسح المتيمم لبسهما قبل الصلاة.
الثاني: لو لبسهما قبل كمال الطهارة كمن غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها، لم يمسح حتى يغسل الأخرى، ثم يبتدئ اللبس. وقال مطرف: يمسح وإن لبس أحد الخفين قبل كمال الطهارة، ثم اختلف المتأخرون في بناء هذا الخلاف.
فالشيخ أبو الطاهر وغيره يرى أنه ينبني على الخلاف في أن كل عضو هل يرتفع عنه حدثه بكمال طهارته، أو يقف ارتفاع الحدث عنه على كمال طهارة جملة الأعضاء.
والقاضي أبو بكر ينكر كون هذا في المذهب مذكورا لا أصلا ولا فرعا، ويشنع على من يضيفه إليه. ويرى بناء هذا الاختلاف على الخلاف في أن استدامة اللبس هل هي كابتدائه أم لا؟ قال: وهذا أصل تنبني عليه في الشريعة أحكام في الطهارة والإيمان وغيرها، واختلف فيه قول مالك وأصحابه.
الثالث: لو لبس المحرم الخف عاصيا بلبسه لم يمسح عليه، قال القاضي أبو الوليد: لأنه منهي عن لبسه، وإنما يتعلق المسح بما أبيح لبسه.
الرابع: لو لبس ليترخص بالمسح، كما لو لبس لعمل الحناء أو للنوم لم يمسح، فإن مسح لم يجزئه على المشهور. وكذلك روى مطرف أن ذلك لا يجزئه، وعلى من فعله إعادة الصلاة أبدا. وقال أصبغ: يكره، فإن فعله أجزأه، وكذلك قال القاضي أبو محمد: يجزئه مع الكراهة لوجود شرط الرخصة.

.النظر الثاني: في كيفية المسح:

وفيه ثلاث طرق:
الأولى: الصفة المنقولة في الكتاب، وهي أيضا رواية مطرف وابن الماجشون، قال فيه: فوضع يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدمه، ووضع اليسرى من تحت أطراف أصابعه من باطن خفه فأمرهما حتى بلغ بهما إلى عقبة فأمرهما على عقبه إلى موضع الوضوء، وذلك أصل الساق وحذو الكعب.
والثانية: أن يبدأ بهما من الكعبين مارا إلى الأصابع، عكس الأولى.
والثالثة: أن يبدأ باليمنى كالطريقة الأولى، وباليسرى كالطريقة الثانية، وهي اختيار محمد بن عبد الحكم، واستحسنها بعض المتأخرين.
فرع:
لو اقتصر ماسح الخف على أعلاه دون أسفله أجزأه، وتستحب له الإعادة في الوقت، وإن اقتصر على أسفله دون أعلاه لم يجزئه، وقال أشهب: يجزئه فيهما. وقال ابن نافع: لا يجزئه في واحد منهما.
والغسل والتكرار فيه مكروهان، ويجزئ الغسل، إن فعل، عن المسح.

.النظر الثالث: في حكمه.

وهو إباحة الصلاة بالمسح عليه إلى أن ينزعه، إذ المشهور نفي التحديد، وأن لا يلزمه النزع إلا أن يجنب، فإن أمر بغسل الجمعة أمر بالنزع.
وروى أشهب أن المسافر يمسح ثلاثة أيام، ولم يذكر للمقيم وقتا. وروى ابن نافع أن المقيم يمسح من جمعة إلى جمعة. قال القاضي أبو محمد: هذا يحتمل الاستحباب، ثم قال: بل هو مقصوده، ووجهه أنه يغتسل للجمعة. وعزي إلى مالك رضي الله عنه في الرسالة المنسوبة إليه، وتعرف بكتاب السر، أنه حد للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوما وليلة.
قال علماؤنا: ولا تثبت هذه الرسالة. قال القاضي أبو محمد: وكان الشيخ أبو بكر في جماعة من الشيوخ ينكرونها، ويقولون: لا تصح عن مالك. ونص ما حكي عن الشيخ أبي بكر في ذلك: وقد سمعت من يذكر أن لمالك بن أنس كتاب سر، وكان مالك أتقى لله وأجل وأعظم شأنا من أن يتقي في دينه أحدا أو يراعيه، وكان مشهورا بهذه الحال نه وأنه لا يتقي من سلطان ولا غيره، وقد نظرت في نسخة من كتاب السر، فوجدته ينقض بعضه بعضا، ولو سمع مالك إنسان يتكلم ببعض ما فيه لأوجعه ضربا. وقد حدثني موسى بن إسماعيل القاضي قال: سمعت عبد الله بن أحمد الطيالسي، يقول: سألت إسماعيل بن إسحاق عن كتاب السر لمالك بن أنس، فقال: سألت أبا ثابت محمد بن عبد الله المدني صاحب ابن القاسم: هل لمالك كتاب سر؟ فقال: سألت ابن القاسم عن ذلك؟ فقال: ما نعرف لمالك كتاب سر.
فرعان:
الأول: إذا نزع الخف فأجرى على حكم الموالاة، فقيل: يبتدئ الوضوء، وقيل: يغسل رجليه مبادرا، فإن أخر قاصدا ابتدأ، وهو المشهور. و قيل: له أن يؤخر إن شاء.
الفرع الثاني:
لو نزع الخفين لوجب غسل الرجلين جميعا.
فإن امتنع ليه نزع الآخر، حتى خشي إن دام على الاشتغال به فوات الوقت، فقيل: يغسل الرجل المكشوفة ويمسح على الأخرى قياسا على الجبيرة، وقيل: ينتقل إلى التيمم، لأن الرجلين في حكم العضو الواحد. وقيل: يمزق الخف، لأن المحافظة على قيام وظيفة الطهارة تقدم على حفظ مالية الخف.

.الفصل الثاني: في المسح على الجبائر:

وهو مشروع لدفع الضرر، فإذا كانت الجبيرة في أعضاء الوضوء أو في غيرها ووجب غسل الجسد، انتقل الفرض إلى مسحها.
ولا تشترط في شدها الطهارة، كما تشترط في الخف؛ لأنها ضرورية بخلافه.
ويلتحق بها ما يفتقر إلى مداواته بوضع شيء عليه، كالظفر يكسى دواء أو مرارة، وكالقرطاس يلصق بالرأس لصداع ونحوه.
وكذلك إن كانت الجبيرة لا تثبت إلا بعصابة فوقها، فينتقل الحكم إلى مسح العصابة.
وكذلك لو اضطر إلى تعدي الرباط لموضع الألم لمسح على الجميع، وتلحق بذلك الفصادة يخاف من حلها.
فروع ثلاثة:
أحدها: لو كان الموضع بحث لا يمكن وضع شيء عليه، ولا ملاقاته بالماء، فإن كان في موضع التيمم، ولم يمكن مسحه أيضا بالتراب، فليس إلا الوضوء، وتركه بلا غسل ولا مسح. وإن لم يكن في أعضاء التيمم فثلاثة أقوال.
أحدها: أنه ينتقل إلى التيمم ليأتي بطهارة كاملة.
والثاني: أنه لا ينتقل إذا وجد الماء والقدرة عليه.
والثالث: أنه يجمع بينهما، وهو رأي من أشكل عليه الأمر.
الفرع الثاني:
إذا مسح على الجبيرة ثم صح نزعها وغسل مكانها، إلا أن يكون من الرأس ولم يجنب فيمسحه.
فإن سقطت الجبيرة وهو في الصلاة، وجب عليه القطع، وردها إن احتاج إليها ومسح، وإن لم يحتج غسل الموضع أو مسحه، ثم استأنف الصلاة.
الفرع الثالث:
أن يغتسل فيمسح، ثم يصح فينسي أن يغسل موضع الجبيرة، ففي الكتاب: إن كانت في موضع لا يصيبه الوضوء إنما هو في المنكب أو الظهر، فأرى أن يعيد كل ما صلى، ومن حين كان يقدر على أن يمسه بالماء.
قال المتأخرون: ولو كان قد اغتسل لجنابة بعدما صح المكان أعاد من حين البرء إلى حين اغتسل للجنابة، ولو كان في أعضاء الوضوء لأجزأه غسله لحدث الوضوء ولم يعد ما صلى بعده، قالوا: إلا أن يكون في الرأس، إذا لا يجزي المسح عن الغسل.

.الباب السابع: في الحيض والنفاس وما يتصل بهما:

وفيه أربعة فصول:

.الفصل الأول: في أحكام الحيض:

.وفيه مسائل:

.الأولى: في حده:

وقد حده القاضي أبو محمد، بأنه الدم الخارج من الفرج من اليفعة، فمن زاد على سنها إلى نهاية ما يقصر عن سن اليائسة، في مدة خمسة عشر يوما، فدونها إلى ساعة، من غير ولادة ولا مرض.
والاحتراز باليفعة عمن قصر سنها عن ذلك، كبنت خمس أو ست سنين؛ إذ ذلك مرض وليس بحيض، وكذلك بنت السبعين والثمانين، وكلك بنت الخمسين عند الشيخ أبي إسحاق، وباقي الحد احتراز عن النفاس والاستحاضة.

.المسألة الثانية: في مدته:

فيما يرجع إلى العبادات غير محدود، فتعتبر الدفعة الواحدة وتكون حيضا، وإن لم تكن حيضة معدودة في العدد والاستبراء، وإلى هذا المعنى أشار القاضي أبو الفرج بقوله: الدفعة حيض وليست بحيضة، وأكثر مدته محدود بخمسة عشر يوما على المنصوص.
وأكثر الطهر لا حد له، وأقله محدود، لكن اختلف هل يعتبر في تحديده عدد الأيام أو استقرار العادة؟ في ذلك قولان: ثم إذا اعتبرنا الأيام، ففي العدد المعتبر من ذلك أربعة أقوال.
قال محمد بن مسلمة: خمسة عشر يوما، وهو المشهور. وقال ابن حبيب: عشرة وقال سحنون: ثمانية واستقرأه الشيخ أبو محمد من الكتاب. وقال ابن الماجشون: خمسة.
ومستند هذه التقديرات هو الموجود المعلوم بالاستقراء، وحيث وقع الخلاف، فهو لاختلاف العوائد عن المختلفين فيها، وعلى هذا الأصل يخرج الخلاف في أكثر مسائل هذا الباب.

.المسألة الثالثة: فيما يمتنع به:

وحكمه امتناع أمور خمسة:
الأول: ما يفتقر إلى الطهارة؛ كسجود التلاوة والطواف والصلاة وغير ذلك، ثم لا يجب قضاء الصلاة عليها.
الثاني: دخول المسجد.
الثالث: الصوم فلا يصح منها، ويجب قضاؤه، بخلاف الصلاة.
الرابع: الطلاق، واختلف هل منعه فيه خيفة من تطويل العدة، أو هو شرع غير معلل؟ قال أبو الحسن اللخمي: وهذا هو الظاهر من المذهب.
ويخرج على تحقيق الخلاف ثلاثة فروع:
طلاق الحائض التي لم يدخل بها، والحامل الحائض، والمستحاضة يتغير دمها على القول بأن عدتها بالسنة.
الخامس: الجماع، ولا يحرم الاستمتاع بما فوق السرة، ويحرم بما تحت الإزار مما دون الفرج على المشهور.
و قال ابن حبيب: ذلك للتقية والحذر، وليس ذلك يضيق على من فعل إذا اجتنب الفرج، قال: وكذلك سمعت أصبغ يقول: ويحرم الوطء في الفرج مع استمرار الدم بإجماع، فإن وطئ عصى، ولا كفارة عليه إلا التوبة والاستغفار وترك العودة، رواه ابن وهب وعلي بن زياد.
وكذلك الحكم بعد انقطاعه وقبل الاغتسال، وقال ابن بكير: لا يحرم الوطء بعد انقطاع الدم، ولكن يكره للخلاف فيه. وفي جواز وطئها إذا تيممت قولان حكاهما الشيخ أبو الطاهر، ثم بناهما على الخلاف في كون التيمم يرفع الحدث أم لا؟.

.الفصل الثاني: في الحُيَّض:

.وهن أربع:

المبتدأة، والمعتادة، والمختلطة، والحامل.
وحكمهن في ابتداء الحيض واحد، فمن رأت دما وهي في سن من تحيض، فهو حيض، ولا ينظر إلى صفته، مبتدأة كانت أو معتادة حائلا أو حاملا، لكن تتعدد أحكامهن في التمادي.

.فأما الأولى:

فإن انقطع دمها لعادة لذاتها، أو دون ذلك فطهرت، اغتسلت وصلت.
وإن تمادى بها الدم، فروى علي بن زياد، أنها تغتسل وتصلي، وتكون مستحاضة.
وروى ابن وهب: أنها تستظهر بثلاثة أيام، ثم تكون مستحاضة. وروى ابن القاسم في الكتاب، وأكثر المدنيين: أنها تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوما.

.وأما الثانية:

فإن وقفت على عادتها أو أقل، فطهرت، اغتسلت، وصلت، وإن تمادى بها الدم، فهل تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوما، أو تقتصر على مقدار عادتها والاستظهار؟ روايتان في الكتاب، وقيل: باقتصارها على العادة من غير استظهار.
فروع ثلاثة:
الأول: حيث قلنا بالاستظهار على العادة، فكانت عادتها تختلف، استظهرت على أكثرها. وقال ابن حبيب: تستظهر على أقلها.
الثاني: أنها في أيام الاستظهار كالحائض حقيقة، فإن بقي بعدها إلى تمام خمسة عشر يوما أيام، فقيل: حكمها فيها حكم الطاهر المطلق.
وقيل: تحتاط، فتصوم وتقضي، وتصلى ولا تقضي، وتمتنع من الزوج، وتغتسل عند انقضاء الخمسة عشرة يوما. قال عبد الحق: ويكن هذا الغسل هو الواجب على هذا القول، والأول احتياط، قال: وأما على القول الأول فيكون استحبابا، والواجب هو المفعول عند تمام الاستظهار.
الثالث: إذا انقطع الدم ثم عاد بعد مضي طهر تام، فهو حيض مؤتنف، وإن كان قبل مضي طهر تام فالمجموع حيضة واحدة، إلا أن يزيد مجموع الدمين على خمسة عشر يوما، فيكون الزائد استحاضة، وكذلك لو كمل زممن الحيض من الأول، لكان الثاني استحاضة.
وفي هذا الأرض فرع تظهر فائدة الخلاف في أقل الطهر على ما تقدم.

.وأما الثالثة:

وهي التي ترى الدم يوما أو أياما، والطهر كذلك، حتى لم يحصل طهر محقق، فحكمها أنها إن زاد الحيض على الطهر فهي مستحاضة. وإن تساويا أو كان الطهر أكثر، ولم ينقطع الدم أياما يكون طهرا تاما، فالمشهور أنها تلفق أيام الدم، وتحسب منها ما رأت فيه الدم، ولو طهرت في بقيته حتى تكمل لها من ذلك عادتها أو عادة لذاتها إن كانت مبتدأة، ثم يكون حكمها في الاقتصار على ذلك، أو الاستظهار عليه، أو التمادي إلى تمام خمسة عشر يوما، على ما تقدم، وتلغي في جميع ذلك أيام الطهر، ثم تكون بعد ذلك مستحاضة.
وقال محمد بن مسلمة: لا تكون مستحاضة ما لم تزد أيام الدم على أيام الطهر، وإلا فهي حائض في أيام الدم، طاهر حقيقة في أيام النقاء، ولو تمادت على ذلك عمرها.
ثم حيث حكمنا بالاستحاضة، فهي مستمرة على ذلك ما لم يتغير الدم بعد مضي مدة طهر تام، أو تستأنف بعد انقطاعه مدة الطهر.

.وأما الرابعة:

فحكمها في أول رؤية الدم حكم الحائل، وكذلك إن تمادى بها ولم تتغير عادتها، فإن غير الحمل عادتها وتمادى بها الدم، فالمغيرة وأشهب يجريانها مجرى الحائل، وابن القاسم وغيره يزيدون في مدة حيضها، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الزيادة، فقال ابن القاسم في الكتاب: تمكث بعد الثلاثة الأشهر ونحوها خمسة عشر يوما أو نحو ذلك، وإذا جاوزت الستة الأشهر ثم رأته، نكثت ما بينها وبين العشرين أو نحو ذلك، وروى عنه أبو زيد: آخر الحمل ثلاثين يوما.
وقال ابن الماجشون: أكثره خمسة عشر يوما، قال: ولا أنظر إلى أول الحمل، ولا إلى آخره.
وروى مطرف: أنها إن رأته في الشهر الأول مكثت أيام عادتها والاستظهار، وإن رأته في الثاني مكثت ضعف العادة من غير استظهار. وفي الثالث تمكث ثلاثة أقوال أمثال العادة. وفي الرابع أربعة أمثالها، وهكذا حتى تنتهي أيام الدم إلى ستين يوما، فلا تزيد عليها.
وروى علي بن زياد: أنها تمكث أقصى ما يكون الدم بالحوامل، فلم يحد أياما.
وقيل في هذا: إنها تمكث ما لم تسترب من طوله، وترى أنه سقم حدث، وليس مما يعرض للنساء في الحمل.
وقال ابن وهب: تمكث ضعف أيامها فقط.
فروع مرتبة:
الأول: في معرفة الطهر، وله علامتان:
الجفوف، وهو أن تدخل المرأة الخرقة فتخرجها جافة.
والقصة البيضاء وهو ماء رقيق أبيض، يأتي في آخر الحيض، كماء القصة وهو الجير.
الثاني: وهو مرتب على الأول: أي العلامتين أبلغ؟ فروى ابن القاسم: أن القصة أبلغ من الجفوف. وقال ابن عبد الحكم: الجفوف أبلغ. وقال القاضي أبو محمد وأبو جعفر الداودي بالتسوية بين العلامتين.
وسبب الخلاف: اختلاف الشهادة بالعوائد.
وثمرته:
حكم من رأت غير عادتها منهما، فمعتادة الجفوف لا تنتظره على رواية ابن القاسم، ومعتادة القصة تنتظرها، وتنتظره معتادته عند ابن الحكم، ولا تنتظرها معتادتها. وأما القاضي أبو محمد والداودي فلا تنتظر عندهما، بل تعمل على أي العلامتين رأت من غير تفصيل.
والثالث وهو مرتب على الثاني: أنا حيث قلنا تنتظر علامتها، فذلك ما لم يخرج الوقت المختار، وقيل: الضروري، هذا حكم المعتادة. فأما المبتدأة التي ليس لها عادة، فقال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون: لا تطهر إلا بالجفوف. وقال غيرهم: تطهر بما تراه من العلامتين، قال القاضي أبو الوليد: وهذا القول من ابن القاسم نزوع إلى قول ابن عبد الحكم.

.الفصل الثالث: في المستحاضة:

وإذا تمادى الدم بالحائض، وحكم لها بالاستحاضة على أي هذه الأقوال، فلا تخلو أن تكون مبتدأة أو معتادة، وكل واحدة منهما. إما مميزة وإما غير مميزة.

.فهن إذا على أربعة أقسام:

[1] مبتدأة مميزة.
[2] مبتدأة غير مميزة.
[3] معتادة من غير تمييز.
[4] معتادة بتمييز.

.فأما الأولى:

فحيضها مدة تمييزها، بشرط أن لا يزيد على أكثر مدة الحيض، فإن زاد على أكثره، لم يكن حيضا.

.وأما الثانية:

وهي المبتدأة من غير تمييز، فقد تقدم المذهب فيها. قال القاضي أبو بكر: والصحيح جلوسها خمسة عشر يوما، ثم يحكم لها بالاستحاضة.

.وأما الثالثة:

وهي المعتادة من غير تمييز، فهي على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تقتصر على عادتها كما تقدم، قاله المغيرة، وأبو مصعب، قالا: وذلك إذا شكت، فلم تدر أذلك انتقال أو استحاضة، فإنها تغتسل وتصلي وتصوم، ولا يصيبها زوجها احتياطا، ثم ينظر إلى ما يصير إليه أمرها، فإن انقطع الدم عنها لتمام خمسة عشر يوما، علم أنه قد انتقلت عادتها، وكانت المدة كلها حيضا، وإن استمر الدم، علم أن ذلك استحاضة، واعتدت بحيضتها على ما تقدم من عادتها، وتقضي الصوم فيما بين ذلك وبين الزيادة على خمسة عشر يوما.
والقول الثاني: أنها تبلغ خمسة عشر يومان قاله مطرف.
الثالث: القول بالاستظهار على العادة كما تقدم، لكن اختلف القائلون به، هل يتجاوز به الخمسة عشر يوما، أم لا؟ فالمشهور أنه لا تتجاوزها، وفي كتاب محمد: أنها تستظهر على الخمسة عشر يوما بيوم أو يومين. وقال ابن نافع في كتاب ابن سحنون: أنها تستظهر عليها بثلاثة أيام، وأنكره سحنون.

.وأما الرابعة:

وهي المعتادة بتمييز، فالمذهب أنها تعتبر التمييز لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، ولأن العادة قد تختلف، والتمييز لا يختلف، ولأن النظر إلى اللون اجتهاد، والنظر إلى العادة تقليد، والاجتهاد أولى من التقليد.
فرع:
والاستحاضة كسلس البول لا تمنع الصلاة، لكن يستحب للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة.
وأما غسلها فمن طهر إلى طهر، إن كانت مميزة، وإن لم تكن مميزة، فغسلها عند الحكم عليها بالاستحاضة يجزئها.

.الفصل الرابع: في دم النفاس:

وهو الدم الخارج من الفرج بسبب الولادة من غير مرض خارج عنها.
وفي تحديد أكثره بستين يوما، أو رد تحديده إلى العادة، روايتان في الكتاب.
ولا شك في أن ما بعد تمام الوضع نفاس معتد به، فأما الدم بين التوأمين ففي كونه نفاسا لانفصال الأول، أو حيضا لبقاء الثاني، قولان في الكتاب، وإذا قلنا بأنه نفاس.
فما بعد الثاني معه نفسا واحد.
ولو انقع دم النافس، ثم عاد بعد مضي طهر تام، فهو حيض. وإن عاد لدون الطهر فهو نفاس، إلا أن يكون النفاس كمل بالأول، فيكون استحاضة.
وحكم دم النفاس فيما يمنعه، وفي اقتضاء الغسل، حكم دم الحيض على ما تقدم والله أعلم.
تم كتاب الطهارة.
والحمد لله حق حمده.
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه ورسوله وعبده.
بسم الله الرحمن الرحيم.
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما.

.كتاب الصلاة:

وفيه أبواب:

.الباب الأول:

وفيه ثلاثة فصول:

.الفصل الأول: في وقت الرفاهية:

أما الظهر فيدخل وقتها بزوال الشمس، وهو عبارة عن ظهور بداية انحطاطها عن نهاية ارتفاعها، فيبتدئ الظل بالزيادة بعد أن كان متناقصا.
ويتمادى وقت الاختيار إلى أن تصير زيادة ظل الشخص مثله، وبه يدخل وقت العصر، فيكنون الوقت مشتركا بينهما، إلى أن تتجاوز زيادة الظل المثل، فيختص العصر بالوقت.
وقال أشهب: بل الاشتراك في القامة الأولى، فيكون ما قبلها بقدر ما توقع فيه إحدى الصلاتين مشتركا بينهما. واختار هذا القول أبو إسحاق التونسي، وحكاه القاضي أبو بكر رواية عن مالك.
وقال ابن حبيب بالتعاقب، ونفي الاشتراك، ورأى أن آخر وقت الظهر إذا كان الظل بعد الفراغ منها تمام القامة، يعين المثل.
وأول وقت العصر تمام القامة، قال الشيخ أبو محمد: هذا خلاف قول مالك رحمه الله.
ثم يتمادى وقت العصر إلى غروب الشمس، ووقت الفضيلة في الأول، وبعده وقت الاختيار ما دامت الشمس بيضاء نقية، لم تصفر على الجدران والأراضي.
وروى ابن عبد الحكم في مختصره: إلى أن تصير زيادة ظل الشخص مثليه.
قال القاضي أبو بكر: والقولان مرويان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهما متساويان في المعنى؛ لأن الشمس لا يزال بياضها ناصعا حتى ينتهي ثني الظل، فإذا أخذ في التثليث نقص البياض، حتى تأخذ الشمس في التطفيل، فتتمكن الصفرة، وبعده وقت الجواز إلى حين الاصفرار.
ووقت المغرب يدخل بغروب الشمس، قال القاضي أبو محمد: والمراعى في ذلك غيبوبة جرمها وقرصها المستدير، دون أثرها وشعاعها.
ويتمادى وقتها إلى مغيب الشفق على إحدى الروايتين، وهي مذهب الموطأ، وفي المدونة ما يقتضي ذلك.
وعلى الرواية الأخرى وهي رواية ابن عبد الحكم وقول ابن المواز: وقتها واحد، مضيق غير ممتد، مقدر آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف، وهي التي حكاها العراقيون عن المذهب.
ووقت العشاء يدخل بغيبوبة الشفق، وهي الحمرة التي تلي الشمس دون البياض والصفرة، وهي آخر وقت المغرب، على مذهب الموطأ يشتركان فيها عليه.
ثم يمتد وقت الاختيار في العشاء إلى الثلث الأول من الليل، وقال ابن حبيب: يمتد إلى النصف.
وسبب الخلاف اختلاف أحاديث:
ووقت الفجر يدخل بطلوع الفجر الصادق المستطير ضوؤه، لا بالفجر الكاذب الذي يبدو مستطيلا ثم ينمحق، وهي الصلاة الوسطى.
ويتمادى وقت الاختيار إلى الأسفار الأعلى على قول، وإلى طلوع الشمس في قول آخر.
قال القاضي أبو الوليد: ولمالك مسائل يؤخذ منها القولان.
وقال القاضي أبو بكر: الصحيح عن مالك أن وقتها يمتد إلى طلوع الشمس ولا وقت ضرورة لها، قال: وما روي عنه خلافه لا يصح.
ثم يقدم أذان هذه الصلاة على الوقت لسدس يبقى من الليل.
وقال ابن حبيب: يدخل وقت الأذان لها بخروج وقت العشاء المختار.
قواعد ثلاث:
الأولى: قال الإمام أبو عبد الله: وجوب الصلاة يتعلق عند جمهور المالكية بجميع الوقت، وقيل: بل يتعلق بزمن واحد يسع فعل العبادة، ولكنه غير متعين، وإنما يتعين إذا أوقع المكلف العبادة فيه، قال: وقد قال القاضي أبو الوليد: إن هذا المذهب هو الجاري على أصول المالكية، وحكى عنه تخريجه على قول أهل المذهب في خصال الكفارة، ثم تعقبه الإمام، وفرق بأن الخصال متعلق الأحكام والزمان محل الأفعال.
وإذا فرعنا على الأول، ومات المكلف في وسط الوقت قبل الأداء لم يعص.
ولو أخر حتى خرج بعض الصلاة من الوقت، فقيل: يكون جميعها أداء، وقيل: بل القدر الموقع في الوقت فقط.
وثمرة الخلاف: وجوب القضاء على من أخرت صلاة العصر، ثم صلت منها ركعة مثلا، فغربت الشمس ثم حاضت، وعدم وجوبه، وفي ذلك قولان لسحنون وأصبغ.
الثانية: تعجيل الصلاة في أوائل الأوقات أفضل في حق المنفرد على الإطلاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها».
ولم يعرض في الفذ عارض ينقله إلى استحباب التأخير، وحكى القاضي أبو محمد: أن حكم الفذ في ذلك حكم الجماعة، والأفضل في حق الجماعة تأخير الظهر إلى ربع القامة، ويزاد على ذلك في شدة الحر للإبراد.
وأما الجمعة، فقال ابن حبيب: سنتها في الشتاء والصيف أن تصلي في أول الوقت حين تزول الشمس، أو بعد أن تزول بقليل، قال: وكذلك قال مالك.
وتأخير العشاء أفضل، وقيل: بل تقديمها أفضل، واختار بعض المتأخرين التقديم إن اجتمع الناس، وانتظارهم إن أبطأوا. واستحب ابن حبيب تأخيرها في زمن الشتاء قليلا لطول الليل، وفي ليالي شهر رمضان أكثر من ذلك قليلا توسعة على الناس في إفطارهم.
وأما العصر، فتقديمها أفضل، وقال أشهب: يستحب تأخيرها إلى زيادة ذراع على القامة، لا سيما في شدة الحر.
واستحب ابن حبيب تعجيلها يوم الجمعة، ليقرب انصراف المنتظرين لها ممن صلى الجمعة.
وأما المغرب والصبح فتقديمها بعد تحقق دخول وقتيهما أفضل على كل حال.
الثالثة: من اشتبه عليه الوقت فليجتهد، ويستدل بما يغلب على ظنه دخوله، وإن خفي عليه ضوء الشمس، فليستدل بالأوراد، وأعمال أرباب الصنائع، وشبه ذلك، ويحتاط.
قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك إن من سنة الصلاة في الغيم تأخير الظهر، وتعجيل العصر، وتأخير المغرب حتى لا يشك في الليل، وتعجيل العشاء، إلا أنه يتحرى ذهاب الحمرة، وتأخير الصبح حتى لا يشك في الفجر.
ثم إن وقعت صلاته في الوقت أو بعده فلا قضاء، وإن وقعت قبل الوقت قضى، كالاجتهاد في طلب شهر رمضان، ووقع لأشهب في المجموعة: أرجو لمن صلى العصر قبل القامة، والعشاء قبل مغيب الشفق أن يكون قد صلى وإن كان بغير عرفة. وقال ابن القاسم فيها أيضا: كمن جمع بين العشاءين في الحضر من غير ضرورة أعاد الثانية أبدا.

.الفصل الثاني: في وقت المعذورين:

ونعني بالعذر الحيض والكفر والصبا والجنون والنسيان، وللأعذار حالتان:
الأولى: أن يخلو عنها آخر الوقت بمقدار ركعة فأكثر، كما لو طهرت الحائض قبل الغروب بركعة فتلزمها العصر، ولا تلزمها بأقل من ذلك. وقال أشهب: تلزمها بإدراك الركوع فقط، ولا تلزمها الظهر بما تلزمها به العصر، بل لا بد من زيادة عدد ركعات الظهر على ذلك، حتى يتصور الفراغ منها فعلا، ثم يفرض لزوم العصر بعدها، وهل هذه الزيادة في مقابلة الظهر أو العصر؟ قولان: والمشهور أن آخر الوقت لأولى الصلاتين.
وسبب الخلاف: هل تشترك الصلاتان المشتركتا الوقتين من أول وقت الأولى إلى آخر وقت الثانية، أو تختص الأولى من أول وقتها بمقدار ما يسع إيقاع عدد ركعاتها فيه، سفرية كانت أو حضرية، وتختص الثانية أيضا من آخر وقتها بمثل ذلك، وفي هذا الأصل قولان.
وتظهر فائدة الخلاف في المغرب والعشاء بتقدير ما يدركان به في حالتي الإقامة والسفر.
فلو طهرت الحائض لأربع ركعات قبل الفجر، لكانت مدركة للمغرب والعشاء، وقال ابن الماجشون وابن مسلمة: تكون مدركة للعشاء خاصة.
ولو طهرت المسافرة قبل الفجر بثلاث ركعات لكانت مدركة للعشاء عند ابن القاسم وأصبغ، وقال ابن عبد الحكم: هي مدركة للصلاتين جمعيا، المغرب والعشاء. قال أصبغ: هذه آخر مسألة سألت عنها ابن القاسم، فقال لي: أصبت أنت، وأخطأ ابن عبد الحكم. وذكر لسحنون قول أصبغ، فقال: أصاب ابن عبد الحكم، لأن آخر الوقت لآخر الصلاتين.
وهل المعتبر إدراك من ذكرنا هذا القدر عند زوال العذر من غير مزيد، أو بعد زوال العذر وفعل الطهارة؟ اختلف في ذلك، فحكى ابن سحنون عن أبيه، وابن حبيب عن أصبغ أنهما قالا: تعتبر في جميعهم بعد زوال العذر مدة الطهارة. قال القاضي أبو محمد: وهو القياس.
وقال ابن القاسم: تعتبر في جميعهم، إلا الكافر لأنه لم يكن معذورا بتأخير الصلاة، بخلاف غيره، وقال ابن حبيب: باستثناء الكافر والمغمى عليه.
وقال بعض المتأخرين بجريان الخلاف في الجميع، وبناء الخلاف فيهم على أن الطهارة شرط في الوجوب، أو في الأداء؟
فرع:
لو زال الصبا في الوقت بعد أداء الصلاة وجبت إعادتها، وقيل: بنفي وجوب الإعادة، وهو في السليمانية.
وكذا الخلاف لو بلغ بعد أداء الظهر، وقيل إقامة الجمعة.
الحالة الثانية: أن لا يخلو آخر الوقت عنها، بأن يعم العذر جميع الوقت، فيسقط القضاء عن الحائض، وكذلك لو دخلا أول الوقت فقط، لسقط القضاء أيضا عنها، بل لو طرأ الحيض وقد بقي من الوقت مقدار ما يسع الصلاة أو ركعة منها، لم يلزمها القضاء إذ حاضت والوقت باق.
والمرتد كالكافر الأصلي، لا يجب عليه قضاء. والصبي يؤمر بالصلاة لسبع سنين، ويضرب على تركها لعشر، وإن لم يكن عليه قضاء، والإغماء في معنى الجنون، قل أو كثر.
وأما السكر وزوال العقل بسبب محرم، فلا يسقط القضاء. قال الإمام أبو عبد الله:
والمراد بالنسيان المذكور في الأعذار، ما اقترن به الخروج للسفر، أو القدوم منه، كمن نسي صلاة في الحضر، فخرج في آخر وقتها، أو بعد تقضي الوقت. وكذلك في المسافر يقدم، قال: لأن الناسي الذي لم يتغير حلاه بقدوم ولا سفر، يصلي متى ما ذكر، لا يختلف حكمنه في هذا باختلاف الأوقات، وإنما يختلف حكم من تقدم ذكره.
والمقصود من هذا القسم، بيان حكم أداء الصلاتين المشتركتين حضريتين أو سفريتين أو إحداهما حضرية، والأخرى سفرية.
فإن خرج وقد بقي عليه من النهار مقدار ثلاث ركعات فأكثر، صلى الظهر والعصر سفريتين، وإن كان دون ذلك إلى ركعة، صلى الظهر حضرية، والعصر سفرية.
ولو قدم وقد بقي للغروب خمس ركعات فأكثر، صلاهما حضريتين. وإن كان الباقي دون ذلك إلى ركعة، صلى الظهر سفرية، والعصر حضرية.
ولو سافر قبل الفجر بأربع ركعات، صلى العشاء سفرية، فإن كان سفره قبله بدون ذلك؛ فحكى الشيخ أبو القاسم في قصرها وإتمامها روايتين.
وإن قدم قبل الفجر بأربع ركعات، صلاها حضرية، وإن كان أقل من ذلك، فخرجها الشيخ أبو القاسم على روايتين.
فروع أربعة:
الأول: كمن بقي بينه وبين غروب الشمس، من أصحاب الضرورات مقدار ما يعتبر فلي الصلاتين أو في العصر خاصة، فذكر صلاة منسية، فإنها يصليها.
ثم اختلف قول ابن القاسم، هل عليه إذا صلى المنسية وغرب الشمس قضاء الصلاة التي استحقت الوقت بحكم الأداء، قياسا على أصحاب الاختيار إذا أخروا الصلاة حتى ضاق الوقت، وذكروا صلاة منسية، فإنه لم يختلف أنهم يصلون ما حضر وقته بغد فراغهم من المنسية، أو ليس ذلك على أهل الأعذار لأن منعه بالشرع من أداء الصلاة التي استحقت الوقت لأجل اشتغاله بالصلاة المنسية ووجوب تقدمتها عذر يمنع من توجه الصلاة المستحقة للوقت عليه، كما كان الحيض مانعا من توجهها، لما جاء الشرع يمنع الحائض من الصلاة.
الفرع الثاني:
إذا تطهرت الحائض وبقي لها بعد فراغها ما تدرك به الصلاة فأحدثت، فشرعت في الطهارة، فلم تفرغ منها حتى غربت الشمس، وجب عليها قضاء الصلاة، لأنها كانت قبل طروء الحدث مطلوبة بالصلاة، فطروؤه عليها كطروئه على من توجه عليه الطلب بالصلاة. وقيل: لا يجب عليها قضاء الصلاة، بل يسترسل حكم نفي الخطاب عليها.
الفرع الثالث:
إذا اغتسلت الحائض بماء غير طاهر، فلما أخذت في الإعادة بالماء الطاهر خرج الوقت، لم يلزمها قضاء ما فات لأجل تشاغلها بالغسل المعاد؛ لأن منعها من الصلاة بالطهر الأول، كمنعها من الصلاة بالحيض، ولو أعادت لكان أحوط. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الإعادة، وقيل: لا تؤمر بالقضاء إذا كان الماء الأول لم يتغير؛ لأن الصلاة به تجزئ، وإنما تعاد في الوقت طلبا للكمال، ولهذا قال أشهب: لو علمت المتطهرة بهذا الماء أنها إذا أخذت في إعادة الغسل غربت الشمس، كانت صلاتها بذلك الغسل أولى من اشتغالها بإعادة الغسل حتى يفوت الوقت.
الفرع الرابع:
لو قدرت بعد فراغها من غسلها ما قبل الغروب بخمس ركعات وأخذت في صلاة الظهر فغربت الشمس عليها في أثنائها، فعليها صلاة العصر؛ إذ لا تسقط الصلاة الواجبة بخطئها واشتغالها بفعل صلاة غير واجبة.
ولو كان تقديرها صحيحا، لكنها صلت العصر ناسية للظهر، لوجبت عليها صلاة الظهر لإدراكها وقتها، ولا يسقط الإدراك بفعل خطأ كما تقدم.
ثم إذا صلت الظهر، فهل تؤمر بقضاء العصر لأنها أوقعتها في غير وقتها؛ إذ الأربع الأول من الخمس البواقي مختصة بالظهر، فتكون كموقع عقيب الزوال بغير فصل، أو لا إعادة عليها؛ لأن الصلاة لا تعاد لأجل المنسية إلا في الوقت؟ قولان.

.الفصل الثالث: في أوقات الكراهية:

وهي أربعة: بعد طلوع الفجر حتى تصلي الصبح.
وبعد الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع.
وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
وبعد صلاة الجمعة حتى ينصرف المصلي.
وألحق بذلك وقت استواء الشمس حتى تزول في إحدى الروايتين، ومذهب الكتاب الجواز.
ويستثني عن ذلك الفوائت عموما، وركعتا الفجر، واستدراك قيام الليل لمن نام عن عادته ما بين طلوع الفجر وصلاته خصوصا.
وهل يصلي على الجنائز ويسجد للتلاوة بعد صلاة الصبح وقبل الإسفار، أو بعد صلاة العصر وقبل الاصفرار؟ ثلاثة مذاهب:
المنع، وهو مذهب الموطأ. والجواز، وهو في الكتاب. وتخصيص الجواز بما بعد الصبح دون ما بعد العصر، وهو رأي ابن حبيب.
ولا يجوز فعلهما في وقتي الإسفار والاصفرار، ويجوز فيما عدا هذه الأوقات الأربعة، وهذا ما لم يخش تغيير الميت، فيصلي عليه في جميع الأوقات.
فرع:
لو تحرم بالصلاة في وقت الكراهية، قطع متى استفاق لذلك، ولا قضاء عليه.

.الباب الثاني: في الأذان والإقامة:

والذي نقله العراقيون عن المذهب أنهما سنتان.
ونقل جماعة من المتأخرين من الأندلسيين والقرويين أن الأذان فرض كفاية على أهل كل ببلد، فإن تركوه أثموا، وقوتلوا عليه إن امتنعوا عن فعله. وإن فعله أحدهم سقط عن سائرهم، قالوا: وهذا الوجوب لإقامة شعائر الإسلام، قالوا: وهو مع ذلك سنة مؤكدة في مساجد الجماعات، ومواضع الأئمة، وحيث يقصد الدعاء للصلاة.
واختار القاضي أبو الوليد: أنه واجب على الكفاية في المساجد والجماعات الراتبة، وعلل الوجوب بوجهين: إقامة الشعار، وتعريف الأوقات؛ إذ لا يجوز إهمالها.
والكلام عليهما ينحصر في ثلاثة فصول.

.الفصل الأول: المحل ومشروعية الأذان:

في حق المصلين جماعة في مفروضة مؤداة في الوقت قصد الدعاء إليها، وذلك يختص بالأئمة حيث كانوا، وبمساجد الجماعات.
واستحب المتأخرون للمسافر الأذان، وإن كان منفردا؛ لحديث أبي سعيد. أما جماعة بمكان لا يريدون دعاء غيرهم إليهم، أو الفذ كذلك، فوقع في المذهب: لا يؤذنوا، ووقع أيضا إن أذنوا فحسن. قال الشيخ أبو الطاهر: وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على قولين، وليس كذلك، بل لا يؤمرون بالأذان، كما يؤمن به الأئمة، وفي مساجد الجماعات، وإن أذنوا فهو ذكر، والذكر لا ينهي عنه من أراده، لا سيما إذا كان من جنس المشروع.
ولا أذان في غير المفروضة، كصلاة الكسوف والاستسقاء والجنائز وصلاة العيد، ولا ينادى لها: الصلاة جامعة، ولا يؤذن للنوافل، ولا للصلاة الفائتة؛ إذ يزيدها ذلك فواتا، ولكن يقيم لها.
وإذا جمع الإمام بين الصلاتين، ففي أذانه لكل صلاة، أو الاقتصار على الأذان للأولى خاصة، أو ترك الأذان فيهما جملة، ثلاثة أقوال: الأول مذهب الكتاب، والثاني لابن الماجشون، والثالث حكاه الشيخ أبو القاسم، ويقيم لكل واحدة.
وأما مشروعية الإقامة، ففي حق كل مصل على العموم، واستثنى ابن عبد الحكم النساء، فقال: ليس عليهن أذان ولا إقامة، وقال ابن القاسم: إن أقمن فحسن.

.الفصل الثاني: في صفتهما:

أما الأذان فهو مثنى مثنى، وعدة كلماته في الصبح تسع عشرة، وفي غيره سبع عشرة.
وأما الإقامة، فهي فرادى إلا التكبير، وكلماتها عشر على المشهور، وروي تثنية قوله: قد قامت الصلاة، فتكون إحدى عشرة كلمة.
وحكاية لفظ الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله، ثم يرجع فيعيد الشهادتين بأرفع من صوته بهما أولا، وهو الترجيع.
وقال الإمام أبو عبد الله: وربما غلط بعض العوام من المؤذنين في نقطه بالشهادتين، فيخفي صوته حتى لا يسمع، وهذا غلط؛ لأن ذكر الله سبحانه وإن كان حسنا سرا وعلنا، فالمقصود به ها هنا إسماع الناس ليعلموا دخول الوقت، فإذا أخفاه لم يحصل الغرض المقصود منه.
ويقول بعض الترجيع: حتى على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
ويزيد في الصبح بعد قوله: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، وهو التثويب، وهو مثنى على المشهور. وقال ابن وهب: يقول مرة واحدة: الصلاة خير من النوم. ومشروعيته في أذان الصبح على العموم. وحكى الشيخ أبو إسحاق عن مالك أنه قال: من كان في ضيعته متنحيا عن الناس، أرجو أن يكون من تركها في سعة.
ولفظ الإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقد تقدم ذكر الخلاف في تثنية قوله: قد قامت الصلاة.
والقيام والاستقبال مأمور بهما في الأذان، وأنكر مالك أذان القاعد إلا من عذر يؤذن لنفسه، إذا كان مريضا، وقيل: بالجواز، لأنه ذكر.
ولا بأس أن يضع أصبعيه في أذنيه في الأذان والإقامة، أو يترك ذلك.
ولا يكره له أن يلتفت في الحيعلتين يمينا وشمالا إذا أراد بذلك المبالغة في الإسماع.
وأنكر مالك أن يكون ذلك من حد الأذان، ولا يحول صدره عن القبلة.
وليكن الأذان مرسلا محدرا مستعليا، يرفع به الصوت ولا يدمج، وتدمج الإقامة.
قال بعض المتأخرين: وهو موقوف غير معرب في مقاطعة، قال: وكذلك سمع.
ولا يتكلم في الأذان ولا في الإقامة، ولا يرد على من سلم عليه. ولا ينبغي لأحد أن يسلم عليه حتى يفرغ.
ويؤذن راكبا، ولا يقيم إلا وهو نازل. وروى ابن وهب: لا بأس أن يقيم راكبا.
ويرتب كلمات الأذان ويواليها، فإن نكس استأنف، وإن فرق يسيرا بنى، وإن تفاحش ابتدأ.

.الفصل الثالث: في صفة المؤذن:

ويشترط أن يكون مسلما عاقلا مميزا ذكرا، فلا يعتد بأذان كافر أو مجنون أو سكران مخبط أو امرأة.
ولا يؤذن إلا من احتلم، وروى أشهب: لا يؤذن الصبي ولا يقيم، إلا أن يكون مع نساء، أو بموضع لا يكون فيه غيره، فيؤذن ويقيم، قال الشيخ أبو بكر: هو الاختيار.
فإن أذن من لم يلغ جاز، وحكى الإمام أبو عبد الله في أذانه قولين: الجواز، لأنه ذكر.
والنهي لأنه من أمانات الشريعة وليس من أهلها. وفي المختصر: لا يؤذن للناس إلا من يؤم.
وفي الحاوي للقاضي أبي الفرج: لا بأس أن يؤذن قاعدا وراكبا وجنبا، ومن لم يحتلم. وأما الإقامة فلا.
وقال أشهب فيمن أذن لقوم وصلى معهم، فلا يؤذن لآخرين ويقيم، فإن فعل ولم يعيدوا حتى صلوا أجزأهم.
وتستحب الطهارة في الأذان، ويصح بدونها. والكراهية في الجنب شديدة، وفي الإقامة أشد. وقال سحنون: لا بأس بأذان الجنب في غير المسجد.
وليكن المؤذن صيتا حسن الصوت. وأما التطيب، فقال مالك: هو منكر. قال ابن حبيب: وكذلك التحزين بغير تطريب، قال: ولا ينبغي إماتة حروفه، والبغي فيه، وهو إفراط المد فيه، وليكن عدلا عارفا بالمواقيت لتقلده عهدتها.
وللإمام أن يستأجر على الأذان من بيت المال، واختلف في إجارة غير الإمام من آحاد الناس على الأذان والصلاة، فأجاز ذلك ابن عبد الحكم فيهما على الانفراد والاجتماع. ومنعه ابن حبيب فيهما على الحالتين، والمشهور: المنع في الصلاة بانفرادها والإجارة على الأذان منفردا أو متبوعا بالصلاة.
وإذا فرعنا على المشهور، واستؤجر عليها، ثم طرأ عليه ما منعه من الإمامة، فهل يحط من الإجارة بسبب عجزه عن الإمامة، أم لا؟ للمتأخرين في ذلك قولان، مأخذهما هل للاتباع حصة من الثمن أم لا؟ وقد ذكر الإمام أبو عبد الله هذا الخلاف ومأخذه. وحكى روايات وقعت في المذهب، أخذ منها القولان، ثم رجع كون الأثمان تقابل بها الاتباع، واستشهد في ذلك بعرف التجار في زيادة الأثمان بسببها، واعتذر عن المسائل الواقعة في القسم الآخر.
وذكر أن فائدة التبعية في الاتباع إنما هي في الحل، أو الاستحقاق لا في عدم المقابلة بجزء من الثمن.
فرعان:
الأول: إذا كثر المؤذنون فواسع أن يتراسلوا معا، إلا أن كل واحد لا يقتدي بأذان صاحبه، وأن يترتبوا ما لم يكثروا، وذلك يختلف بحسب سعة الوقت وضيقه.
ففي ما وقته واسع، كالصبح والظهر والعصر والعشاء ما بين الخمسة إلى العشرة، وشبهه.
وفي العصر ما بين الثلاثة إلى الخمسة، وشبه ذلك. وأما المغرب فلا يؤذن فيها إلا واحد.
قال أبو إسحاق التونسي: يريد أو جماعة في مرة واحدة، فإن تشاحوا في الأذان لها اقترعوا إن تساووا، وإلا قدم الأولى.
الفرع الثاني:
في حكاية الأذان:
ويؤمر سامع الأذان بحكايته، وينتهي إلى آخر التشهدين في ظاهر المذهب. وقيل: يتمادى إلى آخره، ويعوض على الحيعلتين بالحوقلة.
ويحكي التشهد مرة واحدة في رواية ابن القاسم. وقال الداودي: يعاود التشهد إذا... عاود المؤذن أو قبله.
فإن كان السامع في صلاة، فروى ابن القاسم: أنه يحكي في النافلة دون الفريضة.
وروى أبو مصعب أنه يحكي فيهما. قال ابن وهب: لا بأس به فيهما، واستحبه ابن حبيب. وقال سحنون: لا يحكي في واحدة منهما.
ثم حيث قلنا: يحكى، فلا يتجاوز التشهدين. ولو قال في الصلاة: حي على الصلاة، فقال أبو محمد الأصيلي: لا تبطل صلاته، لأنه متأول. وحكى عبد الحق عن بعض القرويين: أن صلاته تبطل، وأنه كالمتكلم. وحكى ذلك عن القاضي أبي الحسن.
ولو أبطأ المؤذن فقال مثل ما يقول، أو عجل قبل المؤذن، أجزأه ذلك، وهو واسع.

.الباب الثالث: في الاستقبال:

.والنظر فيه أركان ثلاثة:

.الأول: الصلاة:

ويتعين الاستقبال في فرائضها، إلا في القتال.
ولا تؤدي فريضة على الراحلة، ولا صلة جنازة، ولا تؤدي فريضة على بعير دون أدائها بالأرض. وإن كان معقولا، فإن أديت مثل أدائها بالأرض، ففي جواز ذلك وكراهيته قولان.
أما النوافل فتجوز إقامتها في السفر الطويل للراكب دون الماشي، ولا تجوز في السفر القصير، ولا في الحضر.
ولا يضر انحراف الدابة عن القبلة في التمادي، ولا في الابتداء، وصوب الطريق بدل عن القبلة في دوام الصلاة، فلا يصرف وجهه عن جهته.
ولا يصلي راكب السفينة إلا إلى القبلة، فإن دارت السفينة استدار. وروى ابن حبيب: أنه يتنفل فيها حيث سارت به كالدابة.
ثم على الراكب أن يومي بالركوع والسجود، وليجعله أخفض من الركوع.

.الركن الثاني: القبلة:

ومواقف المصلي المستقبل مختلفة، فالمصلي في جوف الكعبة حيث صححنا يستقبل أي دار شاء. والمذهب جواز صلاة النفل فيها. والمنع من صلاة الفرض والسنن كالوتر، وركعتي الفجر.
قال أبو الحسن اللخمي: وأجازه أشهب في مدونته في الفرض إن فعل، وقال: لا إعادة عليه، وإن كان يستحب له أن لا يفعل ذلك ابتداء.
وإذا فرعنا على المشهور، فصلى الفرض فيها، فقال ابن حبيب: يعيد أبدا في العمد والجهل.
وقال في الكتاب: يعيد في الوقت. وقال أصبغ: تبطل وتجب الإعادة وإن ذهب الوقت.
ولكنه ذكر ذلك في متعمد الصلاة فيها، فقال بعض المتأخرين: ظاهر قوله أنه لو كان ناسيا لأعاد في الوقت؛ لأن الناسي للقبلة إنما يعيد في الوقت، واستشهد بقوله في الكتاب: يعيد في الوقت، كمن صلى إلى غير القبلة، قال: وإنما يصح هذا التشبيه فيمن صلى إلى غير القبلة ناسيا، والصلاة في الحجر كالصلاة في البيت.
فأما الصلاة فوق ظهرها، فمنهي عنه. وحمل القاضي أبو محمد النهي على ما إذا لم يقم عليه قائما يقصده، وحمل النهي على الإطلاق رأي الجماعة، وقد حكى الإمام أبو عبد الله أن المشهور منع الصلاة على ظهر الكعبة، وأن ذلك أشد من منع الصلاة داخلها، وأن الإعادة تجب فيه أبدا. وحكى عن محمد بن عبد الحكم الإجراء، وحكي عن أشهب الإجراء إن كان بين يديه قطعة من سطحها. وبناء الخلاف على أن المشروع استقبال بنائها أو هوائها؟
ولو امتد صف مستطيل قريبا من البيت، فالخارج من سمت البيت لا صلاة له، ولو فرض بعد هؤلاء عن مكة في أفق من الآفاق لصحت صلاتهم.
والواقف بمكة خارج المسجد يسوي محرابه بناء على عيان الكعبة، فإن لم يقدر استدل عليها بما يدل عليها، وأن كان يقدر ولكن بمشقة، فقد تردد بعض المتأخرين في جواز اقتصاره على الاجتهاد.
والواقف بالمدينة ينزل محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه منزلة الكعبة، فليس له الاجتهاد فيه بالتيامن والتياسر.

.الركن الثالث: في المستقبل:

والقادر على معرفة القبلة يقينا لا يجوز له الاجتهاد، والقادر على الاجتهاد لا يجوز له التقليد بل يجتهد، وهل مطلوبه في الاجتهاد الجهة أو السمت والعين؟ قولان للشيخ أبي بكر والقاضي أبي الحسن.
وللأعمى العاجز أن يقلد شخصا مكلفا مسلما عارفا بأدلة القبلة، فلو كان يستقل عند الإخبار عن الأحوال بمعرفة طرق الاجتهاد، قلد في السماع واجتهد بناء على ما سمع. وليس للمجتهد أن يقلد غيره، فإن تخير في الحال في نظره، فهل يتخير جهة يصلي إليها، أو يصلي أربع صلوات إلى الجهات الأربع، أو يقلد؟ ثلاثة مذاهب.
أما البصير الجاهل بالأدلة، فإن كان بحيث لو اطلع على وجه الاجتهاد لاهتدى إليه، لزمه السؤال، ولا يقلد. وإن كان بحيث لا يهتدي، ففرضه التقليد، فإن عدم من يقلده، فقال محمد بن عبد الحكم: يصلي إلى أي جهة شاء، قال: ولو صلى أربع صلوات لكان مذهبا.
ومن صلى بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ، فلا إعادة عليه بعد الوقت، لكن يعيد في الوقت.
وقال المغيرة ومحمد بن مسلمة: هذا إن شرق أو غرب. وأما إن استدبر القبلة، فإنه يعيد وإن خرج الوقت. وقال ابن سحنون: يقضي وإن خرج الوقت في الوجهين جميعا.
وسبب الخلاف: هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة أو الاجتهاد؟
وإذا فرعنا على المشهور، فاختلف في منتهي الوقت الذي يعيد إليه في الظهر والعصر، فقيل: غروب الشمس، وقيل: اصفرارها، وخرجه بعض المتأخرين على القول بتأثيم مؤخر الصلاة إلى الاصفرار.
وهذا الخلاف جار في إعادة من صلى بنجاسة ناسيا.
ومن صلى أربع صلوات إلى أربع جهات بأربع اجتهادات، ولم يتعين له الخطأ، فلا قضاء عليه في وقت ولا غيره.
وإن تيقن أنه استدبر القبلة، أو شرق أو غرب وهو في أثناء الصلاة، قطع وابتداء.
ولو بأن له الخطأ في التيامن والتياسر، ولم يشرق أو يغرب، فإن كان في الصلاة انحرف وأتمها ولا شيء عليه، وإن علم بذلك بعد الفراغ من الصلاة، فلا قضاء عليه.
فروع:
الأول: إذا صلى صلاة باجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، استأنف الاجتهاد لها.
الثاني: لو أدى اجتهاد رجلين إلى جهتين، فلا يقتدي أحدهما بالآخر.
الثالث: لو اجتهد بالأعمي رجل، ثم قال له آخر: قد أخطأ بك، فصدقه، وانحرف حين قال له، وما مضى مجزي عنه لأنه اجتهد له من له اجتهاد. قال ابن سحنون: هذا هو الحق، إذا كان المخبر مخبرا باجتهاده لا بحقيقة.
فإن أخبر عن عيان حقيقة القبلة، لزم الأعمى إبطال ما مضى من صلاته.

.الباب الرابع: في كيفية الصلاة:

وأفعال الصلاة تنقسم إلى أركان وسنن وفضائل.

.أما أركانها التي هي منها فتسعة:

التكبير للإحرام، وقراءة أم القرآن، والقيام لهما، والركوع، والرفع منه، والسجود، والفصل بين السجدتين، وقدر ما يعتدل فيه ويسلم من الجلوس الأخير، والتسليم.
واختلف في عد الطمأنينة من الواجبات أو من الفضائل، ولم نعد النية لأنها من الفروض الخارجة عن ذات الصلاة، فهي بالشرط أشبه، ولو كانت ركنا لافتقرت إلى نية.

.وأما السنن، فاثنتا عشرة، وهي:

قراءة سورة مع أم القرآن، والقيام لها، والجهر بالقراءة في موضع الجهر، والإسرار في موضعه، والتكبير سوى التكبير للإحرام، والقول: سمع الله لمن حمده، والجلوس الأول، والتشهد فيه، والزائد على مقدار الواجب من الجلوس الأخير، والتشهد فيه، والاعتدال في الفصل بين الأركان على أحد القولين، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المشهور.

.وأما الفضائل: فعدها القاضي أبو محمد سبعا:

رفع اليدين مع التكبير الإحرام، وإطالة القراءة وقصرها في الصلوات على ما سيأتي، والتأمين بعد الفاتحة، والتسبيح في الركوع والسجود، والقنوت في الفجر، وقول المأموم: ربنا و لك الحمد، وسجود التلاوة.
ولنورد الأركان بسننها وفضائلها على ترتيبها.

.الركن الأول: التكبير للإحرام.

ولتكن النية مقرونة به، ثم كيفية النية أن يقصد بقلبه الدخول في الصلاة المعينة، ويكون قصده مقارنا للفظ التكبير، وسواء ابتديا في حال، أو تقدمت النية، واستصحبت ذكرا إلى التكبير، ولا يفتقر في عقد الصلاة مع النية إلى لفظ سوى لفظ التكبير، وهل يلزمه التعرض في نيته لعدد الركعات؟ فيه خلاف ينبني عليه الخلاف في ثلاثة فروع:
من افتتح بنية القصر فأتم، أو بالعكس، ومن افتتح صلاة الجمعة، فلم تتم له شروطها، هل يتم عليها ظهرا أم لا؟ ومن دخل مع الإمام في صلاة الجمعة يظنها الظهر أو بالعكس.
ففي جميع ذلك خلاف.
وإذا قارنت النية وجب استصحابها حكما، وهو استدامة أمرها، بأن لا يحدث ما ينافيها، ويناقض جزمها، كما لو نوى الخروج في الحال أو في ثانية، فلو عزبت في أثناء الصلاة لم يضره ذلك. وحكى ابن سحنون عن أبيه: أنه كان يصلي ثم يعيد، ويعتذر بأن نيته عزبت.
وقال القاضي أبو بكر: إن عزبت بأمر خطر في الصلاة، أو بسبب عارض، لم يضر.
وإن كانت بأسباب متقدمة قد لزمت العبد من الانهماك في الدنيا، والتعلق بعلائقها الزائدة، والتشبث بفضولها، فيقوي ترك الاعتداد بالصلاة، لأن ذلك واقع باختيار، هذا حكم النية.
أما التكبير، فيتعين لفظه على القادر، ولا تجزي ترجمته، وهو أن يقول: الله أكبر، لا يجزي غيره من قوله: الأكبر، أو أجل، أو أعظم.
أما الأبكم فيدخل بالنية، ولا يلزمه غير ذلك. وأما العاجز لجهله باللغة، فقال الشيخ أبو بكر: ليس عليه نطق آخر سواه يفتتح به الصلاة عوضا عن التكبير، قال الإمام أبو عبد الله: هو صحيح على أصلنا. وقال القاضي أبو الفرج: يدخل بالحرف الذي دخل به الإسلام.
وحكى القاضي أبو محمد عن بعض أشياخه: أنه يدخل الصلاة بلسانه، فإذا شرع في التكبير، رفع يديه معه، على المعروف من المذهب، قال القاضي أبو محمد: إلى المنكبين، لا إلى الأذنين.
واختار المتأخرون أن يحاذي بالكوع الصدر، وبطرف الكف المنكب وبأطراف الأصابع الأذنين، وهذا إنما يتهيأ إذا كانت يداه قائمتين، رؤوس أصابعهما مما يلي السماء، وهي صفة النابذ.
وقال سحنون: تكونان مبسوطتين بطونهما مما يلي الأرض وظهورهما مما يلي السماء، وهي صفة الراهب.
ثم إذا أرسل يديه، قبض باليمنى على المعصم والكوع من يده اليسرى تحت صدره، على رواية مطرف وابن الماجشون في استحسان ذلك، ويسدلهما على ظاهر رواية ابن القاسم في الكتاب؛ إذ روى: لا بأس به في النافلة، وكرهه في الفريضة. لكن تأول القاضيان أبو محمد وأبو الوليد روايته وحملاها على الاعتماد؛ لأنه هو المكروه في الفريضة، المباح في النافلة، لا على وضع اليمنى على اليسرى الذي هو هيئة من هيئات الصلاة، وهو مخير على رواية أشهب، إذ روى الإباحة فيهما، وكذلك قال في المختصر: لا بأس بوضع اليد على اليد في الصلاة.

.الركن الثاني: قراءة أم القرآن.

وليعقب التكبير بقراءتها، ولا يفصل بينهما بشيء، وهي متعينة، لا يجزي عنها غيرها، ولا تقوم ترجمتها مقامها. ومن لم يحسنها وجب عليه تعلمها، فإن لم يسعه وقت الصلاة للتعلم ائتم بمن يحسنها، فإن لم ي جد فقال ابن سحنون: فرضه أن يذكر الله سبحانه.
وقال الإمام أبو عبد الله: ظاهر كلام أشهب، أن تعويض الذكر يجب في محل القراءة، قال: ومقتضى قول الأبهري عندي، أنه لا يجب عليه تعويض، كما لم يوجب تعويضا على من لا يحسن النطق بتكبيرة الإحرام لما كانت متعينة. وقال القاضي أبو محمد: لا يجب، ويستحب أن يقف وقوفا ما، فإن لم يفعل أجزأه. وفي المبسوط: أنه ينبغي له أن يقف قدر قراءة أم القرآن وسورة، ويذكر الله.
فرع:
لو افتتح الصلاة كما أمر، وهو غير عالم بالقراءة، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة، قالوا: ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها، فعلقت بحفظه من مجرد السماع، فلا يستأنف الصلاة؛ لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر به، فلا وجه لإبطاله، قاله في كتاب ابن سحنون.
ويستوي في وجوبها الإمان والفذ، ولا تجب على المأموم، لكن تستحب قراءتها في السر دون الجهر.
وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب: لا يقرأها في الجهر ولا في السر.
وتجب في كل ركعة على الرواية المشهورة، قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح من المذهب، وفي الأكثر على الأخرى. وقال المغيرة: يجتزى بوجودها في ركعة واحدة.
وليست بسم الله الرحمن الرحيم آية منها، ولا من غيرها، سوى سورة النمل، ولا تجب قراءتها في الصلاة، لما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، فلا في أول قراءة، ولا في آخرها:.
ومن قرأ بالقراءة الشاذة لم تجزئهن ومن ائتم به أعاد أبدا، ثم بعد الفاتحة فضيلة وسنة، فالفضيلة التأمين مع تخفيف الميم ممدودة أو مقصورة.
ويؤمن المأموم إذا سمع قول الإمام: ولا الضالين، وقال ابن عبدوس: يتحرى فيؤمن إذا لم يسمع.
ويؤمن الإمام إذا أسر، قال القاضي أبو الوليد: لم يختلف أصحابنا في ذلك، وعلله بأنه قد عي دعاؤه من مؤمن عليه غيره، فأما إذا جهر، فيؤمن أيضا في رواية المدنيين، وروى المصريون أنه لا يؤمن، واختار القاضي أبو الوليد رواية المدنيين، أنه يؤمن في السر وفي الجهر، ويكون تأمين المأموم مقارنا له معا.
وقال ابن بكير: يتخير في الجهر.
ثم حيث قلنا: يؤمن فليسر كالمأموم والمنفرد، واختار بعض المتأخرين جهر الإمام به، وقال غيره: هو مخير في الجهر والإسرار.
والسنة قراءة سورة، بعد الفراغ من أم القرآن والتأمين لها، وهي مسنونة في الصبح والجمعة والأوليين في غيرهما من فرائض الأعيان.
وفي جملة ِأنواع السنن والتطوعات سوى ركعتي الفجر؛ إذ المشهور الاقتصار فيهما على قراءة الفاتحة فقط. وفي مختصر ابن شعبان: يقرأ فيهما بأم القرآن في كل ركعة، وسورة من قصار المفصل.
والمختار من قدرها مختلف باختلاف أعيان الصلوات، ففي الصبح بطوال المفصل، وما زاد عليه بقدر ما يحتمله التغليس، ولا يبلغ به الإسفار، والظهر تليها في ذلك وتقاربها، ويستحب التخفيف في المغرب، والعصر تليها في ذلك. وأما العشاء الآخرة فبين المنزلتين، ثم القراءة في الجهر والسر على ثلاثة أقسام.
الأول: الجهر في جميع الركعات، كالصبح والجمعة.
والثاني: الإسرار في جميعهن، كالظهر والعصر.
والثالث: الجمع بين الأمرين، كالمغرب والعشاء، فيجهر في الأوليين من كل واحدة منهما، ويسر في سائرها، هذا حكم الفرائض.
أما النوافل، فيجوز فيها الجهر والإسرار في الليل، والإسرار في النهار، واختلف في جواز الجهر فيه.
وينتهي في الجهر إلى أن يسمع نفسه ومن يليه، والمرأة دون ذلك، تسمع نفسها خاصة. ويشترط في السر تحريك اللسان بالحروف، فإن لم يتحرك بها لم يحتسب بما فعل، وكان غير قارئ.
وأما بيان أحوال السنن في الجهر والإسرار، فيأتي في صفتها عند ذكرها إن شاء الله.

.الركن الثالث: القيام للإحرام، وقراءة أم القرآن.

ويجب القيام لهما مع الإقلال، فإن توكأ أو استند مع القدرة على الإقلال، بطلت الصلاة إن كان لو زال العماد سقط، وإن كان بحيث لو زال لم يسقط، لم تبطل مع كراهية فعله.
فإن عجز عن الإقلال ففضه التوكؤ، فإن عجز عن ذلك، انتقل إلى الجلوس مستقبلا، فإن عجز عنه، ففرضه الجلوس مستندا، ثم حيث انتقل عما هو فرضه أعاد أبدا.
ولا يستند لحائض ولا جنب، فإن فعل أعاد في الوقت.
فرع:
لو قدر على القيام، ولكن بلحوق مشقة فادحة تلحقه بحكم العاجزين سقط عنه.
قال ابن عبد الحكم: ولو خاف معاودة علة تضر به إن قام، لسقط عنه القيام، قال: وكذلك من لا يملك خروج الريح إذا قام.
وإن عجز عن الركوع والسجود دون القيام قام وأومأ بهما، والإيماء بالرأس والظهر جميعا. وهل عليه أن يبلغ في الإيماء منتهى وسعة؟ ذكر الشيخ أبو الطاهر: أن ظاهر المذهب على قولين في ذلك.
ويمد يديه إلى ركبتيه في الإيماء للركوع، ويحسر عن جبهته في الإيماء للسجود.
ولو قدر على القيام والركوع والسجود، لكن إن سجد لم يقدر على النهوض للقيام بعد، فهل يصلي قائما، ويومئ للركوع و السجود في الثلاث الأول من الرباعية مثلا، ثم يركع ويسجد في الرابعة، ويكمل صلاته، أو ي ركع ويسجد في الأولى، ويتم الصلاة جالسا؟ هذا مما اضطرب فيه المتأخرون، فمال أبو إسحاق التونسي إلى إيثار السجود على القيام لتقدمه عليه وللإنفاق على فرضيته، وذهب غيره إلى ترجيح القيام؛ إذ لا بدل عنه، لأن الجلوس حالة من حالات الصلاة.
ولو عجز عن القيام وقعد، فلا تتعين في القعود هيئة للصحة، لكن الإقعاء مكروه،
وهو أن يجلس على وركيه ناصبا فخذيه. والمستحب في المشهور أن يتربع في موضع القيام، ومال بعض المتأخرين إلى أنه يجلس فيه كجلوس التشهد، وأشار إليه محمد بن عبد الحكم، فإن عجز عن وضع الجبهة، انحنى للسجود أخفض منه للركوع.
فإن عجز عن القعود، صلى على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم بدنه القبلة، كالموضوع في اللحد، فإن لم يقدر على ذلك، استقلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة.
وروى ابن حبيب عن ابن القاسم: أنه يبدأ بالاستلقاء، فإن عجز عنه اضطجع على جنبه الأيمن، ثم إن عجز عنهما اضطجع على جنبه الأيسر.
فرع:
.الركن الرابع: الركوع.

وأقله أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه أو تقربان منهما، ويجزي منه أدنى لبث، وأكمله أن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه، و ينصب ركبتيه، ويضع كفيه عليهما، ويجافي الرجل مرفقيه عن جنبيه، ولا يجاوز في الانحناء الاستواء، ويقول: الله أكبر، رافعا يديه عند الهوي في رواية ابن وهب وأشهب، ويسبح ما تيسر له.

.ثم يرفع من ركوعه، وهو الركن الخامس:

فإن أخل به وجبت الإعادة في رواية ابن القاسم، ولم تجب في رواية علي بن زياد.
فرع:
إذا قلنا برواية ابن القاسم، فهل يجب الاعتدال أم لا؟ روي لابن القاسم في من رفع من الركوع والسجود ولم يعتدل، أن صلاته تجزينه، ويستغفر الله، ولا يعود. ولأشهب: أن صلاته غير صحيحة.
وقال القاضي أبو محمد: الأولى أن يجب من ذلك ما كان إلى القيام أقرب، وحكاه القاضي أبو الحسن عن بعض أصحابنا.
ثم إذا قلنا بوجوب الاعتدال، فتجب الطمأنينة، وقيل: لا تجب، وكذا الخلاف في إيجابها في سائر الأركان.
ويستحب له أن يرفع يديه، على رواية ابن وهب وأشهب أيضا، عند رفعه. ورواية ابن القاسم في الكتاب: ترك الرفع فيهما، أعني الركوع والرفع منه، ويقول في حال الرفع: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، إن كان منفردا، ويقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده، إن كان إماما، وقيل: بل يجمع بينهما. وإن كان مؤموما اقتصر على قوله: ربنا ولك الحمد، بإثبات الواو في رواية ابن القاسم، وروى علي بن زياد: إن الأفضل إسقاطها.
ثم يكبر للسجود، فإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه، أو ركبتيه قبل يديه، والأول أحسن.
ثم إذا سجد على بينته نهض قائما، ولا يقعد ثم يقوم إلا من عذر، ويفعل في الثانية من القراءة مثل ما فعل في الأولى، غير أن السورة فيها ينبغي أن تكون بعد التي قرأ بها في الأولى في ترتيب المصحف، وأن تكون أقصر منها أيضا.
ويستحب القنوت في الصبح بعد فراغه من قراءة الركعة الثانية، فيقنت قبل الركوع إن شاء أو بعده، إلا أنه قبل الركوع أفضل، ولا يجهر به.
واختار في الكتاب مما روى منه: اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم ِإياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق. ولو أتى بغيره أجزأه.
ثم إن كان له في نفسه حاجة دعها بها حينئذ إن شاء.

