فصل: بَابُ مُعَامَلَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْكُفَّارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ مُعَامَلَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْكُفَّارِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا غَزَا الْجَيْشُ أَرْضًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ لِيَعْرِفُوا أَنَّهُمْ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَهُوَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «مَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَلَوْ قَاتَلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ كَانُوا آثِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِمَّا أَتْلَفُوا مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْحَقْنِ وَالْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ مِنْهُمْ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَبْلُغَهُمْ الدَّعْوَةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ تَكُونُ بِالْإِحْرَازِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِمْ وَلَئِنْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ بِالدِّينِ كَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا وَالْقِتَالُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَارِبَةِ كَمَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ لِلشِّرْكِ كَمَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنَّ شَرْطَ الْإِبَاحَةِ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ فَبِدُونِهِ لَا يَثْبُتُ وَمُجَرَّدُ حُرْمَةِ الْقَتْلِ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مِنْهُمْ وَكَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُثْلَةِ ثُمَّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَإِنْ هُمْ دَعَوْهُمْ فَحَسَنٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَعَثَ مُعَاذًا فِي سَرِيَّةٍ وَقَالَ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُكُمْ فَإِنْ بَدْؤُكُمْ فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا ثُمَّ أَرَوْهُمْ ذَلِكَ الْقَتِيلَ وَقُولُوا لَهُمْ هَلْ إلَى خَيْرٍ مِنْ هَذَا سَبِيلٌ؟ فَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْك خَيْرٌ لَك مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِنْذَارِ قَدْ تَنْفَعُ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَا يَقْوَوْنَ عَلَيْهِمْ إذَا قَدَّمُوا الْإِنْذَارَ وَالدُّعَاءَ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ غَافِلُونَ وَيَعُمُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ بِسَقْيٍ وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَبْنَا صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرَّقَ» «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى قَوْمٍ صَبَّحَهُمْ وَاسْتَمَعَ النِّدَاءَ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ صَبَّحَ أَهْلَ خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجَ الْعُمَّالُ وَمَعَهُمْ الْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، وَالْخَمِيسُ: الْجَيْشُ وَقَدْ كَانُوا وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَظْفَرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ»، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحَرِّقُوا حُصُونَهُمْ وَيُغْرِقُوهَا وَيُخَرِّبُوا الْبُنْيَانَ وَيَقْطَعُوا الْأَشْجَارَ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصِيَّةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَقْطَعُوا شَجَرًا وَلَا تُخَرِّبُوا وَلَا تُفْسِدُوا ضَرْعًا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} الْآيَةُ وَتَأْوِيلُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الشَّامَ تُفْتَحُ لَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: إنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ» فَقَدْ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى ذَلِكَ فِي وَصِيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَمُمَكِّنٌ لَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا فِيهَا مَسَاجِدَ فَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْكُمْ أَنَّكُمْ تَأْتُونَهَا تَلَهِّيًا فَلَمَّا عَلِمَ أَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِيرَاثٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِهَ الْقَطْعَ وَالتَّخْرِيبَ لِهَذَا.
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِ بَنِي النَّضِيرِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَادَوْهُ مَا كُنْت تَرْضَى بِالْفَسَادِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَمَا بَالُ النَّخِيلِ تُقْطَعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} الْآيَةُ» وَاللِّينَةُ النَّخْلَةُ الْكَرِيمَةُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ «وَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ بِخَيْبَرَ حَتَّى أَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَيْسَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ لَك خَيْبَرَ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إذًا تَقْطَعُ نَخِيلَك وَنَخِيلَ أَصْحَابِك فَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ» «وَلَمَّا حَاصَرَ ثَقِيفًا أَمَرَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ الْحُبْلَةُ لَا تَحْمِلُ إلَّا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا عَيْشَ بَعْدَ هَذَا» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ يُذَلُّونَ بِذَلِكَ وَأَنَّ فِيهِ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} «وَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْطَاسٍ يُرِيدُ الطَّائِفَ بَدَا لَهُ قَصْرُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ النَّضْرِيِّ فَأَمَرَ بِأَنْ يُحَرَّقَ» وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ أَسِيرٌ مُسْلِمٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرْضٌ وَتَحْرِيقُ حُصُونِهِمْ مُبَاحٌ وَالْأَخْذُ بِمَا هُوَ الْفَرْضُ أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالظُّهُورُ عَلَيْهِمْ وَالْحُصُونُ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ أَسِيرٍ وَكَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَسِيرِ لَا يَحِلُّ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ تَحْرِيقُ حُصُونِهِمْ بِكَوْنِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْأَسِيرِ فِيهَا وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قَدَرُوا عَلَى التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ.