.الركن السادس: السجود.

وصفته أن يمكن جبهته وأنفه من الأرض والكفين والركبتين وأصابع القدمين.
ولا يجب كشف الكفين، لكن يستحب.
وفي إثبات الإجزاء ونفيه عند الاقتصار من الجبهة والأنف على أحدهما، ثلاثة أقوال: يخصص الإجزاء في الثالث بالاقتصار على الجبهة دون الاقتصار على الأنف، وهو المشهور.
واختار القاضي أبو بكر نفي الإجزاء بإسقاط أيهما كان، وهو قول ابن حبيب.
وحكى القاضي أبو الفرج ما ظاهره تعلق الوجوب بأحدهما على البدل.
وأما باقي الأعضاء، فقال سحنون: اختلف أصحابنا إذا لم يرفع يديه عند رفعه للسجدة الثانية، فمنهم من قال: لا تصح صلاته، لما جاء أن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، ومنهم من خفف ذلك.
وقال القاضي أبو الحسن: يقوي في نفسي أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب.
ولو سجد على طرته، أو كور عمامته، كالطاقة أو الطاقتين، أو طرف كمه، لم يمنع الإجزاء.
ويكبر في الانخفاض له، ويدعو فيه إن أحب، ويستحب له أن يفرق بين ركبتيه، ومرفقيه، وجنبيه وبطنه وفخذيه، وهو التفريج، ولا تفرج المرأة.
واستحب المتأخرون يسجد بين كفيه. ولم يحد مالك في ذلك حدا.

.ثم يفصل بين السجدتين وهو الركن السابع:

ولا يتهيأ الإتيان بهما مع الإخلال به؛ إذ لا يتصور التعدد دونه. فأما الاعتدال فيه، ففيه من الخلاف ما مضى في الاعتدال في الرفع من الركوع.
ويضع يديه قريبا من ركبتيه منشورتي الأصابع، ثم يسجد سجدة أخرى مثلها.
ثم يقوم للثانية واضعا يديه على الأرض، ويكبر حين شروعه في الرفع من السجود.
وكذلك في جميع تكبيرات الانتقال، سوى تكبيرة القائم من الجلوس، فإنه إنما يكبر إذا استقل قائما؛ إذ الشروع في تكبير الانتقال إنما هو في الأركان، ولم ينتقل من ركن إلى ركن فيكبر فيه، وعلى ذلك استمر العمل.

.الركن الثامن: قدر ما يعتدل فيه.الركن التاسع: التسليم:

وهو واجب، ولا تقوم مقامه أضداد الصلاة، ولفظه متعين، وصورته: السلام عليكم.
ولو نكر ونون فقال: سلام عليكم، فقال القاضي أبو محمد والشيخ أبو محمد: لا يجزيه وقال أبو القاسم ابن شلبون: يجزيه.
واختلف المتأخرون في انسحاب حكم النية على التسليم، أو اشتراط تجديد نية للخروج، على قولين.
ويسلم كل واحد من الإمام والفذ تلقاء وجهه، ويتيامن قليلا، وأما المأموم فقال الشيخ أبو محمد: يسلم عن يمينه، قال الإمام أبو عبد الله: وهكذا ظاهر رواية ابن القاسم.
وبالتسليمة الواحدة، يخرجون من الصلاة، ولا يؤمر الإمام ولا المنفرد بزيادة عليها، وروي: أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين.
ولا يسلم المأموم حتى يفرغ الإمام منهما، ويضيف إليها المأموم اثنتين على المشهور أولاهما أمامه يرد بها على إمامه، والثانية عن يساره إن كان على يساره أحد في الرواية الأخيرة. وروى أشهب: أنه يبدأ منهما بالتي على اليسار، وهي الرواية المتقدمة.
وحكى القاضي أبو محمد التخيير بين مقتضى الروايتين.
وقيل: يقتصر على الرد على الإمام فقط.
ولو كان مسبوقا، ففي رده على الإمام ومن على يساره روايتان.
خاتمة:
يجب قضاء الفوائت على حسب ما توجه الخطاب بها حين الأداء، والترتيب في قضاء اليسير منها واجب، فتقدم على الوقتية، وإن ضاق وقت الأداء أو فات. وقال ابن وهب: يبدأ بالوقتية عند خوف فوات وقتها، وروي عن أشهب: أنه يتخير بينهما، ومستند المشهور الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بدأ بصلاة العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب، خرجه مسلم في صحيحه.
ويرتب الفوائت كما يرتب الحاضرة معها.
فرع:
لو خالف الترتيب، وبدأ بالحاضرة ذاكرا لفائتة يجب ترتيبها، فقيل: يعيد الحاضرة بعد قضاء الفائتة ما دام في وقتها، وروى مطرف وابن الماجشون: أنه يعيد أبدا.
وسبب الخلاف: هل الترتيب شرط أم لا؟
ثم اليسير منها الخمس فدون، وقيل: الأربع فقط، ولم يختلف المذهب في الست أنها كثيرة. وذلك يقتضي نفي وجوب ترتيبها، ولكن حكى عن محمد بن مسلمة أنه يقدم المنسيات وإن كثرت، إذا كان يأتي بجميعها مرة واحدة.
ومن تذكر فائتة من وقتية يجب ترتيبها معها، فهل تفسد الوقتية بذلك أم؟ قولان، سببهما ما تقدم من الخلاف في اشتراط الترتيب.
وثمرتها: وجوب القطع واستحبابه.
وهو مأمور على المذهبين بأن يقطع ويبتدئ الفاتئة فيتمها، ثم يشتغل بالمؤداة إن كان منفردا، ولم يعقد الركعة، وقيل: يتمها ركعتين نافلة، كما لو عقد الركعة.
وإن كان إماما أمر أن يقطع. وهل يسري ذلك لصلاة المأمومين؟ روى ابن القاسم أنه يسري ولا يستخلف، وروى أشهب أنه لا يسري ويستخلف من يتم بهم، وتصح صلاتهم.
وسبب الخلاف: مراعاة الخلاف.
وإن كان مأموما تمادى مع إمامه، ولم يقطع. ثم يختلف في وجوب الإعادة عليه.
ولو كان في الجمعة، فقال أشهب: إن علم أنه يدرك ركعة من الجمعة بعد قضاء المنسية، فأحب إلي أن يقطع ويقضي، ثم يعود إلى الجمعة، وإن لم يعلم ذلك تمادى.
فإذا أكمل الجمعة صلى المنسية خاصة، ولا إعادة عليه في الجمعة إلا احتياطا، لأنها قد فاتت. وقال الشيخ أبو الحسن: مذهب مالك اتباع الإمام، فإذا فرغ صلى التي نسي وأعاد الجمعة ظهرا.
قال ابن القاسم: وإن لم يذكر التي نسى حتى فرغ من الجمعة، لم تكن عليه إعادتها. قال سحنون: آخر قوله أنه يعيدها في الوقت، ولعيه أكثر الرواة.
ولو ذكرها بعد الصلاة الوقتية، صلى المنسية، ثم أعاد الوقتية ما لم يذهب وقتها. وهل الاختياري أو الضروري؟ فيه قولان، سببهما الموازنة بين فضيلة الترتيب، وكراهية إيقاع الصلاة بعد الاصفرار، هذا حكم الفائتة مع الوقتية.
فأما حكم الترتيب بين الفوائت، فالمعتبر فيه تحصيل اليقين ببراءة الذمة.
والنظر في تحصيل عدد أحوال الشكوك فيها، فيوقع من الصلوات أعدادا على رتب ما يحيط بجميع حالات الشكوك.
فمن ذلك، من نسي صلاة من الخمس لا يدري ما هي، فإنه يأتي بهن كلهم ليستوفي جميع أحوال الشك.
وأما إن علم عين الصلاة، وجهل يومها، فإنه يصليها غير ملتفت لأعيان الأيام، فإن علم أعيان الأيام، وجهل ترتيبها، فالمذهب على قولين، المشهور أنه لا يراعى اختلاف الأيام.
وحكى ابن سحنون عن بعض الأصحاب ما يقتضي مراعاتها، مثاله: من نسي ظهرا وعصرا، لا يدري الظهر للسبت، والعصر للأحد، أو العصر للسبت، والظهر للأحد، فعلى المشهور يصلي ظهرا بين عصرين، أو عصرا بين ظهرين. وعلى القول الآخر: يصلي ظهرا للسبت، ثم عصرا للأحد، ثم عصرا للسبت، ثم ظهرا للأحد.
ولو تحقق عين الصلاة وشك في كونها سفرية أو حضرية، فإنه يصليها تامة، ثم يصليها سفرية، لتستوعب الصلاتان حال الشكين.
ولو نسي ظهرا وعصرا، لا يدري أيتهما قبل الأخرى، فقد تقدم أنه يصلي ظهرا بين عصرين، أو عصرا بين ظهرين، على المشهور للإحاطة بجميع حالات الشكوك.
فلو انضاف إلى هذا الشك، أن يشك، بعد علمه أن إحداهما سفرية والأخرى حضرية، في السفرية منهما، حتى صار الشك في حالتي الرتبة والقصر، فاختلفت أجوبة الأصحاب فيها.
قال الإمام أبو عبد الله: والصحيح ما نقل سحنون عن ابن القاسم أنه رجع إليه، ونقله ابن حبيب عن أصبغ، وهو أن يصلي ست صلوات ظهرا تامة، ثم يعيدها مقصورة، ثم عصرا تامة، ثم يعيدها مقصورة، ثم ظهرا تامة، ثم يعيدها مقصورة، والقانون المرجوع إليه في جواب ما يرد من هذه المسائل، أن يضرب عدد المنسيات في أقل منها بواحد، ثم يزيد على المتحصل واحدا، ثم يصليها على حسب ما تقدم.
مثاله في المسألة السابقة: أن يضرب اثنين في واحد، ويزيد واحدا، فتكون ثلاثة ظهرا بين عصرين أو عصرا بين ظهرين.
ولو شك مع ذلك في كونهما سفريتين أو حضريتين، أو سفرية وحضرية، فليفعل ما ذكرناه، إلا أن كل صلاة فرغ من فعلها حضرية أعادها سفرية.
وإن كان المنسي ثلاث صلوات صبحا وظهرا وعصرا من ثلاثة أيام، لا يدري أيهما قبل، فليضرب ثلاثة في اثنين ويزيد واحدة، فتكون سبعا، فإذا ابتدأ بالصبح فكمل الثلاث أعدها، ثم أعاد الصبح، فإن انضاف إلى ذلك الشك في كونها حضرية أو سرية، أو منها حضرية وسفرية، فيعيد كل صلاة تقصر صلاة سفر، فإذا صلى الظهر حضرية أعادها سفرية، وكذلك العصر، ثم يعيدهما كذلك في تكريرهما، فبلغ العدد إحدى عشر، فإن كان المنسي أربعا، فثلاث عشرة صلاة.
وإن شك مع ذلك في السفر والحضر، زاد مع كل صلاة حضرية تقصر صلاة سفرية، وإن كانت المنسية خمسا، صلى إحدى وعشرين، ومع الشك في السفر والحضر تبلغ نيفا وثلاثين، هذا على المشهور.
ولو فرعنا على اعتبار الأيام، لم تختص الإعادة بما يقصر، بل يعيد الجميع، فيتضاعف العدد الذي ينتهي إليه الحساب أبدا.
ومن هذا الباب، أن ينسى صلاة وثانيتها، ولا يدري ما هما، فإنه يصلي الخمس على رتبتها، ثم يعيد ما ابتدأ به.
ولو نسي صلاة وثالثتهما، صلى ستا أيضا، لكن أي صلاة بدأ بها عقبها بثالثتها، ثم بثالثة الثالثة، ثم كذلك حتى يكمل ستا، وكمالها بإعادة الأولى.
ولو نسي صلاة ورابعتها، ولم يزد على الست، لكن أي صلاة بدأ بها عقبها برابعتها، ثم برابعة الرابعة، ثم كذلك حتى يكمل الست بإعادة الأولى.
ولو نسيها وخامستها، لم يزد على الست أيضا، لكن أي صلاة بدأ بها عقبها بخامستها، ثم بخامسة الخامسة، ثم يتمادى على ذلك حتى يكمل الست بإعادة الأولى.
ولو كان إنما نسي صلاة وسادستها، أو حادية عشرة لها، أو سادسة عشرة لها، فليصل عشر صلوات، يصلي كل واحدة من الخمس ويعيدها، فيصلي ظهرين وعصرين ومغربين وعشاءين وصبحين؛ لأن السادسة والحادية عشرة والسادسة عشرة هن الأولى بعينها، فكانتا صلاتين متماثلتين من يومين فعليه صلاة يومين.
قال الإمام أبو عبد الله: وهذا إذا أحكم وتدبر تصوره في الذهن لم يصعب، وفرع عليه الناظر ما شاء.
قال: وكدا الفهم فيه يكسب انتباها وتيقظا فيما سواه من المعاني الفقهية.

.الباب الخامس: في شروط الصلاة:

وهي خمسة:

.الأول: الطهارة عن الحدث:

فهي شرط في الابتداء والدوام، حتى لو أحدث في الصلاة عمدا أو سهوا بطلت، وكذلك لو سبقه الحدث.

.الشرط الثاني: طهارة الخبث في الثوب والبدن والمكان:

وقد تقدم الخلاف في أنها واجبة مع الذكر، أو مع الذكر والنسيان، أو هي سنة.
وإذا قلنا بالوجوب، ففي كونها شرطا في صحة الصلاة خلاف.
ثم إذا قلنا بالشرطية، فهل على الإطلاق أو مع الذكر؟ قولان القاضيين أبي الحسن وأبي محمد.
ثم النظر فيما يطهر عن النجاسة، وهو الثوب والبدن والمكان.
أما الثوب، فإن أصاب أحد ثوبيه نجاسة ولم يميزه، تحرى، فما غلب على ظنه أنه الطاهر منهما صلى به، وقيل: أنه يصلي بكل و احدة صلاة. قال القاضي أبو بكر: والصحيح الأول.
ولو أصاب بعض ثوبه نجاسة، ولم يعلم موضعها، لم يجز التحري، وغسل جميعه بخلاف الثوبين؛ لأن أصلهما الطهارة، فيستند اجتهاده إليها، والأصل في الواحد النجاسة بعد الإصابة.
ولو قسم هذا الثوب نصفين، لم يجز التحري أيضا، لجواز أن تنقسم النجاسة فيهما.
ولو تحقق أن النجاسة أصابت أحد الكمين، فقال القاضي أبي بكر: يجوز الاجتهاد كالثوبين باختلاف بين العلماء، ثم قال: فإن فصلهما جاز الاجتهاد إجماعا.
ولو كان طرف عمامته على نجاسة، فرأى أبو محمد عبد الحق: أن المراعى في ذلك تحرك موضع النجاسة، فإن تحرك بحركته، فهو كالمصلي وفي بعض ثيابه نجاسة، وإن لم يتحرك فليس كذلك. وفي السليمانية: يعيد في الوقت، وإن كانت العمامة طويلة، وعلل بأنه صلى والنجاسة متعلقة به؛ إذ لو اضطره أمر فتنحى عن المكان الذي يصلي فيه، جر النجاسة متعه.
فرع:
إذا رأى المصلي في ثوبه نجاسة، يؤمر بإزالتها، فقال في الكتاب: ينزعه ويستأنف الصلاة من أولها بإقامة جديدة، ولا يبنى على شيء مما مضى.
وقال ابن الماجشون: ينزعه إذا أمكنه ويتمادى، وإن لم يمكنه تمادى، ثم نزعه وأعاد.
وقال مطرف: يقطع إلا أن يمكنه النزع، فينزعه ويتمادى.
ولو كان رآها قبل الصلاة، فترك إزالتها إلى وقت الصلاة، فلما كان وقت الصلاة نسي إزالتها فصلى بها، فحكى القاضي أبو بكر عن بعض العلماء: أن عليه الإعادة، لأنه فرط، ثم استضعفه، واستشهد بتعلق الوجوب بوقت الصلاة دون ما قبله.
قال القاضي أبو بكر: فإن رآها في أثناء الصلاة، فلما هم بالانصراف نسي فتمادى أعاد أبدا، قاله ابن حبيب، ووجهه أن الصلاة برؤية النجاسة انتقضت، قال: وعندي أنها لم تنتقض، إذ لو انتقضت لما عادت بطرحه، وإنما وجب عليه إزالتها، ونسيانه آخرا كنسيانه أولا، قال: وإنما ذلك بناء على أحد القولين في المدونة.
ولو سال جرحه في الصلاة، أو نكأ قرحته فيها فسالت، فقال القاضي أبو بكر: إن كان يسرا فلته ومضى، وإن كان كثيرا ففيه قولان: أحدهما يقطع، والثاني يغسله ويتمادى، قال: والأول أقيس وأجزى.
وأما البدن، فقد تقدم أن تطهيره بالغسل إن تحققت نجاسته، وإن شك فيها اجتزى بالنضح على المشهور.
فلو جعل في جرحه المرتك الذي يصنع من عظام الميتة أو غيره نم النجاسات، فلا يصلي به حتى يغسل. ورخص ابن الماجشون في ترك غسله، وأجاز الصلاة.
وأما المكان، فليكن كل ما يماس بدنه عند القيام والجلوس والسجود طاهرا، فلو صلى على حصر أو نحوه مما ينتقل وطرفه متصل بنجاسة، ففي إنزالها منزلة المتصلة ببدنه قولان للمتأخرين، واختيار عبد الحق أنها لا تنزل منزلتها.
ومما يتصل بمكان الصلاة نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة،
وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمام، وظهر الكعبة، وأعطان الإبل وهو مجتمعها عند الصدر من المنهل.
واختلف في علة ذلك، فقيل: كونها لا يؤمن نفارها، وقيل: زفورتها، وقيل: كونها يستتر بها في العادة عند قضاء الحاجة، وقيل: كونها خلقت من جان.
هذا حكم النجاسات التي لا عذر في استصحابها. أما مظان الأعذار فخمس:
الأولى: الأثر على محل النجو بعد الاستجمار، فلو صلى من استجمر في ثوب فعرق فيه، فأصاب موضع الاستنجاء، جرى على الخلاف بين القاضيين أبي الحسن وأبي الوليد، كما تقدم.
الثانية: يعفى من طين الشوارع عما يتعذر الاحتراز عنه غالبا، وكذا ما على الخف في حق المصلي معه، كما سبق في كتاب الطهارة.
الثالثة: دم البراغيث معفو عنه، إلا إذا كثر كثرة يندر وقوعها، ويختلف ذلك بالأوقات والأماكن.
الرابعة: دم البثرات وقيحها وصديدها، وقد تقدم أنه معفو عنه في حق من وجد منه، فإن أصابه من بدن غيره، ففي العفو عنه قولان.
الخامسة: الجاهل بنجاسة ثوبه، يجري حكمه في القضاء على الخلاف المتقدم، وكذلك المتعمد.
فرع:
ويلتحق بذلك ما لو رعف في الصلاة، وكان الدم بحيث يعلم أنه لا ينقطع، فإنه يتم الصلاة على حاله، وله الإيماء بالركوع والسجود، وإن كان ركوعه وسجوده يضر بجسمه.
وإن كان إنما يضر به من جهة تلطخ ثيابه بالدم، ففي جواز الإيماء له من أجل ذلك قولان.
وإن كان يرجو انقطاعه أو يشك فيه، فليفتله بأصابعه، ويمضي على صلاته إن كان لا يقصر ولا يسيل، وإن قطر أو سال، فإن تلطخ به الكثير من جسده أو ثيابه قطع الصلاة، وإن لم يتطلخ به ذلك، فها هنا الأولى له أن يقطع، فإن أحب التمادي على صلاته بأن يخرج فيغسل الدم عنه، ثم يعود إلى الصلاة، فله الترخص بذلك إن كان في جماعة وعقد الركعة، وإن كان فذا ولم يعقد ركعة، فظاهر الكتاب أن له البناء أيضا، وقيل: ليس له ذلك.
وسب الخلاف: الاختلاف في أن البناء لحرمة الصلاة أو لحرمة الجماعة.
وإذا فرعنا على المشهور فخرج وقد عمل بعض أجزاء الركعة، إما القراءة خاصة أو القراءة والركوع وسجدة واحدة، فإنه يلغي ذلك ويستأنف عمله إذا عاد. وقال ابن الماجشون وابن حبيب: يبني على ما عمل من الركعة. وروى ابن وهب الجنوح إلى مثله، وأنه لو فعله الراعف لأجزأه.
ثم كيفية البناء أن يخرج ممسكا لأنفه، غر متكلم، ولا ماش على نجاسة، فيغسل الدم في أقرب المواضع، فإن تكلم عمدا، أبطل الصلاة، وإن تكلم سهوا ففي البطلان ثلاثة أقوال، في الثالث تبطل بالكلام في العودة دون المضي لغسل الدم، لضعف استدامة حكم الصلاة في حق الذاهب، وقوة استدامة حكمها في حق العائد لإقباله عليها. وإن مشى على نجاسة، كان كالمتكلم على ما فصلناه.
وإن تعدى مكانا تمكن من غسل الدم فيه إلى أبعد منه، بطلت صلاته.
وإذا فرغ من غل الدم على الشرائط المذكورة، رجع إلى الإمام، فأتم الصلاة معه.
وإن كان الإمام قد فرغ في غير الجمعة، أتم مكانه، أو في أقرب موضع يصلح للصلاة.
فإن كانت الجمعة، وكان قد عقد الإمام ركعة رجع أيضا إلى الجامع، فأتم به؛ إذ هو شرط الجمعة، وقيل: يتم بموضعه، وقيل: إن حال بينه وبين العودة حائل، أجزأته الصلاة في موضع غسل الدم، وإن لم يحل بينه وبين الجامع حائل، رجع إليه.
وإن كان لم يتم مع الإمام ركعة، ففي الكتاب: يبتدئ الظهر أربعا، قال سحنون: يبني على إحرامه، وروي أيضا أنه يقطع، ويبتدي بإقامة. وقال أشهب: ويستحب أن يتكلم ويبتدئ، وإن بنى على إحرامه أجزأه، فإن كان سجد سجدة، فسجد أخرى وصلى ثلاثا أجزأه.
وحكم الظن في إكمال الإمام وعدم إكماله، حكم العلم، وإن أخطأ في ظنه عذر.

.الشرط الثالث: ستر العورة:

.والنظر في حدها، وحكم سترها، وصفة الساتر.

.النظر الأول: في حدها:

والمكلفون صنفان: رجال ونساء.
والنساء قسمان: حرائر وإماء.
فأما الصنف الأول: فأجمعت الأمة على أن السوءتين منهم عورة، واختلفوا فيما عد ذلك. وفي المذهب ثلاثة أقوال:
أحدها: أن لا عورة إلا السوءتان، الثاني: أن العورة من السرة إلى الركبة، وهما داخلتان في ذلك، والثالث: هذا التحديد، لكنهما غير داخلتين. وروى القاضي أبو الفرج ما ظاهره إيجاب ستر جميع بدن الرجل في الصلاة.
وأما القسم الأول من الصنف الثاني، فجميع أبدانهن عورة، إلا الوجه والكفين.
وأما القسم الثاني، فعورتهن كعورة الرجل.
وقال في الكتاب في الأمة الكبيرة تصلي بغير قناع، قال: ذلك سنتها، وكذلك المكاتبة والمدبرة والمعتق بعضها، قال: ولا تصلي الأمة إلا وعلى جسدها ثوب تستر به جسدها.
وقال في السراري اللاتي لم يلدن: هن إماء، يصلين كما تصلي الأمة التي لم يتسررها سيدها.
وأما أمهات الأولاد، فإنهن يصلين كالحرة بقناع ودرع أو قرقل يستر ظهور القدمين.
فإن صلت أم الولد بغر قناع، فأحب إلي أن تعيد ما دامت في الوقت، وليس ذلك بواجب عليها كوجوبه على الحرائر.
فرع:
إذا افتتحت الأمة الصلاة بما لا يجزي الحرة من اللباس، فطرأ عليها العلم بالعتق في أثنائها، فإن كان سابقا لافتتاحها، فقيل: تقطع، وقيل: تتمادى.
وإن كان طروء العتق في أثناء الصلاة، فإن قلنا في الصورة أولى: تتمادى، فها هنا أولى بالتمادي، وإن قلنا ثم: تقطع، فها هنا قولان في القطع والتمادي.
ثم حيث قلنا بالتمادي فيهما، فذلك ظاهر إذا وجدت ما تستتر به في الصلاة، فإن لم تجد، فها هنا قولان في التمادي والقطع.

.النظر الثاني: في حكم الستر.

وهو واجب عن أعين الأنس، وهل يجب في الخلوات أو يندب إليه؟ قولان.
فِإذا قلنا: لا يجب فيها، فهل يجب للصلاة أو يندب إليه فيها؟ ذكر الشيخ أبو الطاهر عن أبي الحسن اللخمي، أنه حكى في ذلك قولين. ثم قال الشيخ أبو الطاهر: وليس كما ظنه، وإنما المذهب على قول واحد في وجوب الستر، لكن الخلاف في وجوب الإعادة في الوقت أو فيه وبعده على الخلاف في ستر العورة، هل هو من شروط صحة الصلاة، أم لا؟.
وقد ذكر القاضي أبو محمد: أن القاضيين أبا إسحاق وابن بكير والشيخ أبا بكر ذهبوا إلى أن الستر من سنن الصلاة، وهذا يعضد ما حكاه أبو الحسن اللخمي ويحققه.

.النظر الثالث: في صفة الساتر.

وليكن صفيقا كثيفا، ولا يكون شفا، ولا بحيث يصف، فإن كان شفا، فهو كالعدم مع الانفراد. وإن كان بحيث يصف وليس يشف فهو مكروه، ولا يؤدي إلى بطلان الصلاة.
هذا حكم القادر على الساتر، فإن عجز عنه، صلى عريانا قائما، يركع ويسجد.
فإن اجتمع عراة وأرادوا الجمع، فإن كانوا في ليل مظلم يأمنون من نظر بعضهم إلى عورة بعض، جمعوا، وتقدموا إمامهم، وإن كان الأكمل في الستر أن يصلوا صفا، صلوا كذلك.
وإن كان النهار أو الليل المقمر، فإن أمكنهم التباعد حتى يصلوا بموضع لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض، فعلوا ذلك، وصولا أفذاذا إن خافوا النظر مع الجمع، ولا فرق في هذا بين الرجال والنساء.
وإن جمعهم موضع لم يمكنهم التباعد فيه، فهل ينتقلون إلى الجلوس والإيماء، أو يصلون قياما، ويؤمر كل واحد بغض بصره؟ ها هنا قولان للمتأخرين.
فروع:
الأول: لو وجد ساترا قبل الشروع لكنه نجس، صلى به، ولم يصل عريانا.
ولو اجتمع له حرير ونجس فبأيهما يصلي؟ قولان: مذهب الكتاب، الصلاة بالحرير، وقال أصبغ: بل يصلي بالنجس، ويعيد في الوقت.
وسبب الخلاف: النظر إلى تأكد النجس باختصاص منعه بالصلاة، أو إلى تأكد الحرير بعموم المنع فيه.
ولو لم يجد إلا حريرا، فالمنصوص لابن القاسم وأشهب أنه يصلي عريانا، ولا يصلي به. واستقرأ الإمام أبو عبد الله من تقدمته الحرير على النجس في الكتاب، أنه يصلي به، ولا يصلي عريانا.
الفرع الثاني:
من صلى بثوب حرير مع القدرة على ثوب طاهر من غيره، وليس عليه ما يواريه غيره، فصلى به اختيارا، ففيه ثلاثة أقوال: إثبات الإعادة مطلقا، ونفيها مطلقا، وتخصيصها بالوقت.
ولو كان عليه ما يواريه سواه، فقيل: لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت.
وهكذا اختلف فيمن صلى متختما بالذهب على هذين القولين:
الفرع الثالث:
لو صلى عريانا لعدم الساتر، ثم طرأ عليه في أثناء الصلاة ما يستتر به، فهل يتناوله فيستتر به ويتمادى، أو يقطع ثم يستتر ويبتدئ؟ قولان. قال الإمام أبو عبد الله: وهما مبنيان على الخلاف في أن الستر مسنون أو مفروض.

.الشرط الرابع: ترك الكلام:

والعمد منه، لغير إصلاح الصلاة، مبطل لها، قل أو كثر، ويستوي في ذلك كل ما ينطلق عليه اسم الكلام من غير تحديد لحروفه، ولا تعيين لها.
والتنحنح لضرورة غير مبطل، ولغير ضرورة مبطل في أحد القولين، فإن تعذرت القراءة إلا به لم يضر، وفي الإبطال بالنفخ قولان.
ولا تبطل الصلاة بسبق اللسان هن ولا بكلام الناسي، وفي كلام الجاهل بتحريم الكلام خلاف، هل يلحق بكلام العامد، أو بكلام الناسي؟
وتبطل الصلاة بكلام المكره، وبالكلام الواجب لإنفاذ أعمى عن السقوط في مهلكة وشبهه.
ومصلحة الصلاة عذر في الكلام، فلا تبطل به الصلاة، وقال المغيرة: ليست بعذر، وتبطل الصلاة.
ولو قال: {ادخلوها بسلام آمنين}، على قصد التلاوة لم يضر، وإن قصد مع ذلك التفهيم، ولو لم يقصد سوى التفهيم. فقال ابن حبيب: لا يضر، وقال الإمام أبو عبد الله: قد يتدرج في ذلك قول بإبطال الصلاة قياسا على أحد القولين فيمن فتح بالقرآن على من ليس معه في صلاة.
ولو تنحنح قاصدا بذلك إسماع شخص، ففي صحة صلاته وبطلانها مع ذلك روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم.
وأما إن قهقه، فقيل: تفسد الصلاة، ويستوي في ذلك العمد والسهو والغلبة، وقيل: هي كالكلام، يبطل عمدها، دون غيره.
وأما مبدأ الضحك وهو التبسم، فروى ابن القاسم: لا اعتبار به لخفته، وروى ابن عبد الحكم: يسجد بعد السلام، لأنه كالزائد في الصلاة. وروى أشهب: يسجد قبل السلام، لأنه نقص من هيئة الخشوع والاستكانة.
قال القاضي أبو محمد: قول ابن عبد الحكم أصح.

.الشرط الخامس: ترك الأفعال الكثيرة.

والكثير ما يخيل للناظر الإعراض عن الصلاة بإفساد نظامها ومنع اتصالها، ولا تبطل بما دون ذلك من تحريك الأصابع في تسبيح أو حكة أو نحو ذلك، ولا بمشي يسير وإن كره، إذا لم يكن لمصلحة الصلاة، أو لما دعت إليه ضرورة، مثل مشي المسبوق إلى سترة عند مفارقة الإمام، ومثل قتل ما يحاذر، إنقاذ نفس أو مال على قرب، ولو تباعد بحيث يغير نظم الصلاة أبطلها، وإن وجب. ولو دفع المار بين يديه دفعا خفيفا لا يشغله عن صلاته لم يبطلها.
ولا يقطع الصلاة شيء يمر بين يدي المصلي، وليكن للإمام المنفرد حريم يمنع المارة بأن يستقبل جدارا أو سارية أو شبه ذلك، أو ينصب بين يديه مثل مؤخر ة الرجل، ثم يصلي ولا يبالي بمن مر وراء ذلك، هذا إذا خشي المرور بين يديه، فإن أمن مهن ذلك، فلا يؤمر بالسترة. وروى ابن حبيب: أنه يؤمر بها وإن أمن، ولا يكفيه أن يخط على الأرض.
ثم المار بين يدي المصلي يأثم إن كانت له مندوحة عن المرور، ويختص بالإثم إن كان المصلي لم يتعرض للمرور بين يديه، وإن تعرض شاركه، ولا يأثم إن لم تكن له مندوحة، ولا المصلي إن لم يتعرض للمرور بين يديه، فإن تعرض حينئذ اختص بالإثم.
خاتمة:
للمحدث لحدث الأصغر المكث في المسجد، وليس للجنب ولا للحائض ولا للكافر، وإن أذن له المسلم، مكث ولا عبور، وقيل: بجواز عبور الجنب في المسجد.

.الباب السادس:

.وهو نوعان:

.الأول: سجود السهو:

وهو مأمور به عند ترك السنن التي أحصيناها ف يما تقدم.
أما الأركان فجبرها بالتدارك دون السجود، إلا في ترك الفاتحة في ركعة على خلاف وتفصيل يأتي.
واعلم أن السهود، وإن كثرت فروعه ودقت بعض مسائله، فإنه بالالتفات إلى قوانينه وأصوله يسهل الوصول إلى تحصيله، وأصوله تنحصر في ثلاثة فصول.

.الفصل الأول: في مقتضيه:

وهو ضربان: زيادة، ونقصان.

.الضرب الأول: الزيادة:

وهو قسمان:

.الأول: في زيادة الأقوال:

فإن كثرت جدا أبطلت الصلاة كما تقدم، وإن كانت دون ذلك أجزأ عنها السجود. وقد قدمنا أن الكلام عمدا يبطل الصلاة وإن قل، إذا كان لغير إصلاحها، فإن كان لإصلاحها، كما لو سلم الإمام قبل إكمال الصلاة، فقال له بعض المأمومين: لم تكمل، فقال الإمام: أكملت، وكذلك لو سأل غير المتكلم أولا، فأخبره أنه لم يكمل فأتم، فإن صلاته وصلاتهم تصح على المشهور. وما فعلوه من الكلام والمراجعة حائز.
وتبطل عند ابن كنانة. وقال سحنون: تبطل إلا أن يسلم من اثنتين في الرباعية، كما ورد في قصة ذي اليدين. وقال ابن وهب: لا أرى لأحد أن يفعله اليوم، وكذلك قال ابن نافع، ثم قال: فإن فعل فلا أرى عليه استئناف الصلاة، ولا أحب له أن يعود.
فرع:
وإنما يجرع الإمام إلى قول المأمومين إذا غلب على ظنه ما قالوه بعد سلامه، أو شك فيه، فإن جزم الاعتقاد بخلاف ما قالوه، لم يرجع إليهم، إلا أن يكثروا جدا، بحيث يفيد خبرهم العلم، فإنه يرجع إلى خبرهم، ويترك اعتقاده. وقال أشهب: إذا أخبره منهم رجلان عدلان بما صلى، رجع إلى قولهما. وقال ابن حبيب: إذا صلى الإمام برجلين فصاعدا، فإنه يعمل على يقين من رواءه، ويدع يقينه، يريد الاعتياد.
فروع مرتبة:
الأول: إنه يبني إن كان قريبا، فإن طال الأمر وكثر الفعل ووقع اللغط والمراء، وترددت المراجعة بينهم، بعضهم مع بعض، بطلت الصلاة واستأنفها، وقيل: لا تبطل، بل يني وإن طال.
الثاني: حيث قلنا: يبني، فعليه أن يرجع إلى الصلاة بإحرام، ثم يكبر تكبيرة لقيام الثالثة. وقال بعض المتأخرين: ليس ذلك عليه أن كان جالسا في مقامه، وإنما يفتقر إلى الإحرام لو قام بعد سلامه، أو فعل ما يوجب حاجته إلى الإحرام، واعترضه القاضي أبو الوليد، بأن الموجب للإحرام هو السلام دون ما عداه.
الثالث: إذا قلنا: يحرم، فهل يحرم قائما كالإحرام الأول، أو جالسا، لأنها الحالة التي فارق فيها الصلاة؟ قولان: حكي الأول عن بعض المتقدمين، والثاني لابن شلبون.
الرابع: إذا قلنا: يحرم قائما، فهل يجلس بعد ذلك القيام؟ قال ابن القاسم: يجلس ليأتي بالنهضة التي فعلها أولا في الصلاة. وروى ابن نافع: لا يجلس، وقال: إن النهضة غير مقصودة في نفسها، وقد فات محلها بالقيام، فلا يعود إليها.

.القسم الثاني: في زيادة الفعل.

فإن كان من جنس أفعال الصلاة، وقل، لم يبطلها، وهذا كزيادة ركعة في الرباعية.
وإن كثرت الزيادة، فكانت في الرباعية مثلها، فالمشهور المعروف من المذهب بطلان الصلاة، وروي القول بصحتها.
وإن كانت الزيادة فيها مثل نصفها، كما إذا صلى الرباعية ستا، ففي بطلانها قولان.
ولو كانت ثنائية فزاد فيها مثلها، كمن صلى الصبح أربعا، فإن قلنا بنفي البطلان في الرباعية إذا زاد فيها مثلها، فنفيه ها هنا في الثنائية أولى. وإن قلنا ببطلان تلك، ففي بطلان الثنائية ها هنا قولان.
وإذا فرعنا على البطلان، فزاد في الثنائية ركعة، ففي بطلانها أيضا قولان، منشؤهما النظر إلى الزيادة في نفسها، وهي يسيرة، أو بنسبتها إلى الصلاة، وهي مثل نصفها، وفي إلحاق الثلاثية بالرباعية أو بالثنائية قولان.
ثم حيث حكمنا في هذه الصورة بصحة الصلاة، سجد بعد السلام، وكل هذا إذا زاد سهوا.
فأما العمد فمبطل للصلاة، ولو كانت الزيادة سجدة واحدة. وإن كانت الزيادة جهلا جرى حكمها على الخلاف في الجاهل، هل ي لحق بالعامد أو بالناسي، وإن كانت الزيادة من غير جنس الصالة أبطلتها أيضا، إن فعلت عمدا، وكذلك لو كثرت. وإن فعلت سهوا، فإن كانت مع السهو يسيرة، أجزأه عنها سجود السهو.

.الضرب الثاني: النقصان.

وهو يتنوع إلى نقص ركن وسنة وفضيلة.
فإن نقص ركنا:
غير القراءة، لم ينب عنه إلا الإتيان به، فإن فاته محله من الركعة، بطلت تلك الركعة.
فلو أخل بالركوع أو بالسجود، فإنه يتلافى ذلك ما لم يعقد الركعة التي بعد الركعة التي أسقط منها. وعقدها رفع الرأس من الركوع، وقيل: وضع اليدين على الركبتين، وليرجع إلى القيام، ثم يركع، ويستحب له أن يقرأ قبل أن يركع، وقيل: يرجع إلى الركوع.
ولو أخل بالركوع من ركعة، وبالسجود من التي تليها، لم يجزئه ركوعه للثانية عن ركوع الأولى.
وكذلك لو أخل بالسجود من الأولى، وبالركوع من الثانية، لم يجزه سجوده للثانية عن سجود الأولى على المنصوص.
ولو نسي أربع سجدات من أربع ركعات، أصلح الرابعة بالسجدة التي أخل بها منها، وبطل ما قبلها، وتجري كثرة السهو فيها على الاختلاف المتقدم.
وإن نسي السجدات الثمان، فلم يحصل له سوى ركوع الرابعة، فليبن عليه.
قال سحنون: ولو صلى الإمام ركعة وسجد سجدة، ثم قام ساهيا، فليسبحوا به، ولينتظروا رجوعه، ما لم يخافوا أن يعقد الركعة، فيقوموا حينئذ فيصلوها معه، فتكون أول صلاتهم، وتبطل الأولى، فإذا جلس فيها قاموا، فإذا صلى الثالثة عنده وقام، فليقوموا كإمام قام من اثنين، فإذا صلى بهم الرابعة عنده وجلس، فيقوموا كإمام قعد في ثالثة، فإن استفاق الإمام، قام فصلى بهم ركعة بأم القرآن، وسجد قبل السلام، وإن لم يستفق، فليأتوا بركعة يؤمهم فيها أحدهم، وإن صلوها أفذاذا أجزأتهم، ويسجدون قبل السلام، وسلام الإمام ها هنا على المشهور بمنزلة الحدث.
وإن أخل بقراءة الفاتحة في ركعة من الرباعية، ففي الكتاب ثلاثة مذاهب.
الأول: أنه يلغي الركعة، وهو بناء على فرضية القراءة في كل ركعة.
والثاني: أنه يسجد لسهوه، وتصح صلاته، وهو بناء على أن فرضيتها في الجل أو في الجملة، لا في كل ركعة.
والثالث: أنه يسجد لسهوه ويعيد، وهذا للتردد بين المذهبين. ثم هل تكون الصلاة مجزية على هذا القول والإعادة مراعاة للخلاف، أو الإعادة هي الواجبة، لكن يتمادى مراعاة للخلاف؟ في ذلك خلاف له فائدتان.
الأولى: لو ظهر له بطلان إحداهما.
والثانية: إطلاق الإعادة أو تخصيصها بالوقت.
وأما محل سجوده، فإن جلس بعد ركعتين صحيحتين قرأ فيهما بأم القرآن، فسجوده بعد السلام لتمحض الزيادة بما ألغاه، وإلا كان سجوده قبل السلام لاجتماع زيادة ما ألغاه، ونقص الجلوس، وقراءة السورة من الثانية التي ظنها الثالثة إذا تأخر ذكره عن فعلها.
فلو كان المتروك آية من الفاتحة، فقال عبد الحق: حكى الشيخ أبو عمران عن القاضي إسماعيل أنه قال: يجب، على المذهب، أن يسجد قبل السلام، وفيها قول آخر: أنه لا يسجد.
فرع:
ويلتحق بتحقق النقصان الشك فيه، فمن شك هل أخل بركن أم لا؟ وجب عليه الإتيان به، كما يجب على من تيقن أنه أخل به، إلا أن يكون موسوسا، فيبني على أول خاطريه لمشابهته فيه للعقلاء.
ولو ذكر في الركعة الرابعة أنه أخل بسجدة، أو شك هل أخل بها أم لا؟ ولم يدر محلها، فقال ابن القاسم: يأتي بسجدة، ثم بركعة، لجواز أن تكون من الأخيرة. وقال أشهب: يأتي بركعة فقط.
ولو سلم من الصلاة ثم ذكر سجدة من الركعة الأخيرة، فهل يكون السلام حائلا بينه وبين التلافي، أم لا؟ قولان، أحدهما: أنه يكون حائلا، فيقوم فيأتي بركعة. والثاني: أنه لا يكون حائلا، فيسجد.
هذا حكم الإخلال بالأركان على الجملة.
وبقي منها السلام، فإن أخل به، ولم يطل الأمر بجع إلى الجلوس وسلم وأجزأه.
وإن طال بطلت الصلاة على المشهور. والشاذ: أنها لا تبطل، إلا أن تنتقض الطهارة.
فروع:
إذا رجع ليأتي بالسلام، رجع بتكبير على المشهور مراعاة للخلاف، ووقع ما ظاهره أنه لا يؤمر.
وإذ ف رعنا على المشهور، فهل يوقعه قائما، أو بعد أن يجلس؟ قولان: ثم هل عليه أن يتشهد ليقع السلام عقب تشهد عار من فاصل بينه وبين السلام؟ أو يكفي تشهده الأول، لكون هذا الفصل غير معتبر في إبطال الصلاة، ولا يتشهد في جلوس واحد مرتين، قولان أيضا.
فأما السنن:
فإن أخل بها عمدا، ففي بطلان صلاته خلاف، وإذا قلنا بالصحة، فلا يسجد، وقيل: يسجد.
وإن أخل بها سهوا، فإن كانت فعلا، فإنه يؤمر بالسجود. وكذلك إن كانت قولا، على المشهور. وقيل: لا سجود عليه.
وإذا فرعنا على المشهور، فإنه يسجد قبل السلام، كنقص الأفعال. وقيل: بعده، لضعف الأمر به.
وهذا ما لم تقل الأقوال جدا، كالتكبيرة ونحوها، فلا يكون فيها سجود. وقيل: يسجد وإن قلت.
ولا خفاي بأنه يسجد لترك الجلوس الأول لاشتماله على أفعال وأقوال، وقد سجد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعد تاركا له إذا استوى قائما. وإن ذكر قبل استوائه وهو بين القيام والجلوس، فإن استقل وفارق الأرض، تمادى على قيامه؛ لأنه بمفارقته الأرض حصل تاركا للجلوس. وقيل: يرجع ما لم يستو قائما.
وإن نهض ولم يفارق، رجع ولا سجود عليه على المشهور، وقيل: يسجد.
فرع:
لو رجع بعد الاستقلال، فقال ابن القاسم وأشهب وعلي بن زياد: لا تفسد صلاته.
وقال ابن سحنون: تفسد، وقيل: تفسد إذا فعل ذلك عن قصد، وتأول بعض المتأخرين على ابن سحنون: أنه أراد القصد.
وإذا قلنا بالصحة، فقيل: يسجد بعد السلام لزيادة القيام، وقيل: قبله، لأن السجود قد ترتب عليه باعتداله قائما ونقصه الجلسة، وعوده إلى الجلوس زيادة بعد تحقق النقص، فلا يغير محل السجود.
وعلى هذا الخلاف تخرج إطالته للجلوس حتى يكمله، لأن الزيادة قد تجردت بحصول القيام الذي رجع عنه، والجلوس لم يأت به، ولا بعوض عنه، أو رجوعه حين يذكر ولا يتمادى، لأنه قد عوض عن الجلوس المتروك بهذا السجود الذي قبل السلام، ولا يجتمع العوض والمعوض عنه، وفي ذلك قولان.
وإن أخل بالفضائل:
فلا سجود عليه، وتجزيه الصلاة لضعف أمر المتروك.

.الفصل الثاني: في كيفية السجود:

.والنظر في عدده وصفته:

.الأول: في عدده:

وهو سجدتان قل أو كثر، كان من إحدى الجهتين، أو من كلتيهما.

.النظر الثاني: في صفته:

وليكبر لهما في ابتدائهما، والرفع منهما، وفي افتقاره إلى نية الإحرام، وفي ذلك للتين بعد السلام روايتان. ويتشهد للتين بعد السلام ويسلم، وفي التشهد للتين قبله روايتان، ويكفى السلام من الصلاة لهما، ويجهر بالسلام من اللتين بعده، وروي أنه يسر به.

.الفصل الثالث: في محل السجود وأحكامه.

وهو آخر الصلاة، ثم هو بعد السلام إن كان لزيادة محضة، وقبله إن انضاف إليها نقصان أو تمحض.
وروي ما يشير إلى نفي تأكد هذه الرتبة، وأنه يجوز أن تخالف، فيؤتي بالجميع قبل أو بعد، ويتفرع على المشهور فرعان:
الأول: من صلى النافلة خمسا، هل يسجد قبل السلام لنقض السلام هن أو لنقض الجلسة، على الخلاف في ذلك، أو يسجد بعد السلام للزيادة على اثنتين؟ قولان.
الفرع الثاني:
لو قدم قبل السلام ما محله بعده، لم تبطل صلاته، وقال أشهب: تبطل إن كان عامدا.
وإذا فرعنا على الأول، فهل يؤمر بإعادته بعد الصلاة ليقع في محله المشروع؟ فيه خلاف.
وإن سها أن يسجد قبل السلام ما محله ق بله، سجده عبده ما لم يطل، أو ينتقض وضوؤه، فإن كان ذلك، فروي أن الصلاة تفسد من غير اعتبار بالمتروك الذي كان السجود عوضا عنه. وروي أن الإعادة إنما تجب إذا كان عوضا عن بعض الأفعال ولم تعتبر الأفعال على الإطلاق، ولا اعتبر شيئا من الأقوال. وقال في المختصر: إنما يعيد الصلاة إذا كان السجود عوضا عن الجلسة الأولى، أو أم القرآن من ركعة، وأوجب ابن القاسم الإعادة في أحد قوليه إذا كانت عوضا عن ثلاث تكبيرات، أو عن قول: سمع الله لمن حمده، ثلاث مرات. وقال محمد بن عبد الحكم: لا إعادة عليه، وإن كانت عوضا عن الجلسة الأولى، أو ترك القراءة من ركعة، فحكم بصحة الصلاة مع الترك على الإطلاق، بعكس القول الأول.
فرع:
ولو لم يذكر السجود حتى تلبس بصلاة أخرى، فإن فرعنا على القول بأن الصلاة لا تبطل بتأخره، لم يؤثر ذكره في الصلاة، ولكنه يوقعه بعد فراغها.
وإن فرعنا على القول ببطلان الصلاة لترك السجود على الإطلاق، أو حكم ببطلانها على تفصيل، فكان هذا السجود مما اقتضى التفصيل الإبطال به، فإنه أن ذكره ولم يركع لا أطال قراءته في هذه التي هو فيها، يعود إلى إصلاح الأولى بالسجود ويقدر هذا الفاصل كالعدم، ما لم يكن سجود السهو من نافلة، والذكر في فريضة، فلا يقطعها لحرمتها وعلو قدرها عن قدر النافلة، وإن لم يذكر إلا بعد أن طال القراءة أو ركع، فإنه يكون كذاكر صلاة وهو في صلاة أخرى.
خاتمة للنوع بذكر ثلاث مسائل:
الأولى: من شك في عدد ما صلى، فلم يدر أثلاثا أم أربعا، فإن كان سالم الخاطر، طرح المشكوك فيه، وبنى على المتقين له، وهو أقل العددين المتردد بينهما، فيكمل عليه، ويسجد بعد السلام، وقيل: قبله.
وإن كان موسوسا بنى على أول خاطريه، في وجود الكمال وعدمه لمشابهته فيه للعقلاء.
فرعان:
الأول: لو سبق إليه أنه أكمل فعمل على ذلك، فهل يسجد؟ قولان:
الفرع الثاني:
وهو مرتب عليه، إذا قلنا: أنه يسجد، فهل قبل السلام، لأنه يجوز النقص، أو بعده لأن هذا النقص مطرح، وإنما يسجد ترغيما للشيطان؟ قولان أيضا.
المسألة الثانية: من قام إلى خامسة رجع متى ذكر، وسجد بعد السلام، فإن كان إماما، واختلف حال المقتدين به، فجلس قوم لم يتبعوه، واتبعه آخرون، لكن منهم من تبعه سهوا، ومنهم من تبعه عمدا، فأما من جلس فصلاته صحيحة، وكذلك من تبعه سهوا.
وأما من تبعه عمدا، فإن علم أنه لا يجوز له اتباعه، بطلت صلاته، وإن جهل، فظن أنه يلزمه اتباعه، ففي بطلان صلاته قولان، منشؤهما أنه كالعامد أو كالناسي.
فرع:
فلو قال الإمام: إنما قمت لأني نسيت من إحدى الركعات الأول سجدة مثلا.
فأما من جلس فلا يخلو من أن يوقنوا بكمال صلاتهم وصلاة إمامهم، أو يوقنوا بكمال صلاتهم دون صلاة إمامهم، أو يشكوا.
فإن أيقنوا بكمال الصلاتين، لم يلزمهم اتباعه، وكانت صلاتهم صحيحة.
وإن أيقنوا بكمال صلاتهم دون صلاته، فقيل: يكتفون بكمال صلاتهم ولا يتبعونه.
وقيل: يتبعونه، لأنهم في حكم المصلي الواحد، فيتعدى الإخلال إليهم. وإن شكوا في الصلاتين لزمهم اتباعه.
ثم حيث لا يلزمهم اتباعه، تصح صلاتهم، وحيث يلزمهم لا تصح على المنصوص. وقال أبو الحسن اللخمي: تصح، لانهم معذورون في ترك الاتباع.
وأما من تبعه متعمدا، فإن كان لعلمه بالإسقاط، فلا شك في صحة صلاته، وإن قصد إلى العمد في الاتباع من غير علم بذلك، فتجري صحة صلاته على الخلاف فيمن تعمد زيادة في صلاته، ثم انكشف له وجوبها عليه لإخلاله بشيء مما تقدم.
وأما من تبعه سهوا، فتصح صلاته، وهل يلزمه قضاء ركعة متى لزمه حكم ما أسقطه الإمام من السجود أم لا؟ في ذلك قولان:
أحدهما: أن هذه الركعة التي تبع فيها الإمام سهوا، تنوب له عما لزمه من القضاء. والثاني: أنها لا تنوب له.
وهو كالخلاف فيمن ظن أنه أكمل، فأتى بركعتي نافلة، ثم تذكر أنه إنما صلى ركعتين، ففي نيابة هذه النافلة عما وجب عليه الخلاف.
ولو كان مع الإمام مسبوق، فاتبعه في هذه الخامسة التي أصلح بها الإمام ما أخل به متقدما، فهل تنوب له عن ركعة مما سبق به أم لا؟ في ذلك قولان بناهما الشيخ أبو الطاهر على كون الإمام فيها بانيا أو قاضيا.
المسألة الثالثة: في سهو المأموم.
وقد روي أبو الحسن الدار قطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على من خلف الإمام سهوا، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه».
ولا خلاف أن الإمام سهو المأموم، كما يلزم المأموم سهو الإمام، وإن لم يسبه معه، ولا حضر سهوه، بأن يكون مسبوقا.
ثم المسبوق يسجد بسجود إمامه إن كان قبل السلام، وقد عقد معه ركعة، فإن كان لم يدرك معه ركعة، لم يتبعه عند ابن القاسم، وقال سحنون: يتبعه.
وأما إن كان سجوده بعد السلام، فلا يسد معه، ثم هو مخير بين أن يجلس حتى يفرغ إمامه من السجود فيقوم للقضاء، وبين أن يقوم بعد سلام الإمام، ويتركه متشاغلا بالسجود.
واستحب ابن القاسم قيامه من غير انتظار، واختار غيره قيامه بعد سلام الإمام.
ثم إذا أكمل صلاته وسلم سجد، ولو لم يسجد الإمام سجد المأموم، ولو سها بعد مفارقة الإمام سهوا بزيادة أجزأ سجود واحد بعد السلام عن السهوين. وإن كان بنقص، فالمنصوص أنه يسجد بعد السلام تغليبا لحكم الإمام. وقال الشيخ أبو الطاهر: يجري على قولنا: أنه في حكم المنفرد في القضاء، أن يسجد قبل السلام، قال: لأنه قد اجتمع عليه زيادة، وهي ما لزمه من حكم الإمام، ونقص، وهنو ما طرأ له في نفسه.
ولو سجد مع الإمام قبل السلام، ثم سها بعد مفارقته له، ففي سجوده لذلك السهو خلاف، قال الشيخ أبو الطاهر: ولعله يجري على الخلاف فيما يأتي به، هل يكون فيه قاضيا، فيكون حكم الإمام منسحبا عليه، أو بانيا فيكون كالمنفرد.

.النوع الثاني: سجود التلاوة.

وقد اختلف المتأخرون في حكمه، فقال القاضي أبو محمد: هو فضيلة، وهو طريق أبي القاسم بن الكاتب استقراء من الكتاب. واستقرأ أبو القاسم بن محرز منه أنه سنة.
وعدة السجدات إحدى عشرة، أولها آخر الأعراف، وآخرها في سجدة المؤمن وسجدة ص داخلة فيها، وثانية الحج خارجة عنها. وهي خاتمة الأعراف، وفي الرعد: {بالغدو والآصال}، وفي النحل: {ويفعلون ما يؤمرون}، وفي بني إسرائيل: {ويزيدهم خشوعا}، وفي مريم: {خروا سجدا وبكيا}، وفي أول الحج: {الله يفعل ما يشاء}، وفي الفرقان: {وزادهم نفورا}، وفي النمل: {رب العرش العظيم}، وفي سجدة {الم تنزيل}: {وهم لا يستكبرون}، وفي ص: {وخر راكعا وأناب}، وفي سجدة المؤمن: {إن كنتم إياه تعبدون}.
وقال ابن وهب وابن حبيب: عدتها خمس عشرة، أضافا إلى ما تقدم سجدة آخر الحج، وثلاثا في المفصل آخر النجم، وسجدة الانشقاق، وآخر القلم.
وروي أن عدتها أربع عشرة، وهو ما عدداه سوى سجدة آخر الحج، ثم جمهور المتأخرين يرون أن هذا الخلاف قول على ظاهره، وحماد بن إسحاق، أخو القاضي أبو إسحاق، والقاضي أبو محمد لا يعتدان ذلك خلافا في الحقيقة، ويقولان: السجود في الجميع مأمور به، كما ذكر ابن وهب وابن حبيب، وإنما الإحدى عشرة هي العزائم كما ذكر مالك في الموطأ، فهي آكد مما عداها لا غير.
ثم السجدة على القارئ وعلى المستمع، إن كان القارئ ممن تصح إمامته، وليست على غير المستمع، وإن كان سامعا، وغير المستمع من لم يقصد الاستماع، أي لم يجلس للقارئ، ولا على المستمع إذا كان مسمعه عديم الصلاحية للإمامة، ويؤمر المستمع بالسجود وإن تركه القارئ، وقيل: لا يؤمر، فإن كان في الصلاة.
فأما في النافلة، فيسجد بقراءة نفسه إن كان منفردا، أو في جماعة يأمن التخليط، فإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها، فالمنصوص أيضا جوازه، لما ثبت من فعل الأولين في صلاة النفل في رمضان وهم يختمون، فيمرون بالسجدة فيسجدون.
وأما في الفريضة، فالمشهور النهي عن السجود فيها، والشاذ جوازه، ولا يختلف الحكم بأن تكون صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى. وقد علل المشهور بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة. ثم حيث قرأ السجدة وعول على السجود بها، فليجهر بها، ليعلم من خلفه أنه إنما يسجد للتلاوة، فإن لم يجهر وسجد، فهل يتبع في السجود للزوم متابعة أو لا يتبع لجواز أن يكون سجد ساهيا ولم يقرأ آية سجدة؟ في ذلك قولان في السليمانية لابن القاسم وسحنون.
ثم هذه السجدة واحدة، وإن كانت تفتقر إلى الشرائط المعتبرة في الصلاة من الطهارتين والستر والاستقبال إلا الإحرام والسلام، ويكبر للسجود عند الهوى والرفع منه إن كان في صلاة، وإن لم يكن في صلاة، ففي الكتاب ثلاثة أِقوال: الأمر بالتكبير، وكراهته، وخيره ابن القاسم.
فروع ثلاثة:
الأول: في مواضع السجود من الآي، وقد اختلف في ثلاثة منها، الأول: في سجدة ص، فقال الشيخ أبو الحسن: عند قوله: {وخر راكعا وأناب}، وقال ابن حبيب: عند قوله: {وحسن مآب}.
الثاني: في سجدة المؤمن، فقيل: عند قوله تعالى: {إن كنتم إياه تعبدون}.
وقال ابن وهب: عند قوله: {وهم لا يسئمون}.
الثالث: في سجدة الانشقاق، فقال ابن حبيب: في آخر السورة، وقال القاضي أبو محمد: عند قوله: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}.
وسبب الخلاف في الجميع: النظر إلى سبب السجود، أو إلى كمال الثناء على المطيعين.
الفرع الثاني:
قارئ السجدة إذا جاوزها بيسير سجدها، وإن جازها الكثير رجع إليها، فقرأها وسجد، ثم عاد إلى حيث انتهى في القراءة. وكذلك حكم المصلي يقرؤها، فإن لم يذكرها المصلي حتى رفع رأسه من ركوع الركعة التي هو فيها، فإن كان في فرض لم يعد إلى قراءتها، قاله في الكتاب. وقال ابن حبيب: قال مالك وأصحابه: يعود إلى قراءتها في الثانية ويسجد، وإن كان في نافلة، فإنه يعود إلى قراءتها في الثانية ويسجد.
واختلف المتأخرون، هل يسجد قبل قراءة أم القرآن أو بعد قراءتها؟ على قولين: لأبي بكر بن عبد الرحمن والشيخ أبي محمد.
فإن لم يذكر المصلي للنافلة السجدة حتى رفع من ركوع الركعة الثانية، فقد فاته السجود وقضاؤه في هذه الصلاة.
وقال أشهب: بل يسجد ولو لم يذكر إلا وهو جالس، لم يسلم أو قد سلم.
وإن ذكر وهو راكع، مضى على ركوعه، وقال أشهب: بل ينحط للسجود.
وسبب الخلاف: الاختلاف في عقد الركعة، هل هو تمام الانحناء، أو رفع الرأس؟.
ولو قصد بالركوع السجدة، لم تحصل له، لأنه إن قصد بفعله الإتيان بما عليه من الركوع فقد ألغى السجدة، وإن قصد السجدة، فقد أحالها عن صفتها، وأزالها عن هيئتها، ونحا ابن حبيب إلى إجازة ذلك.
ولو لم يتعمد الركوع، ولكنه أراد السجود لها، فركع ناسيا، فهل يعتد بركوعه أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه لا يعتد به، فإن كر وهو منحن خر لسجدته، وإن ذكر وقد رفع لم يعتد بركعته وألغاها، وهذا مذهب ابن القاسم.
والثاني: أنه يعتد بركعتهن و إلى هذا ذهب مالك رضي الله عنه، فإن ذك وهو منحن، رفع متمما للركعة، وإن ذكر بعد أن رفع، فقد تمت الركعة، ويقرأ السجدة فيما عبد، على حسب ما تقدم.
وسبب الخلاف. الاختلاف في الاعتداد بهذه الركعة، وأن الانحطاط للركوع لم يكن بنيته، بل بنية السجود، وهو نفل والركوع فرض.
فإن قلنا: إن الحركة إلى الأركان غير مقصودة، فقد وجد الركوع المقصود وصح.
وإن قلنا: إن الحركة إلى الأركان مقصودة في نفسها، وقلنا: إن الخروج عن نية الفرض إلى نية النفل لا يمنع الاعتداد؛ كمصلي نفل وهو في فرض يعتقد أنه أكمل، اعتد هذا بركعته، وإن قلنا: إنه يمنع الاعتداد، لم يعتد هذا بركعته.
وإذا قلنا: بنفي الاعتداد، فذكر وهو منحن فخر ساجدا، فهل عليه سجود أم لا؟
وقال ابن حبيب: إن طال الركوع، سجد بعد السلام، وفسر الشيخ أبو محمد الطول بالطمأنينة في الركوع.
وإن قلنا بالاعتداد بالركعة، ففي المجموعة: يقرأ السجدة فيما بقي من صلاته، ويسجد بعد اللام، وإن لم ير المغرية في هذا سجودا.
قال الإمام أبو عبد الله: والذي قاله المغيرة هو الأصل؛ إذ ليس ها هنا زيادة تقتضي السجود بعد السلام، قال: ولا يظهر عندي وجه على مقتضى أصل المذهب، إلا أن يعتقد عن الحركة إلى الركوع لما حولت النية فيها صارت كالعدم، وعدمها لا يمنع الاعتداد، ولكنه نقص يقتضي السجود، ومقتضى النقص أن يكون قبل السلام، لكنهم ربما أخروه إلى ما عبد السلام؛ إذ كان إثبات السجود فيه ضعيفا احتياطا للصلاة، لئلا تقع فيها زيادة، كقول أشهب في ناسي التكبير، يسجد بعد السلام لضعف السجود فيه، فاحتيط فيه من الزيادة في الصلاة.
الفرع الثالث:
في سجود الشكر.
والمشهور من المذهب كراهية السجود ند بشارة أو مسرة وإنكاره، بل يؤمر بالاقتصار على الشكر، والحمد باللسان. وحكى القاضي أبو الحسن رواية بالجواز، وهو مذهب ابن حبيب.

.الباب السابع: في صلاة التطوع:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في الرواتب:

وهي المفعولة تبعا للفرائض، كركعتي الفجر، وركعة الوتر.
وعد القاضي أبو محمد، من ذلك الركوع قبل العصر، وبعد المغرب.
وقال في الكتاب: قلت: هل كان مالك يؤقت قبل الظهر من النافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر، أو ق بل العصر، أو بعد المغرب، فيما بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء؟ قال: لا، وإنما يؤقت في هذا أهل العراق.
ثم الوتر ركعة واحدة، وهي مسنونة، ويدخل وقتها بالفراغ من صلاة العشاء الآخرة في وقتها المشروع، وينتهي وقت الاختيار لها بطلوع الفجر، ويمتد وقتها الضروري إلى أن تصلي الصبح على المشهور من المذهب. وقال أبو مصعب: ينتهي وقتها بطلوع الفجر، ولا وقت ضرورة لها.
ولتكن مسبوقة بشفع منفصل عنها بسلام، وذلك شرط في تام الفضيلة. وقيل: بل شرط في الصحة.
وسبب الخلاف: كونه وترا للفرض أو للنفل.
وثمرته: جواز الاقتصار على الركعة الواحدة للمعذور، كالمسافر والمريض ومنعه.
وإذا قلنا بتقديم شفع بلا بد، فهل يلزم اتصاله بالوتر أو يجوز، وإن فرق بينهما بالزمن الطويل؟ في المذهب قولان.
والمستحب أن يكون الوتر آخر تهجده بالليل، ويستحب أن يقرأ فيه: {قل هو الله أحد} والمعوذتين، وقيل: لا يختص بقراءة معينة.
وهل يلزم أن تؤتي بشفع يختص بها، أو ينوب منابه كل نافلة؟ في المذهب قولاه.
وإذا فرعنا على أنه يأتي بشفع يختص بها، فهل يستحب أن يقرأ في الأولى.
بـ {سبح}، وفي الثانية ب {قل يأيها الكافرون}، أو لا تتعين فيها قراءة خاصة؟ في ذلك روايتان.
وقال ابن نافع: يقنت في الوتر في النصف الآخر من شهر رمضان، والمشهور: أنه لا يقنت فيه، وهو قول ابن القاسم.

.الفصل الثاني: في غير الرواتب وما شرعت الجماعة فيها:

كالعيدين، وكسوف الشمس، والاستسقاء، فهي أفضل مما تقدم سوى الوتر، وأفضل أيضا من صلاة الضحى، وركعتي التحية، وقيام رمضان؛ إذ هن سنن، وما تقدم فضائل، حاشا ركعة الوتر، وركعتي الفجر، على خلاف في ركعتي الفجر خاصة، وكذلك ما بعدها.
وآكذ هذه السنن العيدان، ثم الكسوف.
ولا شك في تقدم الوتر على ما ذكر معه لكونه سنة، ويليه في ذلك ركعتا الفجر للخلاف. في أنهما سنة أو فضيلة، وسائرها فضيلة أو نافلة، وآكدها الركعتان بعد المغرب، واختلف في ركعتي الإحرام، هل هما سنة أو نافلة؟ وكذلك اختلف في ركعتي الطواف، هل هما سنة، أو حكمهما حكم الطواف؟
وتستحب الجماعة في التراويح تأسيا بعمر رضي الله عنه، ولاستمرار العمل عليه.
ولو انفرد الواحد في بيته لطلب السلامة من قصد إظهار النافلة، لكان أفضل له على المشهور، ما لم يؤد ذلك إلى تعطيل المساجد منها.
والذي استمر عليه العمل من العدد فيها تسع وثلاثون يوتر منها بثلاث، وإن فعل دون هذا العدد فلا حرج.
ثم التطوعات لا حصر لها، ولا تقضي المرتبة منها ولا غيرها، وما ذكر في ركعتي الفجر من لفظ القضاء قد تأوله الشيخ أبو بكر كما يأتي.
واختلف في ركعتي الفجر في ثلاثة فروع:
الأول: من دخل المسجد بعد طلوع الفجر وقبل صلاته، فلا يصلي سوى ركعتي الفجر خاصة. وانفرد الشيخ أبو الحسن، فقال: يحيي المسجد، ثم يركع الفجر. وأشار الشيخ أبو عمران إلى تضعيفه.
الفرع الثاني:
لو ركع في بيته ثم جاء المسجد، فهل يركع أيضا؟ روايتان مشهورتان.
ثم إذا قلنا: يركع، فهل بنية النافلة أو بينة إعادة ركعتي الفجر؟ قولان للمتأخرين.
الفرع الثالث:
من ضاق عليه الوقت، فصلى الصبح وترك ركعتي الفجر، فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء. و قيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما، فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر؟ قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز.

.الباب الثامن: في صلاة الجماعة:

وفيه أربعة فصول:

.الفصل الأول: في حكمها:

وهي سنة مؤكدة، وليست بواجبة إلا في الجمعة. وحكى الإمام أبو عبد الله والقاضيان أبو الوليد وأبو بكر عن بعض أهل المذهب: أنها فرض على الكفاية.
والمشهور أنه لا فضل لجماعة على جماعة. وقال ابن حبيب: بل تفضل الجماعة الجماعة بالكثرة وفضيلة الإمام.
ولا تحصل فضيلة بإدراك أقل من ركعة مع الإمام، ولا يحتبس الإمام للداخل انتظار إدراكه الركعة.
ومن صلى منفردا فأدرك جماعة اثنين فصاعدا، استحبت له إعادتها فيها، لا يعيد مع الواحد. قال الشيخ أبو عمران: إلا أن يكون هذا الواحد إمام، فهو كالجماعة.
ولا تعاد المغرب ولا العشاء بعد الوتر على المشهور. وقال المغيرة: تعاد الصلوات كلها.
فرع:
لو شرع في إعادة المغرب، ثم ذكر قبل أن يعقد الركعة الأولى منها، خرج، فإن عقدها أضاف إليها أخرى وسلم، فإن أتمها، فليأت برابعة بالقرب، فإن طال، فلا شيء عليه. الأرض القاضي أبو بكر: وقال بعض علمائنا: يصلي المغرب ثالثة بعد أن يسلم مع الإمام، قال: والأول أصح.
ثم حيث يؤمر بالإعادة، فهل يعيد بنية الفرض، أو بينة النفل، أو بنية إكمال الفضيلة، أو يفوض الأمر إلى الله تعالى؟ في ذلك أربعة أقوال، تتخرج عليها ثلاثة فروع.
الفرع الأول: لو صلى فذا ثم أعاد في جماعة، فذكر بعد ذلك أن الأولى كانت على غير طهارة، فقال ابن القاسم: تجزيه الثانية، وقال ابن الماجشون: لا تجزيه، لأنه صلى الثانية على جهة السنة، لا على جهة أداء الفريضة. وقال أشهب: إن كان حين دخوله في الثانية ذاكرا للأولى، فلا تجزيه هذه، وإن لم يكن ذاكرا لها أجزأته.
الفرع الثاني:
إذا صلى مع الإمام لفضل الجماعة معتقدا أنه صلى في بيته، ثم ذكر أنه لم يصل، فقال ابن القاسم: تجزيه، وقال أشهب: لا تجزيه.
الفرع الثالث:
إذا كانت الأولى على طهارة، وأحدث في أثناء الثانية، فروى المصريون عن مالك: ليس عليه أن يعيد الثانية. وقال أشهب منهم: ولو قصد بصلاته مع الإمام رفض الأولى، لم تلزمه الإعادة. وروي: أنه يعيدها، وبه قال ابن كنانة وسحنون، إلا أنهما اختلفا في التعليل، فقال ابن كنانة: لأنه لا يدري أيتهما صلاته، وقال سحنون: لأنها وجبت بدخوله فيها.
وتظهر فائدة اختلافهما في التعليل إذا كان الحدث عن غلبة، وقال عبد الملك: إن أحدث بعد عقد ركعة أعاد الثانية، لأنه أدرك صلاة الإمام، وإذا كان قبل أن يعقد ركعة، لم تلزمه إعادتها، وحكاه أيضا ابن سحنون عن أبيه.
وروي في كتاب ابن سحنون: إن كان أراد بصلاته مع الإمام أن يجعلها فرضه والتي صلى وحده نافلة، أو أراد أن يكون الأمر إلى الله تعالى في صلاتيه، فليعد الثانية.
ومن صلى في جماعة، لم يعد في جماعة أخرى، إلا أن يعيد في أحد المساجد الثلاثة ما صلاة في غيرها.
ويجري مجرى الجمع الإمام يصلي في مسجده وحده لتخلف الجماعة عنه، فلا يعيد في جماعة أخرى، ولا تعاد الجماعة في ذلك المسجد؛ إذ حكم صلاته حكم صلاة الجماعة. ولا تعاد الجماعة في مسجد واحد مرتين.
ولا تترك الجماعة إلا لعذر عام كالمطر والريح العاصفة بالليل، أو خاص مثل أن يكون مريضا، أو ممرضا أو خائفا من السلطان، أو من الغريم وهو معسر، أو كان عيه قصاص مرجو العفو، أو كان عاريا.

.الفصل الثاني: في صفات الأئمة.

قال الإمام أبو عبد الله: الشروط المعتبرة في الإمامة: البلوغ والعقل والإسلام والذكورية والحرية والعدالة، والعلم بما لا تصح الصلاة إلا به قراءة وفقها، وسلامة الأعضاء التي يكنون فقدها قادحا في الصلاة.
وقد جمع فيما عدد بين شروط الصحة وشروط كمال الفضيلة، وها نحن نشرع في تمييزها بالتفصيل، فنقول:
أما الصبي المميز، فلا تجوز إمامته في الفريضة ولا تصح، وقال أبو مصعب: تصح وإن لم يجز. وأما في النافلة فتصح وإن لم تجز، وق يل: تصح وتجوز.
وأما المجنون، وفي معناه غير المميز، فلا خفاء بعدم الصحة فيهما.
وأما المخالف في مسائل الاعتقاد هن فإن كان في الأصولية القطعية، وكان كفرا صريحا لا مراء فيه كاليهودية والنصرانية وشبه ذلك، فلا شك في عدم الإجزاء، وإن كان مما يشكل كونه كفرا كالاعتزال وغيره من مذاهب أهل الأهواء فقيل: لا تجزي الصلاة خلفه. وقد قال مالك:
من صلى الجمعة وراء القدري أعادها ظهرا.
وقال أصبغ وابن حبيب ببطلان الصلاة خلف البدعي وأنها تعاد أبدا، إلا أن ابن حبيب اشترط أن لا يكون واليا، قال: فإن كان وليان فصلاة وراءه جائزة، وإن أعاد في الوقت فحسن. وقال ابن القاسم: يعيد في الوقت. وقال سحنون: لا يعيد في وقت ولا غيره، وحكاه عن جماعة من أصحاب مالك.
ونزل الإمام أبو عبد الله هذا الاختلاف على الخلاف في التفكير بالمآل، وذكر عن مالك في ذلك قولين، وعن القاضي أبي بكر بن الطيب أيضا قولين، ثم قال عبد: والمسألة مشكلة، وقد اضطرب فيها قول مالك وهو إمام الفقهاء، كما اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر بن الطيب وهو إمام المتكلمين.
فأما إن كانت المخالفة في المسائل الفروعية الاجتهادية، فلا تمنع من الاقتداء به.
وخرج أبو الحسن اللخمي خلاف في اقتداء أحد المجتهدين بالآخر من قول أشهب،
في قوم صلوا في بيت مظلم، فأصاب الإمام القبلة وأخطؤوها أنهم يعيدون، وإن أصابوها وأخطأها الإمام أعادوها أجمعون. وذكر قول أشهب أيضا فيمن صلى وراء من لا يتوضأ من مس الذكر: أنه لا ي عد، و من صلى رواء من لا يتوضأ من القبلة أنه يعيد أبدا، لأن القبلة من اللمس. وقال سحنون: بل يعيد فيهما بحدثان ذلك فإن طال لم يعد.
قال الإمام: فخرج الشيخ أبو الحسن، يعني الخمي، على هذا صلاة المالكي خلف الشافعي، خلف المالكي، ورأى أنه يختلف فيها، ثم قال الإمام: وإجراء الخلاف ي ذلك على الإطلاق عندي لا يصح. قال: وقد حكى حذاق أهل الأصول إجماع الأمة على إجزاء صلاة الأئمة المختلفين في الفقه بعضهم وراء بعض، ثم اعتذر عما حكى عن أشهب من الإعادة في القبلة أبدا، بأنه رأى أن المسألة من الوضوح بحيث تكاد تبلغ مسائل القطع التي يقطع فيها بخطأ المخالف، قال: وهذا معنى قوله: إن القبلة من اللماس لأن القرآن جاء به، فيكاد إيجاب الوضوء فيه يلحق بالمقطوع به. قال: وأدل دليل على صحة هذا التأويل تفرقته بين مس الذكر والقبلة، ثم قال: وعلى هذا يجري اختلاف لأصحابنا في نقض بعض الأحكام في مسائل اختلف فيها، وإمضاء الأحكام في غيرها، وإن كان قد اختلف فيها أيضا.
وأما المرأة، فلا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء. وروي ابن أيمن جواز إمامتها للنساء.
وأما العبد فتجوز إمامته في غير الجمعة إذا لم يكن إماما راتبا، وروى علي في المجموعة: لا يؤمن الأحرار، إلا أن يكون يقرأ وهم لا يقرؤون فيؤمهم في موضع الحاجة أيضا وكره مالك رضي الله عنه وابن القاسم أن يؤم في الفرائض إمامة راتبة.
وأجاز ابن القاسم أن يؤم في التراويح إمامة راتبة.
والسنن عند ابن القاسم كالعيدين والاستسقاء والكسوف كالفرائض، يكره أن يكون فيها إماما راتبا.
وأجاز ابن الماجشون أن يكون إماما راتبا في الفرائض، قال الإمام: ويتخرج على قوله جواز إمامته في السنن.
وأما إمامته في الجمعة فمنعها ابن القاسم، وأمر بإعادة صلاته وصلاتهم. وأجازها أشهب.
فنظر ابن القاسم إلى كونها غير متعينة عليه، فإذا أم فيها صار كمتنفل أم مفترضا، ونظر أشهب إلى أنه بتخيره لها دون الظهر، والتزامه لها، وشروعه فيها، صارت كالفرض المتعين، وفارقت النفل بأنه يسوغ له تركه إلى غير بدل، ولا يسوغ له تركها إلا إلى بدل، وهو الظهر.
وأما الفاسق بجوارحه لا من جهة الاعتقاد والتأويل والاجتهاد، كالزاني وشارب الخمر، فاختلف المذهب فيه:
فقال ابن حبيب: من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا، إلا أن يكون الوالي الذي تؤدي إليه الطاعة، فلا إعادة على من صلى خلفه، إلا أن يكون حينئذ سركان قاله من قلبت من أصحاب مالك. وكذلك ذكر الشيخ أبو بكر أن الصلاة خلف الفاسق بغير تأويل تعاد أبدا، واختاره. وقال في الموازية فيمن صلى وفي جوفه الخمر، وليس بسكران: إن من صلى خلفه يعيد أبدا، وكذلك روى عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب في العتبية. وقيل في إمامة الفاسق بجوارحه: تستحب الإعادة في الوقت.
وأما الأمي الذي لا يحسن القراءة فلا تصح إمامته، مع حضور القارئ له ولا لغيره.
وكذلك من كان لا يقدر على النطق بالحروف من مخارجها على الصحة، بسبب الجهل، وفي وجوب اقتدائه بمن يحسنها إذا قدر عليه خلاف.
وأما الألكن، فتجوز إمامته للسالم من اللكنة. وقال الشيخ أبو القاسم: إذا كان يقيم حروف فاتحة الكتاب، قال الإمام أبو عبد الله: وقد روي عن القاضي إسماعيل إجازة إمامة الألكن إذا كانت لكنته في غير محل قراءته، قال: وهذا الاشتراط لا معنى له، لأن التقصير في غير القراءة لا يؤثر في القراءة مع بعد حال اختلاف النطق بالحروف في القرآن وفي غير القرآن.
وأما اللحان، فاختلف فيه المتأخرون، فقال الشيخ أبو الحسن: لا تصح الصلاة خلفه، ولو أن لحنه في غير أم القرآن، وقال أبو بكر اللباد: إن كان لحنه في أم القرآن لم تصح الصلاة خلفه، ووافقه الشيخ أبو محمد، ورأى أن الإمام لا تصح صلاه أيضا. وقيل: إن كان لحنه لا يغير معنى، صحت صلاته ما لم يعتمد ذلك، فيفسق بتعمده، وإن كان لحنه يغير المعنى: كقراءته إياك نعبد بكسر الكاف، أو أنعمت عليهم بضم التاء، لم تصح الصلاة.
وإلى هذا ذهب القاضيان أبو الحسن وأبو محمد، وحكى أبو الحسن اللخمي قولا رابعا، وهو الصحة على الإطلاق. قال الإمام: ولم أقف عليه، ثم قال: وسبب الخلاف في هذه المسألة اعتبار اللحن، هل هو مخرج للكلمة الملحون فيها عن كونها قررنا، وملحق لها بالكلام، أم لا؟، مكر وكذلك قال الشيخان أبو محمد وأبو الحسن في إمامة من لا يميز بن الضاد والظاهر: إن صلاته لا تصح، ولا خفاء ببطلان صالة من لا يحسن أداء الصلاة، وصلاة من ائتم به.
وأما نقص الخلقة، فهو على أقسام:
الأول: لا تعلق له بالصلاة:
ولا يقرب من الأنوثة كالعمي، فلا يمنع من صحة الإمامة، ولا من كمال فضيلتها.
القسم الثاني: أن يكون مقربا من الأنوثة:
وإن لم يتعلق بالصلاة كالخصاء، فتكره إمامة الخصي في الفرائض غمامة راتبة، وأجازها ابن الماجشون.
قال الإمام: ولا يلزم، على القول بالكراهة، كراهية إمامة العنين، فإن العنة ليست بحالة ظاهرة تقرب من الأنوثة، بخلاف الخصاء.
القسم الثالث: أن يكون العضو له تعلق بالصلاة تعلق فريضة:
كالسقيم العاجز عن القيام، فلا يؤم القيام. وروى الوليد بن مسلم إجازة إمامته لهم، وأجزها أشهب في مدونته، وفي جواز إمامته للجلوس المرضى خلاف.
ولو لم يقدر إلا على الاضطجاع لم تصح إمامته للأصحاء بوجه، وكذلك إمامته لأمثاله لا تصح أيضا. وقيل: تصح.
ولو كان يصلي إيماء، فقال الإمام: ظاهر ما أشار إليه أصحابنا أنا لا نجيزها، وإن أجزنا إمامة الجالس، فإن صلاة المومي لا ركوع فيها ولا سجود، ولا يجوز أن يأتم به من في صلاته ركوع وسجود، كما لا يأتم مصلي الفرض بمصلي الجنازة.
القسم الرابع: أن يتعلق بها تعلق فضيلة:
كقطع اليد أو شللها، فجمهور أصحابنا على جواز الائتمام به، لأنه عضو لا يمنع فقده من فرض من فروض الصلاة، فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين. وقال ابن وهب: لا أرى أن يؤم الأقطع، والأشل إذا لم يقدر أن يضع يديه في الأرض؛ لأنه وإن بلغ نهاية طاقته في فعل لا يتحمله عن المأموم، فإنه منتقص عن درجة الكمال، فكرهت إمامته لأجل النقص.
وتكره إمامة الأعرابي للحضريين، واختلف الأصحاب في تعليل ذلك. فقال ابن حبيب: إنما نهى مالك عن إمامة الأعرابي للحضريين، وإن كان أقرأهم لجهله بسنة الصلاة. وقال بعض المتأخرين: لمداومته على ترك بعض الفروض، كالجمعة وإكمال الصلاة، بكثرة أسفاره.
ويكره أن يتخذ ولد الزنى إماما راتبا. وكذلك المأبون والأقلف.
وقيل: يجوز اتخاذهم أئمة راتبين إذا كانوا صالحي الأحوال في أنفسهم، سالمين من النقائض التي تقدم ذكرها.
هذا حكم الإجزاء والكمال، فإما الأولوية، فمن انفراد بالعلم والورع فهو أولى؛ إذ بهما يحسن الأداء وتحصل الشفاعة، فإن تعدد من جمعهما، رجح بغيرهما من الفضائل الشرعية والخلقية والمكانية، كالشرف في النسب، والسن، وكمال الصورة، ويلحق به حسن اللباس وذكر الشيخ أبو إسحاق الترجيح بصباحة الوجه، وحسن الخلق.
وكملك رقبة المكان أو منفعته، وقد قال مالك رضي الله عنه: صاحب الدار أولى بالإمامة وإن كان عبدا، ولو كانت الدار لامرأة لم يبطل حقها، بل لها تستخلف من يؤمن، ويستحب لها أن تستخلف أحق القوم الإمامة.
ويرجح بالإمارة، فيتقدم الأمير على الرعية، إذا كان صالحا للإمامة، سليما من النقائص القادحة، فمن اجتمع فيه هذه الوجوه فلا خفاء بأنه أولى، فإن نقص بعضها وكان أكمل من غيره قدم.
ويقدم الفقيه على الصلاح وعلى القارئ، ويقدم الأفقه على الأقرإ، لأن ما تحتاج إليه الصلاة من القرآن محصور، وما يحتاج إليه من الفقه غير محصور، فما كان لا ينحصر المقدار المحتاج إليه منه كان أولى بالمراعاة، فالمكثر منه أولى من المقل بالإمامة، فإن اجتمع من تساوت أحوالهم في جميع ما ذكر أو بعضه وتشاحوا، أقرع بينهم إذا كان مقصدهم حيازة فضل الإمامة لا طلب الرئاسة الدنيوية.

.الفصل الثالث: في شروط القدرة:

ويرجع ذلك إلى شروط أربعة:
الأول: نية الاقتداء، فإن تابع من غير نية بطلت صلاته، ولا يلزم الإمام أن ينوي الإمامة إلا في ثلاثة مواضع: الجمعة، وصلاة الخوف، وانتقال حالته إلى الاستخلاف بعد أن كان مأموما.
الثاني: ألا ينزل جنس صلاة الإمام عن جنس صلاة المأموم، كمنتفل يؤم مفترضا.
الثالث: اتحاد الفرض المؤتم فيه، فلا يصلي الظهر من يصلي الصبح أو غيره.
الرابع: المتابعة والمساوقة دون المساواة والمسابقة، وروى ابن حبيب أن للمأموم أن يفعل مع الإمام معا، إلا الإحرام والقيام من اثنتين والسلام فيفعله بعده. ثم على كلا المذهبين لا تبطل الصلاة بالمساواة، أو التقدم في شيء من الأفعال سوى الإحرام والسلام.
وروى سحنون عن ابن القاسم: و إن أحرم معه أجزاه، وبعده أصوب. قال سحنون في المجموعة: هذا قول عبد العزيز، وقول مالك أنه يعيد الصلاة.
وحيث صححنا، فيؤمر بالعود إلى ما فعله قبل الإمام، حتى يكون فاعلا له بعده، ما لم يلحقه الإمام، ثم إن لم يفعل، فصلاه صحيحة على المنصوص.
وليس ترتيب الموقف بشرط في صحة الصلاة، لكن الأولى أن يقف الواحد عن يمين الإمام، فإن قام أمامه أو خلفه، أو عن يساره، لم تبطل صلاته.
وكذلك لو صلى على أرفع مما عليه إمامه، أو أخفض من غير قد إلى التكبير، إذا كان الارتفاع يسيرا كالشبر وعظم الذراع ونحوه، فإن كان كثيرا، فللمتأخرين في بطلان صلاة المرتفع ثلاثة أقوال: البطلان، ونفيه، ومأخذهما النظر إلى ظاهر العموم، أو إلى فقد العلة وهي التكبر والتفرقة، فيعتبر قصد التكبر في المأموم وتبطل على الإمام مطلقا من غير اعتبار قصد؛ لأن ارتفاع الإمام فعل تقدم على جهة الكبر، فمنع في القاصد وغيره حسما لذريعة، ولو قصد المرتفع منهما التكبر لعصى وبطلت صلاه وصلاة من خلفه إن كان الإمام.
والأحسن أن يقف الاثنان خلف الإمام، وكذل ما زاد عليهما، فإن كانت معهما امرأة قامت وراءهما، وتقوم وراء الإمام وحدها، أو مع غيرها من جنسها، أو مع كون الواحد عن يمينه.
والمنفرد وراء الصف إن وجد فرجة تقدم إليها، فإن لم يجد، لم يجذب إليها أحدا من الصف، لكي لا يختل.
فروع مرسلة:
صلاة المسمع والصلاة به، حكى بعض المتأخرين في صحتها وبطلانها ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث، فتصح مع وجود إذن الإمام، وتبطل مع عدمه.
وفي الحواشي لعبد الحق: سألت الشيخ أبا عمران عن صلاة الناس بالمسمع يكبر لهم إذا كبر الإمام، ويسمعهم السلام إذا سلم؟ فقال: قد كان الشيخ أبو القاسم يفعله، قال عبد الحق: أراه يريد ابن شبلون فقال لي: وقد أجاب الشيخ أبو الحسن بن محرز باستخفاف ذلك، وأن ابن عبد الحكم أمر المؤذنين به.
والمسبوق ينبغي أن يكبر للعقد ثم للهوى، فإن اقتصر على واحدة وقصد بها العقد أجزأته، وإن قصد بها الهوي أن أطلق انتفى الإجزاء، وفيه رواية لابن وهب.
ولو أحدث الإمام من غير تعمد، لم تبطل صلاة المأموم، إلا أن يتمادى على الإمامة بعد الحدث.
والمنفرد ليس له نقل صلاته وتحويلها إلى الجماعة، وكذلك المؤتم لا يجوز له أن ينقل صلاته من الجماعة إلى الانفراد.
واختلف فيمن اضطر إلى ذلك، كمريض اقتدى بمثله ثم صح، فذهب سحنون إلى إنه يخرج من صلاة الإمام، ويتم لنفسه؛ كما يصير الإمام مأموما لوجود عذر. وقال يحيى بن عمر: يتمادى لأنه دخل بما يجوز له.
وإذا شك المسبوق أن الإمام هل رفع رأسه من الأولى قبل ركوعه أم لا؟ لم يعتد بها.
قال ابن الماجشون: إذا شك في أن يكون أدرك الركعة معه، فليتماد منه، ويعيد الصلاة، وترك الركوع إذا خشي أن يعجله أو يشك في ذلك أولى.
قال ابن القاسم عن مالك: وحد إدراك الركعة أن يمكن يديه من ركبتيه، قبل رفع الإمام رأسه.
والمسبوق عند سلام الإمام، يقوم من غير تكبير، إذا كان جلوسه لمتابعة الإمام، وإن كان موضع جلوس له هو أيضا قام بتكبير. وقال ابن الماجشون: يقوم بتكبير على كل حال، ثم إذا قام أكمل صلاته.
واختلف المتأخرون في مقتضى المذهب في كونه قاضيا أو بانيا على ثلاث طرق:
الأولى: طريقة الشيخ أبي محمد وجل المتأخرين، أن المذهب كله على قول واحد، وهو البناء في الأفعال، والقضاء في الأقوال.
الثانية: طريقة بعض القرويين، أن المذهب على قولين في القراء خاصة، وعلى قول واحد في الجلوس
الثالثة: طريقة أبي الحسن اللخمي، أن المذهب على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بأن في الأقوال والأفعال، والثاني: أنه قاض فيهما، والثالث: أنه قاض في القراءة، بأن في الأفعال.
وأقرب ما فرق به بين الأفعال والأقوال في هذه الطريقة، أنه رأى أن ما أدرك هو أول صلاته حقيقة، فلذلك يبني على الجلوس، ولكنه يزيد فيما يأتي به سورة مع أم القرآن إذ لا يفسد الصلاة، ولا ينقص كمالها زيادة السور، بل ينقص الكمال نقصها، فيأتي بالسورة ليتلافى ما فاته من الكمال.

.الفصل الرابع: في استخلاف الإمام عند حاجته إلى ذلك:

والنظر في محل الاستخلاف وكيفيته، وصفة المستخلف وفعله:
أما محله، فهو حيث طرأ على الإمام ما يفعله من التمادي على الإمامة خاصة، أو يمنعه التمادي على الصلاة جملة.
فالأول: كتقصيره عن فرض من الفروض، مثل من عجز عن القيام مثلا، فإنه يستخلف ويرجع إلى الصف فيتم مؤتما بمستخلفه، وكذلك لو حصر عن القراءة فعلم أنه لا يقدر على القراءة في بقية الصلاة، فقال ابن سحنون: إن يستخلف ويصلي مأموما خلف النائب عنه، قال الإمام أبو عبد الله: ولو حصر عن قراءة بعض السور التي مع أم القرآن لم يكن له عنيد أن يستخلف، لأن صلاته تصح مع تركه فعل ما عجز عنه.
والثاني: كغلبة الحدث أو تذكاره، أو الرعاف الذي يقطع لأجله، وقد تقدم الخلاف في ذاكر صلاة منسية.
وأما كيفيته، فالأولى أن يستخلف بالإشارة، فإن تكلم لم تبطل الصلاة وصح الاستخلاف؛ لأنه بالطارئ قد خرج عن أن يكون إماما، و الأولى أن يستخلف من يقرب موضعه منه، فإن استخلف من بعد أتم في مكانه، ولم ينتقل إلى مكان الإمام.
ولو طرأ سبب الاستخلاف في حالة الركوع أو في حالة السجود، فهل يستخلف في الحالة أو يرفع رأسه ثم يستخلف؟ حكى الشيخ أبو الطاهر في ذلك قولين.
وإذا قلنا: إنه يستخلف بعد الرفع فليرفع غير مكبر، لئلا يرفعوا برفعه، فيكونوا مقتدين به في حالة لا يصح الاقتداء به، فإن رفع فاقتدوا به، فقال الشيخ أبو الطاهر: يجري ذلك على الخلاف في الحركة إلى الأركان، هل هي مقصودة فتبطل الصلاة، أو غير مقصودة فلاغ تبطل؟ وقال بعض المتأخرين: لا تفسد صلاتهم، بل هم كالرافعين قبل إمامهم غلطا، فيرجعون إلى الركوع ليرفعوا برفع المستخلف، قال: ولو رفعوا برفعة فلم يستخلف عليهم أتموا صلاتهم.
وليس الاستخلاف بواجب على الإمام، لأنه إنما التزم أن يقتدى به ما دام الاقتداء به ممكنا، فإذا تعذر ذلك، فليس عليه أن يأتي بعوض منه، لكن لما كان المأمومون ممنوعين من الكلام، كان من حسن النظر هلم أن يقيم لهم من يتم بهم، فإن لم يقم لهم أمروا بأن يستخلفوا من يتم بهم، ا ويتقدم أحدهم فيتم بهم وإن لم يقدموه، فإن لم ي فعلوا وصولا وحدانا، فإن كانوا في الجمعة بطلت على المشهور، وسواء عقدوا مع الإمام ركعة أم لا، ولم تبطل على الشاذ، وإن كانوا عقدوا منها ركعة معه، وإن كانوا في غير الجمعة فالمنصوص صحة صلاتهم، وقد أساؤوا.
وكذلك لو استخلف قوم منهم أو واحد من الجماعة، وأتم الباقون وحدانا صحت صلاتهم على المنصوص.
وقال محمد بن عبد الحكم: كل من لزمه أن يتم صلاته في جماعة، فأتم فذا أو قضى ما وجب عليه فذا مؤتما، بطلت صلاته، وقد أخذ من ها القاضي أبو الوليد، وأبو الحسن اللخمي بطلان صلاتهم إذا لم يستخلفوا، وبطلان صلاة من أتم فذا منهم.
قال الشيخ أبو الطاهر: ويحتمل قول ابن عبد الحكم أنه يريد من خرج عن إمامة الإمام الأول أو المستخلف بعد أن اقتدى به، وأنه إنما أراد التنبيه على خلاف من قال إن للمأموم الخروج عن الاقتداء، قال: وإذا احتمل ذلك لم يلزم منه الاستقراء بلا بد.
ولو استخلف الإمام إنسانا فتقدم غيره فأم، واقتدى به مستخلف الإمام لصحت الصلاة على المنصوص في المذهب.
وأما صفة المستخلف، فليكن بعد صحة إمامته ابتداء ممن انسحب عليه حكم الإمام قبل طروء العذر، ويكون ما فعله عند مفارقة الإمام مما يعتد به جزءا من صلاته، فلا يقدم من أحرم بعد طروء العذر، ولا من فاته الركوع معه من الركعة التي طرأ العذر فيها؛ لأنه يصير كالمتنفل يؤم المفترضين، فإن استخلفه أمر المستخلف باستخلاف غيره، أو استخلفوا هم غيره، فإن لم يفعلوا وائتموا به فصلاتهم باطلة. وقيل: صلاتهم صحيحة؛ لأن فعل المستخلف لذلك وإن كان لا يعتد به واجب عليه لوجوب متابعة الإمام لو لم يحدث، وصار باستخلافه كأن الإمام لم يذهب.
وأما من أحرم بعد طروء العذر، فإن استخلفه على ركعة أو ثلاث، فصلاته باطلة؛ لأنه جلس في غير موضع جلوس وهو مصل لنفسه، وإن استخلفه على ركعتين، فصلاته تامة. وقال ابن حبيب: إن قدمه في أول ركعة فصلاته تامة، وتبطل صلاتهم، وإن كان بعد ركعة أو أكثر فعمل على بناء صلاة الأول فلا صلاة له ولا لمن خلفه.
وأما فعل المستخلف، فإنه متمم لصلاة الإمام، فعليه أن يصليها من حيث انقطعت، فإن كان الإمام لم يقرأ افتتح القراءة، وإن قرأ أتم من حيث وصل إن كان صلاة جهر، فإن كانت صلاة سر، ففي السليمانية أنه يبتدئ قراءة أم القرآن من أولها. قال الإمام أبو عبد الله: وكأنه رأى أن تجويز كون الإمام لم يقرأ لنسيان أو غيره يقتضي ابتداء المستخلف القراءة من أولها.
فإذا ركع ولم يرفع تقدم راكعا، ثم رفع ويتمادى على صلاة الإمام.
فإن أتمها سلم بهم إن كان أدرك جملة صلاة الإمام، وسلم بسلامه من كملت صلاه من المتقدمين، وقام من كان مسبوقا للقضاء.
فإن كان لم يدرك جملة صلاة الإمام، بل كان مسبوقا أشار إليهم إذا أكمل صلاة الإمام، كالآمر لهم بالجلوس، ثم نهض للقضاء، فإذا فرغ منه سلم بهم؛ لأن السلام من بقية صلاة الأول، وقد حل محله في الإمامة فيه، فلا يصح الخروج عن ذلك لغير معنى يقتضيه، وانتظار القوم لفراغه من القضاء أخف من الخروج من إمامته. وقيل: يستخلف من يسلم بالقوم؛ لأن السلام بقية صلاة الأول كما تقدم، ولا ينبغي له أن يقضي قبل فراغ الصلاة، وخروج القوم عن الاقتداء به إلى الاقتداء بمن أقام مقامه أخف من انتظاره.
وسبب هذا الاختلاف: أن الضرورة دافعة للمصلي إلى الخروج عن الأصل على المذهبين جميعا، والنظر في أي الخروجين أخف.
ولو ساوت هذا المستخلف طائفة من القوم في فوات ما فاته، فقال سحنون: من أصحابنا من يقول: يقوم المستخلف وحده للقضاء، ثم يسلم، ثم يقضون بعده، ومنهم من يقول: إذا قام يقضي قام كل واحد يصلي لنفسه، ثم يسلمون بسلامه فإن ائتموا به أبطلوا على أنفسهم، وصلاة المستخلف تامة. وذكر ابن سحنون عن أبيه أنه قال: تجزئهم ثم رجع فقال: يعيدون أحب إلي، وفي كتاب ابن المواز: ومن اتبعه فيها منهم أو من غيرهم فصلاته باطلة.
فروع ثلاثة:
الأول: لو لم يدر ما صلى إمامه الذي استخلفه، والذين خلفه يعلمون ذلك أشار إليهم، فإن فهموا عنه وأجابوه بالإشارة عمل عليها فإن لم يفهم ومضى في صلاته فليسبحوا به حتى يفهم، فإن لم يجد بدا إلا أن يتكلم فلا بأس. وقال سحنون في المجموعة: ينبغي أن يقدم غيره ممن يعلم ما صلى الإمام، فإن تمادى فإنه إذا صلى ركعة فليتزحزح للقيام، فإن سبحوا به جلس وتشهد، ثم يتزحزح للقيام، فإن لم سبحوا به قام وبنى على أنها ثالثة، وإن سبحوا به عرف أنها رابعة، فيشير إليهم بالجلوس، ثم يقضي على ما تقدم.
الفرع الثاني:
لو أزال الإمام عذره، ثم عاد فأخرج المستخلف وأتم الصلاة بهم، فهل تبطل الصلاة لأنه انعزل بالاستخلاف ثم صار مستخلفا من غير عذر، أو تصح لأن المستخلف وكيل الإمام، فإذا عاد انعزل الوكيل؟ قولان: الأول ليحيى بن عمر، والثاني في العتبية.
الفرع الثالث:
لو رجع الإمام فقال للمسبوق المستخلف، قد كنت أسقطت من الركعة الأولى أو الثانية ما يقتضي بطلانها كالركوع أو السجود مثلان فإما المستخلف فيتم صلاة الإمام؛ إذ لا علم عنده من صحتها، وأما المقتدون فمن تحقق كماله صلاته وصلاة إمامه لم يلزمه اتباعه فيما قال. ومن شك منهم في صحة صلاته وصحة صلاة إمامه، أو تيقن الآن صحة قوله لزمه التدارك، ومن تيقن سلامة صلاته دون صلاة إمامه، ففي لزوم التدارك له خلاف كما تقدم في السهو.
ثم من لزمه التدارك اتبع المستخلف في تكميل صلاة الإمام.
وهل يكون المستخلف فيما يأتي به من ذلك قاضيا، فيقرأ بأم القرآن وسورة، أو بانيا فيقرأ بأم القرآن خاصة؟ حكى الشيخ أبو الطاهر في ذلك قولين منصوصين، ويسجد قبل السلام لأنه أخل بالجلوس في موضعه.
وهل يسجد بعد كمال صلاة الإمام أو صلاة نفسه؟ في ذلك قولان مبنيان على تغليب حكم الإمام، أو النظر إلى حصول الإمامة له.

.الباب التاسع: في صلاة المسافرين:

والنظر في القصر والجمع.

.النظر الأول: في القصر.

وأداء الصلاة المقصورة على صفة أداء التامة، إلا في الإتمام، وقد اختلفت أقوال أهل المذهب ورواياتهم في حكم القصر.
فروى أشهب شانه فرض، وبه قال القاضي أبو إسحاق وابن سحنون، ومال إليه ابن المواز، ولم يقدم عليه لما رأى أن مالكا وأصحابه لم يختلفوا أن من أتم صلاته في السفر إنما يعيد في الوقت. قال القاضي أبو محمد: جماعة من أصحابنا البغداديين يرون القصر فرضا، وروى أبو مصعب وابن وهب: أنه سنة، وقال القاضي أبو الحسن: قال إسماعيل وغيره: فرضه ركعتان، وقال باقي أصحاب مالك: وهو مخير بين الإتمام والقصر، والاستحباب القصر، وإليه ذهب الأبهري، قال: وهو اختياري. قال القاضي أبو محمد أيضا: ذهب أكثر أصحابنا إلى أن فرضه التخيير، إلا أن القصر أفضل، وهو سنته. وحكى أبو جعفر الأبهري: أن الشيخ أبا بكر يقول: وهو مخير بين القصر والإتمام.
وقال أبو محمد عبد الحميد: بعض المذاكرين يقول: إن مذهب الكتاب حيثما وقع أن قصر المسافر رخصة.
هذا حكمه، فأما مشروعيته فعند وجود السبب والمحل والشرط.
الأول: السبب، وهو كل سفر طويل ليس بمعصية، وفي المكروه تردد.
والمراد بالسفر، ربط القصد بمقصد معلوم، فالهائم لا يترخص. ثم إنما يترخص المسافر بعد مجاوزة السور في المصر الذي لا بناء خارجه ولا بساتين. وروى مطرف وابن الماجشون: أنه لا يقصر حتى يكون بينه وبين المصر ثلاثة أميال، فإن كان حول المصر بناءات معمورة أو بساتين وكانت متصلة به في حكمنه فإذا جاوزها. وإن كان خروجه من قرية لا تقام فيها الجمعة، ولا بناءات متصلة بها ولا بساتين، قصر إذا فارق بيوت القرية، وإن اتصل بها شيء من ذلك فحتى يفارقه.
وإن كان خروجه من بيوت العمود قصر بمفارقته الحلل، ثم حيث قلنا: يقصر منه، فإنه يقصر إليه، وفي المجموعة: يقصر حتى يدخل منزله.
فإن رجع المسافر لأخذ شيء نسيه، لم يقصر في رجوعه إلى وطنه. وقال ابن الماجشون: يقصر حتى يصل وطنه، وفي الموازية مثله.
ولا يقصر بعد وصوله وطنه الذي فيه أهله، فإن كان رجوعه إلى غير وطنه وكان يقصر فيه قبل خروجه، قصر الآن أيضا، وإن كان يتم بالمكان قبل خروجه، فقيل: يتم في رجوعه، وقيل: يقصر.
ثم نهاية سفره منتهى قصده، إلا أن ينوي إقامة في أضعاف سفره، فيكون مكان الإقامة هو المعتبر. وقيل: يلفق المسافة بما قبل الإقامة وما بعدها.
وهذا الخلاف أيضا جار في تلفيق الإقامة، وعليه تخرج مسألة الكتاب فيمن دخل مكة فأقام بها بضع عشرة ليلة فأوطنها، ثم بدا له أن يخرج إلى الجحفة فيعتمر منها، ثم يقدم مكة فيقيم بها اليوم واليومين، ثم يخرج منها، هل يقصر الصلاة في اليومين أو يتم؟ فأجاب أولا بالإتمام تعويلا على التلفيق، وكأنه ضم اليومين إلى ما قبلهما من المسافة، ثم أجاب بالقصر بناء على ترك التلفيق، وكأنه أضاف اليومين إلى ما بعدهما من السفر وهو يقصر فيه، قال ابن القاسم: وهو أعجب إلي من الأول.
وتخرج على تلفيق الإقامة مسألة: من سافر في البحر من موضع، ثم درته الريح إليه، فهل يقصر فيه أم يتم؟ ولا شك أنه يتم إن كان الموضع وطنه، وإن كان غير وطنه ولم ينو فيه دوام الإقامة، فهل يقصر؟ قولان، ولا يحتسب المسافر بالعود إلى وطنه، ولو لم تتخلله إقامة أصلا.
والإقامة المعتبرة أربعة أيام، وقال ابن سحنون: مقدار عشرين صلاة، وقال محمد بن حارث: وكذلك ذكر محمد بن المواز في كتابه.
وإذا فرعنا على المشهور، فلا يعتد فيها بيوم الدخول إلا أن يدخل من أوله، وقال ابن نافع: يعتد به ويتم الإقامة مثل ذلك الوقت من النهار الخامس، وإن كان له في البلد الذي وصله غرض يعلم أنه لا يتنجز في المدة المذكورة فهو مقيم، وإن كان يجوز تنجيزه فيما دون ذلك، فهو يقصر ما دام في انتظاره من غير حد محدود.
أما الطويل فحده أربعة برد وهي مسافة يومين، وذلك سنة عشر فرسخا، وهي ثمانية وأربعين ميلا. وقال أشهب: يقصر في خمسة وأربعين ميلا، وفي رواية أبي قرة في اثنين وأربعين. وقال ابن الماجشون: إن قصر في أربعين ميلا أجزأ عنه. وفي رواية أبي زيد عن ابن القاسم: إن قصر في ستة وثلاثين ميلا أجزأ عنه، قال ابن عبد الحكم في الموازية: يعيد في الوقت، وقال يحيى بن عمر: لا أعرف هذا لأصحابنا، ويعيد أبدا.
ثم هذا القدر هو المعتبر في البر والبحر.
وروي في المبسوط التحديد في سفر البحر باليوم التام، لأن الأميال لا تعرف فيه.
وحكى أبو محمد عبد الحق عن بعض شيوخه: أن التحديد في البحر بيوم ليس بخلاف لما تقدم من تحديده في البر بيومين، لأنه يقطع في البحر مسافة اليومين في اليوم الواحد.
ورأي الشيخ أبو الطاهر أيضا: أن هذا ليس بخلاف، قال: بل ينظر، فإن أمكن تمييز الأميال، كالمرور مع السواحل فهو كالبر، وإن كان بحيث لا يمكن التمييز كالسير في وسط البحر، فكما روى في المبسوط.
فرع:
اجتمع السفر من السير في البر والبحر لفقهما إن كانت بداءته بسفر البحر، وكذلك إن كان بسفر البر، لكن إذا وصل إلى البحر سار على كل حال بالريح وبغيره، فيقدر منها المقدار الذي قدمناه.
فإن كان إذا وصل إلى البحر لا يسير إلا بالريح، فقال ابن المواز: لا يقصر حتى يكون في سفر مقدار سفر البر القصر.
ويشترط عزمه في أول السفر، فإن خرج في طلب آبق لينصرف مهما لقيه لم يترخص، وإن تمادى سفره إلا أن يعلم أنه لا يلقه قبل مرحلتين.
ولو ترك الطريق القصير وعدل إلى الطريق الطويل لغير غرض لم يترخص.
ومهما بدا له الرجوع في أثناء سفره انقطع سفره، فليتم إلى أن ينفصل عن مكانه متوجها إلى مرحلتين.
أما قولنا: ليس بمعصية، فالعاصي بسفره لا يترخص، كالآبق والعاق بالسفر.
وروى زياد بن عبد الرحمن جواز ترخص العاصي بسفره، كالعاصي في سفره.
وإذا فرعنا على المشهور، فلو طرأت المعصية بالسفر في أثنائه لم يترخص أيضا، ولو طرأت له التوبة في أثناء سفر المعصية ترخص، وفي جواز تناول الميتة له قبل التوبة خلاف.
الثاني: محل القصر، وهو كل صلاة رباعية مؤداة في السفر، أو مقضية لفواتها فيه، فلا قصر في الصبح والمغرب، ولا في فوائت الحضر. ويقصر في فوائت السفر قضيت فيه أو في الحضر.
والمسافر في آخر الوقت يقصر إذا بقي منه مقدار ركعة فأكثر، كالطهار إذا حاضت في آخر الوقت، وقد بقي منه ما يسع الصلاة أو ركعة منها، فإنها تسقط عنها كما تقدم.
الثالث: الشرط، وهو اثنان.
الأول: أن لا يقتدي بمقيم، فإن اقتدى به وصححنا صلاته لزمه الإتمام على المشهور.
ولنبين حكم اقتداء أحدهما بالآخر.
فأما اقتداء المسافر بالمقيم، فإن قلنا بأن القصر فرضه، فلا يجوز أن يقتدي بمقيم.
وقيل: يقتدي به، وإن قلنا: بأن القصر سنة، فروى ابن القاسم وابن الماجشون أنه لا يقتدي به. وروى الشيخ أبو إسحاق: لا بأس بصلاة السفري خلف المقيم لفضله وسنه وفهمه.
ومأخذ الخلاف: النظر إلى الترجيح بين فضيلتي لجمع والقصر، فإن قلنا بأن القصر أولى مع التخيير بينه وبين الإتمام، أو قلنا بالتخيير كما روي عن الشيخ أبي بكر، فلا شك أن الائتمام بالمقيم أولى من القصر مع الانفراد.
ثم حكم الصلاة بعد الاقتداء منزل على الخلاف المتقدم، فإن بنينا على أن القصر فرضه، فقال القاضي أبو محمد وبعض المتأخرين: تبطل الصلاة، وقال بعضهم: لا يمتنع أن يكون القصر فرضه، فإذا ائتم بمقيم انتقل فرضه لفرض المقيم كالعبد والمرأة في الجمعة.
وقال غيرهم: يقتدي به في الركعتين خاصة، ثم اختلفوا هل يسلم ويتركه، أو ينتظره فيسلم معه؟
وإن قلنا بأن القصر سنة، أتم وأعاد عند ابن الماجشون في الوقت، ولم ي عد عند ابن القاسم، وكذلك روى مطرف أن لا إعادة عليه.
وروى ابن الماجشون وأشهب: أنه يعيد في الوقت، إلا أن يكون في أحد مسجدي الحرمين أو في مساجد الأمصار الكبار.
هذا حكم صلاته، إذا اقتدى بمن تيقن إقامته، فلو اقتدى بمن لا يعلم حاله، فقال سحنون: تجزيه.
ولو اقتدى بمن اعتقد فيه حالة، فلظهر له خلافها، فقال أشهب: تجزيه، وقال سحنون: لا تجزيه.
وسبب الخلاف: مراعاة عدد الركعات في أصل النية.
وأما ائتمام المقيم بالمسافر، فقد قال ابن حبيب: هي أخف من صلاة المسافر بإمامة المقيم في الكراهية، وقال أيضا: اتفقت الرواية عن مالك، أنه إذا اجتمع مسافرون ومقيمون، أنه يؤم المسافرين، والمقيمين مقيم، ولا يؤم مسافر مقيمين، ولا مقيم مسافرين إلا أن يكون ذلك في المساجد الجامعة التي تصلي فيها الأئمة، يعني الأمراء.
ولو أم المسافر بالفريقين، ثم ذكر أنه على غير طهارة، أو أحدث مغلوبا، فإنه يؤمر بأن يستخلف مسافرا، فإن لم يفعل، وقدم مقيما، لم يقبل استخلافه، وتقدم مسافر، فإن جهل وقبل الاستخلاف، وأتم صلاة الإمام، فإن المسافرين يسلمون لأنفسهم، وقيل: يستخلفون مسافرا يسلم بهم، وقيل: يثبتون حتى يسلموا بسلامه.
واختلف في المقيمين هل يتمونها أفذاذا بعد فراغ صلاة إمامهم، أو بعد سلام المستخلف؟
الشرط الثاني: أن يستمر على نية القصر جزما في جميع الصلاة.
وإذا قلنا: أن القصر ليس بفرض، فهل من شرطه أن ينويه عند عقد الإحرام؟ حكى الإمام أبو عبد الله عن بعض أشياخه أنه قال: يصح أن يلتزم القصر أو الإتمام قبل الشروع في الصلاة، ويصح أن يدخل في الصلاة على أنه بالخيار بين القصر والإتمام، قال: وكأنه رأى أن عدد الركعات لا يلزم المصلي أن يعقده في نيته حين الإحرام، وقد تقدم ذكر الخلاف في هذا الأصل، وإن مما يخرج عليه من الفروع ما لو ابتدأ على القصر فأتم، أو بالعكس، وكذلك مسألة الداخل يوم الجمعة يظنه الخميس أو العكس. ومذهب الكتاب في هذه إجزاء من ظن الجمعة دون من ظن الخميس، وقال في السليمانية: تجزيه الصلاة، والإعادة أحوط. وقال أشهب: لا تجزيه في شيء منها، إلا أن يصلي معه وهو لا يدري يومه ذلك فإنه تجزيه.
ولو عرض له قصد الإقامة في أثنائها وصمم عليه ولو لحظة، فإن كان قبل أن يركع، فيستحب له أن يجعلها نافلة، ويستأنف فرضه أربعا، فإن تمادى على صلاته وأتمها أربعا، أجزأته في رواية ابن حبيب عن مالك.
وإن كان بعد أن عقد الركعة، فروى ابن حبيب عن مالك، أنه يستحب له أن يشفعها بركعة، ويجعلها نافلة، ثم يصلي فرضه أربعا. وروي عن ابن الماجشون أنه يضيف إليها ركعة أخرى تكون فرضه، لأنه لما عقد ركعة من صلاته على السفر لزمه حكم السفر. قال القاضي أبو الوليد: وظاهر قول عيسى بن دينار يقتضي أنها لا تجزيه إن تمادى عليها.
ولو أحرم على أربع، وفعلها ساهيا عن السفر أو القصر، فقال ابن المواز: يعيد في الوقت، وقد كان ابن القاسم يجيز في هذا سجدتي السهو حتى تبين أو استبصر، فرجع عن ذلك، وقال: يعيد في الوقت كان عامدا أو جاهلا أو ناسيا. وروى ابن حبيب: أنه يسجد للسهو، ثم قال: يجزي الساهي سجود السهو، إلا على قول ابن الماجشون الذي يقول: إذا كثير السهو أعاد، و قال سحنون: إن كان ناسيا لسفره، فإنما عليه الإعادة في الوقت، وهو كالعامد والجاهل.
وإن كن ذاكرا لسفره فصلى أربعا وهو يظن أنها ركعتان، أعاد أبدا لكثرة السهو. وذكر ابن نافع اختلاف قول مالك في المسافر إذا أتم ساهيا، هل يعيد في الوقت، أو يسجد لسهوه؟
وقال ابن المواز: إذا عقد إحرامه على أربع، فليعد في الوقت ساهيا كان أو عامدا، وإن عقد على ركعتين، فأكمل أربعا، فإنه يسجد في السهو، ويعيد أبدا في العمد. قال ابن سحنون: يعيد أبدا لكثرة السهو، وقال ابن المواز: ليس كسهو مجتمع عيه.

.النظر الثاني: في الجمع:

وأسبابه أربعة.
الأول: السفر، فيجوز الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت على المعروف من المذهب، ووقع في العتبية، قال مالك: أكره جمع الصلاتين في السفر، فحمله بعض المتأخرين على إيثار الأفضل، لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه.
وإذا فرعنا على المعروف من المذهب، فلا يختص الجواز بالطويل، لكن يختص بحال الجد في السير لخوف فوات أمر، أو لإدراك مهم، وبه قال أشهب. وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ: بأن الجد لمجرد قطع السفر مبيح للجمع.
ثم وقت الجمع معتبر بوقت الرحيل، فإن عزم عليه بعد الزوال مثلا، ونيته أن لا ينزل إلا بعد غروب الشمس جمع في المنهل، ولم يذكر في الكتاب المغرب والعشاء، كما ذكر في الظهر والعصر عند الرحيل. قول سحنون: الحكم متساو. واختلف المتأخرون في قوله، هل هو تفسير أو خلاف.
ولو كان الراحل عقيب الزوال عازما على النزول قبل تصرم وقت الصلاة الثانية لم يجمع، بل يصلي الظهر قبل رحيله، ويؤخر العصر إلى حين نزوله، وكذلك المغرب والعشاء قبل ثلث الليل أو نصفه على قول سحنون.
وإن كان هذا المسافر أدركه الزوال أو الغروب وهو على ظهر لا ينزل في النهار لكن بعد الغروب، ولا في الليل لكن بعد طلوع الفجر، جمع بين الصلاتين في وقتهما المختار، فيصلي الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها.
ولو زالت عليه الشمس وهو في المنهل، وإذا رحل لم ينزل إلا بعد الاصفرار، فأشار بعض المتأخرين إلى تخييره، فإن شاء جمع بينهما في المنهل، وإن شاء بعد النزول؛ إذ في كلا الحالين إخراج إحدى الصلاتين عن وقتها المختار.
ولو زالت الشمس والمسافر على ظهر ولا ينزل إلا بعد الاصفرار، فأشار ابن مسلمة إلى جواز التأخير ليجمع إذا نزل.
ثم صفة الجمع، أن يقدم الأولى منهما، وينويه في أولها، ولا يجيزه أن ينوي في أول الثانية، وقيل: يجزي.
فلو ص ليت الأولى، ثم حدث السب، أو أدرك الجمع في الثانية من صلى الأولى وحده، ففي جواز الجمع في الفرعين خلاف مبني على ما ذكرنا.
ومن صفة الجمع الموالاة نفلا يفرق بين الصلاتين أكثر من قدر إقامة ا وأذان وإقامة على ما تقدم، ولا يتنفل بينهما. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يتنفل.
ومهما نوى الإقامة في أثناء إحدى الصلاتين عند التقديم بطل الجمع، وإن كان بعدهما فلا يبطل.
السبب الثاني لجمع: المطر.
والترخص به عام في جميع المساجد، وحكى الشيخ أبو إسحاق رواية بتخصيصه بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمنصوص اختصاصه بالمغرب والعشاء، واستقرأ أبو الاسم بن الكاتب والقاضي أبو الوليد جواز الجمع بين الظهر والعصر أيضا من قول مالك في الموطأ: أرى ذلك في المطر.
وإذا جمع بين المغرب والعشاء، ففي وقت المغرب، ثم هل يفعل المغرب أول وقتها، أو يؤخرها قليلا؟ الرواية المشهور أنه يؤخرها قليلا، ثم يقدم العشاء إليها. وروى أنه يصليها في أول وقتها محافظة على الوقت المختار. وبهذه الرواية قال ابن وهب وأشهب.
ومهما اجتمع المطر والطين والظلمة، أو اثنان منها، أو انفرد المطر جاز الجمع، ولا يجوز عند انفراد الظلام.
فإما انفراد الطين، فظاهر المستخرجة جواز الجمع من أجله، وظاهر المذهب منعه. ولو كان المطر موجودا في أولى الصلاتين، فانقطع قبل الثانية أو في أثنائها، جاز التمادي على الجمع؛ إذ لا تؤمن عودته.
ويجمع المعتكف في المسجد لإقامة الصلاة عليه.
أما المنفرد في بيته فلا، ولو صلى الشيخ الضعيف أو المرأة في البيت بالمسمع، ففي جواز الجمع لهما خلاف.
السبب الثالث: المرض.
فيجوز للمريض الجمع، وقال ابن نافع: لا يجمع قبل الوقت، ويصلي كل صلاة لوقتها، فما أغمي عليه حتى ذهب وقته، لم يكن عليه قضاءه.
السبب الرابع: الخوف.
وفي جواز الجمع به قولان ابن القاسم.

.الباب العاشر: في صلاة الجمعة:

وهي فرض عين على الأعيان.
والكلام عليها ينحصر في ثلاثة فصول.

.الأول: في شروطها:

ويزاد في شروط وجوبها أربعة: الذكورية، والحرية، والإقامة، والاستيطان بموضع يستوطن فيه، ويكون محلا للإقامة به، يمكن الثواء فيه، بلدا كان أو قرية وقيل: لا يعتبر الاستيطان، بل تكفي الإقامة.
وعلى هذا الخلاف تخرج مسألة الجماعة تمرون بالقرية الخالية وهم بحيث تنعقد بهم الجمعة، فينوون الإقامة بها شهرا، هل يجمعون بها أم لا؟ والمعروف من المذهب أنهم لا يجمعون. وحكى عن ابن القاسم أنه روى أنهم يجمعون.
ويزاد في شرط أدائها أربعة أيضا.
الأول: الإمام:
فلا تصح أفذاذا، ولا يشترط حضور السلطان فيها ولا إذنه، وقال يحيى بن عمر: لا تقام الجمعة إلا بالإمام الذي تخاف مخالفته. وقال محمد بن مسلمة: لا يصلي الجمعة إلا سلطان أو مأمور أو رجل مجتمع عليه.
فروع:
الأول: الو أم المسافر في الجمعة لم تصح، وأعادوا الخطبة والصلاة ما لم يذهب الوقت، فيعيدوا ظهرا، ابتدأ الإمامة أو استخلف في أثناء الصلاة. وقال أشهب وسحنون: تجزئهم، أم بهم بتداء أو مستخلفا. وقال مطرف وابن الماجشون: تجزئهم إن كان مستخلفا نم ولا تجزئهم إن أم مبتدئا.
الفرع الثاني:
إذا أحدث الإمام في الصلاة مغلوبا، فقدم من كان اقتدى به، وهو ممن تجب عليه الجمعة، صح استخلافه، وأجزأت الصلاة، وإن لم يسمع الخطبة.
فإن لم يستخلف، فتقديم المأمومين كاستخلافه، وذلك واجب في الركعة الأولى، وفي الثانية أيضا على المعروف من المذهب. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا آخر، بأنه لا يجب فيها، وأنها تصح مع انفرادهم بها كالمسبوق.
الفرع الثالث:
إذا غفل المقتدي عن سجود الركعة الأولى أو نعس، انتظر التمكن، فإن سجد قبل ركوع الإمام في الثانية لم يقض شيئا، وكذلك إن وجده راكعا، وقيل: يقضي الثانية إن أدركه راكعا، وإن لم يدركه حتى رفع رأسه من ركوع الثانية قضاها بلا خلاف.
أما إذا لم يتمكن من السجود حتى ركع الإمام، فليتابعه، ويلغي الركعة الأولى، ثم يقضيها بعد الفراغ.
والمشهور إلحاق المزاحم بالغافل والناعس، وروى ابن حبيب عن ابن القاسم وأصبغ: أن المزاحم لا يتبع الإمام بوجه. وروى سحنون عن ابن القاسم: أنه يتبع الإمام بمثل رواية الجماعة.
الشرط الثاني: الجماعة:
والمشهور أنها غير محدودة بعدد مخصوص، لكن لا يجزي منها الاثنان والثلاثة والأربعة، وما في معنى ذلك، بل لا بد أن يكونوا عددا تتقرى بهم قرية.
والشاذ أنها محدودة بعدد، ثم اختلف في مقداره، فروى ابن حبيب: ثلاثون بيتا وما قاربهم جماعة، وقال ابن حبيبك والبيت مسكن الرجل الواحد.
وفي مختصر الشيخ أبي إسحاق: اشتراط خمسين رجلا في صلاة الكسوف. قال بعض المتأخرين: في هذه الرواية إشارة على اعتبار هذا العدد في صلاة الجمعة؛ لأن اعتبار العدد في الجمعة آكد منه في صلاة الكسوف.
وقال الشيخ أبو الحسن: ما علمت أحدا ذكر عن مالك عددا حده تقوم به الجمعة، إلا ابن حبيب فإنه قال: الثلاثون وما قاربهم عندي جماعة، كذلك روى مطرف وابن الماجشون.
ثم هل يشترط في هذه الجماعة كونهم ممن تلزمهم الجمعة أو تنعقد بهم، وإن كانا ممن لا تلزمهم الجمعة ابتداء؛ كالصبيان والعبيد ومن في معناهم من المسافرين؟ قولان لسحنون وأشهب.
وهل يشترط بقاء الجماعة إلى كمال الصلاة؟ أو يكفي انعقاد ركعة بهم؟ المشهور اشتراط ذلك إلى الكمال، كسائر شروط الأداء. والشاذ الاكتفاء بذلك في ركعة كالمسبوق. وعلى ذلك يخرج ما إذا هربت الجماعة، فقال ابن القاسم وسحنون: إذا هرب الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، لم تصح له جمعة.
قال سحنون: ولو تفرقوا عنه في التشهد. ورأى سحنون أن يجعلها نافلة.
وقال أشهب: إن هربوا عنه عد أن قعد ركعة، أتم صلاته جمعة.
الشرط الثالث: الجامع.
قال القاضي أبو الوليد: أما الجامع، فإنه من شروط الجمعة، ولا خلاف في ذلك، إلا اختلاف لا يعتد به مما نقله القزويني في كتابه عن أبي بكر الصالحي، وتأوله على رواية ابن القاسم في المسألة التي في المدونة، أن الجمعة تقام في القرية المتصلة البنيان التي بها الأسواق، وترك ذكر الأسواق مرة أخرى، فقال أبو بكر الصالحي: لو كان من صفة القرية أن يكون بها الجامعة لذكره.
وأفسد القاضي أبو الوليد هذا الاستقراء، وقال: وهذا قد انعقد الإجماع على خلافه، فلا نعلم ممن بقي من العلماء من يقول به، قال: وليس القزويني ولا الصالحي بالموثوق بعلمهما في النقل والتأويل، فيعتمد على ما أثبتناه، ويحتاج إلى المراجعة عنه قال: وأما الصالحي فمجهول، وإنهما أثبتناه لنبين وجه الصواب فيه، لئلا يغتر به من يقع هذا القول إليه ممن لا يميز وجوه الأقوال، قال: والأصل في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل الأمة بعده إلى هلم جرا.
ثم قال: ومن شرطه البنيان المخصوص على صفة المساجد، فأما البراح الذي لا بنيان فيه، أو ما كان فيه من البنيان ما لا يقع عليه اسم مسجد، فلا يصح ذلك فيه.
قال: وللجامع صفة زائدة على كونه مسجدا، فكل جامع مسجد، وليس كل مسجد جامعان وإنما يوصف بأنه جامع لاجتمع الناس كلهم فيه لصلاة الجمعة، وهذا حكم يختص بهذا المسجد دون غيره من المساجد، فلا يصح أن تقام الجمعة في غيره من المساجد مما لا يحكم له بهذا الحكم حتى يحكم له على التأبيد، دون أن ينقل إليه هذا الحكم في يوم بعينه، ولو أصاب الناس ما يمنعهم من الجامع في يوم ما، لم تصح لهم جمعة في غيره من المساجد ذلك اليوم، إلا أن يحكم له الإمام بحكم الجامع، وينقل الحكم إليه عن الجامع الممنوع، فيبلط حكم الجمعة في المسجد الأول، وينتقل إلى هذا الثاني انتهى كلامه.
ثم في معنى الجامع في حق المأمومين رحابه، والطرق المتصلة به، إذا اتصلت الصفوف بها، ودعت الضرورة إليها.
وتكره الجمعة فيها من غير ضرورة، فإن وقعت فقال سحنون: تعاد أبدا. وقال ابن أبي زمنين عن ابن القاسم: تجزئ، وقاله الشيخ أو إسحاق.
واختلف في سطح الجامع هل حكمه حكمه فتصلى فيه الجمعة، أم لا؟ والمشهور المنع من صلاتها فيه، وقال أصبغ: لا بأس بذلك. وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يصلي المؤذن على ظهر المسجد، لأنه موضع أذانه إذا قعد الإمام على المنبر. وفي ثمانية أبي زيد عن مالك ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: أن الصلاة جائزة، ولا إعادة عليه. وهكذا مذهب أشهب أنه لا يعيد. وقال ابن القاسم في الكتاب: بل يعيد وإن ذهب الوقت، وحمل حمديس المنع على حالة الاختيار، وذلك إذا كان في داخل المسجد سعة.
فإما الدور والحوانيت وغير ذلك من الأماكن المملوكة المحجورة، فلا تجوز صلاة الجمعة فيها وإن أذن أهلها.
وقال محمد بن مسلمة في المبسوط: إنما قال مالك رحمه الله في هذه الدور التي لا تدخل إلا بإذن: لا يصلي فيها بصلاة الإمام إذا كان الذي فيها غير متصل بصفوف المسجد، فأولئك لا ينبغي لهم ذلك، لأنهم ليسوا في المسجد ولا متصلين به.
فأما لو امتلأ المسجد ورحاب أفنيته حتى تتصل الصفوف من المسجد إلى تلك الدور، فلا بأس بذلك، وتصير الدور والشوارع حينئذ بمنزلة حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إذا قلنا بالمنع على الإطلاق في هذه المواضع التي لا تدخل إلا بإذن، أو بالمنع بشرط أن لا تتصل الصفوف على ما أشار إليه بأن مسلمة، فلو خالف المصلي وركب النهي، فهل تصح صلاته أم لا؟ ذكر ابن مزين عن ابن القاسم أنه يعيد أبدا. وعن ابن نافع أنه قال: أكره تعمد ذلك، وأرجو أن تجزئه صلاته.
ولا تؤدي الجمعة في مصر واحد في جامعين.
وحكى الشيخ أبو الطاهر: أن المذهب في المصر الكبير على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والتفرقة.
فإن كان المصر إذا جانبين أو جوانب، وبينهما نهر وما في معناه مما تتكلف فيه المشقة إذا قطع، جازت إقامتها في موضعين أو مواضع، بحسب الحاجة إلى ذلك، وإن لم يكن كذلك، فليس إلا كونه كالمصر الصغير.
فرع:
إذا وجبت إقامتها في جامع واحد، وكان بالبلد جامعان، فإنها تقام في الأقدام منهما، وإن أقيمت في الأحداث واحدة أجزأت، فإن أقيمت جمعتان في الجامعين مع القدرة على الاكتفاء بواحدة، فروي في العتبية في الأمير يستخلف من يصلي بالقصبة الجمعة، ويجمع هو بطائفة في طرق المصر الجمعة، قال: فالجمعة لأهل القصبة. وفي مختصر الشيخ أبي إسحاق: لا أرى الصلاة إلا لأهل القصبة، وإن كانوا يصلون مع خليفة الإمام لا معه، فالصلاة مع خليفته جائزة، قال الشيخ أبو إسحاق: يريد أن الصلاة لأهل المسجد.
وقال الشيخ أبو القاسم: لا تصلي الجمعة في مصر واحد في مسجدين، فإن فعلوا ذلك، فالصلاة صلاة أهل المسجد العتيق.
الشرط الرابع: الخطبة.
وهي فرض: وشرط في صحة الجمعة، وقال ابن الماجشون: هي سنة، ومن صلى بغير خطبة لم يعد، وروي في الثمانية أن الجمعة تجزئه.
ثم القدر الواجب من الخطبة ما له بال، ويقع عليه اسم الخطبة، ق الأرض القاضي أبو بكر: وأقله حمد الله تعالى، والصلاة على نبيه، ويحذر ويبشر، ويقرأ شيئا من القرآن.
وروي: أن سبح وهلل، أو سبح فقط، فليعد ما لم يصل، فإن صلى أجزأه. وفي الثمانية عن ابن الماجشون: إذا تكلم بما قل أو كثر، فجمعته ماضية.
وقال ابن القاسم: إن سبح وهلل لم تجز، إلا أن ي أتي بكلام يكون عند العرب خطبة.
والمستحب أن يبدأ في خطبة بالحمد لله، ويختم بأن يقول: أستغفر الله لي ولكم، فإن قال: اذكروا الله يذكركم، فحسن. وإن يقرأ في الأولى بسورة تامة من قصار المفصل، قال ابن حبيب: وليقصر الخطبتين، والثانية أقصرهما.
فروع في أحوال يؤمر الخطيب أن يكون عليها:
الأول: أن يكون متطهرا، وفي كون الأمر بذلك على الوجوب أو الندب، قولان: وصرح القاضي أبو بكر بشطية الطهارة في الخطبة.
الثاني: أن يخطب قائما.
قال ابن حبيب: من السنة أن يخطب قائما، ويجلس شيئا في أولها ووسطها.
وقال القاضي أبو الحسن: الذي يقوي عندي أن القيام والجلسة واجبان وجوب سنة فقط. وقال القاضي أبو بكر: لا بد من خطبتين، ولا تجزئ الواحدة، خلافا لرواية ابن حبيب: أن واحدة تجزئ لنسيان أو حصر، وقال: أيضا بوجوب الجلوس بينهما.
الثالث: أن يتوكأ على عصا.
وروى ابن وهب أن القوس كالعصا في ذلك، وروى علي بن زياد: لا يتوكأ عليه إلا في السفر.
الرابع: أن يخطب بحضرة الجماعة.
قال القاضي أبو الحسن: ليس لمالك نص في الإمامة يخطب وحده دون من تنعقد بهم الجمعة، وأصل المذهب عندي يدل على أنها لا تصح إلا بحضور الجماعة. وقال القاضي أبو محمد أيضا: هذا هو الجاري على المذهب، ولم أجد فيه نصا لمتقدمي أهل المذهب.
ورأى بعض المتأخرين أن في الكتاب ما يشير إليه وهو قوله: لا تجمع الجمعة إلا بالجماعة والإمام يخطب، قال: لأن الواو للحال.
ورأى الشيخ أبو الطاهر: أن ما ذكره هذا المتأخر بعيد، وأن في لفظ الكتاب ما يدل على خلافه.
الخامس: أن يكون الخطيب هو المصلي.
قال مالك فيمن قدم رجلا فخطب، وصلى هو بالناس: الجمعة لا تجزيهم.
قال الإمام أبو عبد الله: ويلزم على طرد هذا إذا خطب الإمام، ثم قدم غيره فصلى بالناس اختيارا أن لا تجزئ الجعة، وإنما يباح له الاستخلاف إذا دعت الضرورة إليه مثل أن يحدث أو يرعف، فإنه يقدم من يصلي بالناس، ويبني المستخلف على فعله، عرض له ذلك في أثناء الخطبة أو في أثناء الصلاة. وكذلك إن عرض بينهما، ويصلي المستخلف معتدا بخطبة الإمام. والحكم ها هنا الاستخلاف إن كان الماء بعيدا، فإن كان قريبا، فروي أنه يستخلف.
وقال ابن كنابة وابن أبي حازم: ينتظر.
السادس: أن يكون الخطيب ممن له الولاية على الصلاة، فلو خطب ثم قدم وال سواه لم يصل بهم بالخطبة الأولى، وليبتدئ هذا القادم الخطبة. قال ابن المواز: إن قدم بعد أن صلى الأول ركعة، فإنه يصلي الثانية ويسلم ويعيد الخطبة والصلاة، لأن خطبته باطلة.
وفي العتبية لابن القاسم: إذا تمادى الأول، فصلى بهم عالما، فليعيدوا وإن ذهب الوقت، ولو صلى بإذن القادم أجزأتهم صلاتهم إذا أعادوا الخطبة، ولا ينفع إذنه بعد الصلاة وليعيدوا، ولا يصلي بهم القادم بخطة الأول، وليبتدئها، ولو قدمه القادم أمر بإعادتها.
وقال سحنون إن صلى بهم القادم بخطبة الأول أعادوا بادا. وكذلك إن أذن للأول فصلى بهم، ولم يعد الخطبة. وفي كتاب ابن حبيبك لا بأس أن يصلي الجمعة بالناس غير الذي خطب، مثل أن يقدمه لرعاف أو مرض، أو يقدم وال يعزل الذي خطب، وقد قدم أبو عبيدة على خالد بن الوليد بعزله فألفاه يخطب، فلما فرغ تقدم أبو عبيدة للصلاة. وهكذا وقع لأشهب نحو ما حكاه ابن حبيب: أنه إن ابتدأ الخطبة فحسن، وإن صلى بتلك الخطبة أجزأته، كما لو أحدث بعد الخطبة فقدم غيره. قال أبو محمد عبد الحق: والقياس عندي يوجب جواز الصلاة والبناء على خطبة الأول، والتمادي على الصلاة إذ دخل فيها.
السابع: أن يرفع الخطيب صوته للإسماع، ولذلك استحب له أن يخطب على المنبر؛ لأنه أبلغ في الإسماع، ألا ترى أنه لو خبط بالأرض جاز، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل قبل أن يتخذ المنبر، لكن العلو على درجة أو عود للخطبة أفضل، لأنه أسمع.
ويجب الإنصات، ويحرم الاشتغال على الجماعة عن السماع عند الشروع في الخطبة، وعلى من لم يسمع لتخلفه عن السعي إلى الجامع عند الأذان التابع لجلوس الإمام على المنبر، وهو المعهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقي المنبر فجلس، ثم أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة، يؤذنون على المنار واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، ثم أمر عثمان، لما كثر الناس، أن يؤذن بالزوراء عد الزوال، وهو موضع السوق، ليرتفع الناس منه، فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار. ثم إن هشام بن عبد الملك نقل الآذان الذي كان بالزوراء إلى المسجد، فجعله مؤذنا واحدا، يؤذن عند الزوال على المنار، فإذا خرج هشام وجلس على المنبر أذن المؤذنون كلهم ين يديه، فإذا فرغوا خطب.
ولا يسلم الداخل في حالة الخطبة، ولا يرد عليه إن سلم، ولا يشمت العاطس، ولا بأس أن يحمد الله تعالى خافضا صوته، ولا بأس بالتعوذ من النار عند ذكرها. وقال أشهب: الإنصات أحب إلي من ذلك، فإن فعلوا فسرا في أنفسهم، ولا بأس إذا قرأ الإمام: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه} الآية، أن يصلي عليه في نفسه.
قال ابن حبيب: إذا دعا الإمام في خطبته المرة بعد المرة أمن الناس وجهروا جهرا ليس بالعالي، قال: وذلك فيما ينوب الناس من قحط أو غيره. قال القاضي أبو الوليد: لا خلاف في جواز هذا، وإنما الخلاف في صفة النطق به من سر أو جهر، ومن لا يسمع كمن يسمع في الأمر بالإنصاف.
ولا يحي المسجد في أثناء الخطبة، ورأى أبو القاسم السيوري، أنه يحيي المسجد والإمام يخطب، وروى مثله محمد بن الحسن عن مالك.

.الفصل الثاني: فيمن تلزمه الجمعة:

وإنما تلزم المكلف الحر المقيم المتمكن من أدائها.
فإما العادمون لهذه الصفات، فلا تجب عليهم، وقد تقدم الخلاف في أنها لا تنعقد بهم، لكنها تنعقد لهم إذا كمل العدد دونهم سوى المجانين، ولهم أداء الظهر مع الحضور، سوى العاجز عن الحضور بمرض أو غيره إذا اتفق حضوره لكماله وزوال عذره.
ويلتحق بعذر المرض المطر الشديد، والوحل الكثير على أحد القولين فيهما. وتترك لعذر التمريض أيضا إذا كان المريض قريبا مشرفا على الوفاة. وفي معناه الزوجة والمملوك، فإن لم يكن مشرفا ولم يندفع بحضوره ضرر لم يجز الترك، وإن اندفع ضرر جاز.
وروى ابن القاسم أنه يجوز أن يتخلف لجنازة أخ من إخوانه ينظر في أمره، قال ابن حبيب: ويتخلف لغسل ميت عنده.
فروع في الأعذار:
من نصفه حر ونصفه رقيق كالرقيق، والمسافر إذا عزم على الإقامة ببلد مدتها لزمته الجمعة. وأهل القرى لا تلزمهم الجمعة إلا إذا كانوا بحيث تتقرى بهم قرية على ما تقدم، إلا أن يبلغهم نداء أهل بلد تقام فيه الجمعة من رجل رفيع الصوت واقف على طرف البلد في وقت هدوء الأصوات وركود الريح، وقيل: المعتبر وقوفه على المنار، فيعتبر الموضع الذي يسمع منه لا نفس السماع، بديل الأصم، والذي جرت به العادة أن يسمع النداء منه في غالب الحال ثلاثة أميال وما قرب منها، فلذلك اعتبر ذلك المقدار في وجوب إتيانها.
ثم المراعي في ذلك المكان الذي يكون المقيم فيه وقت وجوب السعي إليه دون مكان منزله، فإن كانوا من البلد الذي يجمع فيه على أكثر من ذلك، لم يلزمهم إتيان الجمعة به، وهل لهم أن يقيموا الجعة ببلدهم؟ قال يحيى بن عمر: يقيموا جمعة حتى يكونوا من البلد الذي تقام فيه الجمعة على ستة أميال. وقال ابن حبيب: لا يتخذ جامع حتى يكون م الجامع الآخر على مسافة بريد فأكثر. وقال زيد بن بشر: يتخذون جامعا إن كانا على أكثر من فرسخ.
قال القاضي أبو الوليد: وهو الصحيح عندي، لأن كل موضع لا يلزم أهله النزول إلى الجمعة لبعدهم عنه وكملت فيهم شروط الجمعة، لزمتهم إقامتها في موضعهم كأهل المصر.
والعذر الطارئ بعد الزوال مرخص، إلا السفر فإنه يرحم إنشاؤه، ويجوز قبل الزوال وبعد الفجر. وقيل: يكره حينئذ. وقال القاضي أبو الوليد: ظاهر المذهب أنه لو أدركه النداء قبل أن يخلف البلد بثلاثة أميال لزمه الرجوع إلى الجمعة.
وعكس هذا أن يكون مسافرا فيقدم إلى وطنه، فلا خلاف في أمره بشهود الجمعة إن كان لم يصل الظهر، فإن كان قد صلاها، ففي لزومه شهودها ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يلزمه إذا أدرك منها ركعة، الثاني: لا يلزمه لأنه أدى فرضه. الثالث: التفرقة، وهو قول سحنون، قال: إن صلاها وقد بقي بينه وبين موضعه ثلاثة أميال فأقل لزمه شهودها، وإن كان فوق ذلك فلا يلزمه.
ويستحب لمن يرجى زوال عذره، أن يؤخر الظهر إلى اليأس عن إدراك الجمعة، ومن لا يرجى له ذلك، فيعجل الظهر كالزمن.
ولو زال العذر بعد الفراغ، فعليه الجمعة إن أدركها، وكذلك الصبي إذا بلغ بعد أن صلى الظهر، وغير المعذور إذا صلى الظهر قبل الجعة لم يجزه. وقبل: يجزئه. قال الشيخ أبو الطاهر: ويمكن تخريجه على الخلاف في الجمعة: هل هي بدل عن الظهر، فإذا رجع إلى الأصل أجزأه، أو هي صلاة قائمة بنفسها، فيكون مصليا لغير ما وجب عليه.
ومن فاتته الجمعة فلا يصلي الظهر في جماعة إلا أن يظهر عذره.

.الفصل الثالث: في كيفية أداء الجمعة:

وهي كسائر الصلوات، وإنما تتميز عن غيرها بأمور:
الأول: الغسل، ويستحب ذلك موصولا بالرواح، ولا يجزئ قبل الفجر بخلاف غسل العيد، ولا بعده غير موصول بالرواح. وقال ابن وهب: يجزئه بعده، وإن كان غير موصول بالرواح.
ويختص استحبابة بمن يحضر الصلاة بخلاف غسل العيد، فإن ذلك يوم الزينة على العموم. ولا يتيمم عند فقد الماء بدلا عن الغسل.
الثاني كالتجمل لها بالثياب واستعمال الطيب.
الثالث: استحباب القراءة فيها بسورة الجمعة في الأولى، وفي الثانية ب {هل أتاك حديث الغاشية}، أو {سبح اسم ربك الأعلى}، أو {إذا جاءك المنفقون}.
فرعان: بهما اختتام الباب.
الأول: إن أول وقت الجمعة زوال الشمس كالظهر، واختلف في آخر وقتها الذي تفوت بفواته، فقيل: هو آخر وقت الظهر المختار. وقيل: تصلي ما لم تصفر الشمس. وقيل: ما لم يبق بعد كمالها إلى الغروب إلا مقدار أربع ركعات. وقال ابن القاسم: تصلي ما لم يبق إلا ركعة العصر. وحكى ابن حبيب عن مطرف فيمن صلى الجمعة بغير خطبة، أنهم يعيدون الصلاة بالخطبة ما بينهم وبين غروب الشمس، وإن لم يصلوا العصر إلا بعد الغروب. وحكى بعض الأصحاب عن المذهب قولا آخر، وهو اعتبار بقاء خمس ركعات سوى الخطبة على الوسط مما تجزي الصلاة به. وقيل: بل على عادته في صلاته. وقال القاضي أبو الحسن: كان قولي وقول الشيخ أبي بكر قد اتفق على أنه ينبغي أن يراعى قدر ثلاث ركعات قبل غروب الشمس، ركعتان للجمعة، وركعة تدرك بها العصر. قال بعض المتأخرون: يردي بد قدر الخطبة.
الفرع الثاني:
وهو مرتب، لو صلى في آخر الوقت فخرج وقتها وهو فيها، فقد روي: يصليها وإن كان لا يفرغ منها إلا بعد المغيب، وقال الشيخ أبو بكر: إن عقد ركعة بسجدتيها قبل خروج وقتها أتمها جمعة، وإن لم يعقد ذلك بنى وأتمها ظهرا، وقد تقدم حكم بناء أربع على عزيمة اثنتين.

.الباب الحادي عشر: في صلاة الخوف:

وهي نوعان:
الأول: أن يكونوا في شدة الحرب ومطارحة العدو، والتحام الفئتين، ومناجزة القتال، وقد أخذت السيوف مأخذها، فيرخون حتى يخافوا فوات الوقت، ثم يصلون رجالا أو ركبانا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، إيماء بالركوع والسجود على حسب ما يستطيعون لا يتكلفون ما يضر بهم، ولا يتركون شيئا مما يحتاجون إليه من قول أو فعل، ولا يجب على أحدهم إلقاء السلاح إذا تلطخ بالدم، إلا أن يكون مستغنيا عنه، ولا يخشى عليه.
النوع الثاني: أن يحضر وقت الصلاة والمسلمون متصدون لحر عدوهم، ولو صلوا بأجمعهم لخافوا معرته، فيقسم الإمام أصحابه قسمين، ويصلي بأذان وإقامة، ويعلم أصحابه ما يفعلون، فيصلي بأحد القسمين ركعتين إن كانت الصلاة أكثر من ركعتين، فإذا فرغ من تشهده قام إلى الثالثة في رواية ابن الماجشون، وأتمت الطائفة الأولى حينئذ صلاتها، وانتظر الطائفة الثانية قائما، وبه قال ابن القاسم ومطرف. وروى ابن وهب وابن كنانة: أنه يشير إليهم، ويبقى جالسا، فيتمون لأنفسهم ما بقي عليهم من الصلاة.
التفريع: أما على رواية ابن وهب، فهو مخير بين أن يسكت أو يذكر الله تعالى حتى تأتي الطائفة الثانية. وأما على رواية ابن الماجشون، فهو مخير بين أن يدعو أو يسكت ما بينه وبين أن تحرم الطائفة الثانية، ولا يقرأ قبل ذلك، إذ قراءته بأم القرآن وحدها، ولو كان انتظاره قائما في الركعة الثانية في الثنائية لكان مخيرا بين ثلاثة أحوال: السكوت، أو الدعاء، أو القراءة بما يعلم أنه لا يتمه حتى تكبر الطائفة الثانية، وتدرك معه القراءة، قاله ابن حبيب.
وقال أشهب: ينصرفون قبل أن يكملوا، فيكونون وجاه العدو وهم في حكم الصلاة، ثم إذا أكملت الطائفة الثانية صلاتها وقامت وجاه العدو، قضت الأولى ما بقي من صلاتها، فإن كانت الصلاة ثنائيه، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى وقام إلى الثانية، أخذوا في إتمام صلاتهم، فإذا فرغوا مضوا، فكانوا مكان الفرقة الأخرى.
وعلى قول أشهب: ينصرفون قبل الإتمام، ثم جاءت الأخرى فصلى بها باقي الصلاة وسلم، ثم يتمون بقية صلاتهم. وروي أنه يشير إليهم بالإتمام، وينتظرهم حتى يتموا، ويسلم بهم.
ولو اختلف حال المأمومين بالسفر والإقامة، صلى بالطائفة الأولى ركعة ا كان سفريا، أو اثنتين في غير الثنائية إن كان حضريا، ويتم الحضري ثلاثا إن أن إمامه مسافرا، وركعتين إن كان حاضرا، وفي جميع ذلك يسر في موضع السر، ويجهر في موضع الجهر.
وقد اشتمل ما تقدم من الكلام على استواء حكم الحاضر والمسافر في أصل إقامة هذه الصلاة، وهو المشهور من المذهب. وقال ابن الماجشون: لا يقيمها الحاضر، بل هي مختصة بالسفر كما أقيمت.
ثم هذه الصلاة تقام في كل قتال مأذون فيه، ولو في الذب عن المال، وفي الهزيمة المباحة عن الكفار. وفي إقامتها في اتباع أقفية الكفار عند انهزامهم خلاف بالجواز والمنع والتفرقة بين خوف معرتهم إن تركوا، وعدم ذلك، ويقيمها الخائفون من اللصوص والسباع.
ولو رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا، ثم تبين عدمه فلا قضاء. وقال ابن المواز: يستحب القضاء.
ولو فاجأهم في أثناء صلاتهم خوف فبادوا إلى الركوب خوفا على أنفسهم أتموا الصلاة على حسب ما يمكنهم، ولو انقطع الخوف في أثناء الصلاة أتموا على صفة الأمن.
فرع:
قال ابن المواز: وأداؤها على الصفة المذكورة توسعة ورخصة، على أن الأحب إلى أن تصلى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ولو صلوا بإمام واد، أو بعضهم بإمام، وبعضهم أفذاذا، كانت صلاتهم جائزة.
ورأى الحسن اللخمي أن مقتضى هذا جواز صلاة طائفتين بإمامين، ولم ير الإمام أبو عبد الله أنه يقتضيه.
فروع في المخالفة: لو جهل الإمام فصلى المغرب بكل طائفة ركعة، فحكى ابن حبيب أن صلاة الأول فاسدة، وصلاة الثانية والثالثة صحيحة. وقال سحنون: صلاة الإمام وصلاة من خلفه فاسدة؛ لأنه ترك سنتها، وكذلك إن صلى بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين بوقوفه في غير موضع قيام. وكذلك قال سحنون فيمن صلى صلاة الخوف في الحضر بكل طائفة ركعة أن صلاته وصلاة جميع من خلفه فاسدة. وذكر ابنه عن بعض الأصحاب: أن صلاة الإمام والطائفة الثانية تامة، وصلاة الأولى والثالثة فاسدة.
وإذا فرعنا على هذا القول أو قول ابن حبيب في صحة صلاة الطائفة الثانية، فيجتمع عليها البناء والقضاء، حيث اجتمعا، فالابتداء بالبناء عند ابن القاسم، وبالقضاء عند سحنون.

.الباب الثاني عشر: في صلاة العيدين:

وهي سنة مؤكدة لأهل الآفاق، وعددها ركعتان، وهي كسائر الصلوات في الشرائط والهيئة، إلا في زيادة التكبير، ولا يرفع يديه في شيء من التكبير، إلا في الأولى. وقال ابن حبيب: روى ابن كنانة ومطرف أن مالكا استحب رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة، وهو أحب إلي من رواية ابن القاسم، وكل واسع. وروى علي عن مالك: وليس رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة سنة، ولا بأس على من فعله. وأحب إلي في الأولى فقط، ووقتها معتبر بحل النافلة إلى الزوال.
ويؤمر بها من يؤمر بالجمعة، وفي توجه الأمر بها على من لم يؤمر بها خلاف، إذا قلنا: لا يؤمر، فقيل: بكراهية فعله لها، وقيل: يجوز، وقيل: بتخصيص الكراهية بفعله لها فذا، والجواز بفعله لها في جماعة.
ويستحب في الفطر الأكل قبل الغدو، وفي الأضحى تأخيره إلى الرجوع من المصلى.
ومن سنتها، الغسل لها بعد الفجر، وإن فعل قبله أجزأ، ثم التطيب والتزين بالثياب الجيدة لمن يقدر على ذلك، ويستحب ذلك للقاعد والخارج من الرجال، وأما العجائز فيخرجن في بذلة الثياب.
ثم تزين فيقصد الصحراء ماشيا، وإقامتها فيها أفضل من إقامتها في المسجد، إلا بمكة.
ولا يتنفل قبلها ولا بعدها إن صليت بالمصلي، فإن صليت في المسجد لعذر أو تركا للأفضل، فاستحب ابن حبيب ألا يتنفل قبلها ولا بعدها كخارج البلد. وروى ابن القاسم أنه يتنفل قبلها وبعدها لأنه محل النافلة. وروى ابن وهب وأشهب أنه يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها، محاذرة من إخراجها بالتطويل عن وقتها المستحب.
وليكن الخروج بعد طلوع الشمس إن كان يدرك، وليكبر في أضعاف طريقه، إلا أن يخرج قبل طلوع الشمس، فيختلف في مشروعية التكبير له وعدمها على الإطلاق، وتخصيصها بما بعد الإسفار.
قال سحنون: قلت لابن القاسم: فهل ذكر مالك التكبير كيف هو؟ قال: لا، وما كان مالك يحد في هذه الأشياء. وقال ابن حبيب: وأحب إلي من التكبير: الله أكبر، والله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، والله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا لك من الشاكرين. وكان أصبغ يزيد: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: وما زدت أو نقصت أو قلت غيره فلا حرج، وليكن كبيرة بحيث يسمع نفسه ومن يليه.
ويقطع التكبير بخروج الإمام، واختلف المتأخرون هل بخروجه من محل العيد ماضيا إلى الصلاة، أو بعد حلوله في محل صلاته؟.
وفي تكبيره بتكبير الإمام في أثناء خطبته قولان.
ثم ليخرج الإمام وليتحرم بالصلاة في الحال، ثم يكبر ستا بعد الإحرام، وليس بين التكبير قول، بل يتربص بقدر ما يكبر من خلفه، ثم يقرأ الفاتحة بعد تمام التكبير، ويقرأ معها بالشمس وضحاها وسبح ونحوها. واستحب ابن حبيب القراءة فيها بقاف، واقتربت الساعة، كل ذلك يجهر به.
ويزيد في الثانية بعد تكبيرة القيام خمس تكبيرات، ويتم الصلاة. ثم يخطب بعدها خطبتين كخطبتي الجمعة، إلا أنه يكبر في تضاعيفها. قال ابن حبيب: ويستفتح خطبته بسبع تكبيرات تباعا، فإذا مضت كلمات كبر ثلاثا، وكذلك في الثانية، إلا أنه يفتتحها بسبع تكبيرات، قال: وكان مالك يقول: يفتتح بالتكبير، ويكبر بين أضعاف خطبته، ولم يحده. ثم صفتهما في الأداء كصفة خطبتي الجمعة من جلوس متقدم ومتوسط وقيام، وما يتوكأ عليه، وغير ذلك.
فرع:
من بدأ بالخطبة قبل الصلاة أعادها بعد الصلاة، فإن لم يفعل فذلك مجزئ عنه وقد أساء، قاله أشهب.
فإذا فرغ من الخطبة وانصرف، رجع إلى بيته من طريق آخر غير الطريق الذي خرج فيه.
ويستحب في عيد النحر التكبير عقيب خمس عشرة صلاة مكتوبة أولها ظهر يوم النحر، وآخرها صبح يوم الرابع منه، وقيل: يكبر عقيب صلاة الظهر منه أيضا.
ولا يكبر في دبر النافلة، وروى الواقدي عن مالك أنه يكبر في دبرها كالفريضة.
واختلف في صيغة التكبير المأمور به، فقال في الكتاب: يقول: الله أكبر، الله أكبر، وقال في المختصر: يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وإن كبر ثلاث تكبيرات أجزأه، قال: والأول أحب إلي.
فروع: لو نسي التكبيرات في رمة فلا يتداركها إذا تذكرها بعد الركوع أو فيه، وليسجد قبل السلام، وقيل: يتداركها ما لم يرفع رأسه منه، وإن يذكر قبل الركوع كبر ثم أعاد القراءة، وسجد بعد السلام. وقيل: لا يعيدها.
ولو أدرك المسبوق الإمام في القراءة، فقال ابن القاسم: يدخل فيه، ويكبر سبعا، وإن وجد راكعا دخل معه وكبر واحدة، ولا شيء عليه، وإن وجده قد رفع رأسه أو قام في الثانية، فليقض ركعة يكبر فيها سبعا بتكبيرة القيام، قال: وإن وجده قائما في الثانية فليكبر خمسا. وقال ابن وهب: لا يكبر إلا واحدة. قال ابن حبيب: إن أدرك الإمام وهو في قراءة الثانية، فليكبر للإحرام، ثم يكبر خمسا، فإذا قضى كبر ستا، والسابعة قد كبرها للإحرام.
وإذا فاتت صلاة العيدين بزوال الشمس فلا تقضى.
وإذا شهد الشهود على الهلال قبل الزوال أفطرنا وصلينا، وإن شهدوا بعد الزوال أفطرنا، وتبين فوات صلاة العيد.
ولو اتفق العيد والجمعة، فليس للإمام أن يأذن لأهل القرى ممن يبلغهم النداء في الرجوع قبل شهود الجمعة، والاكتفاء بشهود العيد عن ذلك، فإن فعل لم ينتفعوا بإذنه، وروي أن له أن يأذن لهم في ذلك، وأنهم ينتفعون بإذنه.

.الباب الثالث عشر: في صلاة الكسوف.

وصلاة الكسوف سنة، وتفعل في المسجد دون المصلى. وقال ابن حبيب عن أصبغ: تصلي في المسجد إن شاؤوا أو في صحته، أو يبروزا لها إلى البراز، كل ذلك واسع.
ووقتها وقت العيدين، وقال مطرف وابن الماجشون: تصلى بعد العصر ما لم تحرم الصلاة، ورواه ابن وهب عن مالك. وحكى الشيخ أبو القاسم رواية بأن وقتها من طلوع الشمس إلى غروبها.
وهي ركعتان، في كل ركعة ركوعان وقيامان.
هذا إذا تمادى الكسوف، فإن تجلت الشمس في أضعاف الصلاة، فهل يتمون على ما ابتدأوا، أم على صفة سائر النوافل؟ قولان لأصبغ وسحنون. والأولى أن يقرأ في القيام الأول من الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة البقرة ونحوها، ثم يرتب الثاني والثالث والرابع على ترتيب السور، وذلك بعد الفاتحة في كل قيام على المشهور. وقال محمد بن مسلمة: لا يكرر الفاتحة في الركوع الثاني، ولا في الرابع.
وفي صفة القراءة من الجهر والإسرار روايتان، المشهور منهما أنه يسر فيهما، ويطيل كل ركوع قريبا من القراءة في قيامه.
ومذهب الكتاب أن سجود كل ركعة قريب من قيامها، وقال في المختصر: لا يطال السجود، ولا تطول القعدة بين السجدتين.
ويستحب أن تؤدي بالجماعة، وليس فيها خطبة قبل الصلاة ولا بعدها، بل إذا فرغ استقبل الناس فذكرهم وخوفهم، وأمرهم أن يدعوا الله إذا رأوا ذلك، ويكبروا ويتصدقوا.
فروع:
الأول: المسبوق إذا أدرك الركوع الثاني، فقد أدرك الركعة ولا يقضي شيئا منها.
الثاني: تفوت صلاة الكسوف بالانجلاء، وبغروب الشمس كاسفة.
الثالث: إذا اجتمع كسوف وجمعة، قدمت الجمعة عند خوف الفوات، وإن أمن منه، قدمت صلاة الكسوف.
ولو اجتمع جنازة مع هاتين الصلاتين فهي مقدمة، إلا أن يضيق وقت الجمعة، فإنها تقدم عند ضيق وقتها.
وتكلم بعض العلماء على اجتماع عيد وكسوف مع خوف الفوات، واعترض عليه بأن العيد لا يجتمع مع الكسوف في العادة. وقال من اعتذر عن ذلك: لا ينكر فرض اجتماع العيد والكسوف، فإن الله على كل شيء قدير. وأيضا فإن كانت العادة قد تقررت بخلاف هذا الفرض، فإن هذا حكم هذه الصورة لو تصورت، والفقيه يتكلم على ما يقتضيه الفقه على الجملة.
واعترض الإمام أبو عبد الله هذا بأنه وإن كان جائزا عقلا لا يستحيل تعلق القدرة القديمة به، إلا أنه على خلاف العادة التي أجراها الله سبحانه، وليس من دأب الفقهاء تقدير خوارق العادة، والكلام على حكمها. ولا تصلى صلاة الكسوف للزلازل وغيرها من الآيات.
وصلاة خسوف القمر ركعتان كسائر النوافل، ولا يجمع لها. وقيل: يجمع لها قياسا على صلاة كسوف الشمس.
والمنصوص أن صلاة كسوف الشمس يؤمر بها كل مكلف من الرجال والنساء، ومن عقل الصلاة من الصبيان، والمسافرين والعبيد.
وقال الشيخ أبو إسحاق في مختصره: إذا كانت قرية فيها خمسون رجلا ومسجد يجمعون فيه الصلوات، فلا بأس أن يجمعوا صلاة الكسوف، وتصلي المرأة صلاة الكسوف في بيتها ومن أعجله السير فليس عليه صلاة الكسوف.
فاستقرأ بعض المتأخرين من اعتباره الخمسين أنها كالجمعة، فلا يؤمر بها إلا من يؤمر بالجمعة خاصة. قال الإمام أبو عبد الله: والذي حكاه ابن شعبان من صلاة المرأة في بيتها، واشتراط عجلة المسافر في سقوط صلاة الكسوف، قد يشير إلى خلاف هذا التأويل.

.الباب الرابع عشر: في صلاة الاستسقاء:

وهي سنة عند المحل والجدب لحياة الزرع وغيره، وعند الحاجة لشرب الحيوان: الإنسان والبهائم، كما يحتاج إلى ذلك من كان في صحراء، أو سفينة، أو أهل بلد. وكذلك إذا جاء من الماء ما هو دون الكفاية، وتفعل لتأخير مدد النهر، كما تفعل لتأخير نزول الغيث. ولو تأخر عن طائفة من المسلمين، قال بعض المتأخرين: تستحب لغيرهم أيضا هذه الصلاة، فيستسقي المخصبون للمجدبين. وقال الإمام أبو عبد الله في ذلك: عندي نظر، قال: ولا شك أن دعاء المخصبين للمجذبين مندوب إليه، وأما إقامة سنة صلاة الاستسقاء في مثل هذا، فلم يقم عليه دليل.
ولا بأس بتكريرها إذا تأخرت الإجابة، قال ابن حبيب: ولا بأس أن يستسقى أياما متوالية.
ولا بأس أن يستقى في إبطاء النيل، قال أصبغ: قد فعل ذلك عندنا بمصر خمسة وعشرين يوما متوالية يستقون على سنة الاستسقاء، وحضر ذلك ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون فلم ينكروه.
ويستحب أن يأمر الإمام قبله بالتوبة والإقلاع عن الذنوب والآثام والمظالم، وأن يتحالل الناس بعضهم من بعض مخافة أن تكون معاصيهم سبب منع الغيث، قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}. أيضا فقد تمنع المظالم من إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث الصحيح ويأمرهم بالتقرب الصدقات لعلهم إذا أطعموا فقراءهم أطعمهم الله، فإن الجمع فقراء إليه. وليس من سنته الأمر بصيام قبله، واستحبه ابن حبيب.
ويخرج الإمام بها إلى المصلى فيس ثياب بذلة بسكينة ووقار، متواضعين متخشعين متورعين وجلين. قال بعض العلماء: وذلك لأن العبد الجاني إذا رأى مخائل العقوبة المهلكة من مولاه، لم يأته راغبا في رفع العقوبة والصفح، إلا وأمارة الذل بادية عليه، والخوف آخذ بناصيته.
والمشهور أن إخراج الصبيان والبهائم فيها غير مشروع، وقيل: يخرجون.
وأما النساء فلا خلاف في منع من يخشى من خروجها الفتنة، وأما من لا يخشى ذلك منها، فحكمها حكم الصبيان والبهائم.
وفي إباحة خروج الذمة خلاف، أباحه، في المدونة، ومنعه أشهب في مدونته، ثم إذا قلنا بالإباحة فهل ينفردون بيوم، أو يخرجون مع الناس ويكونون على جانب، خشية أن يسبق قدر بسقيهم، فيفتتن ضعفاء المسلمين بذلك؟ فيه خلاف أيضا. فقال القاضي أبو محمد: لا بأس بانفرادهم، ومنعه ابن حبيب.
وتصلى ركعتين كسائر النوافل، ويجهر فيهما بالقراءة بسبح ونحوها، ثم يخطب كخطبة العيد، ولكن يبدل التكبيرات الاستغفار.
وقيل: يقدم الخطبة على الصلاة، ثم يبالغ في الدعاء في الخطبة الثانية، ويستقبل القبلة فيها، ويحول وداءه تفاؤلا بتحويل حال، فيجعل ما ي لي ظهره إلى السماء، وما على اليمين على اليسار، ولا ينكسه فيجعل أعلاه أسفله.
تم كتاب الصلاة والحمد لله حق حمده، والصلاة على سيدنا محمد وآله.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد.

.كتاب الجنائز:

والنظر فيه يتعلق بآداب المحتضر، وبغسل الميت وتكفينه، وحمل جنازته، والصلاة عليه، ودفنه، والتعزية، والبكاء عليه، فيجري فيه على ترتيب ما يفعل من حين الاحتضار إلى إكمال المواراة.

.القول في آداب المحتضر:

وليوجه على جنبه الأيمن، وصدره إلى القبلة، كما يجعل في لحده، فإن تعذر ذلك فعلى ظهره، وأخمصاه إلى القبلة. وقيل: بل الأولى الصورة الثانية، وفي المجموعة من رواية ابن القاسم في التوجيه، قال: ما أعلمه من الأمر القديم.
قال ابن حبيب: ولا أحب لأهل الميت توجيهه حتى يغلب ويعاين ويوقن بالموت، ومن علامة ذلك إحداد نظره، وإشخاص بصره. قال ابن حبيب: وقد سئل عنه مالك، فقال: إنما أكره أن يفعل ذلك استنانا.
ويلقن المحتضر الشهادة، واختلف في تلاوة سورة يس أو غيرها عنده، فاستحب وكره خوف التحديد، وليكن هو في نفسه حسن الظن بالله تعالى.
ثم إذا مات تغمض عيناه، قل ابن حبيب: ومن السنة إغماض الميت حين يموت، ثم يشتغل بغسله.

.القول في الغسل:

.والنظر في كيفيته، وفي الغاسل:

.أما الكيفية:

فأقله إمرار الماء على جميع جسده وأعضائه مع الدلك، وأما الأكمل، فأن يحمل إلى موضع خال ويوضع على سرير، وينزع قميص الرجل، وتستر عورته، ويحضر ماء طهور بارد أو حار، ثم يبدأ بغسل يديه، ثم ينظفه من أذى إن كان عليه، ولا يفضي بيده إلى عورته إن احتاج ذلك إلا وعليها خرقة. قال في المختصر: إلا لأمر لا بد منه، وقال ابن حبيب: لا يباشر عورته، وإن احتاج إلى ذلك.
ويعصر بطنه عصرا خفيفا ا احتاج إلى ذلك، ثم يتعهد أسنانه ومنخريه بخرقة مبلولة، يم يوضأ على المشهور، ثم يضجع على جنبه الأيسر، فيغسل جنبه الأيمن، ثم يضجع على شقة الأيمن، فيغسل الشق الأيسر، وذلك غسلة واحدة، ثم يفعل ذلك ثلاثا، وفي تكرير الوضوء في كل دفعة خلاف، فإن حصل الإنقاء وغلا فخمس أو سبع.
ثم ينشف. قال محمد بن عبد الحكم: وينجس الثوب الذي ينشف به، وقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصلي فيه حتى يغسل، وكذل كل ما أصابه من مائه. وقال سحنون: لا ينجس الثوب، وهو اختيار القاضي أبو الحسن.
وسبب الخلاف: الاختلاف في نجاسة الميت وطهارته.
ويستعمل السدر في أضعاف الغسل، ولا يسقط الفرض به إذا قلنا: إن الغسل للعبادة، بل لا بد من غسله بالماء القراح يبدأ به، ثم يضاف السدر إلى الماء فيما بعد، فإن لم ي كن، فغسول أو غيره مما ينقي كالحرض وهو الأشنان، وكالنطرون ونحوهما، ثم الكافور في الأخير إن وجد، فإن تعذر فغيره من الطيب، فإن خرجت منه نجاسة بعد الغسل، أزيلت النجاسة ولم يعد.

.النظر الثاني: في الغاسل:

ويجوز للرجال غسل الرجال، وللنساء غسل النساء، وعند اختلاف الجنس، فأما مع الصغر، فقال في المختصر: لا بأس أن تغسل المرأة الصبي ابن ست سنين أو سبع، ولا بأس أن يغسل الرجل الصبية الصغيرة إن احتيج إلى ذلك. وقال ابن حبيب:
يغسل النساء الصبي ابن سبع سنين وما قاربها، ولا يغسل الرجل الصبية بنت سبع سنين ونحوها، إلا الصغيرة جدا، قاله مالك وأصحابه. وروى نحوه في المجموعة في الصبي. وقال أشهب في الصبية: إذا كان يشتهي مثلها فلا يغسلها الرجال، وذلك يتقى منها قبل اتقائه من الصبي. وقال ابن القاسم: لا يغسل التي لم تبلغ، قال عنه ابن مزين: وإن صغرت جدا، وفي سماع ابن وهب: إن مالكا أجاز للنساء غسل الصبي ابن سبع سنين.
وأما مع الكبير فيمنع في الأجنبية فلا يغسلها، ولا تغسله، بل ييممها إلى الكوعين، وتيممه إلى المرفقين، ويجوز في مباحة الوطء إلى حين الموت بعقد نكاح أو بملك يمين، فيغسلها وتغسله، وتستر عورة الميت منها. وأجاز ابن حبيب أن تكون عورته بادية، ويجوز أيضا في ذات المحرم، فيغسلها من فوق الثوب. قال ابن حبيب: ويصب الماء عليها من تحت الثوب ويجافيه لئلا يلتصق بجسدها، فيصف إذا ابتل عورتها، وتغسله هي أيضا من فوق الثوب في رواية موسى عن ابن القاسم.
وفي الكتاب: يغسلنه ويسترنه، قال أبو إسحاق التونسي: وظاهر هذا أنهن يجردنه للغسل، وروي: ييممها وتيممه أحب إلي، وإن غسلنه رجوت سعة.
وقال أشهب: أحب إلي في أمه وأخته أن ييممها، وكذلك المرأة في ابنها، ولو حضر كافر من جنس الميت، فقال مالك: يعلم الكافر من حضر من النساء، والكافرة من حضر من الرجال، ويتولون الغسل. وقال أشهب في المجموعة: لا يلي ذلك كافر ولا كافرة، وإن وصف لهما، ولا يؤتمن على ذلك كافر. وقال سحنون: يدعون الكافر يغسله، وكذلك الكافرة في المسلمة، ثم يحتاطون بالتيمم فيهما.
وفي النوادر: وليس للمسلم غسل زوجته النصرانية، ولا تغسله هي إلا بحضرة المسلمين.
فروع: في الزوجين:
ما تقدم من جواز الغسل بينهما هو حكم النكاح الصحيح اللازم، فأما إن كان فاسدا، فإن كان فساده يقتضي الفسخ إلى حين الموت، فلا غسل بينهما، وإن كان بخلاف ذلك، غسل كل واحد منها صاحبه، وإن أن العقد صحيحا، لكن فيه خيار، فإن كان لظهور عيب فلا يمنع الغسل، وكذلك إن كان لتزويج الأبعد مع وجود الأقعد، وإن كان لعقد غير الولي على ذات القدر مع وجود الولي، فلا غسل بينهما.
واختلف في الرجعية، ففي الكتاب: لا يغسلها، وروى عن ابن القاسم أنه يغسلها، وأنه يحدث بالموت من إباحة الرؤية لها ما لم يكن في حال الحياة لحق الموارثة التي بينه وبينها.
ولو تزوج أخت زوجته، فأجاز ابن القاسم في المجموعة أن يغسلها، ثم كرهه. وقال أشهب: أحب إلي أن لا ي فعل، وقاله ابن حبيب.
وللزوجة أن تغسل زوجها وإن وعضت ما في بطنها وانقضت عدتها. قال ابن الماجشون: إذا وضعت وهي على سريره، فيجوز لها أن تنكح زوجا غيره، ويجوز لها أن تغسله.
وإذا اجتمع جمع يصلحون للغسل، فالبداية بالأزواج، وعند العدم أو الامتناع ينتقل الحق إلى الأولياء على ترتيب الولاية، لكن المشروع أن يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء، وتكون البنت وابنة الابن في حق المرأة كالابن وابنه في حق الرجل، ويجري ذلك على ترتيب الأولياء.
ويقضي بالغسل للزوج إذا طلبه، وفي كتاب محمد: إلحاق الزوجة به في ذلك، وقال سحنون: لا يقضي لها بغسله، فقيل: لأن للزوج تحصينها حية وميتة، وليس ذلك للزوجة.
وقيل: لأن الزوج يجوز له أن يرى زوجته، ولا يجوز لأوليائها رؤيتها، وأولياء الرجل يجوز لهم رؤية وليهم مجردا، فهم أولى منها.
وحكم الزوجين من الرقيق حكم الأحرار، إلا أن استيفاء الحق يقف على إذن السادة.
فروع: في بقايا أحكام الغسل.
ويفعل بالمرحم كما يفعل بالحلال في الغسل والطيب، وكذلك المعتدة هي كغيرها، فلا تصان عن الطيب، ولا يقلم للميت ظفر، ولا يحلق له شعر، ولا يغير في هيئته أصلا.
قال ابن حبيب: ولا يؤخر حمل الميت بغد غسله، فإن تأخر حمله كالغد، لم يعد غسله، قال: ولا بأس عند الوباء وكثرة الموت واشتداد غسل الموتى على الناس لكثرتهم، أن يكتفي في ذلك بالغسلة الواحدة من غير أن يوضأ، ويكتفى بصب الماء صبا.
قال: ولو نزل الأمر الفظيع، فكثر فيه الموتى الذين لا أهل لهم، ولا من يقوم بغسلهم، فلا بأس أن يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم، وأن يجمع منهم النفر في القبر الواحد؛ كذلك قال في أصبغ وغيره من أصحاب مالك.

.القول في التكفين:

والمستحب في لون الكفن البياض، ويجوز غيره، إلا المعصفر ففيه خلاف. قال في المختصر: لا يكفن فيه إلا أن يضطر إليه. وفي المجموعة من رواية علي: لا بأس بذلك للرجال والنساء.
وأما جنسه، فالقطن والكتان، وكل ملبوس جائز لباسه في حال الحياة.
واختلف في الحرير، فمنعه في الكتاب للرجال والنساء، وقال في المختصر: لا يكفن فيه إلا أن يضطر إليه، قال أبو الحسن اللخمي: وأجاز في سماع ابن وهب الحرير للرجال والنساء، وقال: لا أحب ذلك، فإن فعل فواسع. قال: ورأى أن المنع سقط بالموت لأنه حينئذ غير مخاطب، فأشبه لباس الصبيان في حال الحياة. وقال ابن حبيب: يجوز ذلك للنساء، ويمنع للرجال، فأجراهم فيه على حكم الحياة. ونص في الكتاب على كراهية التكفين في الخز.
قال ابن القاسم: وكره الخز لمكان سداه الحرير.
وأما عدده، فأقله ثواب واحد ساتر لجميع الجسد، والثوب الثاني والثالث حق للميت في التركة. قال عيسى في شرح ابن مزين: يجبر الورثة والغرماء على ثلاثة أثواب من مال الميت، وتنفذ وصيته بإسقاطها لأنهما حقه. ووقع لسحنون أنه إذا أوصى بثوب، فزاد بعض الورثة ثانيا، فلا ضمان عليه إن كان في المال محمل له، وليس للورثة المضايقة فيهما ولا للغرماء المنع منهما وغن استغرق الدين ماله.
قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا يشعر بأن الاقتصار على الثوب الواحد منهي عنه.
قال ابن سحنون عن أبيه في غريب لا يعرف له أهل، مات عن دينار أو دينارين، قال: لا بأس في مثل هذا اليسير أن يجعل كله في كفنه وحنوطه وقبره.
فرع:
لو كفن ثم سرق كفنه بعد دفنه، فقال أصبغ: لا يلزم ورثته تكفينه ثانية في بقية ماله، إلا أن يشاءوا، أو يحتسب في ذلك محتسب. قال ابن سحنون: فإن وجد الكفن الأول بعد أن دفن فهو ميراث. وقال ابن القاسم: على ورثته أن يكفنوه من فيه بقية تركته، وإن كان عليه دين محيط، فالكفن الثاني أولى.
وقال سحنون: إن قسم ماله فليس ذلك على ورثته، فإن كان قد أوصى بثلثه، فلا يكفن من ثلث ولا غيره. قال عنه ابنه: إلا أن يكون ذلك بحدثان دفنه، ولم يقسم ماله بعد، فليكفن ثانية من رأس ماله.
ومن لا مال له يكفن من بيت المال، فإن لم يكن بيت مال، فكفنه على كافة المسلمين.
وهل يلزم تكفينه من كانت نفقته لازمة له قبل الانتقال إلى بيت المال أم لا؟ أما السيد فليزمه، وفي كل واحد من الولد والوالد قولان: الإلزام لابن القاسم وابن الماجشون، ونفيه لأصبغ. واختلف في ذلك قول سحنون، فقال مرة: ذلك على الأب في ابنه الصغير وابنته البكر، وقال مرة: ليس ذلك عليه، وقال أيضا: استحسن ذلك في الولد، أما الأبوان فلا شيء عليه فيهما.
واختلف في الزوجة، فقال مالك في العتبية: إن كانت موسرة فمن مالها، وإن كانت معسرة فعلى الزوج. وقال ابن القاسم وسحنون: لا شيء على الزوج بحال، وقال في الواضحة: يقضي على الزوج بتكفينها، وغن كانت موسرة.
والزيادة على الثلاثة إلى الخمسة مستحسنة للرجال والنساء، وهي في حقهن آكد.
والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف.
ولو أوصى بسرف في عدد الكفن أو جنسه، أو في الحنوط أو غيره، كان السداد في رأس المال، واختلفت الرواية في الزائد هل يسقط أو يلزم من الثلث؟
ثم إذا كفن في خمسة فعمامة وقميص ومئزر ولفافتان، واستحب أن يشد على المئزر بعصائب من حقويها إلى ركبتيها، وإن كفنت في ثلاثة، فكالرجل.
ثم يذر على كل لفاطة حنوط، ويوضع الميت عليه، ويلصق بجميع منافذ البدن من المنخرين والأذنين والعينين وشبه ذلك قطنة عليها كافور، ثم يلف الكفن عليه، بعد أن يبخر بالعود أن تيسر، ويشد الكفن من عند رأسه ورجليه، وقيل: يخاط، ثم يحل ذلك عند الدفن، ثم تحمل الجنازة.
قال ابن القاسم: ولا يترك ستر المرأة بقبة في سفر أو حضر إذا أمكن.
والمشي أمام الجنازة أفضل، وفضل الراكب وراءها، وقيل بالتقديم للماشي والراكب.
وقيل: بالتأخر لهما، وهما شاذان، والإسراع بها أولى.
قال في الكتاب: ولا بأس أن تتبع المرأة جنازة ولدها ووالدها وزوجها وأخيها إذا كان ذلك مما ي يعرف أنه يخرج مثلها على مثله، وإن كانت شابه، ويكره لها الخروج على غير هؤلاء ممن لا ينكر لها الخروج عليهم من قرابتها.
وقال ابن حبيب: يكره خروج النساء في الجنائز، وإن كن غير نوائح ولا بواكي، في جنائز أهل الخاصة من ذوي القرابة وغيرهم. وينبغي للإمام أن يمنعهن من ذلك، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرد امرأة رآها في جنازة فطردت حتى لم يرها. وقال لنساء رآهن في جنازة: أتحملنه فيمن يحمله؟ قلن: لا، قال: أفتدخلنه قبره فيمن يدخله؟ قلن: لا، قال: أفتحثين عليه التراب فيمن يحي عليه؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات.
قال: وكان مسروق يحثي في وجوههن التراب ويطردهن، فإن رجعهن وإلا رجع.
وكان الحسن يطردهن، وإذا لم يرجعن لم يرجعن ويقول: ذلك ندع حقا لباطل. وقال انخعي: كانوا إذا خرجوا بالجنائز غلقوا الأبواب على النساء، وقال ابن عمر: ليس للنساء في الجنائز نصيب.

.القول في الصلاة:

وهي فرض على الكفاية، وقال أصبغ: هي سنة، ومال إليه الشيخ أبو الحسن تنزيلا على المذهب.

.ثم النظر في أربعة أطراف:

.الأول: فيمن يصلي عليه:

وهو كل ميت مسلم، ليس بشهيد.
والاحتراز بالميت عن عضو الآدمي، فإن لا يصلي عليه. قال ابن حبيب: إلا أن يعلم موت صاحبه، فيصلي عليه، وينوي به الجميع.
واختلف في الصلاة على نصف الجسد أو أقله، فأما لو وجد أكثره لصلي عليه. وذكر الشيخ أبو الطاهر في هذه الصورة نفي الخلاف في المذهب، إلا ما عند ابن حبيب أنه إذا كان الجسد مقطعا فلا يصلي عليه، وعلل بأن الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل، وهذا لا يمكن غسله.
ولا يصلى على السقط الذي لم يستهل صارخا، ولا دلت أمارة على حياته، ولا يغسل، ولكن يواري بخرقة ويدفن. فإن دلت أمارة على حياته من صراخ أو ارتضاع أو دوام الحركة أياما، أو وجود الإحساس، وشبه ذلك، فهو كالكبير.
واحترزنا بالمسلم عن الكافر، فإنه لا يصلى عليه ذميا كان أو حربيا، لكن يوارى الذمي ويدفن وفاء بذمته إذا خشي عليه أن يضيع، ولم يوجد أحد من أهل دينه.
وكذلك لو كان له نسيب مسلم، فإنه يخلى بينه وبينهم، فإن لم يجد من يكفنه لفه في شيء وواراه، ولا يغسله، ولا يصلي عليه. قال ابن حبيب: إلا أن يكون ممن يلزمه أمره، مثل الأم النصرانية أو الأب أو الأخ النصرانيين، فلا بأس أن يحضره ويلي أمره وكفنه حتى يخرجه ويبوء به إلى أهل دينه، فإن كفي دفنه ولم يخش الضيعة عليه فلا يتبعه، وإن خشي ذلك فليتقدم أما من جنازته ليسبقهم إلى قبره، وإن لم يخش الضيعة، إلا أن أحب أن يصحب جنازته ويحضر دفنه، مثل أن تكون أمه فيجد لها، ويحب برها، فلا بأس أن يمشي أمام جنازتها معتزلا منها وممن يحملها من أهل دينها.
ولو اقتتل المسلمون والمشركون ولم يتميزوا، فحكى القاضي أبو الحسنه عن أبي التمام: أنه يصلى عليهم وينوي المسلمون.
أما الشهيد فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه، ويستحب أن يترك عليه خفاه وقلنسوته. قال أشهب كلا يغسل وإن كان جنبا. وقال سحنون: إن كان جنبا غسل.
قال ابن حبيب: ولا ينزع عن الشهيد شيء، إلا السلام ما كان من درع أو مغفر أو بيضة أو ساعد أو سيف هو متقلده أو منقطة أو مهاميز، أو ما كان من الحديد كله. فأما الثياب والعمامة والقباء والسراويل والمدرعة وشبهها، فلا ينزع عنه شيء من ذلك، وهو ما اجتمع عليه من علمت أهل العلم.
واختلفوا في القلنسوة والخف والفرو والجبة.
والشهيد: من مات بسبب القتال مع الكفار في وقت قيام القتال، فإن رفع من المعترك حيا ثم مات، فالمشهور من قول ابن القاسم أنه يغسل ويصلى عليه، إلا أن يكون لم يبق فيه إلا ما يكون من غمرة الموت، ولا يأكل، ولم يشرب. وقال سحنون: إن كان على حال يقتل قاتله بغير قسامة، فهو في معنى الميت في المعترك، وإن كان لا يقتل قاتله إلا بقسامة غسل وصلي عليه.
قال ابن وهب وأشهب: وسواء كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، أو غزا الكفار المسلمين. وقال ابن القاسم بتخصيص حكم الشهادة في تكر الغسل والصلاة بما إذا غزا المسلمون.
قال أشهب: إلا أن يدفعوا عن أنفسهم أو يقتلوهم نياما أو بعد الأسر، فيغسلون ويصلى عليهم. وقال سحنون وأصبغ: ذلك سواء، لا يغسلون، ولا يصلى عليهم.
وهذه الحالة التي وقع الخلاف فيها هي كانت حال عمر رضي الله عنه.
وأما القتيل ظلما من مسلم أو باع، أو المبطون والغريق، وسائر من ذكر معهم، فيغسلون ويصلى عليهم.
وكذا القتيل بالحق قصاصا أو حدا، إذ ليس بشهيد، وتارك الصلاة يصلى عليه.
وقاطع الطريق المحارب إن قلن: إنه يقتل أولا، فيغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، وإن رأى الإمام أن يصلبه حيا، فقال سحنون: ينزل فيغسل ويصلى عليه ويدفن، وقيل: يصف تلقاء خشبته ويصلى عليه.

.الطرف الثاني: فيمن يصلي:

والنظر في صفة الإمام، وموقفه:
أما الصفة، فالأولى بالصلاة وصي الميت إذا قصد بذلك الرغبة في الصلاح دون مراغمة الولي، ثم الوالي والي المصري، وصاحب الشرط إذا كانت الصلاة إليه، والقاضي إذا كان هو يلي الصلاة. وقال ابن حبيب: الوالي، إن حضر، إذا كان الذي تؤدي إليه الطاعة، قال ابن حبيب: وليس ذلك لغيره ممن دونه من ولاته وقضاته وصاحب شرطته ولا غيرهم، وإن كانت الصلاة إليهم، قال: وقد كان ابن القاسم يقول: إن ذلك لكل من كانت الخطبة إليه، فسألت عن ذلك مطرفا وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ بن الفرج، فكلهم، قال: ليس للقاضي وإن كانت الصلاة إليه، ولا لصاحب الشرط الموكل بالصلاة، ولا لخليفته، ولا لخليفة الوالي الأكبر على الصلاة، ولا لأئمة المساجد، أهل خطبة كانوا أو غيرهم، من الصلاة على الجنائز قليل ولا كثير، وإنما جاءت السنة في الأمير المؤمن الذين تؤدي الطاعة إليه إذا شهد الجنازة أنه أولى بالصلاة عليها من الأولياء.
فإنه كان الميت قتله الإمام في حد، فلا يصلي هو عليه، ولكن يصلي عليه الناس دونه. وقال محمد بن عبد الحكم: بل يصلي عليه الإمام.
ثم الأولياء العصبة على مراتبهم، الابن ثم ابنه، ثم الأب، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ للأب، ثم الجد، ثم العم ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب.
فإن لم تكن عصبة، فمولى النعمة، فإن لم يكن فأحد صالحي المؤمنين، وإذا تعارض السن والفقه، فالفقيه أولى.
فأما الموقف، فليقم الإمام وراء الجنازة عند وسط الرجل، وعند منكب المرأة خشية من تذكر ما يفسد الصلاة. وقيل: يقف عند وسطها كالرجل، لأنه أستر لها عمن وراءه.
وإذا اجتمعت الجنائز، فيجوز أن تفرد كل واحدة بالصلاة، وأن يصلى على جميعها صلاة واحدة، ثم يتخير إن كانوا جنسا واحدا بين جعلهم صفا أفضلهم بين يديه، ويليه من الجانبين من يليه في الفضل، وبين أن يرتبهم كما يرتب مختلفي الأجناس، وهو أن يجعل أفضلهم بين يديه، ثم من يليه في الفضل يليه إلى القبلة، وفي الأجناس يقرب الرجل من الإمام، ثم يليه الصبي، ثم العيد، ثم الخنثى، ثم المرأة، ثم الصغيرة، ثم الأمة، ويجعل أفضل الرجال مما يلي الإمام، ويقدم الخصال الدينية التي ترغب في الصلاة عليه، إن استووا، قدم بالسن، فإن استووا قدم بالقرعة أو التراضي.
فرعان:
الأول: لو جيء بجنازة في أضعاف الصلاة على أخرى، لم تدخل في صلاة الأولى، بل تؤتنف الصلاة عليها بعد الفراغ من الأولى.
الثاني: لو ماتت النفساء ومنفوسها حمل معها في نعشها، فإن كان استهل جعل على يسارها مما يلي الإمام ليصلي عليهما، وإن كان لم يستهل وضع على يمينها أو ناحية من النعش، وتكون الأم إلى الإمام، وتخص بالصلاة والدعاء.
ولا بأس أن يدفن معها في قبرها في اللحد، أو في ناحية من القبر، واستهل أو لم يستهل، وإن شاءوا جعلوه في قبر على حدة.
قال ابن حبيبك وقد أخبرنا ابن الماجشون أن أم كلثوم بنت على امرأة عمر بن الخطاب مات هي وابنها زيد بن عمر في فور واحد، ولم يدر أيهما مات قبل، فكان فيهما ثلاث سنن لم يورث واحد منهما من صاحبه، وحملا جميعا معا، فلما وضعا للصلاة، جعل الغلام مما يلي الإمام، وقال حسين بن علي لعبد الله بن عمر: تقدم فصل عليهما، حين كان ابن عمر ولي الصلاة على أخيه، فكان أولى بذلك حين اجتمعا جميعا.

.الطرف الثالث: في كيفية الصلاة.

وأقلها أربعة أركان: النية، والتكبيرات الأربع، والسلام، والدعاء للميت.
وزاد أشهب قراءة الفاتحة عقب التكبيرة الأولى.
ولو زاد تكبيرة خامسة لم تبطل الصلاة، ثم قيل: ينتظر حتى يسلم، فيسلم المأمون معه، و قيل: يسلمون ولا ينتظرونه؛ لأن هذه التكبيرة صارت شعارا لأهل التشيع، فيجب أن تحمى الذرائع في موافقتهم.
ولا ترفع الأيدي في غير الأولى، وروى ابن وهب أنه قال: يعجبني أن ترفع اليدان في التكبيرات الأربع، واختاره ابن حبيب، ثم قال: وكان مطرف وابن الماجشون وأصبغ يرون أن ترفع الأيدي في أول تكبيرة من غير كراهة للرفع فيها كلها، قال: وكان ابن القاسم لا يرفع يديه في شيء منها، لا في الأولى، ولا في غيرها، قال: ولا يعجبني ذلك.
فأما الأكمل: فإن يحمد الله تعالى، ثم يصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو للمؤمنين سبحانه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إلا أنت، وأن محمد عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنهن اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده.
وهذا هو الذي خرجه في موطئه عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
ولا يجهر بالدعاء ليلا كان أو نهارا، وفي الدعاء بعد الرابعة قبل السلام خلاف.
فرع:
إذا أدرك المسبوق الإمام في تكبيرة دخل معه بلا خلاف، وفي دخوله معه في غير حالة التكبير روايتان، إحداهما: أنه لا يكبر، بل يقف حتى يكبر الإمام، رواها ابن القاسم وابن الماجشون: وقال بها، وأخذ بها أصبغ. والرواية الأخرى أنه يكبر، ويدخل معه، رواها مطرف وأشهب، وقالا بها، واختارها ابن حبيب.
ثم إذا سلم الإمام تدارك ما فاته معه على نحو ما فعل الإمام إن تركت له الجنازة، وإن رفعت أتى بما فاته من التكبير نسقا متتابعا.

.الطرف الرابع: في شرائط الصلاة.

وهي كسائر الصلوات فيها.
ولا يصلى عليها بالتيمم إلا في الموضع الذي تجوز فيه الصلاة بالتيمم، وقال ابن وهب:
إذا خشي فواتها إن اشتغل بالتماس تيمم وصلى عليها. وقال ابن حبيب: الأمر فيه واسع إن شاء الله، وما علمت أحدا ممن مضى كرهه إلا مالك.
ولا تشترط الجماعة فيها.
ويشترط حضور الجنازة، فلا يصلى على غائب، وقال ابن حبيب: يصلى على من أكلته السباع أو غرق.
ويشترط أيضا ظهور الميت، فلا يصلى على المدفون في المشهور. وروي أنه يصلى على القبر، هذا في حق من صلى عليه.
فأما من دفن بغير صلاة، أو بصلاة ناقصة، ففي المبسوط عن مالك: لا ينبش، ولا يصلي على قبره، ولكن يدعون له، وقاله سحنون. وقال ابن وهب ويحيى بن يحيى: لا يخرج أو قرب، ويصلي على قبره. وقال سحنون أيضا: يخرج للصلاة عليه ما لم يخف في إخراجه ضرر أو طول تغير. وقال ابن وهب: لا يخرج وإن لم يخش تغيره، وروي عن ابن القاسم في العتبية. وقيل: يخرج إلا أن يطول.
فروع: لو صلى على الميت ونعشه منكوس، رأسه مكان رجليه، لم تعد الصلاة عليه.
ولو ذكر إمام الجنازة أنه جنب، فحكمه حكم إمام المكتوبة، إن ذكر قبل الفراغ استخلف، وإن ذكر بعده فلا تعاد، وإن لم ترفع الجنازة، ولو ذكر صلاة نسيها مضى في صلاته، ولم يعد. قاله ابن القاسم وابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب.

.القول في الدفن:

ولا بد من حفرة تحرس الميت عن السباع، وتكتم رائحته.
قال ابن حبيب: يستحب أن لا يعمق القبر جدا، وأن يكون عمقه على قدر عظم الذراع فقط، قال: وقد بلغني عن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة قال: احفروا لي ولا تعمقوا؛ فإن خير الأرض أعلاها، وشرها أسلفها.
وفي المبسوط عن مالك: لم يبلغني في عمق حفرة الميت شيء موقوف عليه، وأحب ذلك إلى أن تكون مقتصدة، لا عميقة جدا، ولا قريبة من أعلى الأرض جدا.
واللحد أفضل من الشق مع القدرة عليه، وليكن في جهة القبلة.
قال ابن حبيب: ولا بأس أن يدخل الميت قبره من ناحية القبلة، أو من ناحية الشرق، قال: ومن ناحية القبلة أحب إلي، لأنه أمكن وأهنأ وأيسر على من تولاه. وفي المبسوط: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من نحو رأس القبر أو رجليه أو وسطه.
ويضع الميت في قبره الرجال، فإن كانت امرأة، فيتولى ذلك زوجها من أسلفها، ومحارمها من أعلاها، فإن لم يكن فصالح المؤمنين، إلا أن يوجد من القواعد من لهن قوة على ذلك، ولا مضرة عليهن فيه، ولا كشف عورة، فهن أولى به من الأجانب. وليستر عليها بثوب حتى توارى في لحدها، وليس لعدد من يلي ذلك حد من شفع أو وتر.
ثم يضجع الميت على جنبه الأيمن في اللحد مستقبل القبلة، وتمد يده اليمنى مع جسده، وتحل العقد من عند رأسه ورجليه، ويعدل رأسه بالتراب لئلا يتصوب، وكذلك رجلاه بحيث لا ينكب ولا يستلقي، ويرفق به في ذلك كله كأنه حي.
واستحب أشهب أن يقال عند وضعه في اللحد: باسم الله وعلى ملة رسول الله، اللهم تقبله بأحسن قبول، قال: وإن دعا له بغير ذلك فحسن وإن ترك ذلك فواسع.
ثم تنضد اللبن على فتح اللحد، وتسد الفرج بما يمنع التراب، قال ابن حبيب: أفضل ما سد به اللبن، ثم اللوح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، كل ذلك أفضل من سن التراب. وسن التراب أفضل من التابوت، قال: يحثي كل من دنا حثيات، وروى سحنون أن ذلك غير مستحب، ثم يهال التراب عليه.
ولا يرفع القبر إلا بقدر شبر، ولا يجصص، ولا يطين، ولا بأس بالحصى، ووضع الحجر على رأس القبر. قال أشهب: ويسنم القبر أحب إلي، وإن رفع فلا بأس. و قال محمد بن مسلمة: لا بأس، قال: وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مسنمة.
وقا الشيخ أبو القاسم: تسطح ولا تسنم، ويرفع من الأرض قليلا بقدر ما يعرف به.
والأفضل لمشيع الجنازة أن يمكث إلى موارة الميت، وأن لا ينصرف بعد ذلك إلا بإذن أهله ما لم يطل ذلك عليه ويتضرر به، فينصرف نم يغر إذنهم.
فروع:
لا يدفن في قبر واحد ميتان إلا لحاجة، ثم يرتبون إلى اللحد بالفضيلة كترتيبهم إلى الإمام في الصلاة.
والقبر محترم، فلا ينبغي أن يمشى عليه إذا كان مسنما والطريق دونه، فأما إذا عفا فواسع.
ولا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور، ولا تزاح عن موضعها، ومن وافق قبرا عند حفره فليذره وليرد عليه ترابه، ولا يزاد من قبر على قبر، وليتوق كسر شيء من عظامه، ولا ينبش القبر إلا إذا كان هو أو شيء من الكفن مغصوبا وشح فيه ربه، أو نسي معه مال في القبر، ولو دفن بغير غسل أخرج إن كان قريبا، وقيل: لا يخرج.
قال ابن حبيبك ولو وضع الميت على شقة الأيسر، أو ألحدوه على غير قبلة، أو ألحدوه منكسا، رجلاه موضع رأسه، فإن عثر عليه بحدثان دفنه، وقبل أن يخاف التغيير عليه حول، وإن لم يعلم ذلك حتى طال أمره وخفيف عله التغيير ترك، قال: وقاله ابن القاسم وأصبغ.
ولا يبقر عن جنين الميتة وإن اضطرب، وقال سحنون: إن طمع بالحياة بقر عليه، قال: وكذلك على دنانير في بطن الميت، قال ابن حبيب: لا يبقر على شيء من ذلك. قال القاضي أبو محمد: يجب أن يكون على اختلاف حالين: لا على اختلاف المذهبين، فيكون قوله: لا يبقر وإن اضطرب إذا لم يطمع له بحياة، ويكون قول سحنون مفسرا له، قال: ويمكن حمله على ظاهره، إلا أن الأول أظهر. وروى ابن نافع في المبسوط: أن النساء إن استطعن أن يعالجنه فيخرجنه من مخرجه فعلن، ولم يبلغن أن أحدا شق بطن امرأة على هذا الحال ليخرج الولد، وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت بمصر رجلا مبقورا على رمكة مبقورة.
ومن مات في البحر غسل وكفن وصلي عليه، وانتظر به البر إن طمع في إدراكه في ذلك اليوم وشبهه ليدفنوه به، وإن كان البر بعيدا، أو خافوا عليه التغير رمى في البحر مستقبل القبلة، محرفا على شقه الأيمن. قال ابن حبيب: ولتشد عليه أكفانه، قال ابن القاسم وأصبغ: ولا يثقلوا رجله بشيء ليغرق كما يفعل من لا يعرف، وقال سحنون: يثقل بشيء إن قدروا، واحتج من لم ير التثقيل بأنه ربما ألقاه البحر إلى الساحل فيدفنه المسلمون، وفلي تثقيله قطع لما يرجى له من الدفن.
قال الإمام أبو عبد الله: وأما نقل الميت من بلد إلى بلد، فظاهر مذهبنا جوازه. وقال مالك: لا بأس أن يحمل الميت إلى المصر فيدفن فيه إذا كان مكانا قريبا. وقال ابن حبيب: ولا بأس أن يحمل من البادية إلى الحاضرة، ومن موضع إلى موضع آخر يدفن فيه، وقد مات سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بالعقيق فحملا إلى المدينة.

.القول في التعزية، والبكاء على الميت:

والتعزية سنة، وهي الحمل على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب.
وذكر ابن حبيب ألفاظا في التعزية عن جماعة من السلف، ثم قال: والقول في ذلك واسع، إنما هو على قدر منطق الرجل، وما يحضره في ذلك من القول، قال: وقد استحسنت أن أقول: عظم الله أجرك على مصيبتك، وأحسن عزاءك عنها، وعقباك منها، وغفر لميتك ورحمه، وجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج منه.
ويستحب تهيئة طعام لأهل الميت ما لم يكن اجتماعهن للنياحة وشبهها.
والبكاء جائز من غير نياحة وندب، ومن غير جزع وضرب خد وشق ثوب، فذلك حرام.
ولا يعذب الميت بنياحة أهله عليه، إلا إذا أوصى، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

.باب تارك الصلاة:

ومن ترك الصلاة واحدة، و امتنع من فعلها حتى لا يبقى من الوقت الضروري إلا ركعة واحدة أخذ بفعلها حينئذ، فإن فعلها وإلا قتل.
وحكى ابن خويز منداد قولين آخرين، أحدهما: أنه يأخذ بفعلها إذا خاف فوات الوقت الاختياري، وهو بعيد جدا، ثم يقتل حدا لا كفرا.
قال القاضي أبو بكر: قال متأخروا علمائنا: لا يقتل ضربة بالسيف، ولكنه ينخس بالحديد حتى تفيض نفسه، أو يقوم بالحق الذي عليه من فعلها، ثم قال: وبهذا أقول، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين كما يدفن سائرهم، ولا يطمس قبره.
ورأى ابن حبيب أنه يقتل كفرا، وإن كان مقرا بالوجوب إذا تركت تهاونا، وقال: لا أصلي، قال: فأما إن قال: أصلي ولم يفعل، فلا يقتل أصلا.
فأما لو تركها جاحدا لوجوبها لكان كافرا، وحكم في بحك المرتد، والله أعلم.
تم كتاب الجنائز والحمد لله، وبه تم كتاب الصلاة.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

.كتاب الزكاة:

وهي بالإضافة إلى متعلقاتها سنة أنواع: زكاة النعم، والنقدين، والتجارة، والمعشرات، والمعادن، والفطر.

.النوع الأول: زكاة النعم:

والنظر في وجوبها وأدائها:
أما الوجوب فله ثلاثة أركان:
الأول: قدر الواجب:
وسيأتي بيانه.
الثاني: ما تجب فيه:
وهو المال، وله خمسة شروط:
أن يكون نعما، نصابا، حال عليها الحول، لم يزل ملكه عنها في أضعافه، على خلاف وتفصيل في هذا الشرط، وأن يكون الملك كاملا غير ضعيف.
الشرط الأول: أن يكون نعما، فلا زكاة إلا في الإبل والبقر والغنم، ولا تجب في غيرها من الخيل والبغال والحمير والرقيق وغير ذلك، ولا في المتولد من الظباء والغنم.
وفرق القاضي أبو الحسن بين أن تكون الأمهات من الغنم فتجب، أو من غيرها فلا تجب. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الزكاة مطلقا، وحكى الأستاذ أبو بكر اتفاق الأئمة الثلاثة على إسقاط الزكاة من المتولد من فحول الغنم وإناث الظباء.
الشرط الثاني: أن تكون النعم نصابا.
أما الإبل ففي أربع وعشرين فما دونها الغنم، ففي كل خمس شاة.
فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت محاض أنثى، فإن لم تكن في ماله، فالبن لبون ذكر.
فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون.
فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة.
فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة.
فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين، ففيها بنتا لبون.
فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان.
فما زاد ففي كل أربعين لبنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
وكل ذلك لفظ أبي بكر رضي الله عنه في كتاب الصدقة.
ويتغير الفرض بزيادة عشر، وفي تغيره بزيادة دونها روايتان، وبعدم التغير قال أشهب.
وإذا فرعنا على الرواية الأخرى بوجود التغير، ففي كيفيته خلاف. قال ابن القاسم: يتغير إلى ثلاث بنات لبون، وقال مالك: يتغير إلى التخيير بينها وبين الحقين، كان في الإبل أحد السنين أو لم يكن. وروي في المجموعة: لا يتخير إلا إذا اجتمعا في المال.
وبنت مخاض: هي التي دخلت في السنة الثانية إلى استكمالها، وولد اللبون: هو الذي قد دخل في السنة الثالثة. والحقة: هي التي قد دخلت في الرابعة. والجذعة: هي التي دخلت في الخامسة.
وأما البقر، ففي ثلاثين منها تبيع جذع أو جذعة. قال القاضي أبو محمد: وهو الذي دخل في السنة الثانية. وقال ابن حبيب: هو ابن ستين. وقال ابن نافع في المجموعة: هو ما أو في سنتين، ودخل في الثالثة.
وفي أربعين مسنة لا تؤخذ إلا أنثى، وهي التي لها ثلاث سنين، قيل: ما أكملتها. وقيل: ما دخلت في الرابعة. وقال القاضي أبو محمد: سنها أربع سنين.
ثم في ستين تبيعان.
ثم يستقر الحساب، ففي كل ثلاثين تبيع، و في كل أربعين مسنة إلى مائة وعشرين، فيكون حكمها حكم المائتين من الإبل، وسيأتي.
وأما الغنم ففي أربعين شاة شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وشاة ثلاث شياه، وفي أربع مائة أربع شياه، وما بينهما أو قاص، ثم استقر الحساب، ففي كل مائة شاة.
واختلف في صفة الشاة الواجبة في الغنم والإبل، فقال ابن القاسم وأشهب: يجزي الجذع والثني من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى. وقال القاضي أبو الحسن: لا يجزي إلا الأنثى، لكن تجزي جذعة كانت أو ثنية من المعز أو من الضأن. وقال ابن حبيب: حكمها حكم الضحية، لا يجزي فيها إلا الجذع من الضأن ذكرا كان أو أنثى، والثني من المعز، إلا أن يكون تيسا. قال الشيخ أبو محمد: وليس بقول مالك وأصحابه فيما علمناه.
فرع:
واختلف في سن الجذع، فقال أشهب وبان نافع وعلي بن زياد وابن حبيب: هو ما له سنة. وقال ابن وهب: هو ابن عشرة أشهر. وقيل: ابن ثمانية أشهر. وروي عن سحنون عن علي: أنه ابن ستة أشهر. والتحاكم في ذلك إلى أهل اللغة، والأول أشهر عندهم.
وأما الثني فما دخل في السنة الثانية.
ثم يتصدى النظر في زكاة الإبل في خمسة مواضع.
الأول: في إخراج الشاة عن الإبل.
والعبرة في تعيين الضأن أو المعز بحال غنم البلد، وقال في كتاب ابن سحنون: يعتبر بحال المالك إذا كان مخالفا غنم البلد.
ولو أخرج بعيرا عن خمسة أبعرة بدلا من الشاة الواجبة فيها، فأطلق القاضيان أبو الوليد وأبو بكر القول بأنه لا تجزيه. وقال أبو الطيب عبد المنعم القروي: من أصحابنا من أباه، وليس بشيء لأنه مواساة من جنس المال فأكثر مما وجب عليه.
النظر الثاني: في العدول إلى ابن لبون.
فمن وجب عليه بنت مخاض، فلم تكن في ماله أخذ ابن لبون، فإن لم يكونا في ماله كلف ابنة مخاض.
فإن أراد رب المال أن يدفع ابن لبون ذكرا إذا لم توجد في المال بنت مخاض ولا ابن لبون ذكر، فقال ابن القاسم في الكتاب: ذلك إلى الساعي إن أراد أخذه، وإلا لزمه بنت مخاض. ليس له أن يمتنع من ذلك.
ولو كان في ماله ابنة معيبة لا تجزئ، فهي كالمعدومة.
ولا يؤخذ الحق بدلا عن بنت لبون عند فقدها، كما يؤخذ ابن لبون بدلا عن بنت مخاض.
النظر الثالث: إذا ملك مائتين من الإبل، فإن كان في ماله أحد السنين أخذ منه الموجود، وإن وجدا أو فقدا تخير الساعي. قال محمد: يتخير الساعي إذا وجد السنين، إلا أن تكون أربع الحقاق فيها قوام رب الإبل ومصلحته فيضر به. وقد قال ابن وهب: الساعي بالخيار ما لم يضر برب الإبل، وقيل: يخير رب المال مطلقا، وذكر عن ابن القاسم: أنها إن خلت من السنين إن ما أتاه به ربها منها فليقبله.
قال أصبغ: وليس هذا بشيء، والساعي مخير.
النظر الرابع: في الجبران.
فإن أعطى سنا أعلى، وأخذ عوضا، أو أعطى سنا أدنى وعوضا، فقال أصبغ بعدم الجواز والإجزاء، إلا إذا رد ما أخذ مع الأعلى وأبقاه، فيجزيه. قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا مع فوات المأخوذ، وأما إن كان قائما فليسترده على هذا القول، ويخرج القدر الواجب. وروي في مختصر ما ليس في المختصر إثباتهما، وقال ابن القاسم وأشهب في المجموعة بنفي الجواز وإثبات الإجزاء.
فرع:
حيث قلنا بالإجزاء، فلا يراعى في ذلك بدل معين في جنس أو مقدار، بل المقصود حفظ حق المساكين.
النظر الخامس: في صفة المخرج من حيث النقصان والكمال.
النقصان أربعة.
الأول: المرض أو العيب.
فإن كان المال كله مرضى أو ذات عوار، فلا يأخذ منها. وقيل: يأخذ.
الثاني: الذكورة.
فلو كان ماله ذكورا، لم يؤخذ منه إلا الأنثى، ويستثنى من ذلك ابن اللبون في الإبل بدلا، كما تقدم، والتبيع في البقر، وما ذكر في الغنم على الخلاف.
الثالث: الصغر.
فلو كان في المال صغار وكبار، لم يؤخذ من الصغار. ولو كان الكل صغارا، لم يؤخذ منها أيضا على المشهور. وقال محمد بن عبد الحكم في جميع هذه الأصناف التي تقدم ذكرها، وفي السخال: لولا خلاف أصحابنا لكان بينا أن يؤخذ منها واحد من أوساطها، ولا يكون عليه ثنية ولا جذعة، واعتذر عن قول عمر رضي الله عنه بأنه خرج على الغالب.
الرابع: رداءة النوع.
فإن كان الكل معزا أخذ منها، وإن اجتمع الضأن والمعز، فإن كان الواجب شاة واحدة، فإن استوى النوعان تخير الساعي بينهما، وإن اختلفا أخذها من الأكثر.
وإن كان الواجب أكثر من شاة، وجبت شاة في الأكثر، ثم نظر فيما بقي منه مع جملة الأقل، فإن كان أكثر من الأقل، والأقل مقصر عن النصاب، مثل أن تكون له مائة وعشرون ضائنة وثلاثون معزة، أخذت الشاة الأخرى من الأكثر أيضا، وإن كان الأقل أكثر من الباقي، وكان نصابا، مثل أن يكون له تسعون ضائنة وسبعون معزة، أخذت الأخرى منه، وإن كان الباقي أقل من أو قل، والأقل مقصر عن النصاب، مثل أن يكون له أربعون من الجواميس، وعشرون من البقر، فعليه تبيع من الجواميس، وتبيع من البقر؛ لأن ما يجب فيه التبيع الثاني البقر فيه أكثر من الجواميس. وإن كان الباقي أكثر من الأقل، وفي الأقل نصاب، مثل أن تكون له مائة وعشرون من الضأن، وأربعون من المعز، أخذت من الأقل عند ابن القاسم. وقال سحنون: تؤخذ من الباقي.
فرع:
كل ما قلناه فيه: لا يأخذ المصدق لنقصه، فله أخذه إذا رآه نظرا للمساكين. وحكى القاضي أبو الوليد عن القاضي أبي الحسن: إن ذات العيب لا تجزئ، وإن كانت قيمتها أكثر من قيمة السليمة. قال: ومذهب مالك أنها تجزئ إذا كانت أفضل للمساكين من السليمة، هذا بيان النصاب، ولا زكاة فيما دونه، ولو تم بالخلطة نصابا.