وَلَا تُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيُحْرِزُوهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا بَأْسَ بِقِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا تَمَّ انْهِزَامِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَجُوزُ قِسْمَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَالصَّيْدِ وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الْأَخْذُ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ وَقِيَامُ مُنَازَعَةِ الْمُشْرِكِينَ لِكَوْنِ الْغُزَاةِ فِي دَارِهِمْ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ مِلْكِهِمْ لِقِيَامِ مُنَازَعَتِهِمْ فِي ثِيَابِ الْغُزَاةِ وَدَوَابِّهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ تَمَكَّنُوا مِنْ الْكَرِّ عَلَيْهِمْ أَخَذُوا جَمِيعَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ تَوَهُّمَ الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ سَبَبٌ يُعَارِضُ الِاسْتِيلَاءَ بِالنَّقْضِ وَالْأَمْنُ عَمَّا يَنْقُضُ سَبَبَ الْمِلْكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَيَّرَ الْإِمَامُ الْبُقْعَةَ دَارَ إسْلَامٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ فِيهَا وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاقٍ وَلِأَنَّهُمْ إنْ كَرُّوا فَالْمُسْلِمُونَ وَاثِقُونَ بِجَمِيلِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ يَنْصُرُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا نَصَرَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَأَمَّا عِنْدَنَا الْحَقُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَتَأَكَّدُ الْإِحْرَازُ وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَتِمُّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا وَهَذَا لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ وَلَمَّا بَقِيَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِمْ عَرَفْنَا أَنَّ الْقُوَّةَ فِيهَا لَهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّمَا حَلَّ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعَرَفْنَا أَنَّا نُحْسِنُ الْعِبَارَةَ فِي قَوْلِنَا إنَّهُ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْهَزِمُ مِنْهُمْ حِينَ تَرَكَ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي أَيْدِيهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِالْأَخْذِ يَمْلِكُ الْأَرَاضِيَ كَمَا يَمْلِكُ الْأَمْوَالَ ثُمَّ لَا يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلُوا فِيهَا إذَا لَمْ يُصَيِّرْهَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْقَصْدُ إلَى التَّمَلُّكِ وُجِدَ فِي الْكُلِّ فَإِنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا قَاصِدًا لِمِلْكِ الْأَرَاضِيِ وَالْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ نَفْسُ الْأَخْذِ بَلْ هُوَ قَهْرٌ يَحْصُلُ بِهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَابُ غَنِيمَةً يُخَمَّسُ وَهَذَا الْقَهْرُ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَلَا بِقَهْرِ الْمُلَّاكُ بَلْ بِقَهْرِ جَمِيعِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ لِيَكُونَ حِينَئِذٍ جَمِيعُ دَارِهِمْ مُقَابَلًا بِجَمِيعِ دَارِنَا فَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَازِ يُقَابِلُ جَمِيعَ دَارِهِمْ بِالْجَيْشِ وَلَيْسَ بِهِمْ قُوَّةُ الْمُقَاوَمَةِ مَعَ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُرَاغَمَ إذَا أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ أَهْلِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى قَهْرِ مَوْلَاهُ فَقَطْ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْجَيْشِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُمُسُ فِي رَقَبَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَبِنَفْسِ الْأَخْذِ يَصِيرُ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالدَّارِ فَيَتِمُّ الْقَهْرُ وَإِذَا صَيَّرَ الْبُقْعَةَ دَارَ إسْلَامٍ فَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ الْمَالُ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الْحَقَّ يَتَأَكَّدُ فِي الْأَرَاضِيِ أَيْضًا وَبِهِ فَارَقَ الصَّيْدَ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُنَاكَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْقَهْرُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ فِي نَفْسِهِ وَهُنَا الِامْتِنَاعُ فِي الْمَالِ بَلْ فِيمَنْ يُقَاتِلُ دُونَهُ وَذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يَتِمُّ قَهْرُ جَمِيعِهِمْ إلَّا بِالْإِحْرَازِ حُكْمًا نَقُولُ: فَإِنْ قَسَّمَهَا جَازَ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ وَقَضَاءُ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَبَيَانُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ أَنَّهُ هَلْ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ أَمْ لَا فَإِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادِهِ كَانَ صَحِيحًا كَمَا إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى أَوْ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَقِيلَ: مِنْ مَذْهَبِنَا كَرَاهَةُ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ قَطْعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ فَتَقِلُّ بِهِ رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَسَّمَ تَفَرَّقُوا فَرُبَّمَا يَكْثُرُ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْقِسْمَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حُمُولَةً لَهَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا فَلْيُقَسِّمْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَسِّمْهَا يَحْتَاجُ إلَى تَرْكِهَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهَا فَكَانَ تَقْرِيرُ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ أَنْفَعَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَطْعُ شَرِكَةِ الْمَدَدِ وَكَمَا لَا يُقَسِّمُهَا لَا يَبِيعُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْبَنِي عَلَى تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِالْإِحْرَازِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ كَالْقِسْمَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ فَاحْتَاجَ إلَيْهِ رَجُلٌ تَنَاوَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ.
وَقَوْلُهُ فَاحْتَاجَ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ دُونَ الشَّرْطِ فَلِلْمُحْتَاجِ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوٍ طَعَامًا وَعَسَلًا فَلَمْ يُخَمِّسْ ذَلِكَ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى كِسْرَى ظَفِرُوا بِمَطْبَخِهِ وَكَانَ قَدْ أَرْكَتْ الْقُدُورَ وَظَنَّ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنَّ ذَلِكَ طِيبٌ فَهَمُّوا أَنْ يَصْبُغُوا بِهِ لِحَاهُمْ فَقِيلَ: إنَّهُ مَأْكُولٌ فَوَقَعُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى اتَّخَمُوا وَأَنَّ غُلَامًا لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَاهُ بِسَلَّةٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَقَالَ: افْتَحْهَا فَإِنْ كَانَ فِيهَا طَعَامٌ أَصَبْنَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَالٌ رَدَدْنَاهُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَإِذَا فِيهَا خُبْزٌ وَجُبْنٌ وَسِكِّينٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ لِأَصْحَابِهِ مِنْ الْجُبْنِ وَيَصِفُ لَهُمْ كَيْفَ يَتَّخِذُ الْجُبْنَ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ الرُّخْصَةُ فِي الطَّعَامِ وَالْعَلَفُ نَظِيرُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقُوتِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِمْ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَلَا يَجِدُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَشْتَرُونَ مِنْهُ وَمَا يَأْخُذُونَ يَكُونُ غَنِيمَةً فَلِلْعِلْمِ بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُحْتَاجِ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ مَا لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا خَرَجُوا فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ بِالشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا كَانَ بَاقِيًا مِنْهَا.
وَكَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مِنْ سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ ثُمَّ يَرُدُّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ وَيُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ الطَّعَامُ وَالْعَلَفُ لِلْعِلْمِ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي السِّلَاحِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْتَصْحِبَ السِّلَاحَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَصِيرُ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ الشَّرِكَةِ وَنَفْيُ الْمُبِيحِ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يُكْرَهُ الِاسْتِعْمَالُ وَإِذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَمَالَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا بِأَنْ يَسْقُطَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ فَيُعَالِجُ قِرْنَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ سَيْفَهُ فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ غَنِيمَةً لَهُ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِنُشَّابَةٍ فَرَمَاهُمْ بِهَا أَوْ انْتَزَعَ سَيْفًا مِنْ بَعْضِهِمْ فَضَرَبَهُ أَكَانَ يُكْرَهُ ذَلِكَ هَذَا وَنَحْوُهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَأَمَّا الْمَتَاعُ وَالثِّيَابُ وَالدَّوَابُّ فَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ النَّهْيِ قَبْلَ هَذَا وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَخْتَصَّ بِالِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ اعْتِبَارًا لِلْمَنْفَعَةِ بِالْعَيْنِ فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ قَسَّمَهَا الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَهَذَا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَدَدِ وَلَا يَدْرِي أَيَلْحَقُ بِهِمْ الْمَدَدُ أَمْ لَا يَلْحَقُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ كُرِهَتْ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا اللَّفْظُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَرَاهَةِ الْقِسْمَةِ لَا فِي الْجَوَازِ.
(قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّ جَيْشًا آخَرَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ شَرَكُوهُمْ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا شِرْكَةَ لِلْمَدَدِ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْأَخْذُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَمَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا السَّبَبُ هُوَ الْقَهْرُ وَتَمَامُ الْقَهْرِ بِالْإِحْرَازِ فَإِذَا شَارَكَ الْمَدَدُ لِلْجَيْشِ فِي الْإِحْرَازِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ السَّبَبُ يُشَارِكُونَهُمْ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ كَمَا إذَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ بَعْدَمَا أَخَذُوا بَعْضَ الْأَمْوَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمُحَارِبِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْمُحَارِبَةِ سَبَبُ الشِّرْكَةِ فِي الْمُصَابِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّدْءَ يَسْتَوِي بِالْمُبَاشِرِ لِلْقِتَالِ وَقَدْ سَأَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَكُونُ حَامِيَةً لِقَوْمٍ وَآخَرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ أَيَشْتَرِكَانِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ»؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذُلُّوا وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَاطِئَ مَوْطِئَ الْعَدُوِّ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ فِي الثَّوَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} الْآيَةُ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرْكَةِ فِي الْمُصَابِ يَجْعَلُ الْوَاطِئَ مَوْطِئَ الْعَدُوِّ عَلَى قَصْدِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ مِنْهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لَهُمْ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ سُوقِ الْعَسْكَرِ وَالْأَسِيرُ الْمُنْقَلِبُ مِنْهُمْ وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِالْجَيْشِ لِأَنَّ قَصْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ الْحَرْبَ بَلْ قَصْدُ بَعْضِهِمْ التِّجَارَةُ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ التَّخَلُّصُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الشِّرْكَةَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَصْدَهُمْ هُوَ الْقِتَالُ.
وَإِنْ احْتَاجَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَتَاعِ حَاجَةً يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهَذَا بِغَيْرِ ضَمَانٍ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَ وَلَا يُقَسِّمُ السَّبْيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ مَا لَمْ يُخْرِجُوهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَبِيعُهُمْ كَمَا لَا يَفْعَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَلَكِنْ يُمَشِّيهِمْ حَتَّى يُحَرِّزَهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ إنْ أَطَاقُوا الْمَشْيَ فَإِنْ لَمْ يُطِيقُوهُ وَكَانَ مَعَهُمْ فَضْلُ حُمُولَةٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحُمُولَةَ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَالسَّبْيُ كَذَلِكَ فَمِنْ النَّظَرِ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ حَقَّهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَضْلُ حُمُولَةٍ وَلَكِنْ كَانَ مَعَ بَعْضِ الْغَانِمِينَ فَضْلُ حُمُولَةٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا فَعَلَ ذَلِكَ بِرِضَاهُمْ وَإِنْ لَمْ تَطِبْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّ الْحُمُولَةَ لِلْخَاصِّ وَالسَّبْيُ حَقُّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي إحْرَازِ حَقِّ الْجَمَاعَةِ حُمُولَةَ الْخَاصِّ مِنْهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ أَرَأَيْت لَوْ أَطَاقَ بَعْضُهُمْ حَمْلَ بَعْضِ السَّبْيِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ عَلَى عَاتِقِهِ أَكَانَ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَقْتُلُ الرِّجَالَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ قَبْلَ تَعَيُّنِ الْمِلْكِ فِيهِ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ.