.ولنذكر صدقة الخلطاء:

والنظر فيها في أربعة فصول:

.الأول: في حكم الخلطة وشرطها.

وحكم الخلطة: تنزيل المالين منزلة مال واحد بعد حصول النصاب في كل واحد منهما، أو في ملك مالكه.
فلو خلط أربعين بأربعين لغيره، ففي الكل شاة واحدة، ولو خلط عشرين بعشرين لغيره، فلا شيء فيها بمفردها.
ثم قد يفيد ذلك تقليلا كمن خلط أربعين بأربعين، فلا يلزمه إلا نصف شاة، وقد تفيد تثقيلا، كمن خلط مائة وشاة بمائة شاة، فيلزمه شاة ونصف.
وشروط الخلطة ثلاثة:
الأول: اتحاد المراعى والفحل والدلو والمراح والمبيت، أو أكثرها. وقيل: الراعي والمرعى، وقيل: اتحاذ اثنين منها، أي اثنين كانا، وهو وقل الشيخ أبي بكر، وعلل بأن اسم الخلطة يحصل بوصف واحد من هذه، إلا أنه قل ألا تختلط في صفة، وتجتمع في رعي أو سقي ونحوه، فعلمنا أنه لا بد من زيادة على وصف واحد، ولا دليل يوجب أكثر من ذلك. وحكى الشيخ أبو بكر عن بعض شيوخه: أنه راعى في الخلطة وجها واحدا، وهو الراعي، قال: وأنزله منزلة الإمام الذي يتغير به حكم الجماعة عن حكم الانفراد. قال عبد الحق: وهذا القول نحو قول ابن حبيب: إن أصل الخلطة الراعي، فإذا جمعها الراعي، اجتمعت في أكثر ذلك، وإن فرقها الراعي، فليست بمختلطة وإن جمعها المرعى.
الشرط الثاني: كون الخليط أهلا للزكاة.
وقال ابن الماجشون: تحصل الخلطة ويزكي زكاة الخليط، وإن كان خليطه عبدا أو ذميا.
الشرط الثالث: اتفاق الأحوال.
فإذا حال الحول على أحدهما دون الآخر، زكى زكاة المنفرد. قال أبو بكر: وعلى قول ابن الماجشون يزكي زكاة الخلطة، فيخرج ما ينوبه على حكمها، ويسقط عن خليطه ما ينوبه.
فرع:
ولا تشترط الخلطة في جميع الحول، بل يكفى اختلاطها في آخره.
واختلف في تقدير ذلك بمدة، وفي قدرها على القول بها، فقال القاضي أبو محمد: إذا لم يقصد الفرار زكاها الساعي على ما يجدها عليه من اجتماع أو افتراق، ويقبل قول أربابها؛ لأن الظاهر أنهم يفعلون ذلك للارتفاق بالفرقة والاجتماع، فيجب إلا يخالف ما ظهر ويصار إلى خلفه إلا بأمارة تقوي التهمة. وروى ابن القاسم في الكتاب: إذا كان ذلك قبل الحول بشهرين وأقل، فهم خلطاء، وذكر أنه لم يسأل عن أقل عن ذلك، ثم قال: وأنا أرى أنهم خلطاء في أقل من الشهرين ما لم يتقارب الحول، ويهربان فيه إلى أن يكونا خليطين فرارا من الزكاة، وما يرى أنه نهى عن مثله في حديث عمر بن الخطاب. وقال ابن حبيب: أدنى ذلك الشهر، وما كان دون الشهر لم يجز لهما اجتماع ولا افتراق. وقال محمد بن المواز: إن اجتمعا أو افترقا فيما دون الشهر فجائز ما لم يقرب جدا، ويكن الساعي قد أظلهما.
هذا كله إن كان ما وجدا عليه من اجتماع أو افتراق منقصا من الزكاة، فإن لم يكن منقصا، فلا يتهمان عليه، بل يزكي المال على ما يوجد عليه، ولا تأثير للخلطة في شيء من أموال الزكاة سوى النوع المتحد من الماشية.

.الفصل الثاني: في التراجع:

وإذا أخذ الساعي من المال ما يجب فيه، رجع المأخوذ منه بقيمة حصة شريكه، وهل تعتبر القيمة يوم الأخذ أو يوم الأربعاء؟ قولان لابن القاسم وأشهب، مأخذهما أنه كالمستهلك أو كالمتسلف.
وكذلك لو تأول الساعي، فأخذ بكون المجموع نصابا، وإن كان كل ملك ناقصا عنه لتراجعا أيضا، فلو كان أحد المالين نصابا والآخر دونه، فأخذ الساعي شاتين متأولا، فإن كان المال الناقص عن النصاب هو الموجب لأخذ الثانية بالتأويل، فإنها يتراجعان في الشاتين جميعا على قدر ماليهما. وقيل: الواحدة على رب النصاب، ويتراجعان في الأخرى على قدر المالين. وإن كان المال الناقص لم يضره في أخذها لم يكن على صاحبه شيء.
وما أخذه المصدق من المال مع علمه بأنه لا يجب ولم يتأول فيه فهو ممن أخذ من غنمه، لا يرجع على صاحبه منه بشيء.

.الفصل الثالث: في اجتماع المختلط والمنفرد في ملك واحد:

مثل أن تكون له ثمانون فيخلط أربعين منها بأربعين لغيره، والأربعون الأخرى ببلد آخر، فروى محمد: أنه يكون خليطا لصاحبه بما حضر وغاب، وليس عليهما إلا شاة على صاحب الأربعين ثلثها، قال القاضي أبو الوليد: هذا من مالك بناء على أن الأوقاص مزكاة، وعلى القول الآخر يكون على كل واحد منهما نصف شاة.. قال أصبغ: وكذلك لو كانت الثمانون ببلد واحد. وقال عبد الملك: يكون على رب الأربعين نصف شاة، وعلى صاحب الثمانين ثلثا شاة.
قال محمد: قول مالك أحب إلينا، وعليه جل أصحابه، وقال سحنون بقول عبد الملك. وقال: هو أحب إلي من قول ابن القاسم وأشهب. قال: وأما أشك أن يكون ابن وهب رواه عن مالك. وقيل: على صاحب الأربعين نصف شاة، وعلى صاحب الثمانين شاة كاملة. وحكاه الشيخ أبو الوليد عن عبد الملك وسحنون.
وسبب الخلاف: النظر إلى أثر الخلطة، ففي القول الأول اعتبره في جميع المال، وفي الثاني اعتبره في حق صاحب الثمانين في جملة ماله، واعتبر في حق صاحب الأربعين ما خالطه به صاحبه لا أكثر، وفي القول الثالث اعتبر القدر الذي وقعت الخلطة فيه من الجانبين إلا أكثر.
مثال آخر: لو خلط عشرة من الإبل بعشرة لغيره، وبقيت له عشرة أخرى بغير خليط، فعلى القول الأول يكون عليهما بنت مخاض، على صاحب العشرة ثلثها، وعلى صاحب العشرين ثلثاها. وعلى القول الثاني: على صاحب العشرة شاتان، وعلى صاحب العشرين ثلثا بنت مخاض. وعلى القول الثالث: على صاحب العشرة شاتان، وعلى صاحب العشرين أربع شياه.

.الفصل الرابع: في تعدد الخليط:

والحكم فيه قريب من الأول، فإذا خلط مع أكثر من واحد، وجب تعميم حكم الخلطة بين الجميع، فيتوزعون الواجب بينهم على نسبة أموالهم، وبه قال ابن القاسم وأشهب. وقال محمد بن المواز: هو خليط لكل واد بجميع ماله، وليسوا خلطاء فيزكي كل واحد منهم بنسبة ما يخصه مع جملة ماشي خليطة. وقيل: هو خليط لكل واد بالذي معه دون ما خرج عنه،
فيزكي كل واحد منهم بنسبة ما يخصه مع ما خالطه به خاصة.
ثم اختلف القائلون بذلك في حكمه هو، فقيل: يزكي على ضم ماله بعضه إلى بعض.
وقيل: يفرد كل مال بالزكاة مع خليطه كأنهما لمالكين.
وسبب الخلاف: أنه اجتمع ها هنا أمران كالمتناقضين، أحدهما أن الخليط الأوسط يجب ضم بعض ملكه إلى بعض مع عدم الخلطة، والثاني أن الطرفين ليس بينهما خلطة، فلا يجب ضم ملكها بعضه إلى بعض.
فمن غلب حكم الوسط، ورأى أن كل واحد منهما يجب ضمه إليه، وهو يجب ضم ملكه بعضه إلى بعض، قال: يكو الجميع كالخلطاء.
ومن غلب حكم الطرفين المنفردين أفرد ملك الوسط، فجعله كمالين لمالكين، ولم يضم بعضه إلى بعض، وهذا هو القول الرابع.
ومن رأى الوسط قد جعل كل واحد من الطرفين خليطه، والخليط يجب أن يضاف جميع ما يملكه إلى ما خالط به، جاء منه القول الثاني.
ومن وجب عنده ضم الملك الواحد بعضه إلى بعض، وأفرد حكم الخليط بما خالط به، جاء من القول الثالث.
وبيان ذلك بالمثال: أن من خلط عشرة من الإبل بعشرة مع خليط، وعشرة أخرى بعشرة مع آخر، فعلى القول الأول يجب في الجميع بنت لبون، على الأوسط نصفها، وعلى كل واحد من الطرفين ربعها.
وعلى القول الثاني: يجب على الوسط أيضا نصف ابنة لبون، وعلى كل واحد من الطرفين ثلث بنت مخاض.
وعلى القول: يجب على الوسط ثلثا بنت مخاض، وعلى كل واحد من الطرفين شاتان.
وعلى القول الرابع: يجب في الجميع ثمان شياه، على الوسط أربع، وعلى كل واحد من الطرفين شاتان.
فرع:
حيث ثبت للساعي على أحد الخلطاء حصة من شاة أو غيرها من ماشية الزكاة، أخذ منه قيمة ذلك ذهبا أو ورقا. وقيل: إنه يأتي بها، فيكون شريكا معه فيها.
الشرط الثالث: الحول:
فلا زكاة في النعم حتى يحول عليها الحول، إلا السخال الحاصلة في أضعاف حول أمهاتها إذا تمت بها نصابا، أو كانت نصابا دونها، فإن الزكاة تجب فيها بتمام حول الأمهات، ولو ماتت الأمهات بقيت السخال لم تنقطع التبعية ووجب الزكاة فيها. لو ملك مائة وعشرين فنتجت في آخر الحول سخلة، وجبت عليه شاتتان لحدوثها في أضعاف السنة.
الشرط الرابع: أن لا يزول الملك عن عين النصاب في الزكوات العينية:
وفيه اختلاف وتفصيل.
فإن أبدل العين القاصرة عن النصاب بذهب أو ورق، وليست للتجارة، انقطع الحول واستأنفه.
فإن كانت نصابا، ففي الاستئناف أو البناء روايتان، وعلى البناء جل الأصحاب، إلا أشهب فإنه ثبت على الرواية الأولى بالاستئناف، وهذا إذا باع النصاب بما فيه الزكاة، ولم يبع فرارا.
وأن أبدلها بماشية من غير جنسها كإبل بغنم، أو بالعكس فلا يبني على حول الأولى في إحدى الروايتين، واختارها ابن القاسم وأشهب، وهي المشهورة. ويبني في الرواية الأخرى إذا كانت نصابا نصابا، وهي اختيار ابن وهب وابن الماجشون. ولو كانت الثانية نصابا دون الأولى لاختلف في البناء تفريعا على القول به.
وأن كانت الماشية الثانية من جنس الأولى، وكانتا نصابا نصابا، بنى حولها على حول الأولى. وفي كتاب ابن سحنون عن مالك: لا يبنى.
فإن كانت الأولى قاصرة عن النصاب فقولان أيضا على القول بالبناء.
ولو تخلل بين الماشتين عين، ولم تكن الأولى للتجارة استقبل بالثانية حولا في رواية ابن القاسم وأشهب. وروى مطرف وابن الماجشون أنها تبنى على حول الأولى.
هذا كله ما لم يكن فرارا من الزكاة، فيبنى على كل حال.
ولو استهلكت ماشيته، فأخذ بدلا عن القيمة الواجبة له ماشية، فهل يلتحق بصورة بدل الماشية بالماشية من غير تخلل عين أو بصورة تخلل العين؟ قولان، سببهما أن من خير بين شيئين فاختار أحدهما، هل يعد كأنه لم يأخذ إلا ما وجب له، فيكون هذا كالبدل، أو يعد كالمنتقل من شيء إلى شيء، فيكون هذا كالتارك للقيمة، والآخذ عنها ماشية؟ وفي هذا الأصل قولان للأصحاب.
الشرط الخامس: كمال الملك:
وأسباب الضعف ثلاثة:
الأول: امتناع التصرف، فإذا كان المال متهيئا في نفسه للتصرف، لكن تعذر على مالكه التصرف فيه بالتنمية وغيرها، فإن كان للمنع منه كالغصب، فإن كان في الناض زكاة لعام واحد. وقيل: يستقبل به حولا.
وكذلك إن كان لضياع وقد التقط، وقال المغيرة: بل يزكي اللقطة لكل عام.
وإن كان لعدم العلم بمكانه، بأن دفنه فضل عنه، فإنه يزكيه لكل عام لتفريطه. وقيل: لعام واحد كالدين. وقيل: إن دفنه في صحراء زكاه لما مضى من السنين لتعريضه له للتلف.
وإن دفنه في بيته، أو ما ف ي معناه، لم يزكه لماضي لعدم تعريضه. وقال ابن المواز عكس هذا، وعده في الصحراء كالتالف، وجعله في البيت مقصرا في طلبه.
وإن كان للغصب في الماشية فعادت إلى ربها بعد أعوام، فقال ابن القاسم في الكتاب: يزكيها لعام واحد، وقال أيضا: يزكيها للأعوام الماضية كلها، وقاله أشهب، قال لأنها لم تزل عن ملكه، وما أخذت السعاة منها أجزأ عنه، بخلاف العين تغصب.
وبنى أبو الحسن اللخمي هذا الخلاف على الخلاف في رد غلات المغصوب، ولو كان المغصوب شجرا، فالزكاة واجبة فيه على له الغلة من مالك أو غاصب.
ولو ردت الماشية بعيب، أو لفساد البيع، أو أخذها بائعها لفلس المشتري بعد أن أقامت بيد المشتري أعواما، ففي وجوب زكاتها على ملك المشتري أو البائع خلاف منشؤه التردد في رد المبيع في الصور الثلاث، هل هو نقض للبيع من أصله أو من حينه؟ وعليه أيضا ينبني الخلاف في استقبال البائع بها حولا، أو بناء حلولها على ما تقدم.
فأما ما اشتراه من الماشية، فحال عليه الحول قبل قبضه، فعليه زكاته.
السبب الثاني: تسلط الغير على ملكه، وهذا كالرقيق والملتقط والمديان.
فأما الرقيق فلا تجب الزكاة عليه في شيء من أمواله، ويستوي في ذلك يسير الرق وكثيره، وكماله وبقيته.
وأما الملك في السنة الثانية في اللقطة إذا نوى تملكها ولم يتصرف فيها، فقال مالك في كتاب محمد: تجب عليه الزكاة إذا تم حولها من يوم نوى. وقال ابن القاسم في المجموعة: لا زكاة عليه إذا لم يحركها.
وأما:

.المديان:

فتسقط عنه زكاة العين الحولي من الناض، وقيم عروض التجارة إذا استغرقه الدين، أو لم يبق منه نصابا، إلا أن يكون غنيا بما يجعله في مقابلة دينه على وجوه يأتي تفصيلها وبيان الخلاف فيها. ويتنحصر الكلام في تفصيل زكاة المديان في فصلين:

.الفصل الأول: في بيان الدين المسقط للزكاة:

ويسقط كل دين وجب في معاوضة، وتدل فيه نفقة الزوجة إذا حلت، وإن لم يفرض ذلك لها حاكم، وتلحق بها نفقة الولد إذا قضى بها واستقر الطلب، فتسقط الزكاة، ولا تسقط نفقة للأبوين إذا لم يقض بها، فإن قضى بها، فروى ابن القاسم وأشهب: أنها تسقط، وفي الكتاب عن ابن القاسم: لا تسقط.
وإن لم يقض بنفقة الولد، ففي إسقاطها للزكاة خلاف. وروي عن ابن القاسم: أنها لا تسقط، وهي رواية ابن حبيب عن مالك، وقال أشهب: إنها تسقط.
ومهور النساء تسقط على المشهور، وقال ابن حبيب: لا تسقط لأن العادة بقاؤها في الذمم المدد البعيدة، ويسقط دين المساكين الواجب لهم، وقيل: لا يسقط.

.الفصل الثاني: في بيان ما جعل في مقابلة الدين:

والمشهور أنه يجعل جميع الديون فيما يملكه من العروض التي تباع عليه فيما دون العين.
وروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم استثناء الدين الواجب للمساكين من جملة ذلك، فرأى أن يجعله في العين. وروى ابن المواز عنه موافقة المشهور.
وقيل: بل يجعل الدين كله في العين لقدرة الغرماء على جعل ديونهم في العين.
وإذا فرعنا على المشهور، ففي اشتراط ملك العرض الذي يجعل فيه الدين من أول الحول خلاف.
روى محمد عن ابن القاسم: أنه لا يزكي حتى يكنون العرض عنده من أول الحول، وروى عيسى عنه أيضا: أنه لو أفاده عند الحول جعل دينه فيه وزكى. وقال أشهب: يزكي سواء أفاد العرض عند الحول أو قبله بيسر. وإن أفاده بعد الحول زكى حينئذ، قال محمد وبه وأقول، وبه قال أصحاب ابن القاسم.
وفي معنى العرض الدين الذي له، والمال المعدني والحرث والماشية، على خلاف في هذين.
وكذلك الخلاف في العين الحولي الذي قد أخرج زكاته، والخدمة، ومرجع الرقبة وغير ذلك، ولنفصل جمعيها بفروع متتالية، فنقول:
من كان له مائتان لحولين كالحرم ورجب عليه مائة، فقال ابن القاسم: يزكي ما حل حوله منهما أولا، ويجعل دينه في الأخرى، ولا يزكي الثانية. قال الشيخ أبو محمد: يريد لا يزكي الثانية عند حولها، لأن دينه فيها، وفي كتاب ابن حبيب: يزكي كل مائة لحولها، ويجعل دينه في الأخرى.
وإذا كان له دين جعل ما عليه فيه وقيل: بل يجعله فيما بيده.
وإذا فرعنا على المشهور، فقال سحنون: يجعل عدد ما عليه في قيمة ما على من الدين إلى أجل.
وقال أشهب: فيمن بيده مائة دينار، وعليه دين مائة، وله دين على آخر مائة: إنه يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له، ويزكي المائة التي في يده، فجعل الدين الذي عليه في عدد الدين الذي له. وقال ابن القاسم: إن كان دينه على غير ملي فيحسب قيمته.
وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بأنه يجعل ما عليه من الدين في قيمة دينه إن كان مؤجلا، أو على غير ملي، وفي عدده إن كان حالا وعلى ملي، ويجعل دينه فيما لا يسقط الدين زكاته من ماله كالمعدني، وكذلك الحرث، والماشية على المشهور. وقيل: لا يجعله في الحرث والماشية بل في العين.
وإن كان له مكاتب، فقال أصبغ: يجعل دينه في قيمته عبدا، احتياطا للزكاة لإمكان عودة عبدا، ورواه ابن حبيب عن أشهب. وقال ابن القاسم: يجعل في قيمة كتابته، لأنها المملوكة له فقط. وقال أشهب أيضا: في قيمته مكاتبا لا بقيمة ما عليه، إذ يمكنه بيعه كذلك.
ويجعل الدين في المدبر إذا كان بعد التدبير، وقال سحنون: لا يجعل في رقبة المدبر ولا في خدمته، ألا ترى لو أن شريكا في بعد أعتق نصيبه منه، وليس له سوى مدبر، لم يقوم عليه نصيب شريكه. ويطرد الخلاف في المعتق إلى أجل، وأولى بالمنع.
وإذا قلنا: يجعل في المدبر، فنقل ابن المواز عن جماعة من الأصحاب: أنه يجعل في قيمته، ونقل الشيخ أبو القاسم عن غير أبو القاسم: أنه يجعل في خدمته. واختاره القاضي أبو الوليد. ولو كان تدبيره بعد الدين لجعل في رقبته بغير خلاف.
وإذا قلنا: يجعل في المعتق إلى أجل، ففي قيمة خدمته، ويجعل المخدم دينه في مرجع رقبة العبد على المنصوص، ويجعل المخدم دينه في الخدمة.
قال في الكتاب: ولا يحسب دينه في قيمة عبده الآبق، إذ لا يجوز بيعه. قال ابن المواز: وقال أشهب: إن كان إباقه قريبا ترتجى رجعته، قوم على غرره، وجعله في دينه، وإن طال أمره فلا يحسب.
ولو وهب له ما عليه من الدين عند الحول، فروى ابن القاسم: أنه لا يزكيه حتى يحول عليه الحول بعد الهبة. وقال أشهب: يزكيه حين وهب له، ولو لم يكن له مال غيره.
ولو وهبه لأجنبي، فقال أشهب: لا زكاة على الغريم، ولا على الواهب. وقال محمد: يزكيه الواهب، لأن يد قابضه كيده، وقاله ابن القاسم. وكذلك في وجوبها على الواهب لغريمه خلاف أيضا، وعليه تخرج مسألة نصاب تزكية ثلاثة في حول واحد، وذلك بأن يكون لرجل خلاف أيضا، وعليه تخرج مسألة نصاب تزكية ثلاثة في حول واحد، وذلك بأن يكون لرجل دين، وعليه مثله لثالث، والمديانان مليان، ولكل واحد منهما عروض تفي بما عليه، فأحال الوسط منهم مطالبته على مديانه فقبضه بعد حلول الحول عليه، فالزكاة واجبة على الطرفين، ويختلف في الوسط.
السبب الثالث: عدم قرار الملك.
فلا زكاة في الغنيمة قبل القسم على المشهور، ومن أكرى دارا أربع سنين بمائة دينار نقدا، فمر به حول، فقيل: يزكي الجميع، وقيل: لا يزكي غير ما حل حوله من السنة الأولى.
وقيل: يزكي ما قابل السنة الأولى.
وأشار بعض المتأخرين إلى بناء هذا الاختلاف على الخلاف في استقرار ملك عوض المنافع، هل يكون من يوم قبضه، أو من يوم استيفاء العوض عنه؟ قال: وفي ذلك قولان.
الركن الثالث: في من تجب عليه.
ويعتبر في توجه وجوبها الحرية، واختلف في عد الإسلام شرطا معتبرا في الوجوب، وإن لم يختلف المذهب في عدة من شروط الأداء، فالقاضي أبو بكر ومن وافقه من المتأخرين لم يعتبروه، وعده القاضي أبو محمد من شروط الوجوب. وكذلك نص عليه الشيخ أبو الوليد، وأبو الحسن اللخمي وغيرهم.
فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وتجب على المرأة ولا تجب على الرقيق، ولا على السيد فيما بيد رقيه، ولا على من فيه بقية رق، ولا على من يملك ذلك منه.
قال القاضي أبو بكر ومن وافقه: ولم نشترط فيه الإسلام، إذ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عندنا، لكن لا يؤخذ أهل الذمة بزكاة شيء من أموالهم، لأنا عاهدناهم على أنا لا نأخذهم بفروع الدين ما داموا على كفرهم، كما لا نأخذهم بالصلاة والصوم، هذا حكم الأموال المملوكة المطلقة.
فأما الأموال الموقوفة، فإن كانت نباتا، فالزكاة واجبة فيها على أصل ملك مالكها، ولا يراعى مقدار ما يصير لكل إنسان. وقيل: إن كان المتولي لتفريقها على الموقوف عليهم غيره، وكانوا ممن يستحقون أخذ الزكاة، فلا تجب الزكاة فيها.
ثم إذا قلنا بوجوبها فيها على المشهور، أو لأن الموقوف عليهم غير مستحقين لأخذ الزكاة، فهل يعتبر كمال النصاب في حصة كل واحد منهم إذا كانوا معينين، أو إنما يراعى في المجموع؟ قولان لمحمد وسحنون، سببهما: هل يملكون بالظهور أو بالوصول إليهم؟ قال الشيخ أبو عمران: قول خلاف لظاهر ما في المدونة وغيرها، فأما غير المعينين فيراعى في الجملة؛ إذ لا يملكون إلا بالوصول إليهم.
وإن كانت مواشي، فإن وقفت لتفرق أعيانها في سبيل الله، أو على المساكين، فمر الحول قبل تفرقتها، فلا زكاة فيها. وقال محمد: قال ابن القاسم مرة: هي مثل الدنانير، ولا أعلم إلا أن مالكا قاله. وقال أيضا بأن القاسم رواه عن مالك. وقاله أشهب: إن كانت تفرق على مجهولين فلا زكاة فيها، وإن كانت تفرق على معينين، فالزكاة على من بلغت حصته ما فيه الزكاة.
قال محمد: هذا أحب إلينا.
وإن كان وقفها لتفرق أولادها، زكيت الأصول.
قال سحنون: إذا كان في جملة الثمرة خمسة أوسق، ففيها الزكاة، كان على معينين أو مجهولين. وكذلك في نسل الأنعام. وقال ابن القاسم: إذا كانت على معينين، فلا زكاة على من ليس في حظه ما فيه الزكاة من ثمرة أو نسل. وإن كانت على مجهولين، ففي جملة الثمرة والأولاد الزكاة إن بلغ ذلك ما فيه الزكاة إذا تم لأولاد حول من وقت الولادة في الوجهين جميعا، وإلا فلا.
وإن وقفت الأنعام لتكون غلتها من لبن وصوف، تفرق على معينين، أو غير معينين، فالزكاة في الأمهات والأولاد جميعا، وحولهما واحد، لأن ذلك كله موقوف.
قال أبو محمد عبد الحق: وأعرف في المال الموقوف لإصلاح المساجد، والغلات المحبسة في مثل هذا اختلافا بين المتأخرين في زكاة ذلك، قال: والصواب عندي في ذلك، أن لا زكاة في شيء موقوف على من لا عبادة عليه من مسجد ونحوه، والله أعلم.
وإن كانت عينا، فإن كانت وقفت لتفرق، فلا زكاة فيها، لأنها خرجت من يد من كانت له، ولم يقبضها من صارت إليه، ولا تنمية فيها، وإن وقفت لتسلف من احتاج إليها زكيت بعد الحول.
خاتمة:
اختلف في محل اشتراط مجيء الساعي، والمشهور اشتراطه في الوجوب، والشاذ أنه شرط في الأداء لا في الوجوب.
وأما التمكن من الأداء، فقال الأستاذ أبو بكر في تفسيره، هو مطالبة الساعي دون قدرة رب الماشية على إيصالها إليه.
الطرف الثاني للزكاة: طرف الأداء.
وله ثلاثة أحوال: الأداء في الوقت، وقبله تعجيلا، وبعده تأخيرا، فهذه ثلاثة أقسام.
الأول: الأداء في الوقت.
وهو واجب على الفور، تؤدي إلى الإمام إذا كان عدلا، وكان يصرفها في وجوهها.
وقيل: لأربابها أن يتلوا تفرقة الناض، وهو المال الباطن مستحقيه، وإن كان الإمام عدلا.
وتجب نية الزكاة، فينوي الزكاة المفروضة، وينوي ولي الصبي والمجنون. قال القاضي أبو الحسن: ورأيت بعض أصحابنا ذهب إلى أنها لا تفتقر إلى نية، قال: وأظنه إنما هب إلى ذلك لما رآها تجزئ يأخذ الإمام قهرا.
ثم قال القاضي أبو الحسن: ولا يحتاج الإمام إلى نية، لأن الفعل منه يقوم مقام النية، لأنه يأخذ ما وجب أخذه من المأخوذ منه وإن أن كارها، فإنه يعلم أن أخذها واجب عليه.
وينبغي للساعي أن يعلم من السنة بشهر لأخذ الزكاة، ويستحب أن يكون في الصيف حين تطلع الثريا مع الفجر. ولا يجب على الإمام ولا على نائبه أن يدعو لصاحب الصدقة إذا أخذها منه، ولكن يندب إلى ذلك.
القسم الثاني: في التعجيل.
ولا يجزئ في المدة الكثيرة لغلبة شائبة العبادة على الزكاة، وإن اشتملت على قصد سد الخلة، وفي إجزائه في اليسيرة خلاف. روى أشهب أنه لا يجزئ، وقيل: يجزئ.
ثم اختلف القائلون بالإجزاء في تقدير اليسيرة، فقال ابن المواز والقاضي أبو الفرج: مثل اليوم واليومين، قال محمد: على تكره، وحكى ابن حبيب عمن لقي من أصحاب مالك: الخمسة إلى العشرة، وقيل: نصف الشهر. وروى عيسى عن ابن القاسم تحديدها بالشهر ونحوه على تكره منه لذلك.
فرعان:
الأول: قال القاضي أبو بكر: هذا الخلاف مقصور على زكاة الحيوان والعين وأما زكاة الزرع فلا يجوز تقديمها فيه لأنه لم يملك بعد.
الفرع الثاني:
لو عجل الزكاة بل الحول بالمدة الجائزة على الخلاف فيها، ثم هلك النصاب قبل تمام الحول، أخذها إن كانت قائمة بعينها، وعلم أو تبين أنها زكاة معجلة وقت الدفع، وإن لم يتبين ذلك لم ي قبل قوله.
وأما لو دفع الزكاة معجلة، ثم ذبح شاة من الأربعين، فجاء الحول ولم ينجبر النصاب، ولم يكن له الرجوع، لأنه يتهم أن يكون ذبح ندما ليرع فيما عجل.
القسم الثالث: في تأخير الزكاة.
وهو سبب للضمان والعصيان عند التمكن، فإن تلف النصاب بعد الحول وقبل التمكن نفلا زكاة عليه على المشهور. وقيل: تجب عليه زكاة ما بقي، وإن كان دون النصاب.
فلو ملك خمسا من الإبل، فتلف قبل التمكن أحدها، سقطت الزكاة عن الكل، كما لو تلف قبل الحول؛ لأن الإمكان شرط في الوجوب، وعلى الشاذ لا يسقط عنه إلا خمس شاة، لأن الإمكان عنده شرط في الأداء لا في الوجوب.
ولو اشترى بالنصاب بعد الحول سلعة، ثم باعها بعد حول آخر، فربح فيها، فإنه يؤدي عن النصاب للعام الأول، ثم يؤدي عن المجموع للعام الثاني إن كان له عرض يجعله في مقابلة قدر زكاة النصاب الأول، وإن لم يكن له عرض زكى ما بقي بعده على المعروف من المذهب.
قال الشيخ أبو الطاهر: ويتخرج على القول بأن دين المساكين في الزكاة لا يسقطها أن يزكي عن الجميع. قال ابن عبد الحكم في هذه المسألة: يستقبل بالربح حولا.
قال الشيخ أبو الطاهر: ومنها أخذ القول بأن الربح كالفائدة.
وإمكان الأداء يفوت بغيبة المال وبغية المستحق، وهو المسكين أو السلطان فيما يتولى قبضه على أحد القولين.
فإن قيل: هل تتعلق الزكاة بالعين؟ قلنا: فيه خلاف، قيل: تتعلق؛ إذ هي مواساة. وقيل: بل تتعلق، وهم كالشركاء، وعليه تخرج زكاة ما بقي وإن أن دون النصاب للشركة فيه كالشركة في التالف.
وإذا ملك عدة من الماشية، فتكرر الحول قبل أخراج الزكاة، ثم قدم الساعي فوجدها زائدة، فلتأخره سببان.
السبب الأول: تأخر الساعي عنه.
فيزكي ما وجد بيده عن ماضي السنين، على أن الجميع على ما بيده الآن من غير اعتبار بما كان بيده في السنين الماضية، ويبدأ بالسنة الأولى، ثم ما يليها، ما لم ينقص جزء الزكاة عدتها في بعض السنين، فينقص الواجب أو يسقط. وقال أشهب: بل يخرج عن كل سنة زكاة ما كان يده فيها. ومن الأصحاب من نزل بالقول الأول على ما إذا لم يدع أن ماشيته كانت في ماضي السنين دون ذلك. قال غيره: وهو بعيد عن مقتضى لفظ الكتاب.
واستدل في الكتاب للمشهور بأن السعاة تخلفوا في الفتنة ست سنين، ثم بعثوا، فأخذوا من الناس عما تقدم على ما في أيديهم، ولم يسألوهم عما كان في أيديهم قبل ذلك مما مات في أيديهم، ولا مما أفادوا، قال: وهو الشأن. ورأى أنه كان كالمتفق عليه من السلف.
قال بعض الأصحاب: ولأنهم جعلوا الأعوام كالعام الواحد، وعدلوا بين أرباب الأموال والمساكين، فأخذوا بالزيادة ما لم يضمنوا النقص، مثال ذلك: أن تتخلف الساعة عمن يملك ألفا من الغنم مثلا عشرة أعوام، ثم تأتي وليس في يده إلا أربعون، فلا يؤخذ منه إلا شاة واحدة، فإن كان بالعكس، فكانت أولا أربعين، ثم كملت في العام الآخر، فالقولان كما تقدم. المشهور أنه يؤخذ منه زكاة الألف عن الأعوام المتقدمة. والشاذ أنه إنما تؤخذ منه شاة واحدة عن كل عام من الأعوام المتقدمة، وعن العام الآخر تسع شياه. قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا هو القياس، وقد تقدم بيان مستند المشهور.
هذا إذا تخلفت عنه السعاة وعنده نصاب، فإن كان عنده دونه، ثم أتت السعاة وقد كمل نصابه وزاد بالولادة أو بالبدل، فإنه يزكي للأعوام التي كانت فيها نصابا دون سائر الأعوام، وهو مصدق في ذلك، وبه قال ابن القاسم، وقال أشهب: يزكي لجميع الأعمام؛ إذ العبرة بالعام الآخر، كما في الكثرة والقلة.
ولو كمل النصاب فائدة لم يزك إلا من يوم كماله.
السبب الثاني لتأخر الإخراج: هربه عن السعادة.
فيزكي لكل عام على ما كانت عليه، زادت عن عدة العام الحاضر، أو نقصت عنه. وقال أشهب: إذا زادت في هربه، فهو كمن تخلفت عنه الساعة، ولا يكون أحسن حالا منه،. قال: وهو في نقصانها ضمن بهربه في كل عام لزكاة ما كانت عليه. قال سحنون: إذا هرب بأربعين عامين، فعليه شاتان، لأنه ضامن، فلا ينقص ما في ذمته.
فأما لو قدم الساعي، فوجدها ناقصة، وكان عدم الإخراج لغيبته، فلا ضمان على المالك، ويزكي لماضي السنين على ما بيده الآن ما لم ينقصها جزء الزكاة.

.النوع الثاني: زكاة المعشرات.

والنظر في الموجب، والواجب، ووقت الوجوب، وكيفية الإخراج.
الطرف الأول: الموجب والنظر في جنسه وقدره.
أما جنسه فكل مقتات متخذ للعيش غالبا، أنبتته أرض مملوكة أو مستأجرة، خراجية أو غير خراجية، إذا كان مالكه حرا مسلما، على ما تقدم من الخلاف في اشتراط الإسلام في الوجوب.
فتجب الزكاة في الحنطة والشعير والسلت والعلس، وهو الإشقالية، والذرة والدخن، والأرز، والقطاني وهي: الحمص واللوبيا، والعدس والفول المدمس والجلبان والبسيلة والجلجلان وحب الفجل. واختلف في الكرسنة، هل تعد من القطاني أم لا؟ فروى أشهب أنها منها. وقال ابن حبيب: بل هي صنف على حدة، وتجب في التمر والزبيب.
وفي وجوبها في التين خلاف نزله القاضي أبو الوليد على النظر إلى المقتات في زمن نزول الأحكام وبلد أهلها، أو النظر إلى كل قطر وعادته.
وتجب في كل ما فيه زيت كما ذكرنا في الزيتون والجلجلان، وتجب أيضا في الترمس في رواية ابن وهب.
وأما حب الفجل الأحمر وزريعة الكتان والقرطم وهو ذريعة العصفر، ففي المذهب في كل واحد منها ثلاثة أقوال: الوجوب، والإسقاط، والتفرقة بين أن يكثر زيتها، فتجب فيها الزكاة، أو يقل فتسقط، وهي رواية ابن وهب.
وقال ابن القاسم: لا زكاة في بزر الكتان، ولا زيته، إذ ليس بعيش. وقاله المغيرة وسحنون: وتجب فيما لا يتزبب من العنب، وما لا يخرج زيتا من الزيتون، وما لا يتمر من النخل. وقيل: لا تجب في شيء من ذلك.
وأما قدر الموجب، فهو قدر خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي.
وقد قدر المتأخرون الوسق فقيزا وربعا بالقروي، فيكون النصاب ستة أقفزة وربع قفيزة بالقروي.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يكون الوسق أردبين بالقفيز الفسطاطي، وتكون الخمسة الأوسق عشرة أرادب، وقاله ابن القاسم في المجموعة.
ثم تعتبر هذه الأوسق تمرا وزبيبا، لا رطبا وعنبا، وما لا يتمر يوسق على تقدير التتمير على المشهور، ولا يكمل نصاب جنس بجنس آخر.
ويعرف افتراق الجنسين بالتباين في المنفعة، ويكمل النصاب بأنواع الجنس الواحد المشترك فيها، فلا يضاف الزبيب إلى التين، ولا يضافان إلى الزيتون، ولا جميعها إلى التمر، ولا الزيتون إلى الجلجلان، ولا جميع ذلك إلى ذريعة الكتان إن قلنا: إن فيها الزكاة، وتضاف الحنطة إلى الشعير، ويضاف السلت إليهما، والزبيب والتمر والزيتون تضاف أنوع كل جنس منها بعضها إلى بعض.
واختلف في إضافة العلس وهو الإشقالية إلى الحنطة، وما يضاف إليها، أو كونه منفردا بنفسه.
واختلف أيضا في الأرز والذرة والدخن، هل يضاف بعضها إلى بعض أم لا؟
والنص ها هنا على أن القطاني صنف واحد، يضم بعضه إلى بعض. وأما في حم الربا فعلى روايتين، واختلف متأخرو الأصحاب في جريانها في حكم الزكاة أو تخصيصها بملحها.
قال القاضي أبو الويد: وهذا الظاهر من الموطإ. قال: والأظهر عندي أن يكون كل صنف منها صنفا منفردا لا يضاف إلى غيره من الزكاة والبيوع، ولا يكمل ملك رجل بملك غيره، ولا يضم حمل نخلة إلى ملها الثاني.
وما اتفق في الزرع والنبات والحصاد من الجنس الواحد أضيف بعضه إلى بعض، وكمل منه النصاب.
وما كان له بطنان أو بطون، فقيل: يعتبر بالفصول، فيضاف ما نبت منه في زمن واحد بعضه إلى بعض، كالصيفي والربيعي والخريفي، لاجتماعه في السقي والمنفعة. وقيل: ينظر إلى ما اتفق في زمن النبات، كالاتفاق في الحول والملك في الفوائد، فيضاف منه ما زرع ونبت قبل حصاد ما قبله إليه.
وإذا فرعنا على هذا القول الثاني، فكان الزرع في ثلاثة أزمان، فإن زرع الثالث قبل حصاد الأول ضم الكلم بعضه إلى بعض، وإن زرعه بعد حصاه وقبل حصاد الثاني وجبت الزكاة إن كانت إضافة كل واحد من الطرفين منفردا إلى الوسط تكمل النصاب، ولم تجب إن كان لا يجتمع من مجموعهما معه نصاب. وفي الوجوب إذا كمل النصاب من اجتماع الوسط مع الطرفين جميعا، ولم يكمل بضم أحدهما منفردا إلى الوسط، خلاف. وقد أجراه الشيخ أبو الطاهر على الخلاف في مسألة خليطي شخص واحد، هل يعدان خليطين أم لا؟.
الطرف الثاني: في الواجب.
وهو العشر فيما سقت السماء، ونصف العشر فيما سقي بنضح أو دالية، وما شرب سيحا أو بعروقه، فهو كما سقت السماء. ولو كان يشرب بالسيح لكن رب الأصول لا يملك ماء، وإنما يكتريه له، فهو كالسماء على المشهور. ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح.
ولو اجتمع السقيان على تساو وجب أداء ثلاثة أرباع العشر، وقيل: ينظر إلى ما حيي به الزرع، فيعلق الحكم عليه. وإن كان أحدهما أكثر واعتبر في المشهور. وقال القاضي أبو محمد: يتخرج فيها قول آخر: أنه يوزع عليهما. قال: وقال ابن القاسم: يعتبر ما حيي به الزرع، ويجب أن يخرج العشر من جنس المعشر ونوعه.
ثم إن كان حبا أخذ من عينه صنفا واحدا كان أو أصنافا.
وأما التمر، فإن كان صنفا واحدا من وسط التمر أخذ منه، وإن كان من أعلاه أو أدناه كالبرني أو الجعرور وما أشبههما، فمذهب الكتاب أنه يأخذ من أيهما كان، ولا يكلف المالك الوسط في الأدنى، ولا يقبل منه في الأعلى، بخلاف الغنم. وقال عبد الملك: إذا كان رديا كله لم يؤخذ منه، وكلف صاحبه أن يخرج من غيره، واعتبره بالماشية إذا كانت سخالا كلها. وكذلك أن كان جيدا كله قبل منه الوسط. وروى مثله ابن نافع.
فإن اختلف النوع على صنفين، أخذ من كل واحد بقسطه، ولا ينظر إلى الأكثر. وقال عيسى بن دينار: إن كان فيها أكثر، أخذ منه، فإن كانت ثلاثة أصناف، فروى ابن القاسم أنه يأخذ من الوسط منها. وروى أشهب أنه يأخذ من كل واحد بقسطه.
الطرف الثالث: في وقت الوجوب.
وهو الطيب من الثمار، واليبس في الحب، فينعقد بذلك سبب وجوب إخراج التمر وا لحب عند الجفاف والتنقية.
فإذا أزهى النخل، وطاب الكرم، وأفرك الزرع أو استغنى عن الماء، واسود الزيتونة أو قارب الاسوداد وجبت الزكاة. وقال المغيرة: تجب بالخرص، ورأى المصدق كالساعي في الماشية. وقال محمد بن مسلمة: وقت انعقد سبب الوجوب الجداد، فلا يحصل قبله.
وفائدة الخلاف تظهر إذا مات المالك أو باع أو أخرج الزكاة، فعلى المشهور إذا مات بعد الطيب زكيت على ملكه، وإن كان جميعها خمسة أوسق. وقال المغيرة: بل إذا خرص عليه قبل موته، فذلك ثابت على ورثته يخرجون ذلك، ثم يرثون ما بعده، وإن مات قبل الخرص، فإنما يخرص على ورثته، فمن صار له خمسة أوسق زكى.
وكذلك لو باع بعد الطيب وقبل الخرص أو بعدهما وقبل الجداد لجرى الخلاف في وجوب الزكاة على البائع أو المشتري على ما قدمناه. وقال محمد بن مسلمة: إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار، ولو قدم رجل زكاته عبد الخرص وقبل الجداد لم تجزئه لأنه أخرجها قبل وجوبها.
ويدخل الخرص في التمر والعنب بعد بدو صلاحهما وطيبهما، ولا يدخل في الزيتون، وقيل: في الفرق وجهان:
أحدهما: ظهور النبات في التمر والعنب، وتمييزهما عن الأوراق.
والثاني: وهو المشهور: وجود حاجة أهلهما إلى أكلهما من حين يبتدئ الطيب فيهما، وما كان على ساق فهو بمنزلة الزيتون.
ولو احتيج فيما قلنا: إنه لا يخرص إلى الأكل منه قبل كماله، ففي خرصه قولان، سببهما الاختلاف المتقدم في الفرق بين ما يخرص وما لا يخرص.
فرع:
وصفة الخرص أن يقدر ما على نخلة نخلة رطبا، ويقدر ما ينقص لو تتمر، ثم يعتد بما يتبقى بعد النقص، ويضيف بعض ذلك إلى بعض، حتى يكمل الحائط، وكذلك في العنب، وسواء في ذلك ما يتمر أو يتزبب، وما لا يبلغ إلى ذلك. وقال ابن الماجشون: يخرص ما لا يتمر ولا يتزبب على حاله، حكاه أبو الحسن اللخمي عنه.
ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم، بخلاف حكمي الصيد، لأنهما كالمقومين. ولو خرص جماعة فاختلفوا، أخذ بقول أعلمهم، فإن استووا، أخذ من قول كل واحد منهم جزء سمي لعددهم، كثلث إن كانوا ثلاثة، أو ربع إن كانوا أربع، وشبه ذلك.
ولا يترك الخارص شيئا. وروى بعض المدنيين، أنه يخفف في الخرص، ويترك العرايا والصلات، ونحوهما. وأجرى أبو الحسن اللخمي الخلاف في ذلك على الاختلاف في وقت انعقاد سبب الوجوب.
ومهما تلف بجائحة فلا ضمان على المالك لفوات الإمكان، فإن أن بإتلافه ضمن قدر الزكاة.
ثم إذا ضمناه نفذ تصرفه في الجميع، فلو باع الجميع غرم مكيلة الزكاة، وقيل: تؤخذ من ثمنه.
فلو فلس البائع والثمرة بيدة المشتري، أخذ منه حق المساكين، ويرجع هو على البائع بما ي خص ذلك من الثمن. وقيل: لا يؤخذ من المشتري شيء.
ومنشأ الخلاف: هل المساكين كالشركاء، فيرجعون إلى عين شيئهم أم لا؟.
وإذا تبين خطأ الخارص، ورجع إلى ما تبين إذا كان غير عارف، وإن كان عارفا أخذ بقوله، ولم ينظر إلى ما حصل عند الجداد. وقال ابن نافع: بل يرجع إلى ما تبين. وقيل: يلزمه إخراج الزيادة، ولا يصدق في النقص.
فرع:
قد بينا أن مشروعية الخرص في النخل والكرم على المشهور لحاجة أهلهما إلى أكلهما حال رطوبتهما، فإذا خرص ذلك خلى بينه وبين أهله، فإن شاؤوا أكلوا أو باعوا، و ضمنوا حصة الفقراء من حين الخرص، ولا يطرح لهم ما يخرجونه من الأجر؛ إذ يلزمهم تخليص حصة الفقراء، وإن شاؤوا تركوه، ولم يضمنه، ثم تؤخذ الزكاة مما وجد، وافق قول الخارص أو خالفه، فإن نقص عن مقدار النصاب فلا زكاة فيه.
الطرف الرابع: في كيفية الإخراج.
ويؤخذ عن الحب الذي لا يعصر منه، وكذلك التمر والزبيب.
فأما ما لا يتمر من الرطب، ولا يتزبب من العنب، ولا يجف من التين، فقال في الكتاب: يؤخذ من ثمنه، وإن بيع بأقل مما تجب فيه الزكاة بشيء كثير إذا كان خرصه خمسة أوسق، وإن نقص عنها لم ي جب فيه شيء وإن بيع بأكثر مما تجب فيه الزكاة بأضعاف.
وقيل يخرج من كامله، ويجزي من ثمنه، وقيل: لا يخرج من ثمنه مع القدرة على الكامل، وقال ابن المواز: لا يخرج إلا ثمنا، وأما الزيتون، فمن زيته.
واختلف فيما يعصر من الحب، فقيل: من دهنه كالزيتون، وقيل: كالذي لا يعصر، وقيل: بإجزاء الأمرين.

.النوع الثالث: زكاة النقدين:

والنظر في قدر الموجب وجنسه.
أما القدر:
فنصاب الورق مائتا درهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالا، وفيهما ربع العشر، وما زاد فبحسابه، ولا وقص فيهما.
وأن نقص عن النصاب نقصانا بينا لم تجب الزكاة، وتفسير البين باتفاق الموازين عله في قول، وبأنه لا يجوز به بجواز الوازنة في آخر. وبالتفسير الثاني فسره في المختصر. وقيل: بنفي وجوبها مع النقص، وإن كان غير بين، وحكى رواية.
ويعتبر النصاب في جميع الحول إلا في نماء المال، فالاعتبار بحول أصله وإن كمل النصاب به في آخر الحول.
ويكمل نصاب أحد النقدين بالآخر، وجيد الصنف برديئه، بالوزن في الجميع، لا بالقيمة كما ظنه بعض الناس.
فحكى عن مالك أنه إن كان نقد البلد قراضة ومعه مائة وخمسون تروج بمائتين مكسرة وجبت الزكاة، وليس هذا بقول لمالك، ولا نقله أحد من أصحابه عنه، بل صرح المتأخرون منهم بنفيه، وقالوا: إنما رأوا في الموطإ أنها إذا نقصت وكانت تجوز بجواز الوازنة وجبت الزكاة، فظنوا النقص في المقدار، والجواز في الصفة، لأنها بارتفاع ثمنها تلقح بالوازنة.
قالوا: وهذا الذي ظنوه باطل قطعا، وليس هو مراد أهل المذهب، وإنما مرادهم أنها ناقصة نقصانا لا يتشاح في مثله في العادة.
ثم يخرج من كل من الذهب والورق بقدره. ونص في المختصر على جواز الإخراج من أيهما كان عنهما. وقال ابن كنانة: يخرج الورق عنهما دون الذهب، وقال سحنون: إخراج الفضة عن الذهب أجوز من إخراج الذهب عن الفضة.
ثم في الاحتساب به على الصرف الأول أو الحاضر أو الأكثر منهما خلاف، والأول اختيار الشيخ أبي بكر، والثاني قول ابن المواز، وهو رأي ابن القاسم وابن نافع، والثالث قول ابن حبيب.
ولا زكاة في الدراهم المغشوشة، ما لم يكن قدر نقرتها نصابا، كان الغش قليلا أو كثيرا. قال القاضي أبو محمد: إلا أن يكون مما لا حكم له، كما يقول أهل الصنعة: إنه لا يأتي الضرب إلا به، كالدانق في العشرة وما أشبهه.
النظر الثاني: في جنسه.
ولا زكاة في شيء من نفائس الأموال سوى النقدين، وهو منوط بكونهما متهيأين للنماء، فلو اتخذ منهما حلي، فجوهرهما يقتضي وجوب الزكاة، وصورتهما تقتضي إسقاطها، إذ صار بالصياغة كالعروض.
لكن غلب مالك في الحلي المتخذ على قصد استعمال مباح حكم الصورة، فأسقط الزكاة عنه بشرطين، وهما: الصياغة المباحة، ونية اللبس المباح، فلو كان على قصد استعمال محظور، كما لو قصد الرجل بالسوار أو الخلخال أن يلبسه، أو قصدت المرأة ذلك في السيف، لم تسقط الزكاة؛ لأن المحظور شرعا كالمعدوم حسا، بل لا تسقط إذا قصد أن يكنزهما حليا؛ لأن الاستعمال المحتاج إليه لم يقصده.
ولو قصد إجازتهما ففي سقوط الزكاة بذلك روايتان، ينظر فيهما بقاء العين، وهو يلحقه بالمقتني، أو النماء، وهو يلحق بما اتخذ للتجارة. وخصص ابن حبيب سقوط الزكاة بأن يصدر الكراء عمن أبيح له الانتفاع بما أكرى دون غيره. فقال: لو اتخذ الرجل حلي النساء للكراء، لم تسقط عنه الزكاة.
ولو اشترى الرجل حلي النساء ليلبسه امرأة له أو ابنة غيرها، لا زكاة فيه، إذا كان اللبس ناجزا، وإن أعده لامرأة إن تزوجها، أو لأمة يشتريها، أو لولد يستحدثه، فلا تجب الزكاة فيه عند أشهب وأصبغ. وقال ابن القاسم وابن عبد الحكم والمدنيون من الأصحاب: يزكيه، قال ابن حبيب: وبه قول لأنه ليس من لباسه، ولا صار إلى ما أمل منه.
وفي كون القصد الطارئ بعد الصياغة في هذه الأمور كالمقارن خلاف، ولو اتخذته عدة للدهر، لا ليبلسنه، ففيه الزكاة.
ولو انكسر الحلي، واحتاج إلى إصلاح، فحبس له لم يجز في الحول، لأنه حلي بعد. ولو تهشم واحتاج إلى السبك وابتدأ العمل، فحال عليه الحول في أضعاف ذلك، ففيه الزكاة عند بعض الأصحاب، تشبيها له بالتبر.
فرع:
حيث أوجبنا في الحلي الزكاة، وكان منظوما بشيء من الجواهر، فإن كان مما يمكن نزعه من غير فساد، زكى ما فيه من الذهب أو الفضة زكاة العين وما فيه من الأحجار زكاة العروض، وإن يمكن نزعه إلا بفساد، فهل يغلب حكم الجواهر التي فيه، فيزكى زكاة العروض، أو يراعى الأكثر، فيعطى الحكم له، أو يعطى لكل نوع حكمه، فيتحرى ما فيه من العين فيزكى، وما فيه من الحجارة يجري على حكم العروض؟ ثلاثة أقوال.
فإن قيل: ما الانتفاع المحرم في عين الذهب والفضة؟ قلنا: أما الذهب فأصله على التحريم في حق الرجال، وعلى التحليل في حق النساء، أعني فيما يستعملنه الناس، أو ما في معنى اللباس، ما يتخذنه لشعورهن وأزرار جيوبهن، وأقفال ثيابهن، ونحو ذلك مما ي جري مجرى لباسهن.
ويستثنى للرجل منه اتخاذ أنف إن جدع أنفه، وربط أسنانه به إن احتاج إليه، وتحلية المصحف، وفي تحلية السيف به خلاف.
وأما الفضة، فحلال للنساء أيضا في اللباس وما في معناه كالذهب، ولا يحل للرجال إلا التختم بها، أو تحلية المصحف، وتحلية السيف خاصة من آلات الحرب، قاله ابن القاسم، ورواه. وقيل بالجواز في جميع آلات الحرب: السرج واللجام وغيره، وقال ابن حبيب: لا بأس باتخاذ المنطقة المفضضة والأسلحة كلها، ومنع ذلك في السرج واللجام والمهاميز والسكاكين، وما يتقى به ويتخذ للتحرز.
فرع:
قال أبو الحسن اللخمي: ويختلف في زكاة حلي الصبيان، فقال ابن شعبان:
فيه للزكاة، قال: والظاهر من قول مالك لا زكاة فيه لأنه قال: لا بأس أن يحرموا وعليهم الأسورة، قال: وإذا جاز لهم لباسه لم تكن فيه زكاة.
أما في غير الحلي وما في معناه كالأواني، فقد حرم الشرع اتخاذها من الذهب والفضة على الرجال والنساء، وكذلك المكاحل والمرايا المحلاة وأقفال الصناديق والأسرة والمذاب والمقدمات وشبه ذلك، لا يجوز اتخاذ شيء من ذلك من ذهب أو فضة، ولا تحليته بشيء منهما، لا للرجال ولا للنساء.
قال الشيخ أبو إسحاق: وما جعل في ثياب الرجال أو في الجدر من تنبيت الورق، فإن كان يمكن أن ي خرج عنه منه ماله قدر يفضل على أجرة عامله زكى إن كان فيه نصاب، أو كمل به النصاب، ذهبا كان أو ورقا.
وتحلية غير المصحف من الكتب لا تجوز أصلا، وكذلك تحلية الدواة والمقلمة.
أما تحلية الكعبة والمساجد بالقناديل وعلائقها، والصفائح على الأبواب والجدر وما أشبه ذلك بالذهب والورق، فقال الشيخ أبو إسحاق: يزكيه الإمام لكل عام، كالمحبس الموقوف من الأنعام، وكالموقوف رمن المال العين للقرض على سائر الأيام. وقد تقدم اختيار عبد الحق لخلاف هذا القول.

.النوع الرابع: زكاة التجارة والفوائد والديون.

وفيه ثلاثة أبواب:

.الأول: في زكاة التجارة.

وهي تتعلق بعروض التجارة على وجهين:
أحدهما: ترصد الأسواق وزيادتها من غير إدارة، فلا تجب فيها الزكاة حتى تباع، فيزكى ثمنها بعد حول على أصلها أو أحوال، ولا تقوم على ربها وإن أقامت أحوالا، ولو أطاع بالإخراج قبل البيع لم يجزئه، وقيل: يجزيه. وكذلك الخلاف في إخراج زكاة الدين قبل حلوله..
الوجه الثاني: اكتساب العروض ليديرها، ويبيع بالسعر الحاضر ويخلفها، ولا ينتظر سوق نفاق يبيع فيه، ولا سوق كساد يشتري فيه، كفعل أرباب الحوانيت المديرين. فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يكون حوله، فيقوم فيه ما عنده من العروض، ويضيفه إلى ما معه من عين، ويزكي الجميع، وكذلك بعد كل عام.
وهذا الشهر هو رأس الحول من يوم زكاة المال قبل الإدارة به، أو من يوم استفادته إن كان حول ذلك كله واحدا. وقال أشهب: ابتداؤه من يوم أخذ في الإدارة، فإن اختلفت أحواله، فعلى حسب اختلاف أصحابنا في ضم أحوال الفوائد بعضها إلى بعض كما سيأتي.
ثم هل تزكى العروض لاختلاط أحوال أثمانها وهو المشهور؟ أو لأنه لما أكثر الإدارة بها صارت في حقه كالعين وهو الشاذ؟ ويتفرع على تعيين العلة ما لو باع العروض بعضها ببعض ولم تنض له عين أصلا، فعلى المشهور لا يجب عليه التقويم، والشاذ: وجوبه، ثم هل خير عوضا بقيمته إذ جعل العرض في حقه كالعين، أو يبيعه ويخرج عينا؟ قولان.
وإذا فرعنا على المشهور، فلا ينتقل بذلك عن حكم الإدارة، ورأى أشهب وابن نافع: أنه خرج ببيعه بالعروض عن حكم عن الإدارة.
وإذا فرعنا على الأول فمتى نص له ولو درهم واحد قوم عند رأس الحول وزكى، قاله، ابن القاسم. وقال القاضي أبو محمد: إنما يراعى حصول العين في آخر الحول. قال القاضي أبو الوليد: وهو الأولى. وقيل: لا يزكى حتى ينض له مقدار النصاب فيزكيه، ثم كلما نض له سيء زكاة، نصابا كان أو دونه، وهو مقتضى قول أشهب وابن نافع؛ إذ هو إخراج له عن حكم الإدارة.
ولو بار عرض المدير، فالنص أنه يقوم عرضه الباير ودينه المحتبس. وقال ابن الماجشون: لا يقوم شيئا من ذلك، ويبطل فيه حكم الإدارة، وتابعه عليه سحنون.
وإذا فرعنا على قولهما، فلم يحد ابن الماجشون لذلك حدا. وقال سحنون: إذا برا عامين بطل فيه حكم الإدارة، وروى مثله ابن مزين عن ابن نافع.
ولو كان بعض المال مدارا وبعضه غير مجار، وكانا مستويين، أعطي كل نوع حكمه، وإن اختلفا، فقيل: حكمه كالأول، وقيل: الأقل تبع للأكثر. وقيل: المدار متبوع إن كان أكثر، ولا يكون تابعا وإن كان أقل، احتياطا للزكاة.
ويزكي المدير ما قصد به النماء من الدين، كدينه من بيع إن كان يرجوه. وقال المغيرة: لا يزكيه حتى يقبضه.
والمعتبر في زكاة الحال منه العدد إن كان عينا، وإن كان عرضا فالقيمة، وفي زكاة المؤجل القيمة.
وفي إيجاب زكاة ما كان لغير النماء طريقتان للمتأخرين إحداهما: أنه لا خلاف في المذهب أنه لا يزكي؛ وقال بها القاضي أبو الوليد، والثاني: أن المذهب على قولين.
وسبب الخلاف: إطلاق القول في الكتاب بزكاة المدير دينه، وتقييده في غيره بما كان من بيع.
واختلف المتأخرون أيضا في تقويمه ماله من طعام دينا من بيع.
وسبب الخلاف: هل يلتحق ببيع الطعام قبل قبضه أم لا؟ قال الشيخ أبو الطاهر: ويحتمل أن يكون الخلاف في هذا على الخلاف في القسمة، هل هي بيع أم لا؟.
واختلفوا أيضا في تقويم آلاته ومواعينه، كأنوال الحائك وآلات العطار، وما أشبه ذلك.
وسبب الخلاف: النظر إلى دوام أعيانها، وكونها غير متجر بها، أو إلى كونها معينة على السلع المدارة؟ قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا يجري على الخلاف فيما اشترى من السلع للكراء، قال: وفي ذلك قولان.
والمعروف من المذهب أن الأرباح تزكى على حول الأصول، كالأولاد مع الأمهات، وتقدر عند ابن القاسم كالموجودة يوم الشراء بالمال حتى يضاف إليها ما في يده، وقال أشهب: يوم حصولها، وقال المغيرة: يوم ملك أصل المال.
وعلى هذا الخلاف تخرج مسألة الكتاب فيمن ملك عشرة دنانير، فخال عليها الحول فأنفق فيها خمسة، واشترى بخمسة سلعة فباعها بخمسة عشر، فابن القاسم يوجب الزكاة إن تقدم الشراء على الإنفاق، ويسقطها إن تقدم الإنفاق. وأشهب يسقط الزكاة مطلقا، والمغيرة يوجبها مطلقا. ومنشأ الخلاف ما تقدم.
ولو كان الربح عن مال استسلفه فبقي في يديه إلى آخر الحول، ثم اشترى به سلعة، ولا عوض له عنده، فقال ابن القاسم: يزكي الربح، ورواه ابن نافع وعلي. وقال المغيرة: يأتنف به حولا.
ولو اشترى بمائة دينار بيده قد حال عليها الحول، ثم باع قبل أن ينفد فربح، فروى ابن القاسم أنه يزكي الربح مع ماله الذي كان بيده. وروى أشهب أنه يأتنف بالربح حولا، فقال محمد: هذا أحب إلينا، ولكن يكون حول الربح من يوم أدان واشترى. قال ابن القاسم: وإلى هذا رجع مالك: أن حول الربح من يوم أدان الأصل، لأن ثمنها في ذمته، والمائة التي بيده لم تصل إلى البائع ولا ضمنها، ونيته أن ينقدها في غد أو إلى شهر سواء.
ولو اشترى على ذمته، وليس عنده ما ينقده فربح فيها بعد أن قامت بيده حولان فليزك الربح مكانه، رواه أشهب، قال: ولو كان عنده عرض لزكى قدر ما يفي به، قال: ولم يراع مالك متى ملك العرض.
ولا زكاة في عروض القنية، ولو نوى بها التجارة لم تنتقل بمجرد النية، وقيل: تنتقل بمجرد النية.
ولو اشتراها بنية التجارة، كانت للتجارة. وقيل: ما لم يكن المبدول فيها عرض قنية.
ثم لو نوى بها القنية انتقلت بمجرد النية لعودها إلى الأصل، فلو عاد ونوى بها التجارة، ففي انتقالها بمجرد النية إلى حكم التجارة أو بقائها على حكم القنية روايتان، ينظر في الأولى إلى ما كنت عليه قبل النية، وفي الثانية إلى الأصل.
فرع:
لو نوى في العروض وجهين كقنية وإجارة، أو تجارة وإجارة، أو تجارة واستمتاع بالاستخدام والوطء، أو إجارة واستمتاع بالاستخدام والوطء، فحكى أبو الحسن اللخمي في الاستئناف بالثمن حولا، أو بنائه على حول الأصل الذي اشترى به، قولين. وما اكتري ليكرى زكيت أجرته لحول أصله. وغلة ما اشترى للكراء أو للقنية فائدة يستقبل بها الحول، وكذلك غلة ما اشترى للتجارة، وروى أنها تزكى لحول أصلها.
وأما غلة الأراضي، فإن كانت الأرض مكتراة للتجارة، والزرع للتجارة، زكي ما يخرج منها إن كان نصابا، وإن كان دونه زكى ثمنه، ثم يستقبل بالثمن حولا من يوم زكاة عينه أو ثمنه.
وإن كانا للقنية استقبل بالثمن حولا، كان المبيع نصابا أو دونه.
وإن كان أحدهما للتجارة والآخر للقنية، فما أعطي له حكم الزرع نظر إلى كونه للتجارة أو للقنية، فاتبعه الزرع. وقيل في حكم الزرع: إنه للأرض، وقيل: للبذر وللعمل. وحكي عن أبي محمد عبد الحميد: أنه يفض على الثلاثة، فعلى هذا من ما ناب ما هو للتجارة اعتبر حكمه فيه.
ولو اشترى أصولا للتجارة فأثمرت، فإن قلنا بأن الغلات فوائد، استقبل بالثمن حولا، كانت مما تجب الزكاة في عينها أم لا. وإن أوجبنا الزكاة على حكم الأصول بنهى أثمانها إذا باعها على حول الأصول، إن لم تجب الزكاة في عينها لقدرها أو لجنسها، وإن وجبت الزكاة في عينها عد ابتداء حول ثمنها يوم زكاها.
وإن كان مال التجارة عبدا، وجب إخراج زكاة الفطر عنه مع زكاة التجارة. فإما لو كان مال التجارة نصابا من الماشية، لوجبت زكاة العين دون زكاة التجارة.
ولا تمتنع على التاجر التجارة لعدم إخراج الزكاة.

.فصل به اختتام الباب:

إذا كان واحد من العامل ورب المال مخاطبا على انفراده بالزكاة فيما يخصه، وجبت الزكاة عليهما.
وإن لم يكن فيهما من يخاطب بها لكونها عبديين أو ذميين، أو لقصر المال وربحه عن النصاب، ولا يملك ربه غيره، فلا زكاة على واحد منهما.
وإن كان أحدهما ممن يخاطب بها دون صاحبه، فروى أشهب أن المعتبر حال رب المال، لأنه يزكي على ملكه، فإن خوطب بها وجبت في ربح العامل من غير اعتبار بحاله.
وفي كتاب ابن المواز: يعتبر حال العامل في نفسه، فإن كمل له النصاب، وكان ممن يخاطب بالزكاة، وجبت عليه، وإلا فلا. وقال ابن القاسم: يراعى أمرهما جمعيا، فمتى توجه سقوطها عن أحدهما سقطت عن العامل في الربح.
ولا يجوز اشتراط زكاة المال على العامل، ويجوز اشتراط زكاة الربح على كل واحد منهما، لأنه يرجع إلى جزء مسمى.
وقيل: لا يجوز اشتراط حصة العامل على رب المال لاختلاف الحال؛ إذ قد تتوجه الزكاة على العامل، وقد لا تتوجه.
وإذا فرعنا على المشهور فتفاصلا قبل حول، أو كان ذلك لا زكاة فيه، فلمشترط الزكاة على صاحبه أن يؤخذ ربع عشر الربح لنفسه، ثم يقتسمان ما بقي، كما لو شرط لأجنبي ثلث الربح، فيأبى من أخذه، فهو لمشترطه منهما.
قال سحنون: وقد روي أيضا أنه لا يجوز اشتراط زكاة الربح على واحد منهما.
ولا يخرج العامل الزكاة إلا بعد الانفصال، ولو أقام أحوالا، وإن كان المال في يده عينا عند حلول الحول إذا كان غير مدير، وهو مخالف لحال رب المال. قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا لأنهم حكموا في المذهب، بأن ما في يد العامل حكمه حكم الدين، لا يزكى قبل القبض.
وإذا كان العامل مديرا، وهو موافق لحال رب المال، ففي تقويمه لما في يده عند حلول الحول خلاف.
وهل يخرج الزكاة بعد التقويم من المال، أو من مال رب المال؟ فأحرى ذلك أبو الحسن اللخمي على قولين.
وإن كان حال العامل في الإدارة وغيرها مخالفا لحال رب المال، فأشار أبو القاسم بن محرز إلى إجرائه على الخلاف في الرجل إذا كان له مالان، أحدهما مدار، والآخر غير مدار.
وإذا لم يزك حتى مرت أحوال لأنه غير مدير أو حيث قلنا: إن المدير لا يقوم، ففي قصر الزكاة على سنة واحدة، أو إيجابها لما تقدم من السنين خلاف، سببه: تشبيهه بالدين أو التفرقة بأن الدين لا نماء فيه، وهذا المال ينمى لربه.
التفريع:
إن قلنا: إنه يزكي لعام واحد، فالمعتبر حالة الانفصال، فيزكي الحاصل فيها.
وإن قلنا: يزكي لكل عام، فإنه يزكي في كل سنة عن الحاصل عند انفصال إن استوى مقداره في جميعها، أو كان في ماضيها أكثر منه، فإن كان فيها أنقص منه زكى في كل سنة عما كان فيها.
فإن اختلفت بالزيادة والنقصان بعضها مع بعض زكى الناقصة، وما قبلها على حكمها، وزكى الزائدة على حكمها، والناقصة قبلها على حكمها.
مثال زيادة الحاصل أن يكون في أول سنة مائة، ثم في الثانية مائتين، ثم في الثالثة ثلاثمائة، فإنه يزكي في عام عن الحاصل فيه، إلا ما نقصه جزء الزكاة.
ومثال نقصان الحاصل: أن يكون ثلاثة مائة، ثم مائتين، ثم مائة، فإنه يزكي عن المائة للأعوام الثلاثة.
ومثال الاختلاف: أن يكون في الأول مائتين، وفي الثاني مائة، وفي الثالث ثلاث مائة، فإنه يزكي عن مائة مائة في العامين الأولين، وعن ثلاث مائة للعام الثالث.
ولا يستبد العامل بإخراج الزكاة إذا كان ربه غائبا، إذ يمكن موته أو تحمله لدين يسقط الزكاة عنه.