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُمْ احْتَاجَ إلَى تَرْكِهِمْ فَيَرْجِعُونَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النَّظَرُ فِي قَتْلِهِمْ وَيَتْرُكُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَصِلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمْ فِي مَوْضِعٍ تَصِلُ إلَيْهِمْ أَيْدِيهِمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِمْ وَبِتَرْكِهِ إيَّاهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ مُتْلِفًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إسَاءَةً وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ هَذَا الْقَدْرُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ الْمُهْلِكَةِ وَإِنْ رَأَى أَنْ يُقَسِّمَ لِيَتَكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمْلَ نَصِيبِهِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ التَّرْكِ، وَأَمَّا السِّلَاحُ وَالْمَتَاعُ فَيُحَرِّقُهُ بِالنَّارِ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إخْرَاجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَطْعِ قُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَقَدَرَ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ كَيْ لَا تَصِلَ إلَيْهِ يَدُ الْمُشْرِكِينَ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ قَالَ هَذَا فِيمَا يَحْتَرِقُ، فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَرِقُ كَالْحَدِيدِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفِنَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ فَيَسْتَعِينُوا بِهِ وَأَمَّا الدَّوَابُّ وَالْمَوَاشِي إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِرُهَا خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَا يَتْرُكُهَا كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ تَقَوِّي الْمُشْرِكِينَ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَذْبَحُهَا ثُمَّ يُحَرِّقُهَا لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهَا الْعَدُوُّ فَالذَّبْحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُبَاحٌ شَرْعًا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَعْدَ الذَّبْحِ رُبَّمَا يَتَقَوَّوْنَ بِلَحْمِهَا فَيَقْطَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ بِالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَفِي هَذَا كَبْتٌ وَغَيْظٌ لَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ التَّخْرِيبِ وَالْإِحْرَاقِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الْكَبْتُ وَالْغَيْظُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَمَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَالْإِمَامُ فِيهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَتَرَكَهُمْ أَحْرَارَ الْأَصْلِ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْأَرَاضِيُ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ، وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عِنْدَنَا كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسَّوَادِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَهُ ذَلِكَ فِي الرِّقَابِ، فَأَمَّا فِي الْأَرَاضِيِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيَصْرِفَ الْخُمُسَ إلَى مَصَارِفِهِ، وَيَنْبَنِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي السَّوَادِ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَقَدْ بَيَّنَّا، وَالثَّانِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا عِنْدَنَا وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالسِّيَرِ وَالْفُتُوحِ لَا يَقُولُ بِهَذَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعِينَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ عَنْوَةً وَقَهْرًا حَتَّى حَدَثَ قَوْلٌ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ لَهُمْ الْأَرَاضِيَ وَالنَّخِيلَ الَّتِي هِيَ حَوْلَ مَكَّةَ فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا فِي إجْرَاءِ مَذْهَبِهِ مِنْ هَذَا،.