.الباب الثاني: في زكاة الفائدة:

والفائدة نوعان:
الأول: نماء المال كالربح والولادة، وقد تقدم أن الزكاة تجب في هذا النوع تبعا لأصله في الحول، ولا يعتبر الحول في حقه بمفرده.
النوع الثاني: ما خرج عن ذلك، وهو عبارة عن كل مال لم يتقدم ملك، ولا على أصله، ويستثنى من ذلك غلات السلع المقتناة؛ إذ لا شك في كونها فوائد وإن تقدم الملك على أصلها. وكذلك حكم غلات سلع التجارة على الخلاف المتقدم. ويندرج تحت ما ذكرناه جميع أنواع الفوائد من العطايا والمواريث، وما وجب في الذمم من أروش الجنايات، وأثمان السلع المقتناة، وأنواع الغلات.
وفي كتابة المكاتب خلاف ينبني على أنها ثمن لرقبته، فينظر هل هو للتجارة أو للقنية؟ ويجري على حكم ما تقدم، أو هي كالغلات، فتجري على أحكام الغلات، وقد تقدمت أيضا.
وهذا النوع يعتبر الحول في حقه، ولا يبنى على حول غيره، فيستقبل بهذه الفائدة الحول بعد قبضها، فلو ملكها بميراث مثلا استقبل بها الحول من يوم قبضه لها أو قبض وكيله إذا أتاه بها.
وفي حبس الوكيل لها أعواما خلاف، هل تزكى لعام واحد، أو لأعوام؟.
والمشهور أن قبض وكيله كقبضه، وإن لم يقبضها هو ولا وكيله، ولا وقفت له ولم يعلم بها استقبل بها حولا من يوم قبضها على المنصوص.
وفي إقامة إيقاف الحاكم لها أو علم صاحبها بها مقام قبضه أو قبض وكيله، قولان.
ثم إذا أقيم مقام ذلك، فهل يؤدي زكاتها لعام أو لأعوام؟ فيه قولان أيضا.
وكذلك الوصي للصغار إذا قبض لهم، وللكبار مها هو مشاع بينهم، يجري فيه الخلاف أيضا.
وإذا قبضها المالك، أو من قبضه كقبضه، فإن كان فيها نصاب، أو كان عند الملك ما تكمل به نصابا، زكاها عند انقضاء الحول، فإن لم تكمل بنفسها ولا بغيرها، ولم يزكها.
ولو ملك فائدتين مجموعهما نصاب، ضم الأولى إلى الثانية، واستمر الحول من حينئذ. وقيل: يزكيها لحول الثانية أول عام، ثم يبقي كطل فائدة على حولاه.
وأما لو أفاد نصابا ثم أفاد بعده دونه، فزكى النصاب لحوله والناقص لحوله ثم دابر الحول، فلا يضمه إلى الفائدة الثانية لنقصه بجزء الزكاة، بل يزكيه على حوله، والثانية على حولها إلى أن يصيرا جميعا دون النصاب، وقيل: يضمه إلى الثانية.
ولو اعتبر الأولى عند حولها فوجدها مع الثانية دون الناصب، ثم اعتبرها عند حول الثانية فألفها كذلك، ثم تجر فيهما بعد ذلك رجعا إلى حول واحد، وهو يوم كمال النصاب فيهما، فزكيتا فيه، وصار حولهما منه.
ولو أفاد عشرة دناني، فأقامت في يده ستة أشهر، ثم استفاد عشرة أخرى، فأقمت بيده ستة أشهر أيضا، ثم أنفق الأولى أو ضاعت، وبقيت الثانية إلى تمام الحول، لم تجب الزكاة عند ابن القاسم؛ إذ لم يكمل عنده نصاب حال عليه الحول. وأشهب يوجبها، هذا حكم فائدتي العين.
فأما فائدتا الماشية، فإن كانت الأولى دون النصاب، أضافها إلى الثانية كالعين، وإن كانت نصابا، ضم الثانية إليها، وزكاهما لحولهما، بخلاف العين، ومذهب ابن عبد الحكم: أنه يستقبل بها حولا كالعين.
واختلف في الفرق على المشهور، فقيل: لأجل السعاة، وقيل: لأجل الأوقاص، وعلى تحقيق الفرق يخرج حكم من لا سعاة لهم.

.الباب الثالث: في زكاة الدين:

كل دين ثبت في ذمة ولم يخرج إليها إليها من يد من هو له ولا بدل عنه، فلا زكاة فيه على الإطلاق، حتى يحول عليه الحول بعد قبضه.
وإن كان خرج هو أو بدل عنه ليس بعرض قنية عن يد المالك إلى ذمة، فلا يزكيه ما دام في تلك الذمة، حتى قبضه بعد عام أو أعوام ما لم يكن مديرا، فقد تقدم حكمه، فإن قبضه وكان نصابا أو مضافا إلى مال عنده جمعهما الحول، وكمل بهما النصاب، زكاة زكاة واحدة، ثم يزكي ما يقبض بعد من قليل أو كثير.
وحول كل مال منه يوم يزكيهن فلو قبض منه عشرة لا يملك غيرها، ثم قبض عشرة أخرى لكان حول الجميع من يوم قبض الأخيرة؛ إذ لا تجب فيه الزكاة إلا بعد القبض. وقيل: إن حول كل واحدة من يوم قبضها، تفريعا على أن الزكاة واجبة قبل القبض، إنما أخرت خشية ألا يقبض.
ولو اقتضى عشرة فضاعت، ثم اقتضى عشرة أخرى، ففي وجوب الزكاة خلاف.
وأما لو أنفق العشرة، فالزكاة واجبة على المعروف من المذهب بغير خلاف منصوص؛ لأنه نصاب جمعه ملك وحول أنفق بعضه مختارا، فيكون كالمفرط في إخراج الزكاة بعد الحول، فتجب في ذمته، ورأى بعض المتأخرين جريان الخلاف فيها كالأولى.
ولو كان الدين من ثمن سلعة للقنية استقبل به حولا بعد قبضه إن بيعت بنقد، وإن بيعت بنسيئة في ابتدءا الحول من يوم القبض أو يوم البيع؟ خلاف.
ولو اختلطت عليه أحوال الاقتضاءات أضاف الآخر منها إلى الأول، لأن أكثر العلماء يوجبون الزكاة في الدين وإن لم يقبض.
ولو اختلطت أحوال الفرائد رد الأولى منها إلى الثانية، وقيل: برد الثانية إلى الأولى.
ولو لم يكن لرب الدين غيره، فاقتضى منه دينارا ثم آخر، فاشترى بالأول سلعة، ثم بالثاني كذلك، فباع السلعة الأولى بعشرين دينارا، والثانية كذلك مثلا، زكى عن أحد وعشرين دينارا إن أن شراؤه بالدينار الثاني بعد أن باع السلعة الأولى، وإن كان شراؤه بالثاني قبل أن يبيع، زكى الأربعين لحصول سبب الربح قبل وجوب الزكاة، ولو كان شراؤه بالثاني ثم بالأول قبل أن يبيع، زكى الأربعين على المشهور. قال الشيخ أبو الطاهر: وأما على قول أشهب الذي يرى النصاب إذا كمل بالثاني بقي الأول على حوله وإن كان دون النصاب، فينبغي أن لا يزكي إلا أحدا وعشرين لأن الغيب كشف أنه إنما اشترى بالأول بعد أن وجبت فيه الزكاة.
وأما إن كان شراؤه بالأول بعد بيعه لما اشتراه بالثاني، فليزك عن أحد وعشرين.
ولنتم المقصود من البابين الأخيرين بذكر فروع ممتزجة منها، فنقول:
إذا اجتمعت اقتضاءات وفوائد، وقد اجتمعت الفوائد وأصل الديون في ملك وحول، فإن استقل كل نوع بتمام النصاب فيه لم يضف حول أحد النوعين إلى الآخر، إلا أن يتفق حلول حول الفائدة ووقت الاقتضاء.
وإن قصرت عنه منفردة، وأكملته مجموعة، أضيفت الفوائد إلى ما بعدها من الاقتضاءات، والاقتضاءات إلى ما قبلها، لأن الدين حال الحول على أصله.
وإنما أخر زكاة ما اقتضى منه وإن كان دون الناصب إما خوفا أن لا يقتضى ما بعده، وإما لأنه لا يعد متقررا في ملكه إلا بعد اقتضائه، فإذا اقتضاه تبين وجوب الزكاة فرده إلى ما قبله، والفوائد لم يحل علها حول فيضيفها إلى ما بعدها مما حال عليه الحول.
مثال ذلك: أن يقتضي عشرة ثم عشرة، فإنه يزكي الثانية، أنفق الأولى أو أبقاها، وإن استفاد عشرة ثم اقتضى عشرة، فلا يضيف الفائدة إلى الدين إلا أن تبقي في يده حتى يحول عليها الحول عند أشهب، أو حتى يقتضي عند ابن القاسم على اختلافهما في المال إذا جمعه ملك، ولم يجمعه حول.
وإن اجتمعت فوائد وديون، ولو أضاف الفوائد منفردة إلى ما بعدها لم يحصل منها نصاب. وكذلك لو أضاف الدين إلى ما قبله، لكن يكمل النصاب بإضافة الجميع بعضه إلى بعض، ففي إيجاب الزكاة قولان للمتأخرين.
مثاله: لو اقتضى عشرة، ثم استفاد عشرة، ثم اقتضى خمسة بعد أن أنفق العشرة التي اقتضى أولا، فمن اعتبر إضافة الخمسة إلى العشرة الأولى أسقط الزكاة، وكذلك إن أضيفت الفائدة إليها، ومن اعتبر إضافة الخمسة إلى ما قبلها من الاقتضاء، وإضافة ما قبلها من الفائدة إليها، وعدها كالوسط بينهما أوجب الزكاة، ثم ذلك في الخمسة خاصة لأنها تزكى بالمالين.
قال الشيخ أبو الطاهر: إنما اختلفوا في إيجاب الزكاة فيها خاصة، قال: وسمعنا في المذكرات وجوب الزكاة في الجميع عند بعض الأشياخ، قال: وهو مقتضى ما عللناه. وكذلك لو اقتضى عشرة ثم أفاد عشرة ثم اقتضى دينارا، فيجري الخلاف في الدينار أو في الجميع على ما تقدم.
ولو كان الاقتضاء عشرة وجبت الزكاة، في الجميع لأنك كيفما أضفت على الانفراد أو على الاجتماع وجبت الزكاة، وهذا الخلاف يشبه ما تقدم في خليط الخليط، هل هو خليط أم لا؟

.النوع الخامس: زكاة المعادن، وخمس الركاز.

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في زكاة المعادن:

وكل حر مسلم نال من المعدن نصابا من النقدين، ففيه ربع العشر، إلا أن توجد فيه ندرة، وهي التي لا يتكلف فيها علم، ففيها الخمس. وروى ابن نافع أنها كغيرها، وقيل: وإن كانت يسيرة، فهي كغيرها، وإن كانت كثيرة، ففيها الخمس.
فرع:
إذا قلنا برواية ابن القاسم، فإن العمل المعتبر في تمييز الندرة من غيرها هو التصفية للذهب، والتخليص لها دون الحفر والطلب، فإذا كانت القطعة خالصة لا تحتاج إلى تخليص، فهي الندرة المشبهة بالركاز، وفيها الخمس، وأما إن كانت ممازجة للتراب، وتحتاج إلى تخليص فهي كالمعدن، وتجب فيها الزكاة، حكاه القاضي أبو الوليد عن الشيخ أبي الحسن.
ثم ما يمد شيئا فشيئا، يجب ضم بعضه إلى بعض، كالذي يتلاحق من الثمار، ولكن الجامع ها هنا اتصال العمل، ولا يعتبر فيه الحول، ويكمل النيل بما يملكه من النقدين من الفوائد اوأموال التجارة، ويعتبر فيها الحول دونه.
قال سحنون: ولا يكمل النصاب بضم ما يخرج من معدن إلى ما يخرج من معدن آخر، وكل واحد منهما كسنة مؤتنقة في الزرع. وقال محمد بن مسلمة: يضم بعض المعادن إلى بعض، ويزكى الجميع كالزرع لسنة واحدة، فلو كان معه تسعة عشرة دينارا حال عليها حلو، ثم أصاب في معدن دينارا، زكى العشرين على المنصوص. قال أبو الحسن اللخمي: وعلى قول سحنون، لا زكاة عليه قياسا على قوله في المعدنيين.
وهل يضم الذهب والورق كما في غير المعادن؟ قال الشيخ أبو القاسم: يضاف أحد الصنفين إلى الآخر. قال القاضي أبو الوليد: أما على قول محمد بن مسلمة، يضم ما ي خرجد من أحد المعدنين إلى ما يؤخذ من الآخر، فبين أنه يضم الذهب من أحدهما إلى الورق من الآخر. وأما على قول سحنون، فبعيد أن يكون معدن واحد يخرج منه ذهب وورق.
وإذا عمل جماعة في معدن لرجل بنصيب مما يخرج، وأجزنا ذلك على أحد القولين، فهل يكونون كالشركاء في الزرع، يعتبر النصاب في حق كل واحد على انفراده، أو تجب الزكاة بدون ذلك؟ فيه خلاف.
وكذلك لو كان العامل عبدا أو ذميا، ففي وجوب الزكاة في الخارج خلاف منشؤه أنهم كالأجراء أو كالشركاء.

.الفصل الثاني: في الركاز:

وهو دفن أهل الجاهلية، وفيه الخمس. والنظر في جنسه وقدره، ثم في موضعه.
النظر الأول: في جنسه وقدره.
أما جنسه فروي تخصيصه بجنس النقدين، وقال بها ابن القاسم وابن المواز. وروي تعميم الحكم في جميع ما يوجد من النحاس والخرثى واللؤلؤ والطيب وغير ذلك. واختاره أيضا ابن القاسم، وبه قال مطرف وابن الماجشون وابن نافع.
وأما قدره، فقال في الكتاب: في العين يخمس وإن كان يسيرا. وفي كتاب ابن سحنون: لا خمس فيه.
ومواضعه أربعة:
الأول: أرض الحرب، وما وجد فيها فهو للجيش الذين وصل واجده إليه بهم.
الثاني: أرض العنوة، وما وجد فيها فهو للجيش وانقطع نسلهم، وكان كاللقطة، ويفرق في المساكين. وقال أشهب: إن عرف أنه لأهل العنوة، فهو لمن افتتح البلاد إن عرفوا، وإلا فهو لعامة المسلمين، وخمسه في وجه الخمس.
الثالث: أرض الصلح، قال ابن القاسم والمغيرة: ما وجد فيها فهو لأهل الصلح دون واجده. قال القاضي أبو الوليد: وهذا إذا كان واجده من غير أهل الصلح، فإن كان منهم، فقد قال ابن القاسم: هول له، وقال غيره: بل هو لجملة أهل الصلح، وقال أشهب: إن علم أنه من أموال أهل الصلح كان لهم، وكان حكمه حكم اللقطة تعرف، فمن ادعاها منهم أقسم على ذلك في كنسيته، وسلمت إليه اللقطة. وإن علمت أنها ليست من أموالهم، ولا من أموال من ورثوه، فهو لمن وجده، يخرج خمسه.
الرابع: فيافي المسلمين، وما وجد في فيافي العرب والصحاري التي لم تفتح عنوة، ولا أسلم أهلها عليها، فهو لمن وجده، ويخرج خمس.
وقال مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ: ما وجد من الركاز فهو لواجده، وعليه فيه الخمس، كان في أرض العرب أو أرض عنوة أو صلح.
فروع: لو وجد الركاز في موضع جهل حكمنه، فقال سحنون في العتبية: هو لمن أصابه. يريد، ويخمسه، ولو وجده عبده أو ذمي. فقال المغيرة: في كل ما وجد من الركاز من العين وغيره الخمس، وجده حر أو عبد أو ذمي، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، وقاله ابن نافع، وكذلك قال الشيخ أبو إسحاق.
ومصرف الخميس إلى الإمام العدل. قال القاضي أبو الوليد: وقد روى عيسى عن ابن القاسم عن مالك في مختصر ابن شعبان: إذا كان الإمام جائرا، يخرج الواجد له خمسه، فتصدق به، ولا يدفعه إلى من يعبث فيه، وكذلك ما فضل من المال عن أهل المواريث، ولا أعرف اليوم بيت مال، وإنما هو بيت ظلم، وكذلك العشر، انتهى كلامه.
وما لفظه البحر ولم يتقدم عليه ملك لأحد، فهو لواجده، ولا خمس فيه. وإن تقدم عليه مالك لمعصوم، فهل يكون لواجده، لأنه في حكم المستهلك، أم مالكه؟ فيه خلاف. وكذلك ما ترك بمضعية في البر أو البحر، وعجز عنه ربه، ومر تاركات له. وقال القاضي أبو بكر: إذا ترك الحيوان أهله بمضعية فقام عليه إنسان حتى أحياه، ففيه روايتان، إحداهما: أنه له.، قال: وهو الصحيح، لأنه لم تركه لغيره بقوله بقبضه، كان له، فكذلك إذا تركه بفعله. قال: أما لو كان بغير اختياره، كعطب البحر، والسلب، فهو لصاحبه، وعليه لجالبه كراء مؤنته.

.النوع السادس: زكاة الفطر:

وهي واجبة، وحكى الشيخ أبو الطاهر قولان بأنها سنة. وقال القاضي أبو بكر: عن مالك روايتان: إحداهما محتملة، والأخرى، قال: زكاة الفطر فرض، وبذلك قال فقهاء الأمصار.
وتجب بغروب الشمس ليلة العيد في رواية، وبطلوع الفجر يومه في أرى، وبها قال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون. قال القاضي أبو بكر: وهو الصحيح، بعد أن أشار إلى أن سبب الخلاف: أن الفطر الذي أضيفت إليه هل هو عند غروب الشمس من آخر رمضان، أو هو الفطر الذي يتعين بعد رمضان؟ وتجب بطلوع الشمس منه في قول جماعة من الأصحاب.
وفي آخر تجب بغروب الشمس ليلة الفطر وجوبا موسعا، آخره غروب الشمس من يوم الفطر.
وسبب الخلاف: النظر إلى كونها طهرة الصائم من الرفث، أو إلى إضافتها إلى اليوم.
ويلتفت في هذا على الخلاف في الزمن الذي بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، أو النظر إلى مجموع ما ذكر؟ وفائدته: وجوب الزكاة وسقوطها في حق المولود والمشتري والميت في هذه الأوقات، وكذلك المعتق والمطلقة ومن أسلم.
ثم النظر في أظراف:
الطرف الأول: في المؤدى عنه.
وكل من وجبت نفقته بسبب ملك أو قرابة أو زوجية، وجبت على المنفق زكاة الفطر عنه، ويستثني عن ذلك الكافر والباين الحامل. وقال ابن أشرس: لا تجب عن الزوجة، واختلف في مسائل.
الأولى: من بعضه رقيق وباقيه، حر، فروى ابن القاسم: إن على المالك بقدر نصيبه، ولا شيء على العبد. وروى مطرف وابن الماجشون: أن جميع زكاة الفطر على المالك. وروى ابن حبيب عن أشهب: أنها عليهما.
وأما المشترك بين اثنين، فقيل: يخرج كل واحد عنه نصف صاع.
وروى ابن الماجشون: إن كل واد منها يخرج صاعا كاملا، وروى ابن القاسم: أن على كل واحد بقدر نصيبه فيه من الأرض رق، ولو كان بين حر وعبد، فعلى الحر نصف زكاته فقط، وقال مطرف وابن الماجشون: عليه الزكاة تامة.
الثانية: أن يكون في العبد عقد حرية، فإن الزكاة واجبة على من هو محبوس بسببه، إلا المكاتب ففيه روايتان، سببهما: اعتبار النفقة، وهي عليه، أو النظر إلى مرجع الرقبة، وهو للسيد.
الثالثة: العبيد تشتري للقراض، فالزكاة عنهم على رب المال، ولا يخرج ذلك من مال القراض، بل من غيره، وقال أشهب: إذا بيعوا نظر إلى الفضل، فإن كان ربع المال أو ثلثه، فقد صار للعامل ثمن المال أو سدسه إذا كان قراضهم على النصف، فعليه من الزكاة بقدر ما صار له من العبيد؛ لأنه قد كان له شريكا يؤمئذ. قال ابن حبيب: فعلى قول أشهب: تؤخذ الزكاة مما بيد المقارض، فإذا تفاصلا نظر إلى الربح، ثم تكون الزكاة على ما ذكر. قال ابن المواز: قول ابن القاسم في ذلك هو الصواب، لأن الزكاة ها هنا على الأبدان، لا على المال، والزكاة تجب قبل تمييز العامل حقه، ولا يصير له حتى يقبضه.
ومنشأ الخلاف، النظر إلى العامل هل مالك قبل انضاض المال أم لا؟ وقد أشار إلى ذلك أشهب وابن المواز.
الرابعة: الموصي برقبته لرجل، وبخدمته لآخر. قال ابن القاسم في الكتاب: الزكاة على الموصى له بالرقبة إذا قبل ذلك، كما لو أخدمه سيده رجلا، فإن الزكاة على السيد.
وقال ابن المواز عنه: هي على المخدم، لأنه المنتفع ناجزا، لا على من أوصى له بمرجع الرقبة كالنفقة. وقيل: إن طال زمان الخدمة، فالزكاة على المخدم، وإن قصر، فهي على مالك الرقبة.
وتجب في كل واحد من المغضوب والآبق الزكاة، إذا كانت غيبته قريبة. وهو ترجى حياته ورجعته، فإن بعدت غيبيته ويئس منه، سقطت الزكاة عن سيده فيه.
الطرف الثاني: في صفة المؤدي:
وهي: الإسلام، الحرية، واليسار، فلا زكاة على كافر ولا رقيق ولا معسر، وهو الذي لا يفضل له عن قوت يومه صاع، ولا وجد من يسلفه إياه. وقيل: هو الذي يجحف به في معاشه إخراجها، وقيل: من يحل له أخذها.
ثم قيل فيمن يحل له أخذها: إنه الذي يحل له أخذ الزكاة، وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك.
وعلى الأول يجوز أو يعطى لإنسان واد أكثر من صدقة إنسان واد، هو المشهور.
وعلى الثاني لا يعطى أكثر من ذلك. وروى مطرف: أنه استحب لمن تولى تفرقة زكاته أن يعطي كل مسكين ما أخرج عن إنسان من أهله من غير إيجاب، وله إخراج ذلك على ما يحضره بالاجتهاد. قال في كتاب ابن المواز: ولو أعطى زكاة نفسه وحده مساكين لم يكن به بأس.
وفي وجوبها على من له عبد لا يملك غيره، وعلى من عليه دين، خلاف.
الطرف الثالث: في الواجب. والنظر في جنسه وصفته وقدره.
فجنسه القوت، قال في الكتاب: تؤدى من القمح والشعير والسلت والذرة والأرز والدخن والزبيب والتمر والأقط. وكذلك في كتاب محمد من رواية ابن القاسم وزاد ابن حبيب العلس، واختلف فيما عدا ذلك.
فأما القطنية إذا كانت عيش أهل الموضع، ففي إجزائها روايتان: الإجزاء في مختصر ابن عبد الحكم، ونفيه في الكتاب.
وإما التين، فقال مالك في الكتاب: لا يجزيه، وكذلك في المختصر، وترجح فيه في المستخرجة.
وأما الدقيق، فقال مالك: لا يجزي إخراجه. وقال ابن حبيب: إنما ذلك للربع، فإذا أخرج منه بمقدار ما يريع القمح أجزأه، وقاله أصبغ.
وأما السويق، فقال محمد: لا يخرج من السويق، وإن كان عيش قوم. وقال ابن القاسم: يخرج منه.
وقال أشهب: لا يتعدى بها الأربعة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: الشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، إلا أن الشعير يدخل معه القمح والسلت، لأنهما من جنس واحد.
ورأى القاضي أبو بكر أن تخرج من عيش كل أمة، من اللبن لبنا، ومن اللحم لحما، ولو أكلوا ما أكلوا، فمساكينهم أشراكهم، لا يتكلفون لهم ما ليس عندهم، ولا يحرمونهم ما بأيديهم، قال: وغير ذلك فلا أدري ما هو، والله أعلم.
وصفته: غالب عيش البلد من ذلك، وقال أشهب: يراعى عيشه وعش عياله، إذا لم يشح على نفسه وعليهم. واختاره القاضي أبو بكر.
وقدره: صاع من كل صنف من هذه الأصناف، وقيل: يجزيه في البر خاصة نصف صاع، وروى أشهب: قيل لمالك: أيؤدي الرجل الفطر بالمد الأكبر؟ قال: لا، بل بمد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن أراد أن يفعل خيرا، فليفعله على حدته.

.خاتمة في قسم الصدقات، وفيه بابان:

.الأول: في بيان الأصناف الثمانية.

الصنف الأول: الفقير: الذي يملك الشيء اليسير الذي لا يكفيه لعيشه، واختلف إذا كان بيده نصاب لا يقوم به وبعياله لكثرتهم، هل له أخذ الزكاة مع ملكه له أم لا؟ فروى ابن المواز: أن له ذلك. وروى المغيرة ما ي دل على مرعاة النصاب، فلا تدفع الزكاة لمالكه، ولا يشترط فيه عدم القدرة على الكسب. وقيل: يشترط، ولا يشترط الزمانة ولا التعفف عن السؤال في استحقاق هذا السهم.
المكفي بنقية أبيه لا يعطى، ولا يجوز للأب إعطاؤه، لأنه يدفع النفقة عن نفسه، والمكفية بنفقة زوجها لا تعطى، لأن نفقتها كالعوض، ولا تعطي هي زوجها عند ابن القاسم.
وقال أشهب: أكره ذلك، فإن فعلته ولم يرد ذلك عليها فيما يلزمه من مؤونتها أجزأها، وإن رده إليها فيما يلزمه لم يجزئها.
الثاني: المسكين، وهو أحوج من الفقير، وهو الذي لا شيء له جملة. وحكى عبد الجليل الصابوني عن على بن زياد رواية، أنهما سواء، ثم قال: فعلى هذا تكون الأصناف التي توضع فيها الزكاة سبعة.
الثالث: العامل على الزكاة، كالساعي والكاتب والقسام والحاشر، وغيرهم.
أما الإمام والقاضي والفقيه والقارئ فرزقهم في مال بيت المال، من خراج وخمس وعشر، وغير ذلك.
الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، فكانوا يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم، لينكف غيرهم بانكفافهم وإسلامهم، وقد أغنى الله تعالى في هذا الوقت عنهم، فلا سهم لهم.
قال القاضي أبو محمد: وإن دعت الحاجة إليهم في بعض الأوقات، جاز أن يرد سهمهم.
وقال القاضي أبو بكر: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما قال يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعض المتأخرين: اختلف في صفتهم، فقيل: هم صنف من الكفار، يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، لكن يسلمون بالعطاء والإحسان.
وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين أسلموا، ولهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. قال: وهذه الأقوال متقاربة المعنى، والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد.
فالمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان، وصنف بالقهر، وصنف بالإحسان. والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر.
الخامس: الرقاب، وهو فك الرقاب، بأن يبتاعها الإمام من مال الصدقات، فيعتقها عن المسلمين، ويكون الولاء لجميعهم.
قال محمد عن ابن القاسم: ولا يجزي إلا ما يجري في الرقاب الواجبة. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يعتق أعمى أو أعرج أو مقعد.
وقال ابن وهب: وفي الرقاب، قال: المكاتبين. وقال مطرف: لا بأس أن يعطي من زكاته المكاتب ما يتم به عتقه، أو في قطاعه مدبر ما يعتق به، وهما لا يعتقان في الرقاب الواجبة.
فرع:
لو اشترى من زكاته رقبة أعتقها ليكون الولاء له، فهل تجزيه عن زكاته؛ لأنه بمنزلة من أمر غيره بعتق رقبة، أو ذبح أضحية له، فأنفذ ذلك عن نفسه، أو لا يجزيه لأنه استمسك بها حين أبقى الولاء له؟ قولان أشهب وابن القاسم.
ولا يفك الأسير من زكاة ماله، فإن فعل لم تجزئه، قاله ابن القاسم. وقال ابن حبيب: بل تجزيه، لأنها رقبة قد ملكت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، فكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب التي بأيدينا.
السادس: الغرام وهو من أدان في غير سفه ولا فساد، ولا يجدون وفاء، أو تكون معهم أموال هي بإزاء ديونهم، فيعطون ما يقضون به ديونهم وإن كانت لهم أموال، لأن أموالهم ديون عليهم، فإن لم تكن لهم أموال وكانت عليهم ديون، فهم فقراء وغارمون، فيعطون بالوصفين، الفقر إذ لا مال لهم، وبالغرم لأن عليهم ديونا، في غير سفه.
وفي الصرف إلى أن من أدان في سفه، ثم نزع عنه، وإلى من دينه لله كالكفارات والزكوات التي فرط فيها، خلاف.
فرع:
قال القاضي أبو الوليد: ويجب أن يكون هذا الغارم ممن ينجبر حاله بأخذ الزكاة، ويتغير بتركها، وذلك بأن تكون له أصول يستغلها ويعتمد عليها، فيركبه دين يلجئه إلى بيعها، ويعلم أنه إذا باعها خرج عن حاله، فهذا يؤدي دينه من الزكاة. قال: وأما من كان على حالة من الابتذال والسعي، فأراد أن يتدين بأموال الناس ليكون منها دين في ذمته، فيكون غارما ما يؤدي عنه من الزكاة، فلا يجوز ذلك. ولأن الغرم عن هذا لا يغير حاله ولا يضطره منعه إلى الخروج عن عادته، قال: وللخروج عن الهادات تأثير في إسقاط العبادات، كالاستطاعة في الحج.
السابع: سبيل الله، والمراد به الجهاد دون الحج، يدفع من الصدقة إلى المجاهدين ما ينفقونه في غزوهم، أغنياء كانوا أو فقراء، ويشتري الإمام من بعض الصدقة خيلا وسلاحا، وينفذه لمن يغزو به.
الثامن: ابن السبيل، وهو الغيب المنقطع به عن الوصول إلى بلده، أو استدامة سفره، وإن كان غنيا ببلده، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف،؛ إذ لعله لا يقدر على إبرائها، وقيل: إذا قدر على التسلف، فلا يعطى.
وفي جواز الأخذ وإن كان معه ما يغنيه لكونه ابن سبيل روايتان: المشهورة أنه لا يعطى، ثم ما أخذ فلا يلزمه رده إلى معطيه إذا صار إلى بلده، ولا إخراجه في وجوه الصدقة.
فهؤلاء المستحقون بشرط أن لا يكون الموصوف بصفة من هذه الصفات كافرا، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ذكر في قسم المؤلفة قلوبهم، ولا يكون من أقارب المزكي الذي تجب عليه نفقتهم.
وإن كانوا من لا تلزمه نفقتهم، لكنهم في عياله، قد روى مطرف: لا ينبغي أن يفعل ذلك، فإن فعل فقد أساء، ولا يضمن إن لم يقطع عن نفسه بذلك الإنفاق عليهم. وقال ابن حبيب: فإن قطع بذلك الإنفاق عليهم عن نفسه فلا تجزيه، لأنه انتفع بزكاة ماله، حيث قطع بها عن نفسه نفقة من كان التزم الإنفاق عليه والقيام به وظهور الإحسان إليه، ثم استعان على ذلك ويشترط خروجهم عن آل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال القاضي أبو الوليد: وذكر القاضي أبو الحسن: إن من أصحابنا من قال: تحل لهم الصدقات الواجبة، ولا يحل لهم التطوع؛ لأن المنة قد تقع فيها. ومنهم من قال: يحل لهم التطوع دون الفرض. قال: وكان شيخا رحمه الله، يريد الشيخ أبا بكر الأبهري، يقول: قد حلت لهم الصدقات كلها، فرضها ونفلها. قال القاضي أبو الوليد: وما ذكره من إباحة صدقة التطوع لهم دون الفرض، هو رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية.
وإذا قلنا بأنهم لا يعطون، فمن هم؟ لا خلاف في عد بني هاشم، وعدم عد من فوق غالب، وفي عد من بينهما خلاف، عدهم أشهب، واقتصر ابن القاسم على بنى هاشم.
واختلف أيضا في إعطاء مواليهم منها، فأجازه ابن القاسم، ومنعه مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ وابن حبيب.
قال اصبغ: احتججت على ابن القاسم بالحديث: مولى القوم منهم، فقال: قد جاء حديث: ابن أخت القوم منهم. وإنما تفسير مولى القوم منهم، في الحرمة والبر منهم به، كما يفسر الحديث: أنت ومالك لأبيك، يريد في البر والطواعية، لا في القضاء واللزوم.

.الباب الثاني: في كيفية الصرف إليهم:

وفيه مسائل:
الأولى: فيما نعرف به هذه الصفات:
أما الخفي، كالفقر والمسكنة، فمن ادعاه صدق، ما لم يشهد ظاهره بخلاف ذلك، أو يكون من أهل الموضع، ويمكن الكشف عنه، فيكشف عنه، وإلا صدق، وكذلك إن كان طارئا.
وأما الجلي، فالغازي معلوم بفعله وكونه فيه، ولو أعطي بقوله، فلم يحقق الموعود، استرد.
وأما الغارم، فيطالب بالبينة على الدين، وعلى العسر إن كان عن مبايعة، إلا إذا كان عن طعام أكله.
والمؤلف قبله ظاهر.
والمدعي أنه ابن سبيل يعطى إذا كان على هيئة الفقراء، ويكتفى بقرينة حاله.
الثانية: في قدر المعطى.
فالغارم يعطى على قدر دينه، والفقير والمسكين يعيطان كفايتهما وكفاية عيالهما.
وفي جواز إعطاء النصاب، وإعطاء من يملكه خلاف. وروى علي وابن نافع: ليس في ذلك حد، وإنما هو على اجتهاد المتولي، وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة، فيعطى الفقير قوت سنة، وروى المغيرة: يعطى دون النصاب ولا يبلغه.
والمسافر يعطى قدر ما ي بلغه إلى المقصد، أو إلى الموضع ماله.
والغازي يعطى ما يقوم به في حال الغزو. والمؤلفة قلوبهم يعطون ما يراه الإمام والعامل يعطى أجر مثله.
ولا يعتبر الثمن في العامل ولا ف غيره من الأصناف، بل قسمتها على الاجتهاد من الإمام، وعلى قدر ما يراه من الحاجة، زاد على الثمن أو نقص عنه، استغرق جميع الأصناف أو بعضها أو صنفا واحدا أو بعضه، اعتبارا لجملة الأصناف بواحدها، إذ اللام لبيان المصرف لا للتمليك.
فرعان:
الأول: من اجتمعت فيه صفتان استحق سهمين، وقال القاضي أبو الحسن: لا يعطى سهمين، بل يعطيه الإمام على الاجتهاد، وكذلك المتولي زكاة ماله.
الفرع الثاني:
في صفة الإعطاء.
وهي أن يخرج المتصدق الصدقة من يده، ولا يحبسها عنده، ويجريها على من تصدق بها عليه، رواه المغيرة.
المسألة الثالثة: نقل الصدقة عن موضع وجوبها غير جائز، وهو البلد الذي فليه المال المالك والمستحقون للزكاة، فإن نقلها أو دفعها إلى فقراء غير بلده، كره ذلك له وأجزأ عنه.
وقال سحنون: لا يجزيه.
ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة، جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة بغيره إليه.
وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول، فتفرق الصدقة عنده؛ إذ هو سبب الوجوب، أو مكان المالك، إذ هو المخاطب بها فيخرجها حيث هو؟ في ذلك قولان.
وأما صدقة الفطر، فإنما ينظر فيها إلى موضع المالك فقط.
فرع:
حيث قلنا: تنقل الزكاة، فروى ابن القاسم: أن الإمام يتكارى عليها من الفيء. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليها، ولكن يبيع ذلك، ثم يشتري مثله بالموضع. وفي العتبية عن مالك فيمن وجبت عليه صدقة ماله وهو بموضع ليس فيه مساكين: أنه يحمله إلى المساكين، ويكري من عنده حتى يبلغه.
الرابعة: إذا كان الوالي يعدل في الأخذ والصرف، لم يسع المالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غير ذلك، بل يرفع زكاة الناض إلى الإمام. وأما زكاة الحرث والماشية، فيبعث الإمام في ذلك. وقيل: زكاة الناض إلى أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان المصرف الفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف لأداء الاجتهاد إلى ذلك، فلا يفرق عليهم إلا الإمام.
ثم حيث قلنا: للمالك أن يفرقها، فالأفضل له أن يوليها غيره ليسلم من الحمد، إلا أن لا يكون عارفا بمصارفها، فيتعين عليه رد أمرها إلى غيره.
ولو كان الإمام جائرا لم يجز دفعها إليه، لا عن الظاهر ولا عن الباطن، فإن دفعها إليه اختيارا لم تجزئ عنه إذا كان يجوز في صرفها.
وإن أخذها جبرا، فإن عدل في صرفها أجزأت عنه، وإن لم يعدل فيه، ففي إجزائها عنه قولان، منشؤهما: الخلاف في نفوذ قسمة الغاصب.
ثم الإمام إذا نصب ساعيا فليكن جامعا لشرائط الولاية، ومن شرائطها أن يكون عارفا بأبواب الزكوات، ففيها فيها، وينبغي له أن يسم الصدقات.
الخامسة: صدقة التطوع.
وفي تحريمها على آل الرسول صلى الله عليه وسلم قولان كما تقدم، وصرفها سرا، وإلى الأقارب والجيران أفصل، والاستحباب في شهر رمضان آكد.
هذا آخر كتاب الزكاة، وقد رأيت أن أضيف إليه فصلا يتعلق به.
فصل:
قد تقدم في هذا الكتاب ذكر اعتبار المقادير بالكيل والوزن، ووقفت من تحريرهما على ما رأيت أن أثبته ها هنا رجاء النفع، وهو ما خرج النسائي بإسناده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المكيال على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة».
وخرج أبو داود عن أحمد بن حنبل قال: «صاع ابن أبي طيب خمسة أرطال وثلث»، قال أبو داود: وهو صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسند عبد الحق البجائي إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: ذكر لي أبي أنه عبر مد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدها رطلا و ثلثا في المد، قال: ولا تبلغ في التمر هذا المقدار، قال: وبحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة وستة أعشرا حبة وعشر عشر حبة، فالرطل مائة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور، قال: ووجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به تؤدى الصدقات ليس أكثر من رطل ونصف، ولا أقل من رطل وربع، وقال بعضهم: رطل وثلث: وليس هذا اختلافا، ولكنه على حسب رزانة المكيل من التمر والبر والشعير. انتهى كلامه.
وانتهى بانتهائه كتاب الزكاة وما يتعلق به.
بسم الله الرحمن الرحيم

.كتاب الصوم:

.والنظر في الصوم والفطر.

.أما الصوم:

.فالنظر في سببه وركنه وشرط وسنن.

.أما السبب:

فاثنان:
الأول: رؤية الهلال، وتحصل بالخبر المنتشر، وهو الكمال فيها، ولا يفتقر ذلك إلى شهادة، وتثبت بشهادة عدلين على الإطلاق، وقيل: إن كانت السماء مصحية والمصر كبيرا، فلا يكفي الشادان، ويعزى هذا إلى سحنون. والحكم في هلال شوال كمال ذكرنا.
ولا يثبت الهلال برؤية واحد، إلا في حق الرائي خاصة، لكن يجب عليه أن يرفع شهادته إلى الحاكم إن كان ممن تقبل شهادته، رجاء أن ينضاف إليه غيره فيثبت الحكم. وقيل: يرفع وإن كان لا يرجى قبول شهادته، لجواز الاستفاضة.
وإذا رؤي الهلال في بلد لزم غيرهم الصوم بذلك، والقضاء إن فاهم من غير تفصيل.
وحكى القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون، أنه رأى: إن كانت ثبت بأمر شائع، فالحكم كذلك، وإن كان ثبت عند الحاكم بشهادة شاهدين كسائر الأحكام، لم يلزم من خرج من ولايته، إلا أن يكون أمير المؤمنين، فيلزم القضاء جماعتهم إذا كتب بما عنده من شهادة أو رؤية إلى من لم يثبت عنده.
وإذا رؤي هلال شوال بعد الزوال أو قبله، لم يجز الإفطار إلا بعد الغروب، لأنه لليلة.
المستقبلة. وقال ابن وهب وابن حبيب وعيسى بن دينار: إن رئي الهلال قبل الزوال، فلا يجوز الإمساك، لأنه لليلة الماضية.
السبب الثاني: العدد، وإنما يعتبر عند عدم الرؤية، وهو عبارة عن إكمال عدة الشهر المنقضي ثلاثين يوما، فيجب صوم اليوم الحادي والثلاثين في أول الشهر، وفطره في آخره.
فرع:
ولا اعتماد على ما ذهب إليه بعض الناس من اعتبار المفارقة في الهلال، ولا التفات إليه، لأنه إن كان فاسدا فلا دلالة له، وإن كان صحيحا، فلم يعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حصر السبب فيما ذكرنا، فكان ما سواه غير معتبر في الشرع، فلا يجوز الاعتماد عليه بوجه.

.القول في ركني الصوم:

وهو النية والإمساك.
الركن الأول: النية:
فعليه أن ينوي نية معينة مبنية جازمة، فلا يصح صيام من غير نية.
وحكى القاضي أبو محمد عن عبد الملك بن الماجشون وصاحبه أحمد بن المعذل أنهما يقولان: إن أصبح ولم يأكل ولم يشرب، ثم علم أن اليوم من شهر رمضان مضى على إمساكه، وأجزأه من صيامه، ولا قضاء عليه.
والتعيين: أن ينوي أداء فرض رمضان.
ومعنى التبييت: أن ينوي لكل يوم من كل نوع من ليلته، ويستثني من ذلك شهر رمضان، فله أن يجمعه بنية واحدة من أوله، ولان صوم الشهر عبادة واحدة، ولا يتخلل بين أجزائها إلا ما يتخلل بين النية وبين افتتاحها، فلا يضر تخلله كاليوم الأول، هذا ما لم يقطعه أو يكن على حالة يجوز له الفطر، فيلزمه استئناف النية.
ويستثنى أيضا شهر التتابع، وكذلك من شأنه سرد الصوم. قال الشيخ أبو بكر: وهذا القول من مالك في الصيام النفل يبه أن يكون استحسانا. فأما القياس فإن عليه أن ينوي كل ليلة، لجواز أن يفطر بدل الصوم، ويصوم غير الذي عود نفسه، فهو مخالف لصوم رمضان. وقيل: لا يستثنى من ذلك رمضان ولا غيره، وحكاه القاضي أبو بكر رواية. واختار الأخذ بها.
والمعنى بالجازمة أن لا تكون مترددة، فإن النية المترددة باطلة، فمن نوى ليلة الشك صيام غد إن كان من رمضان، لم يجزئه، لأنها غير جازمة، نعم، لا يضر التردد بعد حصول الظن بشهادة أو استصحاب كما في آخر رمضان أو اجتهاد في حق الأسير وشبهه.
ثم إن غلط الأسير بالتأخير لم يلزمه القضاء، وإن غلط بالتقديم لزمه القضاء إن كان شهرا واحد. وكذلك إن استمر ذلك شهورا في سنين متوالية، فإنه يقضي الجميع على المشهور. وقال ابن الماجشون: يقضي الأخير فقط.
الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات.
وهي: الجماع، والاستمناء، والاستقاء على خلاف فيه خاصة، ودخول الداخل، وضبط الدخول، كل عين يمكن الاحتراز منه غلابا، وصل من الظاهر إلى المعدة والحلق من منفذ واسع كالفم والأنف والأذن، وفي إلحاق الحقنة بالمائعات بذلك خلاف. وكذلك في إلحاق غير المغذي من ذلك به، أو القصر عليه، فيفطر بالحقنة بالمائع على قول، وبالسعوط أيضا إذا وصل إلى حلقه، وقال أشهب: رأى عليه القضاء؛ إذ لا يكاد يسلم، قال: وأما المحتقن فلا شك فيه، وليقضيا في الواجب والتطوع.
ولا يفطر بالكحل إذا لم يكن يتحلل منه شيء، وإن أن مما يتحلل منه شيء إلى الحلق أفطر به، وقال أبو مصعب: لا يفطر به. وكره ابن القاسم الكحل من غير تفصيل.
ولا يفطر بما يقطر في الإجليل، ولا بالفصد أو الحجامة. ولا بتشرب الدماغ الدهن بالمسام، إلا أن يجد طعم ذلك في حلقه، قاله في السليمانية. ولا بالحقنة بما لا ينماع، ولا بوصول ما تعالج به الجائفة إلى الجوف؛ لأنه لا يصل إلى مدخل الطعام؛ إذ لو وصل إليه لمات.
أما تعذر الاحتراز غالبا، فنعني به إذا طارت ذبابة إلى جوفه، أو وصل غبار الطريق إلى بأنه.
وأما غبار الدقيق فقال أشهب في مدونته: عليه القضاء، وقال القاضي أبو محمد: لا شيء عليه. واختلف أيضا في غبار الجباسين، وأولى بعدم الإفطار.
ولا يفطر من سبق إلى جوفه فلقة حبة بين أسنانه، وقال أشهب: أحب إلي أن يقضي، قاله عنه ابن عبد الحكم. وأما ذلك فليقض، قال الشيخ أبو محمد: يريد أن أمكنه طرحها. وأما لو أوجز بغير اختيار، فإنه يفطر.
ولو استقاء عامدا أفطر، ووجب عليه القضاء، ورأي الشيخ أبو القاسم: أنه مستحب.
ولو ذرعه القيء لم يفطر إلا أن يرد شيئا من ذلك إلى جوفه بعد إمكان طرحه. وروى ابن أبي أويس أن عليه القضاء، وإن لم يزدرده. ويفطر بابتلاع الحصاة والنواة عامدا، وقال بعض المتأخرين: لا يفطر.
ولو ابتلع دما خرج من سنه أو سنا أفطر إن كان قادرا على طرح ذلك. وقيل: لا يفطر.
ولو كان مغلوبا لم يفطر. وإن سبق الماء في المضمضة إلى باطنه أفطر وإن لم يبالغ.
والجماع واستدعاء المني بالاستمناء أو باستدامة الفكر، أو النظر بمجردهما من غير استدامة سبب لوجوب القضاء والكفارة، ولو لم يخرج بهما إلا المذي كان سببا للقضاء إن كان استدامهما.
ويختلف في جوبه أو استحبابه، فإن لم يستدمهما فلا شيء عليه، وكذلك ما دون الإمذاء من الفكر والنظر والقبلة، وإن كره الإقدام على تعمد ذلك.
والغالط الذي يظن غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر،يفطر، يلزمه القضاء.
ويرحم الأكل عند الشك في غروب الشمس أو في طلوع الفجر، وقيل: يكره عند الشك في الطلوع. وقال ابن حبيب: يباح له الأكل عند الشك في الطلوع، ثم إن تبين أنه أفطر بد الطلوع أو قبل الغروب وجب القضاء على كل حال، وإن لم يتبين له الأمر بعد الأكل جرى وجوب القضاء واستحبابه على الخلاف المتقدم.
ولو طلع الفجر وهو يجامع، فعليه القضاء إن استدام، فإن نزع ففي إثبات القضاء ونفيه خلاف بين ابن الماجشون وابن القاسم، سببه أن النزع هل يعد جماعا أم لا؟

.القول في شرائط صحة الصوم:

وهن أربع: ثلاث في الصائم وهي: الإسلام، والنقاء عن دم الحيض، والعقل.
فعدم الإسلام وعدم النقاء يمنعان الصحة، وكذلك زوال العقل بالجنون، أما استتاره بالنوم فلا يمنع الصحة.
وكذلك انغماره بالإغماء إن طرأ بعد الفجر، ودام أيسر النهار. ويمنع إن كان قبل الفجر وتمادى إلى غروب الشمس، وفي منعه إذا برأ قبل الفجر وزال بعده بيسيره أو بعد الفجر ودام نصف النهار أو أكثره خلاف.
الشرط الرابع: الوقت القابل للصوم، وهو جميع الأيام، ويستثني من ذلك يوما العيدين باتفاق. وفي أيام التشريق خلاف وتفصيل، فإن نذر صومها لم يصم اليومين الأولين، وقيل: يصومهما، وصام اليوم الثالث. وقيل: لا يصومه، ويصوم جميعها المتمتع. وقيل: هو كغيره.
وصوم يوم الشك جائز إن وافق وردا أو قضاء أو نذرا. وكذلك لو لم يكن له سبب على المشهور، وقال محمد بن مسلمة بكراهية صومه ابتداء من غير سب. ونصوص المذهب على النهي عن صيامه حوطة. ويوم الشك هو يوم ثلاثين من شعبان إذا كانت السماء متغيمة.
القول في السنن: وهي تعجيل الفطر بعد اعتقاد الغروب، فول أراد الوصال، فحكى أبو الحسن اللخمي قولين في جواز ذلك ونفيه، ثم اختار جوازه إلى السحر، وكراهيته إلى الليلة القابلة.
وتأخير السحور مستحب، وكذلك كف اللسان عن الهذيان، وترك السواك بالرطب، وترك المبالغة في المضمضة والاستنشاق.

.القسم الثاني من الكتاب: في مبيحات الإفطار وموجباته:

.أما المبيح:

فهو المرض والسفر الطويل، وهو سفر القصر. وطارئ المرض في أثناء النهار مبيح، وطارئ السفر لا يبيح، فإن أفطر بعد شروعه في السفر، وقد كان بيت في الحضر، فإن كان متأولا فظاهر المذهب أن لا كفارة عليهن وإن لم يتأول، ففي وجوبها وسقوطها قولان.
وإن أفطر قبل الشروع في السفر، فقال أشهب في كتاب ابن سحنون: لا كفارة عليه، سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: يكفر سافر أو لم يسافر، ثم رجع فقال: إن سافر لم يكفر، وإن لم يسافر كفر. وقال ابن الماجشون وابن القاسم في كتاب ابن حبيب: إن أفطر قبل أن يأخذ في أهبة السفر كفر، وإن أفطر بعد أن أخذ في أهبة السفر متأولا ثم سافر لم يكفر. قال ابن الماجشون: وإن عرض له ما حبسه عن السفر كفر. وإذا زال المرض والسفر وهو غير مفطر لم يبح الإفطار.
والمسافر إذا أصبح على نية، فليس له أن يفطر، إلا أن يطرأ عليه عذر يقتضي الفطر، ومنه التقوى للقاء العدو؛ كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال مطرف: له أن يفطر من غير طروء عذر.
وإذا فرعنا على منع الفطر فأفطر، ففي وجوب الكفارة وسقوطها ثلاثة أقوال: الوجوب للمغيرة وبن كنانة. والسقوط رواية. والتفرقة لابن الماجشون، فيوبجها في الجماع دون الأكل والشرب.
والصوم في السفر أحب من الفطر لتبرئة الذمة. وقال عبد الملك بن الماجشون: الفطر أفضل، وري أنهما سيان.

.وأما موجبات الإفطار فخمسة:

الأول: القضاء، وهو يتنوع إلى قضاء رمضان، وإلى قضاء غيره، وقضاء غير رمضان يذكر عند ذكره.
فأما قضاء رمضان فواجب على كل مفسد للصوم أو تارك له بسفر أو مرض أو إغماء أو حيض أو سهو، وكذلك الحيوان. وقيل: مما لم تكثر السنون. وقيل: ما لم يبلغ مجنونا.
ولا يجب على من ترك بصبا أو كفر، ولا على المفند الذي لا يستطيع صومه إلا بخوف التلف، ولا يجب التتابع في قضاء رمضان، ولكن يستحب.
الثاني: الإمساك تشبها بالصائمين، وهو واجب على كل متعد بالإفطار في شهر رمضان، أو ظان للإباحة مع عدمها. وغير واجب على من أبيح له الفطر إباحة حقيقية كالمريض يصح، والمسافر يقدم، والحائض تطهر في بقية النهار.
ومن أصبح يوم الشك مفطرا، ثم تبين أنه في رمضان، أمسك.
أما الصبا والجنون والكفر، فإذا زال شيء منها لم يجب الإمساك. وقيل: يجب في الكفر خاصة.
ومن نوى التطوع في رمضان لم ينعقد، وإن كان مسافرا لتعين الوقت. وحكى القاضي أبو بكر فيه رواية بالانعقاد، واستضعفها كثيرا.
فأما لو صامه قضاء عن رمضان آخر عليه، فقال ابن القاسم في العتبية وأشهب في مدونته: لا يجزيه عن واحد منها. وفي الكتاب: أرى أن يجزيه، وعليه قضاء رمضان الآخر، روي بكسر الخاء وفتحها، فحصل من ذلك قولان آخران عن ابن القاسم.
الثالث: الكفارة، ولا تجب إلا في رمضان دون غيره من أنواع الصوم، وتجب بالخروج عن صومه على وجه الهتك من كل معتقد لوجوبه من رجل أو امرأة، لكل يوم كفارة لا يسقطها عن ويم وجوبها في آخر، من غير اعتبار بالأنواع التي يخرج عن الصوم بها من جماع أو أكل أو شرب أو غر ذلك، ولا بالوجهة الذي يخرج عن الصوم من اعتماد تركه أو بعد عقده بقطع نية أو إمساك، ولا بطروء عذر بعد ذلك أو عدمه، كمعتمد الفطر يمرض، أو يسافر، أو يجن، أو تحيض المرأة على المشهور نظرا إلى الحال شيء وقيل: بإسقاط الكفارة عند طروء العذر نظرا إلى المآل.
وكذلك الخلاف في القائل: اليوم نوبتي في الحمى، فيفطر ثم تأتيه. وفي القائلة: اليوم أحيض. فأفطرت ثم حاضت، وأولى بالإسقاط ها هنا وفي المستقيء خلاف. وكذلك مبتلع ما لا يغطي قصدا.
ولا تجب على الناسي، لأنه لم ينتهك، وقيل: تجب عليه في الجماع خاصة، والمكره كالناسي.
وتجب بالزني وبجماع الأمة، ووطء البهيمة، والإتيان في غير المأتي. ولا تجب على من ظن أن الصبح غير طلاه، فجامع. وتجب على المنفرد برؤية الهلال. وقال أشهب: إن تأولا فلا تجب عليه، وعلى من جامع مرارا في أيام، لكل يوم كفارة كما تقدم.
ولا تتكرر بتكرر الانتهاك في اليوم الواحد، وقيل: تتكرر إن كان الانتهاك الثاني عبد التفكير.
ولو أكره امرأة لم يجب عليها أن تكفر بحال، ووجبت عليه كفارتان عنه وعنهما في المشهور. وقيل: لا كفارة عليه عنها.
ثم اختلف الأصحاب، هل هذه الكفارة متنوعة أم تختص بالإطعام خاصة؟ وسبب اختلافهم احتمال لفظ الكتاب، وصيغته: قلت: وكيف الكفارة في قول مالك؟ قال: الطعام لا يعرف غير الطعام، لا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام هذا نص لفظه.
فمن نوع حمله على الأولى، ويجزي غيره. ومن خصص حمل اللفظ على ظاهره، والصحيح التنويع، ورد ظاهر هذه الرواية إلى مذهبه في الموطإ، وإلى ما رواه ابن الماجشون عنه، وهو أن الإطعام أفضل.
وإذا فرعنا على التنويع، فأنواعها ثلاثة: عتق وصيام و‘طعام، وهي على التخيير ككفارة الأيمان. وقيل على الترتيب ككفارة الظاهر.
النوع الأول: العتق، فيعتق رقبة كاملة غير ملفقة، مؤمنة، سليمة، محرر، وتحريرها أن يبتدئ إعتاقها من غري أن يكون مستحقا بوجه.
النوع الثاني: الصيام، وهو صوم شهرين متتابعين.
النوع الثالث: الإطعام، هو إطعام ستين مسكينا، مدا، لكل مسكين، بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أشهب: مدل لكل مسكين أو غداء وعشاء، والإطعام أحب إلينا من الغداء والعشاء.
وإذا فرعنا على المشهور، فالإطعام يعمها. وقيل: تتنوع: فتكون إطعاما إن كانت بفير جماع، وعتقا أو صياما إن كانت عن جماع.
ثم إذا قلنا بالتسوية مع اختلاف الموجب، فالإطعام أفضل لأنه الأمر المعمول به في الحديث، ولأنه أعم نفعا؛ إذ الصيام لا يتعدى نفعه المكفر، والإعتاق وإن تعدى نفعه المكفر، فلا يتجاوز المعتق، ويتعدى نفع الطعام إلى ستين مسكينا، فيحيا به مثل هذا العدد، لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات. وقيل: العتق أفضل. وقال المتأخرون: يختلف ذلك بالأوقات والبلاد، فالأول في ارتفاع الأسعار، والثاني في انخفاضها.
وتستقر الكفارة في الذمة عند العجز عن جميع الخصال وقت الإفساد، ثم المعتبر حالة التكفير على القول بالترتيب.
الموجب الرابع: قطع التتابع والنية.
أما قطع التتابع، فهو أن يفطر بغير عذر، أو بعذر يمكنه دفعه، كالسفر، فأما ما لا يمكنه دفعه من سهو أو مرض، أو خطأ عدة أو حيض، فيجزي البناء معه.
وأما قطع النية، فهو إفساد الصوم أو تركه على الإطلاق لعذر أو غير عذر، أو بحصول الوجه الذي يسقط معه الانحتام، وإن آثر الصوم معه كالسفر والمرض، ولا يقطع استدامتها، وإنما يقطع استصحاب ابتدائها.
الخامس: الفدية، وهي مد من طعام لمسكين عن كل يوم، وتجب ثلاثة أمور:
أحدها: ما يجب لفضيلة الوقت وهو في حق الحامل والمرضع.
فأما الحامل إذا خافت على ولدها، فروى ابن وهب: أنها تفطر وتطعم. وقال أشهب: تطعم استحبابا من غير إيجاب. وقال في الكتاب: تفطر وتقضي، ولا إطعام عليها لأنها مريضة. وقال ابن الماجشون: إن خافت على حملها وجبت عليها، وإن خافت على نفسها لم تجب عليها. وقال أبو مصعب: إذا خافت على ولدها قبل مضي ستة أشهر أطعمت، وإن دخلت في الشهر السابع لم تعم لأنها مريضة.
وأما المرضع إن احتاجت إلى الفطر لولدها إذ لم يقبل غيرها، أو لم يقدر على الاستئجار له، فقال في الكتاب: تطعم. وقال في المختصر: لا إطعام عليها.
ومنشأ الخلاف: أنها مطيقة في نفسها، وغير مطيقة لضرورة الولد.
الثاني: كل من لا مرض به، ويعلم أنه لا يمكنه إكمال صوم اليوم، كالمتعطش والشيخ الكبير، فيطعم استحبابا. وقيل بوجوب الإطعام عليه. وقال أبو الحسن اللخمي: الصواب سقوط الإطعام عنه.
الثالث: ما يجب لتأخير القضاء، فلكل يوم أخر قضاؤه عن السنة الأولى مع الإمكان مد، ولا ي تكرر بتكرر السنين، ويخرجها عند الأخذ في القضاء، وقال أشهب: عند تعذر القضاء واستقرارها في الذمة، لأنه سبب الوجوب، فكلما مضى يوم من شعبان قد تعين للقضاء أطعم عن يوم، لأنه صار مفرطا.
وأما صوم التطوع، فيلزم إتمام ما شرع فيه منه، وكذا القضاء، ولو لم يكن على الفور، فإن أفطر في التطوع متعمدا من غير عذر، فعليه القضاء، وإن أفطر في القضاء متعمدا، فهل يجب عليه قضاء الأصل فقط، أو قضاؤه وقضاء القضاء؟ قولان.
ولو أفطر في التطوع لمرض أو حض أو غيره من الأعذار المبيحة للفطر، لم تجب عليه قضاء. ولو أفطر ناسيا أتم، ولا شيء عليه.
فأما إن سافر فيه، فأفطر من غير ضرورة، فقال في الكتاب: عليه القضاء. وقال ابن حبيب: لا قضاء عليه.
وأما الفطر في المنذور، فإن كان عمدا عصا ووجب عليه القضاء، وإن كان نسيانا أو لعذر، فإن كان النذر غير معين وجب القضاء، وغن كان معينا فقيل: يجب. وقيل: لا يجب، وقيل: يجب في النسيان، ولا يجب في الحيض والمرض. وقيل: يجب إن كان المقصود صوم يوم، ولا يجب إن كان المقصود هو اليوم لمعنى فيه.
وعلى ذلك يخرج الخلاف في مسألة ناذر الصوم يوم يقدم ف لأن، فيقدم نهارا، مذهب الكتاب سقوط القضاء. وقال أشهب: يلزمه القضاء.
ولنختتم الكتاب بذكر:

.صوم التطوع المرغب فيه:

وهو في السنة صوم يوم عرفة لغير الحاج وعاشوراء وتاسوعاء ويوم التروية، ففي الحديث «إن صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية، وصيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية». وروى أيضا أن صيام يوم التروية كصيام سنة.
ومن المرغب فيه صوم الأشهر الحرم وشعبان وعشر ذي الحجة، فقد روى أن صيام كل يوم منها يعدل صيام سنة.
وورد في الصحيح: صيام ستة أيام من شوال، إلا أن مالكا أتقى أن يلحق الجاهل بالفرائض ما ليس منها على أصله في كراهية التحديد، واستحب صيامها في غل ذلك الوقت لحصول المقصود به من تضاعف أيامها وأيام رمضان حتى تبلغ عدة العام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة».
ومحمل تعيين محلها في شوال عقيب الصوم على التخفيف في حق المكلف لاعتياده الصيام، ولا لتخصيص حكمها بذلك الوقت فلا جرم لو فعلها في عشر ذي الحجة مع ما روي من فضل الصيام فيه لكان أحسن لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيام المذكورة.
والسلامة مما أتقاه مالك رضي الله عنه. وقال مطرف: إنما كره مالك صيامها لئلا يلحق أهل الجهل ذلك برمضان، وأما من رغب في ذلك لما جاء فيه، فلم ينهه.
وأما في الشهر، فقال ابن حبيب: روي أن صيام الأيام البيض صيام الدهر، قال: وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر: أول يوم منه هن ويم عشرة ويوم عشرين. قال: وبلغني أن هذا صوم مالك بن أنس. واختار الشيخ أبو الحسن المبادرة بالثلاثة أول الشهر، وعلل بأنه لا يدري ما يقطعه عن ذلك.
فأما صوم الدهر، فقال الشيخ أبو الطاهر: هو مستحب، وكرهه أبو القاضي أبو بكر.
ونص مالك رضي الله عنه على كراهية توقيت منذور من صيام أو غيره. قال: ولكن يفعل متى أحب.
تم كتاب الصيام والحمد لله.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد.

.كتاب الاعتكاف:

.وحقيقته في اللغة:

اللبث في المكان.

.وفي الشريعة:

اللبث في المسجد للعبادة.
وهو قربة، ومن نوافل الخير، لا سيما في العشر الأواخر من شهر رمضان لطلب ليلة القدر.
وقد اختلف في قوله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» هل المقصود ظاهر هذا اللفظ؟ أو يكون المقصود ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين؟ فيكون معنى اللفظ: لتسع بقين، ولسبع بقين، ولخمس بقين. وهذا هو قول مالك في الكتاب من رواية ابن وهب.

.ثم النظر في ثلاثة فصول:

.الأول: في أركانه، وهي أربعة:

.الأول: استمرار الإقامة على عمل مخصوص:

وهو ما خصه من العبادة كالصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله تبارك وتعالى. وقيل: جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، القاصرة، والمتعدية في ذلك سواء، ومع الكف عن الجماع ومقدماته. ويجوز له أن يأمر ببعض شؤونه، وما فيه مصلحة معاشه، ولا بأس أن يعقد النكاح وأن يتطيب.

.الركن الثاني: المعتكف:

وهو كل مسلم عاقل، فيصح اعتكاف الصبي والرقيق، والردة والسكر المكتسب مانعان من الصحة، قارنا الابتداء أو طرآ، ويجب استئنافه بطروء أحدهما.
وأما زوال العقل من غير اكتساب، كالجنون والإغماء، فيوجبان البناء دون الاستئناف، ولو صدر منه يوجب الكفارة في الصيام أفسد الاعتكاف.
فأما لو صدرت منه كبيرة، فإنها تبطل الاعتكاف عند العراقيين، وإن لم تبطل الصوم، كالقذف وشرب الخمر ليلا، ولا يبطل الاعتكاف بذلك عند المغاربة، ثم حيث بطل وجب قضاؤه.
وكذلك إن انقطع اتصاله بما لا يسقط معه قضاء الصوم، فإن كان بحيث يسقط فيه قضاء الصوم، فلا يجب قضاء الاعتكاف. ويختلف في وجوب قضائه حيث يختلف في وجوب قضاء الصوم.

.الركن الثالث: الصوم.

ولا يصح الاعتكاف دونه، ولا يشترط كونه له. فلا يصح اعتكاف بعض يوم، ولو طرأ عليه ما يمنع الصوم فقط، ففي وجوب المقام في المسجد مع تعذر الصوم خلاف، وذلك كالمريض القادر على الملازمة دون الصوم، أو يصح في بعض النوم، أو تظهر الحائض في أضعاف النهار وتغتسل.
وكذلك المعتكف أواخر شهر رمضان أياما يتخللها العيد. وإذا قلنا في هذا باللزوم، فالخلاف أيضا في خروجه إلى العيد، وهو على مراعاة الخلاف في أنه لا يلزمه اللزوم.

.الركن الرابع: المعتكف:

وهو المسجد، ويعتكف في عجزه ورحابه. ويكره للمؤذن المعتكف أن يرقى على ظهر المسجد. واختلف قوله في صعوده المنار، فمرة قال: لا، ومرة قال: نعم، وجل قوله فيه: الكراهة، وهو رأي ابن القاسم.
ويستوي في ذلك جميع المساجد، إلا إذا نوى مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، فيتعين الجامع، وقيل بل يكره الاعتكاف حينئذ في غيره فقط.
ومنشأ الخلاف: هل يبطل الاعتكاف بخروجه إلى الجمعة، وهو المشهور، أم لا؟
فإن فرعنا على عدم الإبطال، فإنه يتم اعتكافه ي الجامع وقيل: يعود إلى مسجده، فيتم فيه، ولا يصلح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها.

.الفصل الثاني: في حكم النذر:

والنظر في ثلاثة أمور:
الأول: التتابع، فإذا قال الله علي أن أعتكف شهرا لزمه التتابع وإن لم يشترطه.
ولو قال: أعتكف هذا الشهر فسد أوله بتعمد فساد آخره، واستأنفه متتابعا في القضاء والشروع، كالنذر.
الثاني: في استتباع الليالي، فإذا نذر اعتكاف شهر دخلت الليالي، ويكفيه شهر بالأهلة، وكذلك لو نذر اعتكاف يوم أو أيام دخلت ليلته ولياليها.
ولا يفترق الليل والنهار في شيء من أحكام الاعتكاف سوى الصوم.
الثالث: في قاطع التتابع، وهو انقطاع بعض شروط الاعتكاف، ومن ذلك الخروج عن المسجد لغير عذر، وأما العذر فعلى مراتب:
الأولى: الخروج لقضاء الحاجة، وهو غير ضار، ولا يجب قضاء تلك الأوقات، ولا تجديد النية عند العود. ولا فرق بين قرب المكان وبعده، إذا لم يجد أقرب منه، وبين أن يكثر الخروج لقضاء الحاجة أو يقل، ولا يشتغل بعيادة مريض في الطريق، ولا بصلة الجنازة، فإن جامع عامدا في وقت قضاء الحاجة أبطل اعتكافه، واستأنفه.
الرتبة الثانية: الخروج للمرض والحيض والنسيان.
وليس بقاطع للتابع أيضا.
الرتبة الثالثة: خروجه مضطرا لما تعين عليه من حق الله تعالى، كجهاد، أو حق آدمي كحبس في دين، وفي بطلان اعتكافه بذلك لأنه قاطع لاتصاله كقطع الصلاة بفعل يضادها، وعدم بطلانه لأنه ضروري، كالمرض والحيض، قولان.
وهذا ما لم يقصد بالاعتكاف الهرب من حق وجب عليه فيلزمه الخروج، ويبطل اعتكافه قولا واحدا، وفي بطلانه بالخروج مكرها خلاف.
ولو اشترط الخروج لغير ما ذكر جواز خروجه له، لم ينفعه اشتراطه، وكان وجوده كعدمه.

.الفصل الثالث: في حكم الاعتكاف:

عند الدخول فيه والخروج منه، وحالة طروء العذر القاطع.

.فأما الدخول فيه:

فإن حصل قبل غروب الشمس من ليلة اليوم الذي قصد اعتكافه أجزأه بلا خلاف، وإن حصل بعد طلوع فجره لم يجزئه.
فإن دخل بين غروب الشمس وطلوع الفجر، ففي الصحة والبطلان خلاف؛ منشئه طلب استكمال النهار، وقد حصل، وهو قول القاضي أبي محمد. واستواء الليل والنهار في أحكام الاعتكاف سوى الصوم، ولم يحصل؛ إذ لا يصح استيفاء جميع أجزاء الليل إلا دخل قبل الغروب، وهذا قول ابن الماجشون، وهو ظاهر قول مالك.

.وأما الخروج منه:

فلا شك أنه إذا خرج بعد غروب الشمس من آخر يوم من أيام اعتكافه، كان ذلك جائزا وصح اعتكافه، إلا إذا كان الاعتكاف للعشر الأواخر من شهر رمضان، فإنه يؤمر ببقائه في معتكفه إلى حيث يخرج منه إلى العيد. وروى سحنون عن ابن القاسم: أنه يخرج من معتكفه ليلة الفطر، وعمدة الفرق فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إذا فرعنا على البقاء، فهل ذلك واجب، أو مندوب إليه؟ قال القاضي أبو محمد: هو مندوب إليه. وقال ابن الماجشون وسحنون: هو على الوجوب.
وثمرة هذا الاختلاف: فساد الاعتكاف بالخروج إذا قلنا بوجوب البقاء، وعدم الفساد إذا قلنا باستحبابه. ولذلك قال سحنون: إن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه.

.وأما حالة طروء العذر:

فحكمه البقاء على ما يقدر عليه من أفعال الاعتكاف، ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه، فالحائض تفعل ما لا يمنعها الحيض منه، كملازمة الذكر، وتجنب الاستمتاع والاشتغال بما يمنع المعتكف منه، ويسقط عنها الصوم، وملازمة المسجد.
وكذلك المريض إذا عجز عن الصوم أو تعذر عليه دخول المسجد لمرضه، أو اجتمعا له.
فرع:
قال سحنون: اعتكف في رمضان فمرض، ثم خرج رمضان ثم أفاق، فعليه إذا أفاق قضاء الصيام، وليعتكف فيه.
وأما لو كان في غير رمضان فلا قضاء عليه لما مرض فيه. وقال ابن عبدوس: إن مرض قبل أن يدخل فيه في غير رمضان، فلا يلزمه شيء مما مرض فيه. قال الشيخ أبو محمد: يريد وهي أيام بأعيانها نذرها، قال: وأما إن مرض بعد أن دخل فيه، فليقض ما مرض فيه لبقاء حرمة العكوف عيه.
تم كتاب الاعتكاف والحمد على ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد.

.كتاب الحج:

وهو ركن من أركان الإسلام، واجب على من استطاعه من أحرار المكلفين.
ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وفي كونها على الفور، أو مسترسلة على الزمان إلى خوف الفوت، خلاف.
فالذي يحكيه العراقيون عن المذهب أنها على الفور. قال أبو القاسم بن محرز وغيره من المتأخرين: ومسائل المذهب تدل على خلاف ذلك. قال الشيخ أبو الطاهر: وإشارتهم إلى ما وقع في المذهب من التراخي به لرضى الآباء، قال: وهذا لا يدل على ثبوت التراخي، لأن رضى الآباء واجب، فمراعاته كتعارض واجبين.
ثم النظر في المقدمات والمقاصد واللواحق.

.القسم الأول: في المقدمات:

وهي الشرائط والمواقيت.

.القول في الشرائط:

ولا يشترط الحج إلا الإسلام؛ إذ يصح للولي أن يحرم عن الصبي. وكذلك المجنون يحرم عنه أبوه، ويحج به.
ولا يشترط لصحة المباشرة إلا الإسلام والتمييز، فإن المميز لو حج بإذن الولي جاز، وكذلك العبد. ولا يشترط لوقوعه عن حجة الإسلام إلا الإسلام، والحرية، والتكليف.
ويشترط لوجوب حج الإسلام ما عاد الإسلام من هذه الشرائط، مع الاستطاعة، ثم هي معتبرة بحال المستطيع ي صحة بدنه، وفي ماله وعادته، ومحالة على القدرة والإمكان من غير تحديد.
وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، ومسافة الطريق، ووجود الجلد وعدمه. وقال ابن حبيب: الاستطاعة: الزاد والراحلة. وذكر ابن عبدوس مثله عن سحنون. وتؤول على من بعدت داره. فعلى المشهور: من حلاه القدرة على المشي يلزمه الحج، وإن لم يجد الراحلة.
وكذلك الأعمى إذا وجد قائدا، وكان جلدا على المشي، أو كان عنده ما يركب.
ويجب على من لا يجد طيرققا إلا في الرحر، إلا أن يكون غالبه العطب، أو يكون هو يعلم من حال نفسه أنه يميد حتى يعطل الصلوات. ولو كان لا يجد موضعا لسجوده، لكثرة الراكب وضيق الموضع، فقد قال مالك إذا لم يستطع الركوع أو السجود إلا على ظهر أخيه، فلا يركبه، ثم قال: أيركب حيث لا يصلى!؟ ويل من ترك الصلاة.
والمرأة كالرجل إلا في استصحاب الولي، ويختلف في إلزامها الحج مع عدمه إذا وحدت رفقة مأمونين، ومع الحاجة إلى البحر أو المشي.
ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو الأموال، أو يطلب من الأموال ما لا يتحدد بحد مخصوص، أو يتحدد بقدر يجحف، وفي سقوطه بغير المجحف خلاف.
ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته، وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه، وقيل: لا يجب.
ولو لم يكن عنده من الناض ما يحج به، وعنده عروض، فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدين.
وسئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القرية ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده لا شيء لهم يعيشون به؟ قال: نعم، ذلك عليه، ويترك ولده في الصدقة.
ويكره له أن ينتقل بالحج قبل أداء رضه، فإن فعل لمخ ينقلب إلى الفرض، بل يقع كما نواه.
هذا حكم المباشرة، فإن عجز عنها، لم تلزمه الاستنابة، ولا تجوز إن اختارها؛ إذ لا تصح النيابة، وهي وقوع الحج عن المحجوج عنه. وروي إجازة ذلك. وقال ابن واهب وأبو مصعب: تجوز في حق الولد خاصة. وقال ابن حبيب: جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به، ويجزيه إن شاء الله. وقال أشهب في كتاب محمد: إن حج عن الشيخ الكبير أجزأه.
وإذا أوصى الميت بالحج عنه، وكان صرورة، نفذت وصيته. وقيل: لا تنفذ، فإن لم يوص، لم يحج عنه، وقيل: يحج عنه إن كان صرورة، ثم حيث صححنا النيابة، فهي تقع بأجر وبغير أجر، فإن وقعت بأجر، فهي على قسمين:
قسم هو إجازة بعوض يكون ثمنا للمنافع، كالإجارات كلها، فيكون العوض ملكا للمستأجر، فإن عجز عن كفايته لزمه إتمامه من ماله، وما فضل عنها، كان له.
والقسم الآخر يسميه أصحابنا البلاغ، وهو: أن يدفع إليه مال ليحج به، فهذا لا يجوز له صرفه في غير الحج، وإن احتاج إلى زيادة رجع بها، وإن فضل شيء رده، وله أن ينفق ما لا بد له منه مما يصلحه، من الكعك والزيت وأكل اللحم مرة بعد مرة، وشبه ذلك، والوطاء واللحاق والثياب، فإذا رجع رد ما ف ضل من ذلك كله، ورد الثياب. قال محمد: وإنا لنكره ذلك، وهذا والإجارة في الكراهة سواء، وأحب غلينا أن يؤاجر نفسه بشيء مسمى.
والإجارة على الوجهين جميعا مكروهة على المشهور، لأنها من باب طلب الدنيا بعمل الآخرة، إلا أنها إن وقعت على أحد الوجهين لزمت من الجانبين للخلاف فيها.
وحكم الأجير إن ينوي الحج لمن حج عنه، فإن نوى لنفسه انفسخت الإجارة، إلا أن يكون استؤجر على عام لا بعينه.
ولو اشترط عليه الإفراد بوصية الميت، فقرن أو تمتع، لم يجزئه.
ولو شرط عليه بغير وصية فخالف، ففي الأجزاء خلاف، فإن لم يشترط، فإن قلنا ثم بالإجزاء فها هنا أولى، وإن قلنا بعدمه، ففي ثبوت الإجزاء ها هنا ونفيه ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين أن يقصد بالعمرة فتجزئه، وبين أن يقصد بها نفسه فلا يجزئه.
ثم إن تمتع أعاد الحج ثانيا، وإن قرن فسخت الإجارة، لأنه خان، ولا تؤمن عودته.
وهل يتعين للعقد أول سنة، أو يفتقر إلى تعيين الزمان الذي يحج فيه؟ للمتأخرين في ذلك قولان.
وإذا فرعنا على الافتقار، بطل العقد عند عدم التعيين. وكذلك اختلفوا أيضا في وجوب الفعل على الأجير على نفسه، أو تعلقه بذمته.
وكذلك المعين في الوصية، إلا أن يكون على حالة ترغب في عينه، وعليه يخرج الخلاف في امتناعه، هل يعوض بغيره، أو تبطل الوصية، ويجتزئ الورثة بما بذلوا قليلا كان أو كثيرا، إذا لم يسم الميت قدرا، ووجدوا من يحج بما بذلوه ممن حيث أوصى، لا من الميقات، ولا من مكة، إلا أن يظهر منه قصد إلى غر ذلك، فيصار إليه. فإن سمى قدرا معلوما ولم يجدوا من يحج بدونه، استأجروا به كله، فإن وجدوا بدونه من يحج ما نص عليه الميت من حجة أو حجج، كان الفاضل لهم؛ إلا أن يظهر من قدره غنه أراد إعطاء جملة ما عين من المال إلى رجل بعينه، فيعطاه.
فإن لم يسم ما يحج عنه، ووجد من يحج عنه حجة واحدة بدون ما عين، فهل يرد الباقي إلى الورقة، أو يحج به عند حجج؟ فيه خلاف.
ولا شك أن الآخذ على الإجارة يضمن ما ضاع منه، إذ على ملكه تلف.
فإن ضاع من الآخذ على البلاغ، رجع ما لم يحرم، فإن تمادى قبل الإحرام، فلا شيء له، وإن تمادى بعده، كانت نفقته في ذهابته وعودته على المستأجر، إن لم يكن للميت مال، فإن كان له مال، فهل يكون منه، أو من مال المستأجر؟ فيه خلاف.
ولو صد الأجير أو مات حتى افتقروا إلى استئجار غيره، واستأجروا من حيث انتهى.
ولو لم يوحد من يحج عنه بما أوصى به إلى استئجار غيره، استأجروا من حيث انتهى.
ولو لم يوحد من يحج عنه بما أوصى به أو بثلثه إلا من المواقيت أو من مكة، فهل يحج عنه بذلك من حيث وحد، ا ويرجع ميراثا؟ ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يكون صرورة فيحج عنه، أو غير صرورة فيرجع ميراثا.
إذا صد الأجير فأراد أن يقيم على إحرامه إلى عام ثان، أو يتحلل وأراد البقاء على إجارته ليحج في العام الثاني، فللمتأخرين في المسألتين قولان. ثم إذا فسخت الإجارة، فله من الأجر بقدر ما بلغ.
هذا حكم الحج في الوجوب والاستطاعة والنيابة والإجارة، وتساويه العمرة في جميع ذلك، خلا الوجوب، فغنها سنة مؤكدة. ومذهب ابن حبيب وابن الجهم أنها واجبة.

.المقدمة الثانية: في المواقيت:

والميقات الزماني للحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة روي جميعه، وروي العشر الأول منه، وروي إلى آخر أيام التشريف.
وفائدة الخلاف: تعلق الدم بتأخير طواف الإفاضة.
وأما العمرة: فجميع السنة وقت لها، ويصح الإحرام بها في كل وقت من غير كراهية إلا في أيام منى لمن حج، ويكره أيضا تكرارها في السنة الواحدة. وقال مطرف: لا يكره.
ومراعاة هذا الميقات للأولى، وقيل: للأوجب، فلو أحرم قبل أشهر الحج انعقد إحرامه وصح، وقيل: لا ينعقد.
أما الميقات المكاني: فهو في حق المقيم مكة في الحج لا في العمرة ولا في القران، وقيل: يحرم في القران منها أيضا.
أما الأفاقي: فميقاته إن توجه من جانب المدينة: ذو الحليفة. ومن الشام ومصر: الجحفة، ومن اليمن: يلملم، ومن نجد: قرن، من العراق: ذات عرق.
وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر بها إلا أن يمر بها من له ميقات دون ما مر به، كالشامي أو المصري يمر بذي الحليفة، فله تجاوزها إلى الجحفة، وإن كان الأفضل له أن يحرم من ذي الحليفة ميقات النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الذي مسكنه بين الميقات وبين مكة، فميقاته مسكنه، والاختيار لمريد الإحرام أن يحرم من أول الميقات، فإن أحرم من آخره فلا بأس. ومن حاذي ميقاتا فميقاته عند المحاذاة؛ إذ المقصود مقدار البعد عن مكة. وإن جاء من ناحية لم يحاد ميقاتا ولا مر به يحرى محاذاتها وأحرم. والأفضل أن يحرم بالحج من ميقاته زمانه ومكانا، ويكره تقديمه عليه، ويلزم أن فعل ثم مهما جاوز ميقاته، فإن كان ضرورة فإن تجاوز الميقات وهو مريد للحج أو العمرة غر محرم فهو مسيء عليه وعليه الدم، ويسقط عنه بالعود إليه قبل أن يبعد عنه وهو حلال، فإن عاد بعد البعد والإحرام لم يسقط. وإن قصد دخول مكة حلالا، ثم بدا له أن يحرم فأحرم دونها، فعليه دم. وقال محمد: لا هدي عليه، وإنما الهدي على من جاوز ميقاته، يريد الإحرام.
وإن تمادى غير محرم حتى دخل مكة، ففي وجوب الدم عليه بذلك خلاف، إلا أن يكون من مكثري التردد إليها، كالمترددين بالحطب والفاكهة، ومن في معناهم، لمشقته في التكرار.
ولو تجاوز الميقات، يريد الحج، ثم أحرم به، ففاته فتحلل بعمرة، ففي وجوب الدم ونفيه قولان لأشهب وابن القاسم.
وأما العمرة، فميقاتها كميقات الحج، إلا في حق المقيم بمكة، مكيا كان أو آفاقيا، فإن عليه الخروج إلى طرف الحل ولو بخطوة في ابتداء الإحرام.
فإن لم يفعل ذلك حتى طاف وسعى، لم يعتد بعمرته، لأنه لم يجمع بين الحل والحرم.
والحاج بوقوف عرفة جامع بينهما، والأفضل للمعتمر الإحرام من الجعرانة، أو التنعيم.

.القسم الثاني من الكتاب: في المقاصد:

وفيه ثلاثة أبواب:

.الباب الأول: في وجوه أداء النسكين:

وهي ثلاثة:
الأول: الإفراد، وهو أن يأتي بالحج مفردا عاريا عن صفتي التمتع والقران، وهو أفضل منهما، والتمتع أفضلهما.
الثاني: القران، وهو أن يحرم بهما جميعا، فيتحد الميقات والفعل، وتندرج العمرة تحت الحج.
ولو أحرم بالعمرة، ثم أدخل الحج عليها قبل الطواف كان قارنا، فإن شرع في عمل العمرة، فقال أشهب: لا يصح قرانه حينئذ. وقال ابن القاسم: يصح ما لم يكمل الطواف، وقال أيضا: ما لم يركع، وذكر القاضي أبو محمد: أنه يصح، ويرتدف الحج ما لم يكمل السعي.
ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح، لأنه لا يتغير الإحرام به بعد انعقاده، وكذلك إرداف أحدهما على مثله، ولا يصح أيضا الجمع بين مثلين في عقد الإحرام.
الثالث: التمتع، وهو أن يفرد العمرة ثم الحج، لكن يتحد السفر؛ إذ يحرم بالحج قبل رجوعه إلى أفقه، أو إلى مثله، وله خمسة شروط:
الأول: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، فإن الحاضر ميقاته نفس مكة، فلا يكون قد ربح ميقاتا.
وكل من مسكنه بمكة أو ذي طوى، فهو من الحاضرين، دون غيره: وقيل: بل كل من مسكنه دون مسافة القصر حوالي مكة. وقيل: بل كل من مسكنه دون المواقيت، وتردد مالك فيمن له أهل بمكة، وأهل بغيرها وقال: هي من مشتبهات الأمور، والاحتياط في ذلك أعجب إلي، وقال أشهب: إن كان أكثر إقامته بمكة، ويأتي غيرها منتابا، فلا هدي عليه، وإن كان بالعكس من ذلك، فعليه الهدي. قال أبو الحسن اللخمي: ولا يختلف في هذا، وقال: وإنما تكلم مالك على من تساوت إقامته في الموضعين.
فرع:
المراعى في حضور المسجد الحرام وقت فعله النسكين وابتدائه بهما، فإن كان في ذينك الوقتين مستوطنا مكة فحكمه حكم أهل الآفاق، وإن كان مستوطنا سائر الآفاق، فحكمه حكم أهل الآفاق.
الثاني: أن يتحلل من العمرة من أشهر الحج، ثم يحرم به، فلو تقدم تحللها لم يكن متمتعا، إذ لم يزحم الحج بالعمرة في مظنته.
الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة.
الرابع: أن لا يعود إلى أفقه، ولا إلى أفق مثل أفقه.
الخامس: أان يقع النسكان عن شخص واحد.
وإنما يجب دم التمتع بإحرام الحج، وهل يجوز تقديمه على الحج بعد إحرامه بالعمرة؟ فيه خلاف أجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في تقديم الكفارة قل الحنث؛ لأن الموجود من هذا إنما هو أحد سببي التمتع، وهو العمرة.

.الباب الثاني: في أعمال الحج:

وفيه اثنا عشر فصلا:

.الفصل الأول: في الإحرام:

وينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل، مما يتعلق بالحج كالتلبية والتوجه على الطريق.
وقال ابن حبيب: التلبية كتكبيرة الإحرام، فعلى حقيقة تشبيه لو نوى وتوجه نحو البيت من غير تلبية، لم ينعقد إحرامه.
أما لو تجردت عنهما، فالمنصوص أنه لا ينعقد. ورأى أبو الحسن اللخمي إجراء الخلاف في هذه الصورة من الخلاف في مسألة انعقاد بمجرد النية. وأنكر الشيخ أبو الطاهر هذا الاستقراء، وقال: لم يختلف المهب أن العابدات لا تلزم إلا بالقول أو النية والدخول فيها، وهو الشروع.
وصفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك نلبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
قال أشهب: ومن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة، اقتصر على حظ وافر، ولا بأس عليه إن زاد على ذلك فقد زاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك، لبيك مرهوبا منك، ومرغوبا إليك.
وزاد ابن عمر: لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيدك لبيك، والرغبى إليك والعمل.
ولو أحرم مطلقا لا ينوي حجا ولا عمرة، فقال أشهب: هو بالخيار، إن شاء جعلها حجة، وإن شاء جعلها عمرة، وأحب إلي أن يجعلها حجة، وقع له في موضع آخر: أحب إلي أن يكون قارنا.
ولو اختلف العقد والنطق، فالاعتبار بالعقد. وروي: ما يشير إلى اعتبار النطق، فروى ابن القاسم فيمن أراد أن يهل بالحج مفردا فأخطأ، فقرن أو تكلم بالعمرة، فليس ذلك بشيء، وهو على حجه. قال في العتبية: ثم روجع مالك فقال: عليه دم، وقاله ابن القاسم. ولو أحرم مفصلا، ثم نسى ما أحرم به، فإنه يكون قارنا عند أشهب. وقال غيره: يحرم بالحج، ويعمل حينئذ القران.
ولو شك هل أفرد أو قرن هن تمادى على نية القران وحده.
وإن شك هل أحرم بالحج أو بالعمرة مفردا، طاف وسعى، لجواز أن يكون إحرامه بعمرة، ولا يحلق لإمكان أن يكون في حج، ويتمادى على عمل الحج، ويهدي لتأخير الحلاق لا للقران؛ لأنه لم يحدث نية للحج، بل تمادى على نيته الأولى، وهي لشيء واحد.
أما العمرة فلا يضره تماديه بعد فراغه من سعيها. وأما الحج فيكون مفردا، ويكون ما تقدم من الطواف والسعي له لا للعمرة.

.الفصل الثاني: في سنن الإحرام:

وهي أربع:
الأولى: الغسل تنظفا حتى يسن للحائض والنفساء، ويغتسل الحاج لثلاثة مواطن:
للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة.
ولا يتطيب بعد الغسل، ولا يتطيب قبله أيضا بما تبقى رائحته بعد الإحرام.
فن فعل فقد أساء، ولا فدية عليه. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الفدية، وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله.
الثانية: التجرد عن المخيط في إزار ورداء ونعلين.
الثالثة: أن يصلي ركعتين أو أكثر، ثم يلبي ناويا. فالراكب يبتدئ إذا ركب، وأراد الأخذ في السير. والماشي إذا أخذ في المشي، والأحسن أن تكون الصلاة مختصة بالإحرام، فإن أحرم عقيب الفرض، فلا بأس.
ولو أتى الميقات في وقت نهي، أمر بالانتظار لوقت الصلاة، إلا أن يكون خائفا أو مراهقا فيحرم.
الرابعة: أن يجدد التلبية عند كل صعود وهبوط، وحدوث حادث، وخلف الصلوات، وإذا سمع من يلبي.
ولا تفرع الأصوات بالتلبية في شيء من المساجد، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى.
ولا يلبي في الطواف والسعي، فإن لبى فلا حرج، فإذا فرغ من سعيه عاود التلبية.
ويستحب رفع الصوت بها إلا للنساء، ولا يسرف في رفع الصوت، ولا يلح فلا يسكت. ثم يقطع في الحج إذا كان قاصدا لمكة حين يأخذ في الطواف.
ثم يعاود التبية بعد فراغه من السعي إلى أن يقطع إذا زاغت الشمس من يوم عرفة في رواية ابن المواز. وإذا راح إلى المصلى في رواية ابن القاسم. وإذا راح إلى الموقف في رواية أشهب، واختارها سحنون، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه: أنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة. واستحسنه أبو الحسن اللخمي، ويقطع المعتمر من المواقيت وما قاربها، إذا دخل الحرم، وإن أحرم من القرب، فإذا دخل بيوت مكة.

.الفصل الثالث: في سنن دخول مكة:

وهي أن يغتسل بذي طوى، ويدخل مكة من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهي الصغرى التي بأعلى مكة، يهبط منها على الأبطح والمقبرة فيها عن يسارك، وأنت نازل منها. ويخرج من ثنية كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير، وهي الوسطى التي بأسفل مكة. فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يدخل المسجد من باب بنى شيبة، فيأتي الركن الأسود، ويتبدئ بطواف القدوم.
وكل من دخل مكة من غير مكثري التردد، فإنه يحرم عليه دخولها حلالا، وإن لم يرد نسكا، وقيل: يكره. وقال أبو مصعب: يباح..

.الفصل الرابع: في الطواف:

وواجباته ستة:
الأول: شرائط الصلاة من طهارة الحدث والخبث وسترة العورة، إلا أنه يباح فيه الكلام.
فرعان:
الأول: لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة، رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف. وقال المغيرة: يعيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه.
الفرع الثاني:
لو طاف وفي ثوابه أو بدنه نجاسة، فعلم بها بعد طوافه فأزالها وصلى، لم يعد الطواف كمن ذكر بعد الوقت.
وإن ركع بها الركعتين أعادهما فقط إن كان قريبا، ولم ينتقض وضوءه. فإن انتقض أو طال ذلك، لا شيء عليه، كزوال الوقت.
قال أصبغ: سلامه من الركعتين، كخروج الوقت، وليس إعادتهما بواجب، وهو حسن أن يعيدهما بالقرب.
قال أشهب: إن علم بنجاسة الثوب في طوافه، نزعه إن كان كثيرا، وأعاد طوافه. وإن علم بعد فراغه أعاد الطواف والسعي فيما قرب إن كان واجبا، ون تباعد فلا شيء ويهدي، وليس بواجب.
الثاني: الترتيب، وهو أن يجعل البيت على يساره، ويبتدئ بالحجر الأسود، ولو جعله على يمينه، لم يصح، ولزمته الإعادة. قيل: إذا رجع إلى بلده لن تلزمه إعادة.
ولو بدأ بغير الحجر لم يعتد بذلك الشوط إلى أن ينتهي إلى الحجر، فمنه يبتدئ الاحتساب.
الثالث: أن يكون بجميع بدنه خارجا عن البيت، فلا يمشى على شاذروانه، ولا في داخل محوط الحجر، فإن بعضه من البيت.
الرابع: أن يطوف داخل المسجد، فلو طاف خارجه لم يجزئه. ولا يطوف من وراء زمزم، ولا من وراء السقائف، فإن فعل مختارا، أعاد ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده فهل يجزيه الهدي أو يلزمه الرجوع؟ للمتأخرين قولان.
الخامس: رعاية العدد، فلو اقتصر على ستة أشواط لم يجزئه.
السادس: ركعتان عقيب الطواف مشروعتان، وليستا من الأركان. واختلف في حكمهما فقال القاضي أبو محمد: هما ستة. وقال القاضي أبو الوليد: الأظهر عندي أنهما واجبتان في الطواف الواجب، وتجبان بالدخول في التطوع. وقال الشيخ أبو الوليد: حكمهما حكم الطواف في الوجوب والندب.
فرعان:
الأول: لو ترك الحاج أو المعتمر الركعتين، أعاد الطواف، ثم أتى بهما عقيبه وسعى.
قال ابن القاسم: يركعهما، ولا يعد الطواف ولا السعي.
الفرع الثاني:
وهو مرتب: إذا قلنا بإعادة الطواف، ثم أتى بهما عقيبه وسعى.
وقال ابن القاسم: يركعهما، ولا يعيد الطواف ولا السعي.
الفرع الثاني:
وهو مرتب: إذا قلنا بإعادة الطواف لاتصال الركعتين به، فإن فات ذلك بالبعد عن مكة ركعهما وأهدى.
أما سنن الطواف، فهن أربع:
الأولى: أن يطوف ماشيا لا راكبا، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليظهر فيستفتي.
فإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر، فقال القاضي أبو محمد: يكره له ذلك.
وروى محمد لا يجزئه. قال القاضي أبو الوليد: وإنما يريد نحو ما ذهب إليه أبو محمد، لأنه روي عن مالك أنه قال: يعيد طوافه، فإن لم يفعل فليبعث بهدي.
الثانية: استلام الحجر الأسود بالفم ومس الركن اليماني باليد، فإن منعته الزحمة من الاستلام بالفم، اقتصر على لمسه بكفه، أو بما معه من عود إن لم يستطع لمسه. ثم في تقبيل ما يلمسه به، روايتان. ويستحب ذلك في آخر ذلك كل شوط.
الثالثة: الدعاء، وليس بمحدود. وقال ابن حبيب: يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
الرابعة: الرمل للرجل دون النساء في الأشواط الثلاثة الأول، والهيئة في الأربعة الأخيرة، وذلك في طواف القدوم.
وفي شرعيته في طواف الإفاضة للمراهق، وفي طواف القدوم في حق من أحرم من التنعيم وشبهه، خلاف. فإن ترك الرمل أولا لم يقضه آخرا؛ إذ تفوت به السكينة.
ولو طيف بالمريض الذي لا يقدر على الطواف بنفسه، أو بالصبي، فالمنصوص في المريض أنه يرمل به، وفي الصبي قولان، وأجراهما أبو الحسن اللخمي في المريض.
ولو زوحم الطائف رمل بحسب قدرته، إن كان متحركا، وسقط عنه إن كان وافقا، لعدم تصوره.
فرع:
لو طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه، أجزأ عن الصبي. ولو كان الطائف لم يطف عن نفسه، لم ينتقل إليه، ولا يكفيهما طواف واحد، بخلاف ما إذا حمل صبيين وطاف بهما طوافا واحدا، فإنه يكفيهما، كراكبين على دابة.

.الفصل الخامس: في السعي:

ومن فرع من ركعتي الطواف، استلم الحجر، وخرج من باب الصفا إليها، فترقى فيها حتى يبدو له البيت إن قدر، فيدعو ثم يمشي إلى المروة، ويترقى فيها ويدعو، ويسرع الرجال دون النساء في المشي في بطن المسيل، وهو ما بين الميلين الأخضرين. قال الشيخ أبو إسحاق: وثم ميل أخضر ملصق بركن المسجد، فإذا انتهى إليه سعى سعيا هو أشد من الرمل حول البيت، حتى يخرج من بطن المسيل إلى ميل أخضر هناك، ثم يعود إلى الهيئة. ويكمل له السعي بأن يحصل له الوقوف على الصفا أربعا، وعلى المروة أربعا، والترقي، والدعاء، وسرعة المشي سنن.
ولكن وقوع السعي بعد طواف ما شرط، فلا يصح الابتداء به، وليسع عقيب طواف القدوم، فإن كان مراهقا، فعقيب طواف الإفاضة.
ولو أخره غير المراهق، وأتى به بعد طواف الإفاضة، ففي لزوم الدم له وعدمه قولان لابن القاسم وأشهب.
فإن لم يأت به عقيب طواف الإفاضة، وأتى به عقيب طواف الوداع، فقال أبو الحسن اللخمي: يجزئه عند مالك، لأنه يرى أن واف التطوع في الحج يجزي عن الواجب. قال: ولا يجزي عند محمد بن عبد الحكم.
ولا تشترط فيه الطهارة، ولا شيء من شروط الصلاة بخلاف الطواف لكن تستحب.

.الفصل السادس: في الوقوف بعرفة:

وفي الحج ثلاثة خطب:
الأولى: أن يخطب الإمام اليوم السابع من ذي الحجة بمكة بعد الظهر خطبة واحدة، ولا يجلس فيها. وقل: يجلس في أثنائها، فيأمرهم بالغدو إلى منى، ويخبرهم عما يفعلونه إلى حين وصولهم إلى عرفة.
ثم يخرج اليوم الثامن بمقدار ما يدرك، بعد الوصول، صلاة الظهر هناك، ويبيت ليلة عرفة بمنى، ثم يغدو منها بعد طلوع الشمس، فيأتي عرفة، فيخطب بها بعد الزوال، وهي الخطبة الثانية، ويجلس في وسطها، يعلم الناس فيها ما يفعلونه من الوقوف والصلاة إلى اليوم الحادي عشر. ثم يخطب الثالثة اليوم الحادي عشر، فيعلمهم ما يفعلونه من بقية المناسك.
وإذا خطب الثانية بدأ المؤذن بالأذان إن شاء، والإمام في الخطبة. وإن شاء بعد فراغه منها، وقيل: إذا فرغ الإمام جلس، ثم أذن المؤذن. وفي الواضحة وغيرها: أنه إذا جلس بين الخطبتين أذن المؤذن، فإذا تمت الخطبة أقيمت الصلاة، فيصلي الظهر والعصر جميعا، ويجمع معهم العصر من صلى الظهر وحده، ثم يقبلون على الدعاء إلى وقت الغروب.
والوقوف راكبا أفضل، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أقوى على الدعاء.
فإن لم يكن راكبا قائما، ولا يجلس إلا لعلة، أو لكلال. ثم يفيضون بعد الغروب إلى المزدلفة.
ويستحب المرور بين المأزمين، فيصلون بالمزدلفة المغرب والعشاء في وقت العشاء.
فلو قدمها الحاج ق بلها، فقال ابن القاسم: يعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لها ميقاتا.
وقال أشهب: يعيد العشاء وحدها، إن صلاها قبل مغيب الشفق، ورأى التأخير رخصة لا عزيمة.
والواجب من الوقوف ما ينطلق عليه اسم الحضور في جزء من أجزاء عرفة، سوى بطن عرنة، فإن وقف ببطن عرنة لم يجزئه لأنها من الحرم.
وإن وقف بالمسجد، فوقف مالك وابن عبد الحكم في إجزائه، وقال أصبغ: لا يجزئه.
قال محمد بن المواز: ويقال: إن حائط المسجد القبلي على حده، ولو سقط لسقط في عرنة. قال أبو الحسن اللخمي: وعلى هذا يجزئ الوقوف فيه، لأنه من الحل. وقال: وكذا عند ابن مزين، أنه يجزئ الوقوف فيه.
واختلف في اشتراط كونه عاملا بأنه بعرفة، وفي اشتراط وقوفه بها، حتى لا يجزئ المرور من غير وقوف.
ولو أحضر المحرم المغمى عليه، ففي الكتاب قال: قال مالك يجزئه. وروى مطرف وابن الماجشون: إن أغمي عليه بعرفة قبل الزوال لم يجزئه، وإن أغمي عليه بعد الزوال، وكان ذلك قبل أن يقف أجزأه، وإن اتصل به الإغماء حتى دفع به، وليس عليه أن يقف ثانية إذا أفاق في بقية ليلته. قالا: وهو كالذي يغمى إليه في رمضان قبل الفجر أو بعده، وروي في: مختصر ما ليس في المختصر: إن وقف مفيقا ثم أغمي عليه أجزأه، وإن وقف مغمى علبيه فلم يفق حتى طلع الفجر، لم يجزئه. وقاله أشهب في مدونته.
ويبتدئ وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وينتهي بطلوع الفجر يوم العيد. ومتعلق الإجزاء من ذلك الليل، فلا بد من الوقوف في الليل ولو لحظة.
فلو أنشأ الإحرام ليلة العيد جاز؛ لأن «الحج عرفة» ووقته باق. ولو فارق عرفة نهارا، ولم يكن حاضرا وقت الغروب، ولا عاد بالليل تداركا، فقد فاته الحج.
فرعان:
الأول: من أتى قرب الفجر وقد نسي صلاة، فإن صلاها طلع الفجر ولم يقف، ففي كتاب ابن المواز: إن كان قريبا من جبال عرفة، وقف وصلى، وإن كان بعيدا بدأ بالصلاة وإن فاته الحج. وقال محمد بن عبد الحكم: إن كان من أهل مكة وما حولها، فليبتدئ بالصلاة، وإن كان من أهل الآفاق مضى إلى عرفة، فوقف وصلى.
الفرع الثاني:
لو وقف الحاج يوم العاشر غلطا في الهلال أجزأهم حجهم، ولم يجب القضاء، ويمضون على علمهم، ولو تبين لهم ذلك، وثبت عندهم في بقية يومهم أو بعده، ويكون حالهم في شأنهم كله كحال من لم يخطئ، وقاله ابن القاسم في العتبية، وقال أيضا: لا يجزئهم. واختلف فيه قول سحنون أيضا، وحكى الخلاف عنهما الأستاذ أبو بكر. وقال أبو القاسم بن الكاتب القروي: ليس بين مالك ومن اتبعه خلاف أن حجهم تام. قال: وكذلك نقل عن الشافعي ومن اتبعه، وأبى حنيفة ومن اتبعه، وجميع علماء الأمصار.
ولو وقفوا اليوم الثامن لم يجزئهم، ووجب القضاء. وحكى القاضي أبو بكر القول بالإجزاء عن ابن القاسم وسحنون، واختاره.

.الفصل السابع: في أسباب التحلل:

فإذا جمع الحجيج بين المغرب والعشاء بمزدلفة باتوا بها، ثم ارتحلوا بعد أن يصلوا الصبح مغلسين بها، فإذا انتهوا عند المشعر الحرام، وقوفا فكبروا ودعوا، ثم دفعوا قبل الأسفار الأعلى، فيجاوزون إلى وادي محسر، فيسرعون المشي فيه، فإذا وافوا منى بعد طلوع الشمس، رموا سبع حصيات إلى الجمرة الثالثة، وهي العقبة، وكبروا مع كل حصاة بدلا عن التلبية؛ لأنها للإحرام، والرمي تحلل، ويأتونها على حسب حالهم قبل وضع رحالهم: الراكب راكبا، والماشي ماشيا.
ثم ينحرون ويحلقون، ويعودون إلى مكة لطواف الإفاضة، ثم يعودون إلى منى للرمي في أيام التشريق.
وللحج تحللان.
يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة، والآخر بطواف الإفاضة.
ولو قدم إفاضة على رمي جمرة العقبة، فقال مالك وابن القاسم: تجزئه الإفاضة، وعليه الهدي، وقال مالك أيضا: لا تجزئه، وهو كمن لم يفض.
وقال أصبغ: أحب إلي أن يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد.
ويحل له بين التحللين جميع ما كان ممنوعا منه، إلا النساء والصيد والطيب.
والحلاق إن كان تحللا، فهو من المناسك هو أو التقصير.
وهل تفسد العمرة بالجماع قبل الحلق لأن التحلل لم يتم دونه، أو تجزئ ويجب الهدي؟ روايتان.
ولا يتم ها النسك بدون حلق جميع الرأس، فإن لم يكن على رأس المحرم شعر، فليمر الموس على الرأس.
ويقوم التقصير مقام الحلق، حيث يتمكن من الإتيان به على وجهه، وقد يتعذر للعجز عن ذلك، فيتعين الحلاق كمن لا شعر على رأسه، أو شعره لطيف لا يمكن تقصيره، أو لبد شعره، مثل أن يجعل الصمع في الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، أو عقصه، أو ظفره، فإنه لا بد من الحلق في جميع هذه الصور.
ويفتقر في التقصير إلى الأخذ من جميع الشعر، كما يأخذ في الحلاق جميعه.
ولو أزال الشعر عن رأسه بالنورة أجزأه. وقال أشهب: لا يجزئه، وقال أبو الحسن اللخمي: اختلف فيه، وأرى أن يجزئه.
واستحب مالك إذا حلق أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره، وذكر أن ابن عمر كان يفعله.
والسنة في حق المرأة التقصير دون الحلاق، إذ هو تشويه في حقها.
فرع:
قال مالك في المرأة إذا قصرت: تأخذ قدر الأنملة، أو فوقه بقليل: أو دونه بقليل. وقال في الرجل: ليس تقصيره أن أخذ من أطراف شعره، ولكن يجز ذلك جزا، وليس مثل المرأة فإن لم يجزه وأخذ منه، فقد أخطأ ويجزئه. قال القاضي أبو الوليد: يبلغ به الحد الذي يقرب من أصول الشعر.

.الفصل الثامن: في المبيت:

والمبيت بمزدلفة ليلة العيد، وبمنى ثلاث ليال بعده، نسك. فأما الثلاث، فيجب بتركه فيها الدم، وكذلك في واحدة منها.
وأما ليلة العيد، فإن دفع من عرفة إلى منى، ولم ينزل بالمزدلفة، فقال مالك: عليه الدم، وإن نزل بها، ثم دفع من أول الليل أو وسطه، فلا دم عليه. وقال عبد الملك: لا دم عليه، وإن دفع من عرفة إلى منى.

.الفصل التاسع: في الرمي:

وهو من الأبعاض المجبورة بالدم، وهو رمي سبعين حصاة مثل حصى الخذف، واستحب مالك لقطها على كسرها.
يرمي سبعا يوم النحر إلى جمرة العقبة قبل نزوله، وإحدى وعشرين حصاة في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث.
ومن نفر في النفر الأول سقط عنه رمي اليوم الأخير، ومبيت تلك الليلة. وقال ابن حبيب: يرمي عنه في الثالث عقيب رميه لليوم الثالث، كمنا كان يرمي لو لم يتعجل. قال الشيخ أبو محمد: وليس هذا قول مالك، ولا أعلم من هب إليه من أصحابه.
قال ابن المواز: وإنما يصدر رمي المتعجل كله بتسع وأربعين حصاة، منها سبع يوم النحر، ولليومين اثنتان وأربعون.
قال ابن القاسم: قال مالك: أرى أهل مكة مثل غيرهم في التعجيل، ثم استثقله لهم إلا من عذر من تجارة أو مرض.
قال مالك: ولا يعجبني لإمام الحاج أن يتعجل. محمد: قال أشهب: فإن فعل فلا بأس عليه، وأخذ ابن القاسم بقوله: إن لأهل مكة التعجيل كغيرهم، فإن غربت على المتعجل الشمس بمنى، لزمه المبيت والرمي. وأرخص للرعاء أن ينصرفوا بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يعودون ثالثه، فيرمون عن الثاني والثالث، ثم إن شاءوا انصرفوا إذ ذاك يوم النفر الأول، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر. وقال ابن المواز: إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به.
ووقت الرمي في أيام التشريق بين الزوال والغروب، ولا يجزئ إلا رمي الحجر، ويتبع اسم الرمي، ولا يكفيه الوضع.
والعاجز يستنيب في الرمي، إذا كان الظاهر من حاله أنه لا يزول عجزه في وقت الرمي.
وفي الرمي عنه ظهر من حاله أنه يقدر على الرمي ولو في آخر وقته، خلاف. وللرمي وقت أداء، ووقت قضاء، ووقت فوات.
فأما وقت الأداء في يوم النحر، فمن طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وتردد القاضي أبو الوليد في الليلة التي تلي يوم النحر، هل هي وقت أداء أو وقت قضاء؟.
والفضيلة من هذا الوقت من بعد طلوع الشمس إلى الزوال. وما بعده لا يشاركه في الفضل، وإن شاركه في كونه وقت أداء. وكذلك ما قبل طلوع الشمس.
ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس، ويتردد في الليل كما تقدم في جمرة العقبة. والفضيلة تتعلق بعقيب الزوال من هذه الأيام. ووقت القضاء لكل يوم ما بعده منها، فلا قضاء لليوم الرابع.
فإن ترك جمرة، أتى بها في يومها إن ذكرها فيه، ثم لا شيء عليه إلا أن تكون الأولى أو الوسطى فيعيد ما بعدها. وقيل: لا يعيد، وإن ذكرها بعد مضي يومها، أعاد ما كان في وقته خاصة. وقيل: لا يعيد.
ولو كان المتروك حصاة واحدة وذكر موضعها، رماها، فجبر بها النقض، ولم يعد رمي الجمرة. ويختلف فيما بعدها على ما تقدم. وقيل: يعيد رمي الجمرة. وقيل: يجزئه جبر نقصها إن كان يوم الأداء، ويبتدئ رميها إن كان يوم القضاء.
وكذلك إن لم يذكر موضعها، فقال في الكتاب: يرمي عن الأولى بحصاة، ثم يعيد ما بعدها. وقال فيه أيضا: يبتدئ رمي الجميع، ولا يعتد بشيء.
ولا خلاف في وجوب الدم مع فوات القضاء، ولا في سقوطه مع الأداء. ويختلف في وجوبه وسقوطه مع القضاء. ثم يجب جنسه ترك جمرة أو حصاة، لكن يتنوع:
ففي ترك جمرة أو الجمار كلها، تجب بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. وفي ترك الحصاة يهدي ما شاء. وفي كتاب محمد: من ذكر بعد أيام منى حصاة، ذبح شاة، فإن كانت جمرة، ذبح بقرة. محمد: وإن كانت الجمار كلها فبدنة. وقال عبد الملك فيمن ترك حصاة إلى ست: فشاة، فإن كانت سبعا فهو كالجميع، وعليه بدنة.
ولا يبطل الحج بفوات شيء من الجمار. وقال عبد الملك: يبطل بفوات جمرة العقبة.
فرعان:
الأول: في صفة الرمي.
وهي أن يبدأ بالجمرة التي تلي مسد منى، وهي الأولى، فيرميها من فوقها بسبع حصيات، واحدة بعد واحد، يتبع بعضها بعضا، ويكبر كلما رمى بحصاة، فإذا فرغ من رميها، تقدم أمامها، واستقبل الكعبة، فرفع يده وكبر الله وهلله وحمده، وأكثر ذكره والثناء عليه، على حسب ما يحضره ويستطيع، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لنفسه ولأبويه وللمؤمنين، ويطيل الوقوف للدعاء، فقد روي عن القاسم وسالم أنهما كانا يقفان قدر ما يقرأ ما الرجل السريع سورة البقرة.
ثم يمضي إلى الجمرة الوسطى، ويرميها كذلك، فإذا قضى رميها انصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل، فيقف أمامها مما يلي يساره، ووجهه إلى البيت، فيفعل في الوقوف والذكر والدعاء كفعله عند الجمرة الأولى. واختار ابن حبيب أن يكون وقوفه دون الوقوف الأول، لفعل ابن مسعود.
ثم يمضي إلى الجمرة القصوى، وهي جمرة العقبة، فيرميها كذلك، إلا أنه يرميها من أسفلها في الأيام الأربعة، يقف ببطن الوادي فيستقبلها، والبيت عن يساره ومنى عن يمينه، ولا يقف عندها للدعاء والذكر، كما فعل في اللتين قبلها، فتلك السنة.
ويستحب أن يأتي بالجمار في الأيام الثلاثة ماشيا ذاهبا وراجعا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليعلن الحاج بالتكبير أيام منى، ويذكر الله فيها، ويعاود ذلك وقتا بعد وقت إلى انقضائها، فقد كان عمر رضي الله عنه يكبر أول النهار، ويكبر الناس بتكبيره، ثم يكبر إذا ارتفع النهار كذلك،
ثم يكبر إذا زالت الشمس كذلك، ويكبر الحاج حتى ترتج منى بالتكبير، حتى يبلغ ذلك مكة، وبينهما ستة أميال. ثم يكبر بالعشي كذلك أيام منى كلها.
الفرع الثاني:
قال القاضي أبو محمد: ما يفعل بمنى من رمي ونحر وحلاق، فلا شيء في تقديم بعضه على بعض، إلا تقديم الحلاق على الرمي ففيه دم. وقال الشيخ أبو الطاهر: إن ابتدأ بالنحر قبل الرمي فالمذهب سقوط الفدية، وإن ابتدأ بالحلق قبل الرمي، فقولان، سقوط الدم، ووجوبه. قال: والمشهور الوجوب. وإن ابتدأ بالحلق قبل النحر، ففي سقوط الفدية ووجوبها قولان لمالك وعبد الملك. وإن ابتدأ بالإفاضة قبل الرمي، فقد تقدم حكم ذلك.

.الفصل العاشر: في طواف الوداع:

ويسمى طواف الصدر، وهو مشروع إذا لم يبق شغل، وتم التحلل، وعزم على الانصراف، فإن عرج بعده على شغل خفيف، كما لو باع أو اشترى بعض حوائجه، لم يعده.
ولو أقام بعده يوما أو بعضه أعاد.
ومن خرج ولم يودع، رجع ما لم يخش فوات أصحابه، ولو برز بهم الكري فبات بذي طوى، لم يرجع، ولا يجب بتركه دم.
ولا يودع مكي، ولا قادم أوطن مكة، ولا خارج إلى التنعيم ليعتمر، ولا من اعتمر ثم خرج من فوه، فإن أقام ثم خرج ودع. وكذلك من فاته الحج ففسخه في عمرة في الحالتين جميعا.
ويودع من خرج إلى ميقات، كالجحفة وغيرها، والمكي إذا سافر، ومن حج من مر الظهران أو من عرفة أو غيرهما مما يقرب. ولا وداع على من طاف للإفاضة ثم خرج من فوره.
والحائض تخرج بعد الإفاضة، ولا تترقب الطهر لتودع.
فِأما لو حاضت قبل الإفاضة لجلست حتى تطهر أو تستحاض ويحبس عليها كريها.
واختلفت الرواية في مدة الحبس. فروى أشهب: خمسة عشر يوما. وروى غيره: خمسة عشرة يوما، وتستظهر بعد ذلك بيوم أو يومين أحب إلي. وروى ابن القاسم: قدر ما تقيم في حيضتها والاستظهار. وروى ابن وهب: يحبس أكثر ما تقيم الحائض في الحيض، والنفساء في النفاس. قال الشيخ أبو محمد: وعليه أكثر أصحابه. و قال غيره: أما في زماننا فإنه يفسخ للخوف. وقال شيخه أبو بكر محمد بن اللباد: قيل: هذا كله: أما في زماننا فإنه يفسخ للخوف. وقال شيخه أبو بكر محمد بن اللباد: قيل: هذا كله من الآمن، فأما في هذا الوقت حيث لا يأمن في طريقه، فهي ضرورة، ويفسخ الكراء بينهما.
فرع:
إذا قلنا برواية ابن القاسم، فتجاوز الدم مدة الحبس، فهل تطوف، أو يفسخ الكراء؟ قولان.

.الفصل الحادي عشر: في بيان ما يجبر بالدم وما لا يجبر:

اعلم أن جميع أفعال الحج تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
واجبات أركان، وواجبات ليست بأركان، ومسنونات مستحبات ليست بأركان ولا واجبات.
القسم الأول: واجبات هي أركان كالإحرام، وقوف عرفة، وطواف الإفاضة، والسعي. وزاد عبد الملك بن الماجشون: جمرة العقبة.
ومعنى قولنا أركان: أنه لا يجزئ منها إلا الإتيان بها، ولا جبران لها من دم ولا غيره.
القسم الثاني: واجبات ليست بأركان.
وهذه تجبر بالدم، وهي ترك التلبية جميعها، وترك طواف القدوم لغير المراهق، وتجاوز الميقات لمريد الإحرام إذا أحرم عبد تجاوزه، وترك الجمار كلها، أو ترك بعضها، أو حصاة منها، وترك النزول بمزدلفة.
وإن أخر ركعتي طواف القدوم، وذكر ذلك بمكة أو قريبا منها بعد فراغه من حجه، رجع فطاف وسعى وعليه دم. وإن ترك المبيت بمنى لياليها أو ليلة منها، فعليه الدم. وغن ترك الوقوف مع الإمام متعمدا حتى دفع الإمام. ثم وقف بعده ليلا قبل طلوع الفجر، أساء وعليه الدم، وحجة مجزئ عنه.
وإن رجع نم عرفات فأصابه أمر احتبس له: مرض أو غيره، فلم يصل مزدلفة حتى فاته الوقوف بها، فعليه الدم. وإن ترك الحلاق حتى ردع لبلده، حلق وعليه دم.
ومن أنشأ الحج من مكة، فطاف وسعى قبل خروجه إلى عرفات، ثم لم يسع عد إفاضته من عرفة حتى رجع لبلده، فعليه الدم.
قال الأستاذ أبو بكر: وأصحابنا يعبرون عن هذه الخصال بثلاث عبارات، فمنهم من يقول: واجبة، ومنهم من يقول: وجوب السنن، ومنهم من يقول سنة مؤكدة.
قال: ولم أر لأحد من علمائنا هل يأثم بتركها أم لا، أو أرادوا بالوجوب وجوب الدم، والأمر محتمل.
القسم الثالث: مسنونات مستحبات.
وهذا القسم لا يأثم بتركه، ولا يجب فيه الدم. وهو مثل الغسل للإحرام، أو لدخول مكة، وترك الرلامل في الطواف أو ببطن المسيل بين الصفا والمروة، واستلام الركن، وترك الصلاة قبل الوقوف بعرفة، أو ترك الحلاق بمنى يوم النحر، وحلق بمكة، أو في الحل أيام منى، أو ترك طواف الوداع، أو ترك مبيت منى ليلة عرفة، أو المبيت بمزدلفة، ثم الدفع منها، أو ترك الوقوف مع الإمام بها، أو ترك القيام عند الجمرتين للدعاء.

.الفصل الثاني عشر: في حكم الصبي:

وللولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز، ويحضره المواقيت، فيحصل الحج للصبي نفلا.
والمميز يحرم بإذن الولي، ويتولى المميز الأعمال بنفسه. وما يزيد من نفقة السفر، فعلى الصبي إن خاف الولي عليه ضيعة بتركه، وعلي الولي أن لم يخف عليه.
وحيث قلنا: زيادة النفقة في مال الصبي، فالفدية في ماله، وجزاء الصيد.
وحيث قلنا: في مال الولي، فجزاء الصيد أيضا في ماله، و قيل: في مال الصبي.
وإذا فسد حجه، فعليه القضاء والهدي. ولو بلغ الصبي في حجه، لم يقع عن حجة الإسلام. وعتق العبد في الحج كبلوغ الصبي.
ولو طيب الولي الصبي، فالفدية على الولي، إلا إذا قصد المداواة، فيكون كاستعمال الصبي.

.الباب الثالث: في محظورات الحج والعمرة:

وهي أنواع:
الأول: اللبس.
وإحرام الرجل في رأسه ووجهه، فيحرم على المحرم أن يستر رأسه بما يعد ساترا من خرقة أو رداء أو عمامة، ولا بأس أن يتوسد بوسادة، ولا بأس أن يستظل تحت المحمل وهو سائر، أو يجعل يده على رأسه أو يستر وجهه بيده من الشمس. وقال سحنون: لا يستظل تحت المحمل وهو سائر.
مالك: ولا يستر المحرم على رأسه، ولا على وجهه من الشمس بعصا فيها ثوب، فإن فعل افتدى، ولا بأس بالفسطاط والقبة، وهو نازل. ولا يعجبني أن يستظل يوم عرفة بشيء.
ولا يستظل في الحبر، إلا أن يكون مريضا، فيفعل ويفتدي.
وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يتظلل المحرم إذا نزل بالأرض، ولا بأس أن يلقي ثوبا على شجرة، فيقيل تحته، وليس كالراكب والماشي، وهو النازل كخباء مضروب. وذكر ابن المواز في كتاب المناسك: أنه لا يستظل إذا نزل بالأرض بأعواد يجعل عليها كساء أو غيره، ولا بمحمله. قال: وإنما وسع له في الخباء والفسطاط والبيت المبني. وقال يحيى بن عمر: لا بأس بذلك كله إذا نزل بالأرض.
وقال مالك في المرأة تعادل الرجل في المحمل: لا يعجبني أن يجعلا عليهما ظلا، وعسى أن يكون في ذلك بعض السعة إن اضطر إلى ذلك. وفي رواية أشهب: لا يستظل هو، وتستظل هي، وقاله ابن القاسم.
وقال أبو الحسن اللخمي: إن كان في محارة كشف عنها، فإن لم يفعل افتدى.
وقد نقل الإمام أبو عبد الله والقاضي أبو بكر: أن ابن عمر أنكر على منت استظل راكبا، وقال: اضح لمن أحرمت له! ثم نقلا عن الرياشي أنه قال: رأيت أحمد بن المعذل الفقيه في يوم شديد الحر، وهو ضاح للشمس، فقلت: يا أبا الفضل، هذا أمر قد اختلف فيه، فول اخذ... ـ بالتوسعة، فأنشأ يقول:
ضحيت له كي أستظل بظله ** الظل أمسى في القيامة قالصا

فيا أسفا إن كان سعيك باطلا ** ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا

فإن كان نازلا بالأرض لم يستظل تحتها، فإن فعل افتدى، ولا بأس أن يكون في ظلها خارجا عنها.
وكذلك إن كان ماشيا، فلا بأس أن يستظل بظلها إذا كان خراجا عنها، ولا يمشي تحتها. واختلف إذا فعل.
ولو حمل على رأسه ما لا بد له منه، كخرجه وجرابه وغيره، فلا بأس به. ولا يحمل ذلك لغيره تطوعا ولا بإجارة، فإن فعل افتدى.
ولا يحمل لنفلسه تجارة من بز أو سقط ونحوه، ولم يرخص له في حمل التجارات. قال أشهب: إلا أن يكون عيشه ذلك.
ولا يغطي المحرم وجهه أيضا، فإن غطاه فلا فدية عليه. وحكى القاضي أبو محمد في إيجاب الفدية رواية، ثم خرج الخلاف في ذلك على أن التغطية محرمة أو مكروهة.
قال ابن القاسم: ولا بأس أن شد منطقته تلي جلده لنفقته، ولا يربطها على عضده أو فخذه، واستخفه أن فعل: ألا فدية عليه. وقال أصبغ: يفتدي في شدها في العضد.
وإن شدها فوق إزاره، أو ربطها على جلده لحمل نفقة غيره افتدى، وكذلك إن احتزم بحبل أو خيط لغير عمل، فإن كان لعمل، فلا فدية عليه، وكذلك إن ربط المنطقة أولا لنفسه، ثم أضاف إليها نفقة غيره، أو تقلد السيف لحاجته إلى ذلك، فلا فدية عليه. قال ابن وهب: فإن تقلده لغير ضرورة افتدى. وقال أصبغ: لا فدية على. قال الشيخ أبو محمد: يريد وإن طال.
وقد روي عن مالك ولو ألصق على قرح خرقا صغارا، فلا شيء عليه، وإن كانت كبارا افتدى، وإذا ألصق ذلك على صدغيه لصداع افتدى. وله أن يعصب رأسه لصداع أو لجرح، ويفتدي. وكذلك الجباير وشبهها.
أما سائر الجسد فله ستره، لكن لا يلبس المخيط الذي أحاطت به الخياطة كالقميص، أو النسج كالدرع، أو العقد كجبة البلد. فلو ارتدى بقميص أو جبة فلا بأس، وكذا إذا التحق بأحدهما.
ولو لبس القباء لزمته الفدية، وإن لم يدخل اليد في الكم ولا زرره. وحكى الشيخ أبو الطاهر في جواز لباس الخاتم قولين:
وأما المرأة فإحرامها في وجهها وكفيها، ولها أن تستر وجهها بثوب تسدله عليه من فوق رأسها، ولا تغزره بإبرة.
فإن كان عديما فليفتد المحرم، ويرجع على الفاعل إن أيسر بالأقل من ثمن الطعام أو ثمن النسك إن افتدى بأحدهما، وإن صام فلا يرجع عليه بشيء.
النوع الثالث: ترحيل الشعر واللحية بالدهن.
وهو يوجب الفدية، فلو دهن الأصلع رأسه فكذلك، فإن كان الشعر محلوقا، فأولى بالوجوب.
ويكره له غمس رأسه في الماء حفية قتل الدواب، فإن فعل أطعم شيئا من طعام.
وليس له غسله بالسدر والخطمي، وأولى بالمنع، ويفتدي إن فعل.
ولا بأس بالاكتحال للرجال بالإثمد والمر والصبر وغير ذلك، لحر يجده أو لضرورة، أن يكون في الكحل طيب، فإنه يفتدي. ويكره أن يكتحل لزينة. وقال ابن القاسم: فإن اكتحل لزينة فعليه الفدية.
ولا تكتحل المرأة بالإثمد لزينة، فإن اكتحلت لغير زينة لها، إلا أن يكون لضرورة، ولا طيب فيه، فلا فدية عليها. وروى ابن القاسم وابن وهب وأشهب: لا يكتحل المحرم ولا المحرمة بالإثمد، لأنه زينة، بخلاف الحلي للمحرمة؛ لأن الحلي شيء تضعه عليها، فإن اكتحلت به من غير وجع تجده بعينها، ولا لحر تجده، فعليها الفدية، وكذلك الرجل. وإن كان لضرر بعينها أو بعينيه، فلا بأس بذلك.
النوع الرابع: التنظف بالحق وفي معناه القلم.
وتحرم على المحرم إبانة الشعر، سواء أبانه بحلق أو بنتف أو غيره، ومن رأسه أو من البدن.
ولو خلل لحيته فتساقط شيء من شعرها في وضوئه أو غسله، فلا شيء عليه.
وتكمل الفدية بحلق ما يترفه به، ويزول معه أذى، فإن لم يترفه بذلك، ولا أماط به أذى، أطعم شيء من طعام. وإن حلق بسبب الأذى جاز، ولزمته الفدية. ولو نتف شعره أو شعرات، أطعم شيئا من طعام، فإن نتف ما أماط به عنه أذى، فليفتد. وإن قلم أظفاره افتدى.
وكذلك إن قلم ظفرا واحدا لإماطة أذى، وإن لم يمط به أذى أطعم شيئا من طعام. وإن انكسر ظفره فليلقمه، ولا شيء عليه. وإن قص الشارب افتدى، لأنه إماطة أذى، وكذلك إن نتف ما يخفف به عن نفسه أذى وإن قل فليفتد.
وقال ابن القاسم: ولم يحد مالك فيما دون الإماطة أقل من حفنة، وكذلك في قملة انو في قملات حفنة من طعام، وهي بيد واحد.
والنسيان لا يكون عذرا في الحلق والإتلافات. وإن حلق الحلال شعر الحرام بإذنه، فالفدية على الحرام. وإن كان مكرها فعلى الحلال، وإن كان ساكتا فهو كالأذن.
وإن حلق محرم رأس حلال، قال مالك: يفتدي. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن يجزئه شيء من طعام لمكان الدواب، وقاله سحنون.
النوع الخامس: الجماع.
ونتيجته الفساد والقضاء والهدي.
ويفسد الحج إذا وقع قبل الوقوف إجماعا، و لا يفسد إذا وقع بعد يوم النحر ولم يرم ولم يفض، وعليه عمرة والهدي وهدي آخر لتأخير الرمي، وقيل: يفسد.
فإنه كان في يوم النحر، ولم يرم ولم يفض، فأولى بالإفساد، وهو المشهور. وروي أنه لا يفسد.
ولو أفاض ولم يرم، ثم وطئ، فليس عليه إلا الهدي، ولا عمرة عليه. محمد: وهو كتارك رمي الجمرة، وقاله بأن كنانة. وقال ابن وهب: إن وطئ يوم النحر فسد حجه إذا لم يرم، وإن أفاض وقاله أشهب: قال أصبغ: وقول ابن القاسم وابن كنانة أحب إلينا.
قال ابن القاسم: ولو أصابها يوم النحر بعد الرمي وقبل الإفاضة، وقد كان حلق أم لا، فعليه عمرة والهدي. ويفسد العمرة أيضا وقع قبل الركوع.
هذا في غير المعذور، أما المعذور بحر أو برد فله اللبس، لكن تلزمه الفدية.
وليس للرجل ولا للمرأة لبس القفازين، وعليهما الفدية في ذلك. وقيل: لا فدية عليها في لبسهما بخلافه.
وليس لها لبس النقاب ولا البرقع ولا اللثام، فإن فعلت شيئا من ذلك افتدت.
ولا يلبس الرجل الخفين، إلا أن يطر إليهما، فيقطعهما أسفل من الكعبين عدم النعلين، فإن لبسهما تامين، فعليه الفدية.
النوع الثاني: التطيب:
وتجب الفدية باستعمال الطيب المؤنث، أو مسه كالزعفران والورس والكافور والمسك وغيره، وقيل: لا تحب بمجرد المس.
ويكره له شم الريحان والورد والياسمين وشبهه من غير المؤنث، فإنه شمه أو مسه أو علق بيده، فلا فدية فيه. واستخف ما أصباه من خلوق الكعبة؛ إذ لا يكاد ينفك منه، ولينزع الكثير عنه، وهو مخير في نزع اليسير.
ولا شيء عليه في اكل الخبيص المزعفر، وقيل: إن صبغ الفم، فعيه الفدية. وما خلط بالطيب من غير طبخ، ففي إيجاب الفدية به روايتان.
ولو بطلت رائحة الطيب، لم يبح استعماله. ومعنى الاستعمال، إلصاق الطيب باليد أو الثوب، فإن عبق به الريح دون العين، كجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه، مع كراهية تماديه على ذلك.
ولو مس جرم الطيب، فإن عبقت به رائحته وأبقاه افتدى، وإن لم تعبق أو عبقت ومسحه في الحال، ففي وجوب الفدية الخلاف المتقدم. ولو حمل مسكا في قارورة مصممة الرأس، فلا فدية.
وما تجب به من ذلك الفدية، فتجب بفعله عمدا أو سهوا أو اضطرارا أو جهلا.
فإن ألقيت الريح عليه طيبا، فليبادر إلى غسله، فإن تراخى لزمته الفدية. وكذلك لو أن نائما، فطيبه غيره، فليغسله عند الانتباه، فإن أخر افتدى، وعلى فاعله به الفدية بنسك أو إطعام لا بصيام.
وفي إفساده لها إذا وقع، ولم يبق سوى الحلاق، روايتان.
ويستوي في الإفساد الجماع في الفرج، أو في المحل المكروه في النساء والرجال، كان معه إنزال أم لا. وكل إنزال عن استمتاع بقبلة أو جسة أو استدامة نظر أو ذكر، على خلاف في استدامة الذكر، أو وطئ فيما دون الفرج، أو حركته دابته فاستدام حتى أنزل.
ثم حيث قلنا: لا يفسد الحج، فعليه الهدي والعمرة بعد أن ي طوف، لأن عليه انيأتي بالطواف والسعي في إحرام لا وطء فيه، إلا أن تكون المواقعة بعد الإضافة، فيكون عليه الهدي فقط. ثم يجب المضي في فاسده بإتمام ما كان يتمه لولا الإفساد. ثم إذا أتم الفاسد، لزمه القضاء والهدي، وهو بدنة.
وقال القاضي أبو الحسن: هذا يجب مع القدرة على البدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. قال: لأنه لا يخرج بهذا عن الهدي الذي أدناه شاة. قال: وهذا لنا منصوص عليه، حتى إنه لو خرج شاة مع القدرة على البدنة لأجزأه على تكره. قال القاضي أبو الوليد: وهذا من قول القاضي أبو الحسن يدل على أن الكلام في الاستحباب.
ثم يساق هذا الهدي من الحل إلى الحرم، وينحره في الحج بمنى، بعد أن يوقفه بعرفة، وإلا نحره بمكة.
ويفارق من أفسد الحج معه، زوجة كانت أو أمة، من حين الإحرام إلى بعد التحلل من حجة القضاء، خشية التذكر الداعي إلى الإفساد.
ويتأدى بالقضاء ما كان يتأدى من فرض الإسلام أو غيره، وإن كان تطوعا فيجب، ولا يتأدى به غير التطوع، ووجوب القضاء على الفور في العام القابل.
وإذا أحرم من مكان لم يلزمه الإحرام في القضاء من ذلك المكان، بل يحرم من الميقات. وكذلك لم أحرم في زمان لم يلزمه أن يحرم في ذلك الزمان. ويقضي مثل الإحرام الذي أفسده من إفراد أو قران أو تمتع.
فلو قضى عن القران إفرادا أو تمتعا، لم يجزئ ولا يجزئ القران عن الإفراد. وقال عبد الملك: يجزئ.
وهل يجزئ الإفراد عن التمتع؟ قال الشيخ أبو الطاهر: الروايات أنه لا يقضي مفردا. قال: واعترض هذا أبو الحسن اللخمي ورأى إجراء الإفراد، لأن الحج الذي أفسده هو مفرد، ولا دخول للعمرة في الإفساد، فلم يلزم قضاؤها. قال: وهذا الذي قاله ظاهر، لولا أنهم في الرويات نظروا إلى كون القضاء على صفة المفسد.
ويجب الهدي بالإفساد، وينحر في القضاء على المشهور. وفي جواز تقديمه خلاف، ولو قدم هدي قران القضاء فنحره، لم يجزئه.
وفي إجزائه إذا قلده وأخر نحره إلى حجة القضاء خلاف.
ويحج زوجته أو أمته في القضاء إن كان هو المفسد عليها حجها. وعليه في قضاء القران هديا الفساد والقران في حجة القضاء. وفي القران المفسد خلاف، منشؤه النظر إلى حال الإحرام أو مآله.
النوع السادس: مقدمات الجماع.
وهي الاستمتاع بما دونه، كالقبلة والمباشرة وشبهها، وجميعها مكروه.
فإن فعل شيئا منها، فكان عنه الإنزال، أفسد كما تقدم، وإن لم ي كن عنه إنزال، فقد روى محمد من قبل امرأته ولم ينزل شيئا، فليهد بدنة، وإن غمزها بيده، فأحب إلي أن يذبح في ذلك، وفي كل ما يلتذ به منها. قال: ولا يمس كفها، ويكره أن يرى ذراعيها، ولا بأس أن يرى شعرها، ويكره أن يحملها على المحمل، وإن الناس ليتخذون سلالم. ولا بأس أن يفتي المفتي في أمور النساء.
فأما النكاح والإنكاح، فلا ينعقدان من المحرم، ولا فدية فيه. وله مراجعة زوجته وهما محرمان.
فإن قيل: فلو باشر جميع هذه المحظورات، فهل يتداخل الواجب؟ قلنا: إن لبس الثياب وتطيب وحلق وقمل أظفاره في فور أحد، ففدية واحدة تجزئه. ولو فعل شيئا بعد شيء، ففي كل واحد فدية. وكذلك إن تعالج بدواء فيه طيب مرارا متصلة متقاربة في فور واحد، فكفارة واحدة.
وإن اختلفت الأدوية: فإن كانت شيئا بعد، وحاجة بعهد حاجة، فكل وقت كفارة، وكذلك كحله بدواء فيه طيب في اتصلا الأمر واستقباله، وكذلك مداواته لقرحة به مرارا بدواء فيه طيب إلا أن ي كون نوى من أول مرة أن يفعل ذلك كله ففدية واحدة.
فإما إن ظهرت به قرحة أخرى، فدواها به، فلا بد من كفارة أخرى. ولو قلم اليوم أظفار يده، وقلم في غد أظفاره يد الأخرى، فكفارتان. وإن وطء مرة بعد مرة امرأة واحدة أو نساء فهدي واحد ففي ذلك كله، لأن حجة قد سد، ولا يفسد بما ذكرنا أولا.
ولو لبس سراويل وقميصا في وقتين، فإن بدأ بالقميص، ففدية واحدة، وإن عكس ففديتان إلا أن يلبسهما في فور واحد، ففدية واحدة.
ولو لبس ما احتاج إلى لبسه من ذلك، ثم نزعه ثم عاود لبسه، ففديتان، إلا أن يكون نوى أول مرة أن يفعل ذلك كله، ففدية واحدة لذلك كله تجزئه، وإن كان بين ذلك أياما.
ثم حيث قلنا تجب الفدية باللبس، فإنما ذلك إذا انتفع باللبس لحر أو برد أو دام عليه كاليوم، فأما لو لبس قميصا ولم ينتفع به من حر أو برد حتى ذكر فنزعه، فلا شيء عليه، وكذلك إن جرب خفا فلبسه ثم نزعه مكانه، فلا شيء عليه.
النوع السابع: إتلاف الصيد.
والصيد يحرم لسببين: أحدهما الإحرام، والآخر الحرم. والنظر في الإحرام يتعلق بأطراف.
الأول: في الصيد.
ويتخصص التحريم بصيد البر، ويعم جميعه، فيحرم إتلاف صيد البر كله، ما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه، من غير فرق بين أن يكون متأنسا أو وحشيا أو مباحا. ويحرم التعرض لأجزائه بيضه.
ويلزم الجزاء بقتله وبتعريضه للتلف، إلا أن تتبين سلامته مما عرض له. ولا يستثني عن ذلك إلا ما تناوله الحديث، وهو الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور.
والمشهور: أن الغرب والحدأة يقتلان وإن لم يبتدئا بالأذى. وروى أشهب المنع من ذلك، وقاله ابن القاسم، إلا أن تؤذي فتقتل، إلا أنه إن قتلهما من غير أذى، فلا شيء عليه،
قال أشهب: إن قتلهما من غير ضر وداهما. واختلف أيضا في قتل صغارهما ابتداء، وفي وجوب الجزاء بقتلهما.
وأما غيرهما من الطير، فإن لم يؤذ فلا يقتل، فإن قتل ففيه الجزاء، وإن آذى، فهل يقتل أم لا؟ قولان. وكذلك إذا قلنا: لا يقتل فقيل، فقولان أيضا. المشهور: نفي وجوب الجزاء. وقال أشهب: عليه في الطير الفدية، وإن ابتدأت بالضرر. قال أصبغ: من عدا عليه شيء من سباع الطير فقتله، وداه بشاة. قال ابن حبيب: هذا من أصبغ غلط. وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ هذا على أنه كان قادرا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعين القتل في الدفع، فلا يختلف فيه.
وأما العقرب والحية والفأرة فيقتلن، حتى الصغير وما لم يؤذ منها، لأنه لا يؤمن منها الأذى، إلا أن تكون من الصغر حيث لا يمكن منها الأذى، فيختلف في حكمها.
وهل يلحق صغير غيرها من الحيوان المباح القتل لأذيته بصغارها في جواز القتل ابتداء؟
فيه خلاف.
والمشهور من المذهب أن المراد بالكلب العقور: الكلب الوحشي، فيدخل فيه الأسد والنمر وما في معناهما. وقيل: المراد الكلب الإنسي المتخذ. وعلى المشهور: يقتل صغار هذه، وما لم يؤذ من كبيرها.
الطرف الثاني: في الأفعال الموجبة للضمان، وهي ثلاثة: المباشرة، والتسبب، واليد.
ولا تخفى المباشرة والتسبب كنصب شبكة، أو إرسال كلب، أو انحلال رباطه بنوع تقصير في ربطه، وتنفير يد حتى يتعثر قبل سكون نفاره. كل ذلك يوجب الضمن إذا أفضى إلى التلف.
ولو رآه الصيد ففزع فمات، ففي وجوب الجزاء عليه ونفيه خلاف بين ابن القاسم وأشهب: قال محمد: وقول أشهب أحب إلي، وأخذ به سحنون. قال ابن حبيب: قال أصبغ: إلا أن يكون كانت من المحرم حركة نفر لها.
وكذلك لو ضرب فسطاطه فتعلق به صيد فمات، أو فر الصيد لرؤيته فعطب، أو أمر غلامه بإرسال صيد فقلته، ظانا أنه أمره بقتله.
ولو حفر المحرم بئرا للسارق أو السبع، ضمن ما عطب فيه. وقال أشهب: إن حفر في موضع يخشى على الصيد منه ضمنه، وإلا لم يضمنه.
ولو أرسل كله على أسد، فعرض له صيد فقتله الكلب، ففي وجوب الجزاء خلاف، ولو دل غيره على صيد، عصى ولا جزاء عليه. وقيل: عليه الجزاء. وقال أشهب بتخصيص الجزاء بدلالة الحرام دون دلالة الحلال. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بعكس قول أشهب، وعلل الوجوب بأنه لا يمكن إسقاط الدية، وعلل الإسقاط باستقلال المدلول بالدية.
وإثبات اليد سبب الضمان إلا إذا كان في بيته فأحرم، فلا يلزمه إرساله، ولا يزول ملكه عنه، ولو كان بيده فأحرم زال ملكه عنه، ولزمه إرساله.
وكذلك لو كان في رفقته وهو ملكه، فإن لم يرفع يده عنه حتى مات، لزمه جزاؤه. والناس كالعامد في الجزاء إلا في الإثم.
وحكى أبو الحسن اللخمي عن محمد بن عبد الله بن عد الحكم أنه قال: لا جزاء في غير العمد، ولا فيما تكرر. ولو صال عليه صيد، فلا ضمان في دفعه. ولو أكله في مخمصة ضمنه، ولو عم الجراد في المسالك فتخطاه المحرم فحطمه، فلا شيء عليه إذا لم يتعمده.
الطرف الثالث: في الأكل.
ولا بأس بأكل المحرم من لحم صيد صاده حلال لنفسه أو لحلال، ولا يأكل من لحم صيد صاده أو صيد من أجله. وما ذبح من الصيد بيده، أو صاده بكلبه، فكالميتة لا يأكله حلال ولا حرام، ولو وداه ثم أكل من لحمه، فلا جزاء عليه لما أكل، كأكله الميتة. وما ذبح من أجل محرم بأمره أو بغير أمره، وإن ذبحه حلال أو حرام، فلا يأكله المحرم ولا غيره. وروي عن ابن القاسم أنه إن كان عالما أنه صيد من أجله، أو من أجل محرم سواه، فالجزاء عليه، وإن لم يعلم فلا شيء عليه، وإن صيد من أجله.
وروي عن مالك في المختصر وكتاب ابن المواز العتبية: أنه لا جزاء على من لم يصد من أجله من المحرمين. وقال أصبغ: لا جزاء عليه، وإن صيد من أجله وإن علم، كمن أكل ميتة محرمة، وغير هذا خطأ.
الطرف الرابع: في الجزاء.
والواجب في الصيد مثله من النعم، أو مقاربة في الخلقة والصورة، إن كان مما له مثل أو مقارب، أو طعام بمثل قيمة الصيد، أو صيام يعدل الطعام، لكل مد أو كسرة يوم، وهو على التخيير.
فإن لم يكن مثليا كالعصافير وغيرها، فعدل قيمته من الطعام، أو عدل ذلك صياما.
والعبرة في ذلك محل الإتلاف أن يقوم فيه، وإلا فبأقرب مكان يتقوم فيه، ويفرقه حيث يقومه، أو في أقرب المواضع إليه، إن لم ي جد به مستحقا.
قال القاضي أبو محمد: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم، إلا الصيام. وحكى الشيخ أبو إسحاق: أنه يطعم حيث شاء. ثم قال: وقيل: إنه يطعم في موضع قتله الصيد، وهذا أحب إلي.
والواجب من المثل في النعامة بدنة، وفي الفيل أيضا بدنة، لكن من الهجان العظام. قال بعض القرويين: وهي التي لها سنامان وهي بيض خراسانية. قال: وذكر ذلك عن ابن ميسر.
قيل: فإن لم يجد شيئا من هذه الجمال التي ذكرت عن ابن ميسر؟ قال: ينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، ولا ينظر إلى شبع لحمه.
وقال غيره من القرويين: ليس في هذه المسألة رواية، وليس للفيل نظير، وإنا ينظر إلى مثله من الطعام، فيطعم المساكين قدر ذلك، ولا ينظر إلى لحمه دون عظمه، وإنما ينظر إلى مثله كله من الطعام، فيكون على قاتله قدر ذلك.
قيل: فكيف يستطاع ذلك؟ قال: قد قيل: يجعل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب، ثم يخرج الفيل، ويجعل في المركب الطعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وبهذا يعرف قدره، قال: وأما أن ينظر إلى قيمته، فهو يكون له ثمن عظيم، لأجل عظامه وأنيابه، فيكثر طعام، وذلك ضرر.
وفي حمار الوحش بقرة، وكذلك في الأبل وبقر الوحش. وفي الضبغ شاة. وفي الثعلب قولان، أحدهما: شاة، والآخر: قيمته طعام أو صيام. وفي الضب روايتان: إحداهما: شاة، والأخرى قيمته طعام أو صيام.
وفي الأرنب واليربوع روايتان، قال في كتاب ابن حبيب: في كل واحد منهما عنز.
وقال في المختصر: ويحكم فيهما بالاجتهاد، لأنه لا مثل لهما في الخلقة. وفي الصغير ما في الكبير في الجنس والصفة. وكذلك المعيب فيه ما في السليم، ويحكم بالمماثلة عدلان، فإن كان القاتل أحدهما لم يجز، وكان مخطئا أو عامدا.
وفي حمام مكة شاة، ولا يفتقر في إخراجها إلى حكمين. وحمام الحل يضمن بالقيمة مسائر الطير.
ويلحق حمام الحرام بحمام مكة عند مالك وابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن القاسم: يلحق بحمام الحل.
واختلف في القمري والفواخت، وكل ما عب وهدر، هل هو في معنى الحمام أم لا؟ على قولين لأصبغ وابن الماجشون، مأخذهما النظر إلى عموم التسمية أو إلى ما اختص به الحمام من التحرم بالبيت.
فروع:
لا يقابل المريض بالمريض، ويقابل كل من الذكر والأنثى بالأنثى والذكر.
وإن ضرب ظبية حاملا، فألقت جنينا ميتا، ففيه عشر قيمة أمه. وإن انفصل من الأم، فاستهل ثم مات، ففيه الجزاء كاملا. وإن تحرك لم يسهل، فقال ابن القاسم: فيه عشر دية أمه، وقال أشهب: فيه دية، بخلاف الآدميين.
وإن أتلف بيضا، فهل تكون فيه حكومة، أو عشر الدية؟ وهو المشهور. أو ما في الكبار؟ ثلاثة أقوال: وهي على النظر إلى الحال أو إلى المآل، وقال أبو مصعب: في بيضة النعامة عشر قيمتها إن كان فيها فرخ، فإن لم يكن فصيام يوم.
ولو أزمن صيدا فعليه الجزاء كاملا، فإن قتله غيره، فعلى القاتل جزاؤه سليما. فأما لو جرحه، فإن برئ على غير نقص، فلا شيء فيه. وإن نقصه الجرح، ففيه ما بين قيمته صحيحا، وبين قيمته مجروحا، قاله محمد ورواه عيسى عن ابن القاسم. وفي الكتاب: لا أرى عليه فيه شيئا، وهو اختيار القاضي أبي الحسن، ورآه ككفارة الآدمي.
ولو اشترك المحرمون في قتل صيد واحد، فعلى كحل واحد منهم جزاء كامل، لأنه من باب الكفارات.
وقتل القارن للصيد لا يوجب تعدد الجزاء، وكذلك قتل المحرم صيدا حرميا.
السبب الثاني للتحريم: الحرم، والنظر في أطراف.
الأول: في الصيد، ويضمن منه في الحرم ما يضمن بالإحرام، والتسبب كالتسبب، والجزاء كالجزاء، وإنما يختص الحرم بفروع نذكرها متتالية، فنقول:
الحلال إذا أدخل الحرم صيدا مملوكا، ولم يحرم عليه ذبحه فيه، ولا بأس أن يذبح بمكة الحمام الإنسي والوحشي.
ويجب الجزاء على من رمى من الحل إلى الحرم، أو بالعكس. وقيل: بنفي الوجوب في العكس. ولو رماه وهما في الحل فجرئ، فأدركته الرمية في الحرم فقتله، وداه. ولو قطع السهم في مروره هواء طرف الحرم، فليدعه ولا يأكله، قاله ابن القاسم. ولو تخطى الكلب طرف الحرم، فلا شيء عليه، إلا لم يكن له طريق سواه. ولو أرسله بقرب الحرم، فطلبه حتى أدله الحرم، ثم أخرجه منه قتله خارجا وداه، ولا يأكله، وكأنه أرسله من الحرم.
لتغريره بقربه. ولو كان بعيدا من الحرم، فلا جزاء عليه، ولا يؤكل الصيد. ولو طرد صيدا حتى أخرجه من الحرم، فعليه جزاؤه. قال ابن الماجشون: ولا بأس أن يرسل الحلال كلبه من الحرم على ما في الحل، ويؤكل ما أصاب.
ولو كانت شجرة نابتة في الحل، وفرعها في الحرم، فأصيب ما عليه من الصيد، ففيه الجزاء، ولو كانت في الحرم وفرعها في الحل، لكان في وجوب الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظر إلى موضع الفرن قولان.
الطرف الثاني: في النبات.
ويحرم القطع نبات الحرم، أعني ما ينبت بنفسه دون ما يستنبت، ويستثني عنه الإذخر للحاجة، وكذلك السنا. ولو اختلى الحشيش للبهائم، كره. ولو استنبت ما ينبت، أو نبت ما يستنبت، لكان النظر إلى الجنس لا الحال.
ثم إن قطع ما نهي عن قطعه أثم، ولا يلزمه شيء.
الطرف الثالث: في الحرم.
والأصل فيه مكة، والمدينة ملحقة بها في تحريم صيدها، وعضد شجرها، ولا تلحق بها في جزاء الصيد. وقال ابن نافع: تلحق بها فيه أيضا.
فرع:
في تحديد الحرم من نوادر الشيخ بي محمد: قال مالك: بلغني أن عمر حدد معالم الحرم، ووضع أنصابها بعد أن كشف عن ذلك من يعرفه ممن له قدم.
قال ابن القاسم: والحرم خلف المزدلفة بمثل مليين، ومزدلفة في الحرم، وسمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجئ سيل من الحل فيدخل الحرم، وإنما يخرج السل من الحرم إلى الحل، وهو يجري من الحل، فإذا انتهى إلى الحرم وقف، ولم يدخل فيه. ولا يدخل الحرم.
قال الشيخ أبو محمد: ومن غير كتاب محمد لغير واحد من أصحابنا أن حد الحرم ما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. ومما يلي العراق ثمانية أميال إلى مكان يقال له: المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن: سبعة أميال إلى موضع يقال له: أصاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية، قال: ومن العتبية قال مالك: والحديبية في الحرم، قال: ومن كتاب ابن حبيب: قال: وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة بريدا في بريد، ولا يعضد شجرها ولا يخبط.

.القسم الثالث من كتاب الحج في اللواحق:

.وفيه بابان:

.الأول: في موانع الحج:

وهي ستة:
الأول: الإحصار بالعدو.
وهو مبيح للتحلل، ونحر الهدي ناجزا مهما اعتقد دوام المنع إلى أن ي فوته الحج، فإن رجا زواله، لم يتحلل حتى ي بقى بينه وبين الحج من الزمان ما لا يدرك فهي الحج لو زال حصره، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون.
وقال أشهب: لا يحل إلى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة، ولا يبيح عند اعتقاد زواله قبل ذلك، أو الشك فيه. وروى محمد: لا يكون له التحلل، إلا بشرط أن يكون غير عالم بأن العدو يصده. قال أبو الحسن اللخمي: أو علم ورط أنه متى صده تحلل طش ولو وقف ثم احصر عن لقاء البيت، فقال في الكتاب: قد تم حجه، ولا يحله من إحرامه إلا طواف الإفاضة، وعليه لجميع ما فاته من رمي الجمار والمبيت بالمزدلفة ومنى هدى. وقال القاضي أبو الوليد: يأتي بالمناسك كلها، وينتظر أياما. فإن زال العدو، وأمكنه الوصول إلى البيت طاف، وإلا حل وانصرف.
وإن تمكن من لقاء البيت، ثم صد عن عرفة، قد قال ابن الماجشون: ليس له أن يحل دون أن يطوف ويسعى، ويؤخر الحلاق. فإن يئس من زوال العدو، أو طال انتظاره بمقدار ما يدركه به الضرر حلق وحل؛ لأن التحلل له متى حصر فترك ما منع منه جائز، وعليه أن يأتي من النسك ما قدر عليه، لأنه قد لزمه بالإحرام له.
وله إذا تحلل حكم الحاج، لا حكم المعتمر، قاله ابن الماجشون. ويتحلل من العمرة إذا صد كالحج.
وإذا تحلل من الفريضة لم تسقط عنه، وقال ابن الماجشون: تسقط، ورأى ذلك بمنزلة إتمامها على وجهها.
ولا يجوز قتال الحاصر، مسلما كان أو كافرا، ولا أن يدفع له مال، إن كان كافرا، لأنه وهن.
وتحلل المحصر لا يجوب إراقة دم للإحصار عند مالك وابن القاسم، ويوجبه عند أشهب، وهو اختيار القاضي أبي بكر. وظاهر الآية عنده، وسبب نزولها.
ولا قضاء على المحصر في المتعين.
المانع الثاني: حبس السلطان شخصا أو شرذمة من الحجيج في دم أو دين، فهو كالإحصار بمرض، لا كالحصر بعدو. ونقل الشيخ أبو الطاهر في إلحاقه بالمرض أو بالعدو قولين للمتأخرين.
الثالث: الرق.
وللسيد منع عبده أن أحرم بغير إذنه، وإذا منع تحلل كالمحصر، وليس له تحليله بعد الإحرام بإذنه.
ثم ما لزمه من جزاء صيد خطأ أو فدية لإماطة أذى من ضرورة، أو فوات حج لم يتخلف له عامدا، فليس له أن يخرج لك من ماله، إلا بإذن س يده، فإن لم يأذن له، ولا أهدى عنه، صام. وليس له منعه من الصيام، وإن أضر به، إلا أن يهدي عنه، أو يطعم.
وما أصاب العبد عمدا، فلسيده منعه من الصيام، إن كان يضر به في عمله. وقال ابن حبيب: ليس له منعه منه وإن تعمد، وإن أضر به إذا أحرم بإذنه، وهو قول ابن الماجشون وابن وهب. ولو فاته الحج وقد أحرم بالإذن، فعليه القضاء والهدي إذا أعتق.
وإن أفسد حجه، فقال أشهب: لا يلزم سيده أن يأذن له في القضاء. وقال أصبغ: على السيد أن يأذن له، قال محمد: والصواب قول أشهب.
الرابع الزوجية:
والمستطيعة لحجة الإسلام ليس للزوج منعها من الخروج لها إن قلنا: إن الحج على الفور.
فإن فرعنا على القول الآخر، فهل له منعها لما جاز لها التأخير، أو ليس له منعها لأن لها طلب براءة ذمتها؟ قولان للمتأخرين. ونزلوا على ذلك المبادرة إلى قضاء رمضان، والمبادرة إلى أداء الصلوات في أول أوقاتها.
ولو أحرمت بالفريضة، لم يكن له تحليلها، قال بعض المتأخرين: إلا أن تكون أحرمت أحرام عداء يكون على الزوج ضرر في إحرامها فيه، لاحتياجه إليها، مثل أن تحرم من بلدها، أو قبل الميقات، وما أشبه هذا، من العداء، فيكون له أن يحلها.
فأما لو أحرمت بالتطوع من غير إذنه، لكان له منعها وتحليلها، فتتحلل كالمحصر؛ فإنه لم تفعل فللزوج مباشرتها، والإثم عليها دونه.
الخامس: الأبوة.
فللأبوين منع الولد من التطوع بالحج، ومن تعجيل الفرض على إحدى الروايتين.
السادس: استحقاق الدين.
ولمستحقه منع المحرم الموسر من الخروج، وليس له أن يتحلل، بل عليه الأداء. وإن كان معسرا أو كان الدين مؤجلا، لم يمنعه من الخروج.
فأما من فاته الوقوف بعرفة بخطأ العد، أو بمرض، أو بخفاء من الهلال، أو بشغل، أو بأ وجه غير العدو نفلا يحله إلا البيت، فيتحلل بأفعال العمرة، ويلزمه القضاء ودم الفوات، بخلاف المحصر بالعدو، وقد اندرج حكم المحصر بالمرض في حكم الفوات، وسواء اشترط المحصر بالمرض التحلل عند الإحصار، أو لم يشترطه.
ومن دخل مكة محرما بحج، فأحصر بها عن عرفة، فلا يكفيه طواف القدوم والسعي المترتب عليه للتحللل، لأنه إنما فعلها للحج، بل لا بد من طواف وسعي مؤتنفين.
وكذلك من أحصر بمرض، ففاته الحج، فقدم مكة فطاف، فعليه أن يسعى.

.الباب الثاني: في الدماء:

وفيه فصول ثلاثة:

.الأول: في أحكام الهدايا:

ومن أحكامها: النظر في صفاتها، وهي الجنس، والسن، والسلامة من العيوب. وحكمها في جميع ذلك حكم الضحايا على ما سيأتي مفصلا إن شاء الله.
وتعتبر السلامة وقت الوجوب، وهو حين التقليد والإشعار، دون وقت الذبح، وقيل: تراعى وقت الذبح.
فلو قلد هديا سالما ثم تعيب، أجزأه على المشهور. وقال الشيخ أبو بكر: القياس أن لا يجزئ، قياسا على موته. قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا قد يؤخذ منه أنه لا يجب بالتقليد والإشعار أن يقول ذلك، وإن وجب عنده، لكن يرى أنه لا يستقل هذيا، إلا أن ي دوم كماله إلى وقت نحره.
وإذا فرعنا على مراعاة وقت التقليد والإشعار، فقلد هديا ثم اطلع فيه على عيب، لا يجزئ معه أو استحق، فإنه يفوت بالتقليد والإشعار ويمضي هديا، لكن لا يجزي عن الواجب، ولا يجوز رده. وقيل: يجوز رده مع ذلك.
وإذا فرعنا على المشهور، فما يصنع بما يأخذ من أرش، أو ثمن؟ قال في الكتاب: يجعل أرش ما كان تطوعا قفي هدي آخر، فإن لم يبلغ تصدق به. وإن كان هديا واجبا، فيستعين بالأرش في ثمن بلده، ومنها: التقليد والإشعار، وهو معدود من سنة الهدي لفعله صلى الله عليه وسلم.
والهدي: ما خرج عن فدية الأذى من دماء الحج، كدم القران والتمتع والفساد والفوات وجزاء الصيد وغير ذلك. قال الأستاذ أبو بكر: الهدي يجب في نحو أربعين خصلة.
وصفة التقليد: أن يجعل في عنق البعير أو البقر حبل، ويعلق فيه نعلان. وإن اقتصر على نعل واحد أجزأ، والأول أفضل. وقيل بكراهية تقليد النعال والأوتار. وقال ابن حبيب: اجعل القلائد مما شئت فإذا قلد الهدي أشعره.
وصفة الإشعار: أن يشق في الجانب الأيسر، و قال في المبسوط: استحب الأيسر، ولا بأس بالأيمن، فيشق شقا آخذا من نحو الرقبة إلى المؤخر، ويسمي الله سبحانه عند الإشعار.
قال في المختصر: يقول بسم الله والله أكبر.
قال في الكتاب: ثم يجللها إن شاء، وكل ذلك واسع. ولا يختلف المذهب في أن ذلك يفعل في الإبل التي لها أسمنة، فإن لم تكن لها أسمنة، فأطلق في الكتاب أنها تشعر.
وقال في كتاب محمد: لا تشعر.
ولا يختلف المذهب أيضا، أن الغنم لا تشعر. والمشهور أنها لا تقلد أيضا. وقال ابن حبيبك تقلد.
وأما البقر فإن كانت لا أسمنة قلدت وأشعرت، وإن لم تكن لها أسنمة لن تشعر.
ومنها: الأكل.
ويؤكل من الهدايا كلها إلا جزاء الصيد، ونسك الأذى ونذر المساكين، وهدي التطوع إذا عطب قبل محله. وذكر محمد قولا: أنه لا يؤكل من هدي الفساد. قال أبو الحسن اللخمي: ويلزم على هذا أن لا يؤكل من شيء ساقه عن وصم في حج أو عمرة. وذكر ابن نافع عن مالك في المبسوط في الجزاء والفدية، أنه قال: ينبغي أن لا يأكل، فإن فعل فلا شيء عليه.
فرع:
فإن أكل مما ليس له الأكل منه، فإن كان المأكول منه جزاء الصيد أبدله كله، وكذلك إن كان نسك الأذى. وقال ابن الماجشون: ليس عليه إلا قدر ما أكل منهما.
وإن كان المأكول منه نذر المساكين، فهل عليه إبداله كله، أو إبدال بعضه؟ روايتان.
وقيل: إن كان معينا أطعم قدر ما أكل، وإن كان مضمونا وجب البدل عن الكل.
فرع مرتب: إذا أوجبنا عليه بدل ما أكل خاصة، فقيل: عليه مثل اللحم، لأنه مما له مثل. وقال عبد الملك: عليه قيمته طعاما؛ إذ مثله لحم هدي، لا يوجد. وقيل: يغرم قيمة ما أكل ثمنا.
فإن قيل: هل يختص بأكل الهدي من يجوز له أخذ الزكاة؟ قلنا: نعم، إن كان مما لا يجوز لصاحبه الأكل منه. وأما ما يأكل من فلا يختص بهم، بل يجوز أن يطعم منه الأغنياء وغير المساكين. ومنها: حكم ولد الهدية.
وإذا ولدت الهدية، فيجب حمل ولدها، ويسلك به مسلكها. فإن لم يمكنه حمله ولا تركه بموضعه ليشتد، صار بمنزلة هدي التطوع إذا عطب قبل بلوغه محله.
ولا يشرب من لبن الهدية لوجوبها بالتقليد والإشعار، ولا يجب عليه شيء إن فعل، إلا أن يضر ذلك بها أو فصيلها، فيغرم ما أوجبه فعله، ولا يركبها إلا أن يحتاج إلى ركوبها فيركبها، ثم ينزل إذا استراح. وقال ابن القاسم: إذا ركبها لم يلزمه أن ينزل وإن استراح.
ومنها: صفة النحر، وهي أن ينحر الهدي صاحبه قائما معقولا أو مقيدا، فإن نحره مسلم غير صاحبه قاصدا به صاحبه، أجزأ عنه، وإن لم يستنبه فيه لوجوبه بالتقليد، والإشعار.
وإن نحره عن نفسه تعديا أو غلطا، فقيل: يجزئ لوجوبه، وقيل: لا يجزئ، وقيل: بالإجزاء في الغط دون التعدي إذ الغالط قصد بفعله القربة على الجملة، والمتعدي غير قاصد للقربة أصلا.
ولو دفع هديه إلى المساكين بعد بلوغه محله، وأمرهم بنحره، ورجع إلى بلده، فاستحيوه، فعليه بدله، كان واجبا أو تطوعا. وإنما يجزئ أن يدفعه إليهم بعد أن ينحره. ومن أحكامه: الاشتراك فيه، ولا يجوز في هدي تطوع أو واجب أو نذر أو جزاء أو فدية، ولا يشترك في هدي أصلا، وأهل البيت والأجنبيون في هذا سواء. وفي كتاب محمد: جوازه في هدي التطوع خاصة.
ومنها: تقديمه قبل سب وجوبه، كالمتمتع يسوق الهدي في حين إحرامه، وفيه خلاف، وهو كتقديم الكفارة قبل الحنث، لوجود أحد السبين.
قال أبو محمد عبد الحق: هذا إذا ساقه للمتعة، وعلل عدم الإجزاء بوجوبه بالتقليد والإشعار، قبل أن يتعلق عليه الدم للمتعة. واعتذر في الإجزاء، بأن تطوع الحج يجزي عن واجبه، فكيف بهذا الذي لم يقصد التطوع. ثم قال: فأما لو تطوعه به، فينبغي أن لا يجزئه عن متعه على القولين.
ومنها: هلاكه أو ضلاله أو سرقته قبل نحره، فيجب بدله إن كان واجبا، ولا يجب إن كان تطوعا.
فرع:
من ضل هديه فأبدله، ثم وجده بعد نحر البدل، لزمه نحره إن أن مقلدا، وإن لم يكن مقلدا، فله بيعه.
وإن وجده قبل نحر البدل، نحرهما ا كانا مقلدين. وإن كان أحدهما غير مقلد، فله بيعه.

.الفصل الثاني: في بيان أبدال الدماء، وأحكام الترتيب والتخيير فيها:

وأنواع الدماء ثلاثة:
الأول: دم جزاء الصيد، وهو المثل على ما تقدم. فإن عدم المثل، أو اختار المكفر الانتقال عنه عند وجوده، أو بالحكم على ما يأتي بيان الخلاف فيه انتقل إلى عدل الصيد من الطعام الذي هو عيش أهل ذلك المكان من بر أو شعير أو تمر أو غير ذلك ما يجزئ في كفارة اليمين.
ويفرق مدا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، يقوم بالطعام على حالته التي كان عيها حين أصابه، ولا ينظر إلى فراهيته، ولا إلى جماله أو تعليمه. ولكن إلى ما يسوى من الطعام من غير فراهية ولا غيرها، بل الفاره من الصيد والبزاة إذا أصابه المحرم عليه في الحكم سواء. وقال يحيى بن عمر: الذي نقول به: أن ي نظر كم يشبع كبير ذلك الصيد من الناس؟ فإذا علم عددهم قيل: كم يشبعهم من الطعام؟ فيخرج عدد ذلك طعاما. قال: لأن دية الصغير والكبير سواء، ولا ينظر إلى قيمته دراهم، لأن اللحم قد يغلو في زمان، ويرخص الطعام في زمان ويغلو، فلا يتحصل له إخراج الجزاء على الكامل إلا بما ذكرناه. وقال محمد أيضا: يقوم الصغير على أنه كبير.
ثم إن شاء انتقل عن ذلك إلى عدله صياما، وعدل كل مد يوم، ولا يعدل الكسر إن كان، إلا بيوم تام، ولو قوم الصيد نفسه بدراهم، ثم قومها بطعام أجزأه، والأول أصوب.
ولا يخرج مثلا ولا طعاما، ولا صياما إلا بعد أن يحكم به عليه حكمان غيره، يخيرانه فيما يشاء من ذلك، فيحكمان عليه به، قال محمد: وأحب إلينا أن يكونا في مجلس واحد، من أن يكونا واحدا بعد واحد.
ثم إذا حكما عليه بمثل الصيد من النعم لاختياره ذلك، فأراد أن ينصرف إلى الطعام أو الصيام، فقال في الكتاب: ذلك له. قال أبو القاسم بن الكاتب: ذلك له ما لم يعرف ما حكما به عليه ويلتزمه. وحمل غيره من المتأخرين ما في الكتاب على ظاهره. قال أبو القاسم بن محرز: والذي قاله أبو القاسم هو الصواب، قال: وهو كالمكفر عن يمينه إذا التزم الكفارة بأحد الأجناس الثلاثة، فإنه يلزمه أن يكفر به، ولا يكون له أن يعدل إلى غيره. وقال القاضي أبو بكر: يحكمها، ثم ينظران في القضية، فما أدى إليه اجتهادهما لزمه، لاغ يجوز له أن ينتقل عنه.
النوع الثاني: دم الفدية.
وهو ما وجب في إلقاء التفث وطلب الرفاهية بالترخص في فعل ما يمنع المحرم منه. وهي شاة فأعلى، يعتبر فيها من السن والسلامة ما اعتبر في الهدي، وليست بهدي، ولا يلزمه إيقافها بعرفة، وله أن يذبحها حيث شاء من البلاد، إلا أن يشاء أن يجعلها هديا، فيوقفها موقفه، وينحرها بمنحره، فذلك له لا عليه. وله أن يقلدها ويشرها إن جعلها بدنة أو بقرة.
وإن شاء أطعم ستة مساكين، مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن أحب صام ثلاثة أيام، فذلك على التخيير لا على الترتيب. وله ان يصوم ويطعم حيث شاء، ولا يجزئ عن الإطعام الغداء والعشاء، بخلاف كفارة اليمين لأنه دون المدين، وإن كان فوق المد. قال أشهب: إلا أن يبلغ ذلك مدين أكثير كل مسكين.
النوع الثالث: ما خرج عن هذين النوعين.
وهذا النوع يلزم إخراجه، ولا يخبر بينه وبين غيره، كدم المتعة والقران والفوات والفساد وترك الرمي وشبه ذلك من الواجب، لنقص في حج أو عمرة من تعدي ميقات، أو ترك حلاق، أو ترك مبيت بالمزدلفة، أو من نذر شيئا فعجز عنه، أو غير ذلك.
وهذا النوع ينتقل العاجز عنه الصوم، ولا إطعام فيه، وأقل ما يجزئ في ذلك شاة. وينبغي للواجد أن يهدي من الإبل، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة.
ولو أهدى في تمتعه أو قرانه شاة، أجزأه على تكره.
فمن لم يجد هديا صام عشرة أيام، لغا أنه إن أن الهدي الواجب عليه لنقص متقدم على الوقوف كالمتمتع والقارن. ومن تعدى الميقات، أو أفسد الحج، أو فاته الحج فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، من حين يحرم إلى يوم النحر، فإن أخرها إليه، صام الثلاثة التي بعده، أو صام فيها ما بقي عليه منها. وقيل: لا يصومها، فإن مضت صام بعدها. ثم إن شاء وصل السبعة بالثلاثة، وإن شاء فرقها.
قال محمد بن حارث: ولا بد من اتصال الثلاثة بعضها ببعض، وكذلك السبعة. وفي الكتاب، قال: وقال مالك: وإن فرق الثلاثة الأيام في الحج أجزأه. وفي نقل الشيخ أبي محمد: التتابع في صيام المتمتع أحب إليه، ومن فرقه أجزأه.
وقوله تعالى: {إذا رجعتم} يريد من منى أقام مكة، أم لا.
قال في كتاب محمد: إذا وصل إلى أهله، إلا أن يقيم بمكة، وإن صام في الطريق أجزأه.
وإن أن ذلك لزم لما بعد الوقوف، كترك جمرة، أو ترك النزول بالمزدلفة، أو لوطء بعد جمرة العقبة، وقبل الإفاضة، فإنه يصوم متى شاء. وكذلك من مشى في نذر إلى مكة، فعجز عنه.
ومن أيسر قبل أن يصوم، أو وصل إلى بلده قبل أن يصوم، وله به مال أهدى، ولم يجزئه لصوم. وكذلك إن وجد من يسلفه، وكان مليا ببلده.
وإن وجد الهدي بعد الشروع في الصوم، لم يلزمه. واستحب له إن كان بعد يوم أو يومين من صيامه. ولو وجد قبل الشروع وبعد إحرام الحج لانبنى على أن العبرة في الكفارات بحالة الوجوب أو بحالة الأداء.
ولو مات المتمتع قبل رمي جمرة العقبة، فلا شيء عليه. وإن مات بعد رميها، أخرج هدي التمتع من رأس ماله. وقال سحنون: لا يلزم الورثة الهدي إلا أن يشاءوا. وإن مات معسرا، لم يصم عنه أحد.
فرع:
كل ما ذكرناه من الانتقال من بدل إلى بدل، فيشترط فيه مفارقة المنتقل عنه جملة، فلا يلفق الواجب من صنفين أصلا.

.الفصل الثالث: في زمان إراقة الدماء ومكانها:

أما الزمان فلا يجوز شيء من الهدايا إلا نهارا بعد الفجر من يوم النحر.
فإن نحر شيء منها قبل فجره، أو نحر بليل بعده، لم يجزئ.
ودماء الفوات والفساد يراقان في الحجة المقضية، وقيل: في الفائتة أو المفسدة؛ لأن الهدي جبران لها. ولا تختص شاة الفدية بعد جريان سببها بزمان مخصوص، كما لا تختص بمكان مخصوص، بل له أن يذبحها حيث شاء في ليل أو نهار.
وأما المكان فيختص جواز الإراقة بالحرم فيما عدا فدية الأذى، وفيه محلان:
أحدهما: منى، وهو لكل ما نحر في أيامها مما وقف به بعرفة، دون ما لم يوقف به بعرفة.
وقال ابن الماجشون: يجوز نحره بها، وإن لم يوقف به بعرفة.
المحل الثاني: مكة، ولا يشترط في النحر بها الوقوف، ولا أيام منى، بل لو نحر بها ما وقف به بعرفة لكان في إجزائه ثلاثة أقوال. وفي الثالث يخصص الإجزاء بما نحر بعد خروج أيام منى. ولو ساق إليها ما يوقف به بعرفة، فنحره بها من غير أن يوقف بعرفة، ففي إجزائه قولان.
واختتام الكتاب ببيان الأيام المعلومات، وهي:
يوم النحر، ويومان بعده. والمعدودات وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليوم الرابع منه معدود غير معلوم، واليومان اللذان بينهما معلومان معدودان.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

.كتاب الجهاد:

والنظر في وجوبه، وكيفيته، وتركه بالأمان، فنعقد بابا في كل واحد.

.الباب الأول: في وجوبه:

والنظر في طرفين:
الأول: في وجوبه على الكفاية أو العين. والثاني: في المعاذير المسقطة.
الأول: في وجوبه على الكفاية أو العين.
والأصل في وجوبه على الكفاية، قال القاضي أبو محمد: ووجه القيام به أن تحرس الثغور وتعمر، وتحفظ بالمنعة والعدد، ولا تجوز المهادنة إلا لضرورة تدعوا إليها. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد العزيز: يجب على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه، أو يخرج معهم من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرغبهم، ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، أو يعطوا الجزية.
ثم الإمام يرعى النصفة في المناوبة بين الناس، وقد يتعين الجهاد في بعض الأحيان ولتعينه سببان.
أحدهما: أمر الإمام بالخروج إلى الغزو، فمن عينه بأمهر تعيهن عليه الخروج.
الثاني: أن يفجأ العدو قوما هلم قوة على مدافعته، فيتعين عليهم دفعه ومقاتلته.
فإن لم يستقلوا بدفعه، لزم من قاربهم أن يخرج إليهم.
فإن لم يستقل الجميع، وجب على كل من علم بضعفهم، وطمع في إدراكهم وغوثهم المضي إليهم حتى يندفع العدو عنهم.
الطرف الثاني: في مسقطات الوجوب:
ويسقط الجهاد بالعجز الحسي، وبالموانع الشرعية. أما العجز الحسي فكالصبا والجنون والأنوثة والمرض والعمى والعرج والفقر، أعني العجز عن السلاح، والركوب عند الحاجة إليه، ونفقة الذهاب والإياب.
ولا يسقط بالخوف في الطريق من المتلصصين؛ لأن قتالهم أهم. قال الشيخ أبو إسحاق: وقطعة الطريق مخيفوا السبيل أحق بالجهاد من الروم.
وأما الموانع الشرعية فكالرق دون أمر سيده، وليس لرب الدين المنع بالدن المؤجل عن الجهاد، ولا عن سائر الأسفار.
فإن كان يحل في غيبته، وكل من يقضيه، وإن كان حالا، ولا يقدر على قضائه، فله السفر بغير إذن رب المال، وللوالدين المنع، ولا يبلغ الجد والجدة أن يلحقا بهما.
وسفر العلم الذي هو فرض عين، ليس لهما منعه منه، فإن كان فرض كفاية فليتركه في طاعتهما. ولهما المنع من ركوب البحار والبراري المخطرة للتجارة. وحيث لا خطر لا يجوز لهما المنع.
والأب الكافر كالمسلم، فيما عدا الجهاد من ذلك.
وقال سحنون: وكذلك في المنع من الجهاد، إلا أن يعلم أن منعهما ليوهن الإسلام ولا يعين على الكفار لا لحاجتهما إليه، فليخرج، وإن كرها.
فإن وطئ الكفار دار المسلمين تعين على كل من له منة قتالهم كما تقدم، حتى العبد والمرأة، فيجب على كل واحد منهما الدفع والمعاونة بغاية الإمكان. وانحل الحجر عن العبد أن لم يستغن عنه، فإن استغنى عنه لم يلزمه. ولو خرج قوم فيهم كفاية، سقط بهم الواجب.

.الباب الثاني: في كيفية الجهاد:

والنظر في تفصيل ما يجوز أن يعامل الإمام به الكفار:
أما في أنفسهم فبالقتل والقتال والاسترقاق. وأما في أموالهم فبالإهلاك والاغتنام.
النظر الأول: في معاملتهم بالقتال.
وفيه مسائل:
الأولى: أنه ينبغي أن يدعى الكفار قبل أن يقاتلوا، ولا تؤخذ غرتهم إلا أن يكونوا ممن بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تؤخذ غرتهم، وأن يبيتوا.
وصفة الدعوة: أن يعرض عليهم الإسلام، فإن أجابوا كف عنهم، وإن أبوا عرض عليهم أداء الجزية، فإن أبوا قوتلوا، وإن أجابوا طولبوا بالانتقال إلى حيث ينالهم سلطاننا، فإن أجابوا كففنا عنهم، وإن أبوا قوتلوا، هذه كله مع الإمهال، فلو أعجلوا عن الدعوة قوتلوا دونها.
المسألة الثانية: فيمن تجوز الاستعانة به في القتال.
والأصل فيه الأحرار المسلمون البالغون، ولكن تجوز الاستعانة بالعبيد إذا أذن السادة، وبالمراهقين إن كان فيهم منة.
ولا تجوز الاستعانة بأحد من المشركين ولا ببعضهم على بعض، قال صلى الله عليه وسلم: «لن أستعين بمشرك».
قال ابن حبيب: هذا في الزحف والصف وشبهه، فأما في هدم حصن أو رمي مجانيق أو صنعة أو خدمة فلا بأس به. وقال أيضا: ولا بأس أن يقوم منه سالمه من الحربيين على من لم يسالمه منهم بالسلاح ونحوه، ويأمرهم بنكايتهم.
الثالثة: الجعالة للمسلم على الجهاد جائزة، يجعل القائد للخارج إن كانا من أهل ديوان واحد، وللإمام أن يرغبهم ببذل الأهبة والسلاح.
ويجوز استئجار العبيد، وكذلك أهل الذمة إذا أجزنا الاستعانة بهم أو استؤجروا للخدمة.
الرابعة: فيمن يمنع قلته، وهم: الصبي والمرأة.
فإن شك في بلوغ الصبي كشف عن مؤتزره، واعتبر نبات شعرة العانة. وقبل: لا يقتل حتى يحتلم.
والشيخ الفاني لا يقتل، إلا أن يكون ذا رأى وتدبير. وأهل الصوامع والديارات خارج المدينة، إلا أن يخاف منهم أذى أو تدبير. وقيل: يجوز قتلهم.
وإذا فرعنا على المشهور، فهل يترك النساء إذا تبرهن؟ حكى الشيخ أبو الطاهر في ذلك قولين: أحدهما: أسرهن إذ الرهبانية تختص بالرجال.
والثاني: تركهن لانقطاعهن عن أهل الكفر.
ثم حيث قلنا: لا يقتل الرهبان، فتترك لهم أموالهم، إلا أن تكون كثيرة، فيؤخذ ما يزيد على قدر كفايتهم.
ولا يقتل المعتوه، ولا يقتل الأعمى ولا الزمن، إلا أن يكون ذوي رأى وتدبير، تخشى أذيتهما، وقيل: لا يقتلان بوجه.
ولا يقتل المسلم أباه المشرك إلا أن يضطره إلى ذلك، بأن يخافه على نفسه.
فرع:
من قتل من لا يباح له قتله من صبي أو امرأة أو شيخ بعد أن صار مغنما، فعليه قيمته، تجعل في المغنم.
وإن قتله في دار الحرب قبل أن يصير مغنما، فليستغفر الله سبحانه، ولا شيء عليه.
الخامسة: يجوز نصب المجانيق على قلاعهم، وإن كان فيهم نسوة وصبيان، وكذا إرسال الماء عليهم، وقطعه عنهم، وفي إضرام النار عليهم خلاف، ما لم يكمن فيهم أسارى مسلمون، فلا يجوز إذن إحراقهم، ولو تترسوا بالنساء والذرية تركناهم، إلا أن نخاف، تركهم على المسلمين فنقاتلهم، وإن اتقوا بهم.
ولو تترس كافر بمسلم لم يقصد الترس، وإن خفنا على أنفسنا، فإن دم المسلم لا يباح بالخوف. فإن تترسوا في الصف، ولو تركناهم لانهزم المسلمون وعظم الشر، وخيف استئصال قاعدة الإسلام أو جمهور المسلمين وأهل القوة منهم، وجب الدفع، وسقطت مراعاة الترس.
السادسة: لا يجوز الانصراف من صف القتال إن كان فيه انكسار المسلمين.
وإن لم يكن، فيجوز أن قصد به ما قال الله سبحانه في المتحيز إلى فئة، أو المتحرف لقتال. ولا يجوز الانهزام، إلا إذا زاد الكفار على ضعف المسلمين.
وهل المعتبر في النظر إلى صورة العدد، لأنه مقتضى الظاهر، أو إلى القوة والجلد.
لأنه المقصود والمعول عليه في المدافعة؟ قولان. وعلى الأول جمهور الأصحاب، وبه قال ابن القاسم، والثاني رواه ابن الماجشون.
فرع:
هذا إن علمت القوة والجلد، فإن جهل ذلك اعتبر العدد بلا خلاف.
ولا يجوز الاستبداد بالمبارزة دون إذن الإمام إذا كن عدلا. ولا يجوز حمل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد، ولا حملها إلى الولاة. وقد كرهه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقال: هذا فعل العجم.
التصرف الثاني: الاسترقاق.
ويجوز استرقاق الكافر إذا كان نظرا، ولا يمنع من ذلك كون المرأة حاملا من مسلم، لكن لا يرق الولد، إلا أن تكون حملت به حال كفره، ثم سيبت بعد إسلامه، فالحمل فيء.
وإذا سبي الزوجان معا، أو سبي الزوج أولا انقطع النكاح بينهما عند أشهب. وقال ابن المواز: النكاح على حاله، ولو سبيت أولا القطع النكاح. وقال ابن المواز: إن استبرئت بحيضه، فوطئها السيد قبل أن تصلح لزوجها حرمة، فقد انهدم النكاح، وإن حصلت له حرمة قبل ذلك، فهو أولى بها.
فرعان الأول: إذا سبيت المرأة وولدها الصغير، لم يفرق بينهما في البيع والقسمة، والصغير ها هنا من لم يثغر. وروي من لم يحتلم. ولو بيع مع الجدة، وقطع عن الأم، لم يجز. وليست الجدة في معنى الأم ولا الأب، فتجوز التفرقة بينه وبينها.
الفرع الثاني:
حكم الأساري.
وينحصر نظر الإمام فيهم بين خصال خمس، وهي: القتال، والاسترقاق، والمن، والفداء، وعقد الذمة، فيفعل من ذلك ما أدى اجتهاده إلى أن المصلحة للمسلمين فيه.
التصرف الثالث: إهلاك أموالهم غيظا لهم.
وذلك جائز؛ لم يتمكن من تملكها بتحريق الأراضي والزروع والعلوفات، وقطع النخيل والشجر، وعقر الدواب، وإخراب البلاد، ولا تمس النخل إلا أن تكون من الكثرة والاجتماع بحيث يؤثر إتلافها، ويجب إهلاك كتبهم التي لا يحل الانتفاع بها.
التصرف الرابع: الاغتنام.
والغنيمة: كل ما أخذته الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة، دون ما يختلس ويسرق، فإنه خاص بملك المختلس والسارق، وفيه الخمس إذا كان آخذه مسلما. وفي اشتراط كونه حرا خلاف، اشترطه سحنون وابن المواز، ولم يشترطه ابن القاسم. ودون ما ينجلي عنه أهله بغير قتال، فإنه فيء. وللغنيمة أحكام:
الأول: أنه يجوز التبسط في أطعمتها قبل القسمة ما داموا في دار الحرب، لأجل الحاجة. ويجري ذلك في القوت والحم والتبن والشعير.
ويجوز ذبح الأنعام لأكل، وقيل: لا يجوز.
ثم إذا ذبحها فله الانتفاع بجلودها إن احتاج عليها، فإن لم تكن له بها حاجة، أو استغنى عنها، ردها للمغانم. ويباح الأكل لمن معه طعام، ومن ليس معه، ولكن قدر الحاجة.
ولو فضل منه شيئا بعد الدخول إلى دار الإسلام، وتفرق الجيش لتصدق به إن كان كثيرا، فإن كان يسيرا فله الانتفاع به.
الحكم الثاني للغنيمة: أنه لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة، وإنما ملكوا بذلك أن يملكوا، وقيل: بل ملكوا بالقهر والاستيلاء وتقضي الحرب.
وقد خرج بعض علمائنا على القولين ما نذكره الآن من الفروع، وهي:
لو وقع في المغنم من يعتق على بعض الغانمين، فإنه يعتق عليه، ويغرم نصيب أصحابه.
وكذلك لو أعتق عبدا من المغنم، لكمل عليه، قاله سحنون فيهما. وقال ابن القاسم وأشهب: إذا أعتق أمة من المغنم، فلا عتق له. ولو وطئ جارية من المغنم حد، ولم تكن له أم ولد.
وقال عبد الملك: لا حد عليه.
وكذلك يقطع إن سرق منه، وقال عبد الملك: لا قطع عليه. وقال سحنون: إن سرق ما يزيد على حصته ثلاثة دراهم قطع، وإلا فلا.
وأما الوطء فلا حد فيه، والاستيلاد ثابت. ثم إن كان سهمه من الغنيمة يستغرق الأمة، أخذ منه قيمتها يوم الحمل. وإن لم يف سهمه كمل من ماله، فإن كان عديما فمصابته منها بحساب أم ولد يباع باقيها فيما لزمه من القيمة، ويتبع من قيمة اللود بقدر ذلك.
الحكم الثالث: إن أرضى الكفار المأخوذ بالاستيلاء قهرا أو عنوة، تكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين، من أرزاق المقاتلة والعمال، وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سب الخبر، ولا تقسم. وروي أنها تقسم كسائر أموال الغنيمة من العين والعروض. وفي بعض روايات المدونة ما يقتضى التخيير، فيصرف الأمر فيها إلى اجتهاد الإمام.
وإذا فرعنا على المشهور، فلا يجوز بيع ما كان كذلك من أرض العراق والشام ومصر، بل تؤخذ إجارتها، وتصرف في الوجوه التي ذكرناها من المصالح. وكذلك دور مكة، لا يجوز بيعها.
فروع ثلاثة: الأول: ما حصل في أيدي العدو من أموال المسلمين، فأسلموا عليه، كان لهم.
وإن عاد شيء من ذلك إلى الغنيمة، فهو لمن كان يملكه من المسلمين، يأخذه قبل القسم بغير ثمن، وهو أحق به بعده بالثمن. ولا يجوز قسمه إن علم به.
ولو وقع لأحد الغانمين أم ولد مسلم لعدم العلم بها، ثم علم بها بعد القسم، وجب ردها إلى سيدها، ولزمه فداؤها بما اشتريت به، وإن كان أكثر من قيمتها، فإن كان عديما قبضها، واتبع بقيمتها، قاله في الكتاب. وقال في الموطإ: يفديها الإمام لسيدها، فإن لم يفعل، فعلى سيدها أن يفديها.
وقال أشهب والمغيرة وعبد الملك: على سيدها الأقل من قيمتها، أو الثمن الذي اشتريت به، وإن كان معدما اتبع به. قال عبد الملك: ومشتريها أحق بما في يد سيدها من غرمائه.
وما ذكرناه عن الكتاب من حكم أم الولد إذا وقعت في المغنم، وهو حكمها فيه إذا اشتريت من دار الحرب. وأما لو فدى حرا مسلما من دار الحرب، لرجع علبيه بما فداه به، أحب أو كره.
الفرع الثاني:
إذا أسر العدو حرة مسلمة، فولدت عندهم أولادا، ثم غنمها المسلمون، فولدها الصغار بمنزلتها، لا يكونون فيئا. وأما الكبار بلغوا وقاتلوا نف هم فيء.
قال في ثمانية أبي زيد وكتاب ابن حبيب: ما سبيت به الحرة من ولد صغيرا أو كبير، تبع لها في الحرية والإسلام، لا يباعون ولا يسترقون، ويكرهون على الإسلام. فمن أبى أجبر.
فإن تمادى فهو كالمرتد يقتل قال أبو الحسن اللخمي: يريد إن تمادى الصغير على الكفر بعد عن بلغ. وقال أشهب في كتاب محمد: حملها وولده الكبير فيء. وذكر ابن سحنون عنه قولين، أحدهما: مثل ما حكى عنه محمد، والآخر: أنهم كلهم أحرار.
قال ابن القاسم: ولو كانت أمة لرجل، كان كبير ولدها وصغيرهم لسيدها. وقال ابن الماجشون: صغارهم وكبارهم في فيء، وقال أشهب: هم فيء، إلا أن تكون تزوجت، فيكونون لسيدها.
وأما الحرة الذمية، فقال الشيخ أبو إسحاق: هي مردودة إلى ذمتها وصغارها ولدها، أما كبارهم الذين قد بلغوا وأطاقوا القتال، فهم فيء.
الفرع الثالث:
إذا أسلم الحربي، ثم خرج إلينا فغزا المسلمون بلاده فغنموا أهله وولده وماله. فِأما أهله أعني زوجته، فلا يختلف المذهب في أنها فيء، لاستقلالها بحكم نفسها، حكى ذلك الشيخ أبو الطاهر.
وأما ولده فمذهب الكتاب أنهم فيء، وهو تغليب الحكم الدار. وقال أشهب وسحنون: هم تبع لأبيهم، فأثبتا لهم حكم التبعية. قال سحنون وقال بعض الرواة؛ إن كان ولده صغارا كانوا تبعا له.
واختلف في ماله على ثلاثة أقوال أيضا، فقال في الكتاب: هو فيء، كما قال في الولد والزوجة، وقال: من حكم بتبعية صغار ولده له، وكذلك ماله هو له، فإن أدركه قبل أن يقسم أخذه، وإن كان قد قسم، كان أحق به الثمن. وقال ابن حارث: إن كانوا أحرزوا ماله وضموه إلى أملاكهم من حين إسلامه وخروجه من عندهم، كان فيئا. وإن تركوه كان له، وإن دخل في المقاسم أخذه بالثمن. قال أبو الحسن اللخمي: القول بأن ماله وولده له أحسن، هذا كله إذا خرج إلينا بعد إسلامه.
فإن بقي في دار الحرب، ثم دخل المسلمون، فغنموا ما فيها، فللمتأخرين قولان: أحدهما: أنه بمنزلة الأول، وهو على تغليب حكم الدار، والثاني: أنه لا ينقطع ملكه على ماله، ويتبعه ولده الصغار، وهو نظر إلى بقاء يده على ماله، وعدم انفصال ولده عنه.

.الباب الثالث: في ترك القتل والقتال بالأمان:

والأمان مصلحة في بعض الأحوال ومكيدة من مكائد القتال في المبارزة.
وينقسم إلى: عام لا يتولاه إلا السلطان: وإلى خاص يستقل به الآحاد، وهو المقصود بيانه الآن.
والنظر في أركانه وشروطه وحكمه.
أما أركانه فثلاثة:
الأول: العاقد.
وهو كل مؤمن مميز، حتى العبد والمرأة والشيخ الهرم والصبي إن عقل الأمان.
وروى معن بن عيسى: أنه لا يصبح أمان العبد. وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال جاز أمانه، وإلا لم يجز. وقيل: إن قالت صح أمانه، وإلا فلا. وقيل أيضا بعدم صحة أمان المرأة. وقال سحنون: في الصبي إن أجازه الإمام في المقاتلة صح أمانه، وإن لم يجزه لم ي صح. وقيل في الكافر أيضا: يصح أمانه؛ لأن له ذمة، فكان تابعا للمسلمين.
وكل من أجزنا أمانه غير أمير الجيش، فلا يتوقف أمانه على تنفيذ الأمير له. وقال ابن الماجشون: لا يلزم تأمين غير الإمام، فإن أمن غيره، نظر فيه الإمام، فإن رأى إمضاءه وإلا رده.
ولا يصح الأمان من غير المميز لصغر أو جنون، ويشترط في المؤمن أن يكون آمنا، فلا يصح أمان الخائف.
الركن الثاني: المعقود له:
وهو الواحد أو العدد المحصور، أما العدد الذي لا ينحر كأهل ناحية، فلا يصح أمان الآحاد فيه، بل ذلك إلى السلطان.
الركن الثالث: نفس العقد.
وينعقد الأمان بصريح اللفظ، وبالكنانة، والإشارة المفهمة، فإن رد الكافر ارتد، وإن قبل صح، ولا بد من قبول ولو بالفعل، ولو أشار عليه مسلم في صف الكفار فانحاز إلى صف المسلمين، وتفاهم الأمان فهو أمان، ولو ظل الكافر أن المسلم أراد الأمان، والمسلم لم يرده، فلا يغتال، ومن دخل لسفارة لم يفتقر إلى عقد أمان، بل ذلك القصد يؤمنه.
ولو قال الوالي: أمنت من قصد التجارة، صح. ولا يصح من الآحاد. فإن ظن الكافر صحته فلا يغتال، وليوف له بالأمان، بل لو ظن ما أوهم به مما ليس بتأمين تأمينا، كان تأمينا له.
وقال مالك في العلج يلقاه الرجل ببلد العدو مقبلا فيأخذه، فيقول: جئت للأمان، إنه أمر مشكل، فليرد إلى مأمنه.
قال ابن القاسم: وكذلك الذي يوجد، وقد نزل تاجرا بساحلنا فأخذ، فقال: ظننت أنكم لا تعرضون لمن جاء تاجرا حتى يبيع.
وروى ابن وهب في قوم من العدو نزلوا بساحلنا بغير إذن، فأخذوا، فزعموا أنهم تجار لفظهم البحر، ولا يعلم صدقهم، وقد تكسرت مراكبهم ومعهم السلام أو ينزلون للماء بغير إذن، فهم فيء لا يخمسون والإمام يرى فيهم رأيه. وشرط اومان ألا يكون على المسلمين ضررا، فلو أمن جاسوسا أو طليعة، أو من فيه مضرة، لم ينعقد. ولا تشترط المصلحة، بل يكفي عدم المضرة للصحة.
وحكمه: أنه إذا انعقد كففنا عنه، وعن ما يتبعه من أهل ومال إن شرط ذلك في الأمان، فإن اقتصر على قوله: أمنتك، فلا يسري اومان إلى ماله من أهل ومال في الحصن الذي نزل منه. ويصح عقد الأمان للمرأة مقصودا للعصمة عن الاسترقاق، وإذا أمن الأسير آسره، صح ولزمه ذلك، إلا أن يكون مكرها له عليه.
فلو أمنهم وأمنوه، بشرط أنه لا يخرج من ديارهم، فليقم ولا يهرب عنهم. قال أبو الحسن اللخمي: هذا إذا عاهدوه، فأما إن استحلفوه بالطلاق أو العتاق، لم يلزمه الوفاء، وجاز له الهرب. قال: ثم لا يلزمه كطلاق ولا عتاق، لأنه مكره.
ويجب على المبارز مع قرنه الوفاء بشرطه، فلو أثخن المسلم وقصد تدفيفه، منعناه على أحد القولين.
ولو خرج جماعة لإعانة الكافر استنجاده، قتلناه معهم، وإن كان بغير إذنه، لم نتعرض له.
ولو خرج جماعة لمثلهم، ففرغ بعضهم من قرنه، جازت إعانة من ظفر لمن لم ي ظفر في القتل والدفع، كما فعل علي وحمزة رضي الله عنهما مع عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
ويتم النظر في مشارطات الكفار برسم مسائل.
الأولى: إذا أخل ببضع الأركان، كما إذا أمن من قلنا: لا يؤمن، أو ظن العلج الأمان ولم يرده المؤمن، أو أوهمه الأمان بغير أمان. ففي جميع ذلك يرد المؤمن إلى مأمنه ولا يغتال، فأما لو فقد الشرط، بأن كان عينا أو جاسوسا لقتل، ولم يرد.
الثانية: إذا قال رجل من الصحن: أفتح لكم على أن تؤمنوني على عشرة أرؤس من الرقيق، أو عشرة أفراس من الكراع هن أعطاه ذلك المسلمون، وكذلك على ألف درهم.
الثالثة: المستأمن رع إلى داره، فما خلفه عندنا من وديعة أو يدن، بعث به إليه.
وإن مات فغلى ورثته إن عرفوا، وإن لم يعرفوا فإلى طاغيتهم، إلا أن يجاهد، فيقتله المسلمون عبد الأسر، فيكون ماله للجيش الذي أسره، لأنه ملك رقبته، بخلاف ما إذا قتل دون أسره.
الرابعة: إذا حاصرنا أهل قلعة، فنزلوا على حكم رجل صح إذا كان ذلك الرجل عاقلا عدلا بصيرا بمصالح القتال، وإن حكم بقبول الجزية، أجبروا عليه، ولو حكموا فاسقا، صح.
ثم إذا حكم تعقب الإمام حكمه، فإن رآه نظرا للإسلام، وإلا رده، وولي هو الحكم بما يراه نظرا، ولا يردهم إلى مأمنهم.
ولو حكم العدو ذميا أو امرأة أو صبيا أو عبدا وهم عالمون به، لم يجز حكمهم، وليحكم الإمام بما يراه، لأنهم رضوا بأقل المسلمين، أو بمي فرددناهم إلى حكم من هو أعلى وأفضل، فلا حجة لهم.
بسم الله الرحمن الرحيم

.كتاب عقد الذمة والمهادنة:

والعقود التي تفيد الأمن للكفار ثلاثة: الأمان: وقد تقدم ذكره، والذمة والمهادنة، وهما مقصود الكتاب.

.العقد الأول: عقد الذمة:

.والنظر في أركانه وأحكامه:

.وأركانه خمسة:

.الركن الأول: نفس العقد:

وهو التزام تقريرهم في دارنا وحمايتهم والذب عنهم، بشرط بذل الجزية، والاستسلام من جهتهم.
وينبغي أن يعين مقدار الجزية، ويقبلوا ذلك، فإن لم يذكر مقدار الجزية نزلوا على مقدار جزية أهل العنوة، وهي ما قدره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على ما نبين فيما بعد.
وإذا وقع العقد فاسدا فلا نعتالهم، لكن نلحقهم بالمأمن.
ولو دخل كافر دارنا ثم قال: دخلت بأمان، فإن أشبه ما قال صدق، وإن لم يشبه رأى فيه الإمام رأيه، كما في سائر الأسارى، وليس لمن وجده فيه شيء.

.الركن الثاني: العاقد:

وهو الإمام ويجب عليه، إذا بذلوه ورآه مصلحة، إلا أن يخاف غائلتهم. ولو عقده مسلم بغير إذن الإمام لم يصح، ولكن يمنع الاغتيال.

.الركن الثالث: فيمن يعقد له:

وهو كل كافر ذكر بالغ حر قادر على أداء الجزية، يجوز إقراره على دينه ليس بمجنون مغلوب على عقله، ولا بمترهن منقطع في دير.
قال القاضي أبو الوليد: هذا ظاهر مذهب مالك، قال: وقال عنه القاضي أبو الحسن: إنه استثنى القرشي في ذلك. وقال ابن الجهم: تؤخذ الجزية من كل من دان بغير إسلام، إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة.
والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة، واستثنى ابن وهب مجوس العرب. واستثنى ابن الماجشون من ليس بكتابي.
أما الصبي والعبد والمرأة، فهم أتباع، ولا جيزة عليهم، وكذلك المجنون، ولا تؤخذ ممن ترهب وانقطع في الديرة قبل ضربها عليه.
وإذا دخلت امرأة دارنا من غير أمان أو تبعية استرقت، وكذلك الصبي، والفقير العاجز عن الكسب، يقر مجانا. وقيل: يسترسل وجوبها على الغني والفقير، لأنها ثمن صيانة الدم.
وإذا بلغ الصبي أخذت منه عند بلوغه، ولم ينتظر مرور الحول بعد بلوغه.
ولا تقبل من المرتد، إذ لا يقر الدين الذي انتقل إليه.

.الركن الرابع: في البقاع.

ويقرون في جميع البلاد، إلا في جزيرة العرب، وهي: مكة والمدينة، واليمن في رواية عيسى بن دينار. وروى ابن حبيب أنها من أقصى عدن وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب وفي المشرق، ما بين سرب إلى منقطع السماوة. ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين ولا يقيمون.

.الركن الخامس: في تفصيل مقدار ما يجب عليهم:

وواجباتهم أربعة.
الأول: الجزية، فلو أقر الوالي من غير جزية فقد أخطأ.
ويخير المقر بين الإقامة على الجزية وال رد إلى مأمنه. وأكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق. ولا يزاد على ذلك، فإن كان فيهم الضعيف خفف عنه بقدر ما يراه الإمام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر، ولا يزاد عليه لغني.
وقال القاضي أبو الحسن: لا حد لأقلها، قلاك و قد قيل: أقلها دينار أو عشرة دراهم، وهي عقوبة بدل من القتل، فلو اسلم أو مات بعد سنة، سقطت عنه.
ولو اجتمع عليه جزية سنين، فقال القاضي أبو الوليد: إن كان فر منها أخذت منه للسنين الماضية، وإن كان ذلك لعسر لم تؤخذ منه، ولم يكن في ذمته ما يعجز عنه؛ إذ الفقير لا جزية عليه.
الثاني: الضيافة وأرزاق المسلمين.
وقد كان عمر رضي الله عنه فرض مع الدنانير أرزاق المسلمين مدين من حنطة على كل نفس في الشهر، مع ثلاثة أقساط زيت ممن كان بالشام والجزيرة، وعلى من كان بمصر إردبا من حنطة في كل شهر. قال: ولا أدري كم من الودك والعسل، وعليهم من الكسوة التي كان عمر يكسوها الناس على أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام. وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا كل شهر على كل رجل، مع كسوة معروفة. قال: ولا أري كم قدرها، كان عمرها يكسوها الناس. وأربعة دنانير يسيرة فيما كان عليهم من الطعام والأدام والكسوة والضيافة.
قال مالك: وأرى أن يوضع عنهم اليوم من الضيافة والأرزاق، لما أحدث عليهم من الجور.
الثالثة: الإهانة.
فتؤخذ منهم الجزية على وجه الإهانة والصغار، امتثالا لأمر الله سبحانه.
الرابع: يجوز أن يؤخذ العشر من بضاعة تجار أهل الحرب.
وأما الذمي، فلا ي جوز أن يؤخذ من تجارته شيء، إلا أن يتجر في غير أفقه الذي يؤدي فيه الجزية، فيؤخذ منهم العشر كلما دخلوا، ولو مرارا في السنة.
واختلف: هل الواجب عشر ما يدخلون به كالحربيين، وهو رأي ابن حبيب، أو عشر ما يعتاضون عنه، وهو رأي ابن القاسم.
وسبب الخلاف: هل المأخوذ منهم لحق الوصول إلى القطر الثاني أو لحق الانتفاع فيه؟.
ويتخرج على تحقيقه فرعان.
الأول: لو دخلا ببضاعة أو عين، ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا أو يشتروا، فابن حبيب يوجب عليهم العشر كالحربيين، وابن القاسم لا يوجبه.
الثاني: لو دخلوا بإماء، فابن حبيب يمنعهم من وطئهن، واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهم؛ إذا لا يرى الشركة.
ولو باعوا في بلد، ثم اشتروا فيه، لم يؤخذ منهم إلا عشر واحد، ولو باعوا في أفق، ثم اشتروا في أفق آخر بالثمن، أخذ منهم عشران.
ويخفف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصة، فيؤخذ منهم نصف العشر. وروى ابن نافع أنه يؤخذ منه العشر كاملا، كما لو حملوه إلى غيرهما، أو حلموا غيره إليها، وقال بالأول دون ما روى.
وإذا دخل الحربي بأمان مطلق، أخذ منه العشر، لا يزاد عليه شيء. وتجوز مشارطته على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول.
فروع:
الأول: إذا تجر أهل الذمة بالخمر وما يحرم علينا، فروى ابن نافع أنهم يتركون حتى يبيعوه، فيؤخذ منهم عشر الثمن.
وإن خيف من خيانتهم جعل معهم أمين. قال ابن نافع: وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة، لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها.
وذكر ابن حبيب في الحربيين إذا نزلوا ومعهم خمر أو خنزير، فالوالي يريق الخمر،
ويقتل الخنزير، ويفيت الجميع. ولا يجوز للإمام إنزالهم على إبقاء ذلك بأيديهم.
الثاني: إذا انتقل ذمي من قطر إلى قرط كمصر والشام، فأوطن الثاني، ثم قدم منه بتجارة إلى الأول، فقال ابن القاسم: لا يؤخذ منه عشر؛ لأنها بلدته التي صالح عليها. وإن رجع إلى الشام الذي أوطنه، أخذ منه العشر. قال أصبغ: ذلك متى تركت جزيته لم تحول، ولم تؤخذ منه حيث انتقل، فإن أخذت منه حيث استوطن، ومحي عنه الأول، صارت كبلده، ولم يؤخذ منه شيء.
الثالث: قال ابن سحنون عن أبيه: إذا اشترى الذمي، فأخذ منه العشر، ثم استحق ما بيده أو رده بعيب، رجع بالعشر.
الرابع: قال أشهب: إذا ثبت أن على الذمي دينا للمسلم، لم يؤخذ منه عشر، ولو ادعاه لم يصدق بمجرد قوله، ولا يسقط بثبوته لذمي.

.النظر الثاني: في حكم عقد الذمة.

وهو يقتضي وجوبا علينا وعليهم، فحكمه علينا وجوب الكف عنهم، وأن نعصمهم بالضمان نفسا أو ومالا، ولا نتعرض لكنائسهم، ولا لخمورهم و لا خنازيرهم ما لم يظهروها، فإن أظهروا الخمر أرقناها عليهم. وإن لم يظهروا، فأراقها مسلم، فقد تعدى، ويجب عليه الضمان. وقيل: لا يجب، ولو غصبها وجب عليها ردها.
ويؤدب من أظهر الخنزير.
ولو باع الأسقف عرصة من الكنيسة أو حائطا، جاز ذلك إن كان البلد صلحا، ولم يجز إن كان عنوة.
وقال أصبغ في بيع شيء من الديارات في الخراج أو مصالح الكنيسة، وذلك حبس عليها. قال: لا يشتريه المسلم، ولا يجوز من ذلك في أحباسهم إلا ما يجوز في أحباس المسلمين.
ولا يحكم حكم المسلمين في منع بيع الكنائس، ولا رده، ولا إنفاذ حبسها، ولا إجارته، ولا الأمر فيه.
ولو ترافعوا إلينا في خصوماتهم واتفقوا على الرضا بحكمنا، فالحاكم مخير في الحكم بينهم أو الترك، ولا يتعين عليه. وقيل: لا يحكم بينهم إلا برضا أساقفتهم مع رضاهم.
فإن لم يتفق الخصمان، لم يحكم بينهما، إلا أن تتعلق الخصومة بمسلم، فيجب الحكم. قال يحيى بن عمر: وكذلك لو كانا مختلفي الملة.
فإن ترافعوا إلينا في التظالم، حكمنا بينهم على كل حال، لأنه من باب الدفع عنهم، ويجب أيضا دفع الكفارة عنهم.
أما حكمه عليهم، فأربعة أمور:
الأول: في الكنائس، فإن كانوا في بلده بناها المسلمون، فلا ي مكنون من بناء كنيسة.
وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا، وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بها.
أما إذا فتحت بالصلح على أن يسكنوه بخراج، ورقبة الأبنية للمسلمين، وشرطوا إبقاء كنيسة جاز:
وأما إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم، وعليهم خراج، ولا تنقض كنائسهم، فذلك لهم، ثم يمنعون من رمها. قال ابن الماجشون: ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت، إلا أن يكون ذلك شرطا في عهدهم، فيوفى لهم. ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة. ونقل الشيخ أبو عمر: أنهم لا يمنعون من إلاح ما وهى منها.
وإذا منعوا من إحداث كنيسة فيما بين المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترفع فيكمن يهودية ولا نصراينة»، فلو صولحوا على أن يتخذوا الكنائس إن شاءوا، فقال ابن الماجشون؛ لا ي جوز هذا الشرط، ويمنعون منه، إلا في بلدهم الذي لا يسكنه المسلمون معهم، فلهم ذلك، وإن لم يشرطوه، قال: وهذا في الصلح. فأما أهل العنوة نفلا ي ترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت، ثم لا يمكنون من إحداث كنيسة بعد، وإن كانوا معنزلين عن بلاد الإسلام.
ولا يمنع أهل الصلح من إظهار الخمر والناقوس وغبر ذلك داخل كنائسهم.
وليس لهم إظهار شيء من ذلك خارجها، ولا لهم حمل الخمر من قرية ق قريتهم التي يسكنونها مع المسلمين، ونكسرها إن ظهرنا عليها، وإن قالوا: لا نبيعها من مسلم. وإن أظهروا ناقوسا كسرناه. ومن وجدناه منهم سكرانا أدبناه، وإن أظهروا صلبهم في أعيادهم واستقائهم كسرت عليهم وأدبوا.
ولا يرفعوا أصوات نواقيسهم، بل يضربون لها ضربا خفيفا، لوا يرفعوا أصوات بالقراءة.
في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين.
الثاني: يمنعون من ركوب الخيل والبغال النفيسة، ولا يمنعون من الحمار، ولا يركبون السروج، بل يركبون على الأكف عرضا.
الثالث: يمنعون من جادة الطريق، ويضطرون إلى المضيق، إذا لم ي كن الطريق خاليا، ويلزمون الغيار، ولا يشتبهون بالمسلمين في الزي، ويؤدبون على تكر الزنانير، ولا يدخلون المساجد.
وفي الواضحة وكتاب ابن سحنون: كتب عمر بن عبد العزيز أن يختم في رقاب رجال أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، يركبوا على الأكف عرضا.
قال ابن حبيب: وروي عن الني صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم بطريق فألجئوهم إلى أضيقها».
وقال عمر: سموهم ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم، ولا تبدؤوهم بالسلام. ونهى عمر أن يتخذ منهم كاتب، وقال: قال الله تعالى: {ولا تتخذوا بطانة من دونكم}. ونهى عنه عثمان.
وقال عمر بن عبد العزيز: كان المسلمون إذا افتتحوا البلاد لم يكن لهم علم بأمر الخراج، حتى استعانوا بالعجم، ثم إن المسلمين عرفوا من ذلك ما يحتاجون إليه وكثروا، فلا ينبغي أن يستعملوا في شيء من أمور المسلمين.
وكتب عمر أن يقاموا من أسواقنا، وقاله مالك.
الرابع: الانقياد للحكم.
وإذا زنى بمسلمة، أو سرق مال مسلم حكمنا عليه في ذلك. أما ما لا يتعلق بمسلم، فلا نعرض لهم فيه، لا أن يترافعوا إلينا على التفصيل المتقدم.
وعليهم أيضا كف اللسان.
فإن أظهروا معتقدهم في المسيح أو غير ذلك، مما لا ضرر فيه على مسلم عزرناهم، ولا ينتقض به العهد، وإنما ينتقض بالقتال، ومنع الجزية، والتمرد على الأحكام، وإكراه المسلمة على الزنى.
فإن أسلم لم يقتل، إذ قتله لنقض العهد لا للحد، وكذلك التطلع إلى عورات المسلمين.
أما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص، فحكمهم فيه حكم من ف عله من المسلمين.
وإن تعرض أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لغيره من الأنبياء بالسب، وجب عليه القتل، إلا، يسلم. وروي: يوجع أدبا، ويشرد به، فإن رجع عن ذلك قبل منه.
وأم المسلم، فهو إن كذب على رسول الله عزر، وإن كذبه فهو مرتد، وإن سب الله تعالى أو رسوله أو غيره من الأنباء قتل حدا، ولا يسقط القتل عنه بالتوبة. وقيل: حكمه حكم المرتد.