(قَالَ): وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ وَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ دَخَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا»، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَخَلَهَا بِذَلِكَ الصُّلْحِ وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَظِيفَةً وَفِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً وَقَهْرًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَرَاضِيِ لَهُمْ بِغَيْرِ وَظِيفَةٍ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْآثَارَ اشْتَهَرَتْ بِنَقْضِ قُرَيْشٍ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي خُزَاعَةَ دَخَلُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَبَنِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَاتَلَ بَنُو بَكْرٍ بَنِي خُزَاعَةَ وَأَرْدَفَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالْأَسْلِحَةِ وَالْأَطْعِمَةِ وَقَاتَلَ مَنْ قَاتَلَ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَهُمْ مُسْتَخْفِيًا بِاللَّيْلِ حَتَّى جَاءَ وَافِدُ بَنِي خُزَاعَةَ عُمَرُ بْنُ سَالِمٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنْصِرُهُ وَيَقُولُ لَاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حَلِفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا أَنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَبَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُصِرْت يَا عُمَرُ بْنُ سَالِمٍ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ: إنَّهَا تَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي خُزَاعَةَ إلَى أَنْ نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْت وَا صَبَاحَا قُرَيْشٍ لَوْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَسْتَأْمِنُوا لَهَلَكَتْ قُرَيْشٌ فَرَكِبْت بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلْت الْأَرَاكَ لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابِينَ فَأُخْبِرُهُمْ بِمَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيت أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ يَتَرَاجَعَانِ الْحَدِيثَ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا هَذِهِ النِّيرَانُ فَيَقُولُ الْآخَرُ: نِيرَانُ خُزَاعَةَ وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ فَقُلْت: يَا حَنْظَلَةُ مَا شَأْنُك قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ مَا تَفْعَلُ هَهُنَا فَقُلْت: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ: وَمَا الْحِيلَةُ؟ قُلْت: لَا أَعْرِفُ لَك حِيلَةً وَلَكِنْ ارْكَبْ عَجُزَ دَابَّتِي فَأَرْدَفْتُهُ فَمَا مَرَرْت بِنَارٍ إلَّا قِيلَ هَذِهِ بَغْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا عَمُّهُ حَتَّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفَهُ فَأَخَذَ السَّيْفَ وَعَدَا خَلْفَهُ لِيَقْتُلَهُ فَسِرْت بِالدَّابَّةِ حَتَّى اقْتَحَمْت مَضْرِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك إنَّ اللَّهَ مَكَّنَك مِنْ عَدُوِّك مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا صُلْحٍ فَدَعْنِي لِأَقْتُلَهُ فَقُلْت: مَهْلًا فَإِنِّي أَجَرْتُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قَتَلْتَهُ فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ سُرُورِي بِإِسْلَامِك يَوْمَ أَسْلَمْت أَكْثَرُ مِنْ سُرُورِي بِإِسْلَامِ الْخَطَّابِ أَنْ لَوْ أَسْلَمَ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَحْمِلَهُ إلَى رَحْلِي فَغَدَوْت بِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنِّي أَقُولُ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ لَجَازَ أَنْ يَنْصُرُونَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: إنَّ فِي النَّفْسِ بَعْدُ مِنْ هَذَا لَشَيْئًا فَقُلْت: أَسْلِمْ فَإِنَّ السَّيْفَ فِي قَفَاك فَأَسْلَمَ فَقُلْت: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَالَ: وَكَمْ تَسَعُهُمْ دَارِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ إلَّا ابْنَ خَطَلٍ وَيَعِيشَ بْنَ صَبَابَةَ وَقَيْنَتَيْنِ لِابْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَحْبِسَهُ فِي مَضِيقِ الْوَادِي لِتَمُرَّ عَلَيْهِ الْكَتَائِبُ فَكُلَّمَا مَرَّتْ عَلَيْهِ كَتِيبَةٌ قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟» الحديث إلَى أَنَّ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَفِيهَا أَلْفَا رَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَيْهِمْ السِّلَاحُ وَالْحِلَقُ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلَّا الْحَدَقَ فَلَمَّا حَاذَاهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَكَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ هَزَّ اللِّوَاءَ، وَقَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُهْتَكُ فِيهِ الْحُرْمَةُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنَّ ابْنَ أَخِيك أَصْبَحَ فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ فَقُلْت: لَيْسَ بِمُلْكٍ إنَّمَا هُوَ نُبُوَّةٌ قَالَ: أَوْ ذَاكَ ثُمَّ نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرْت بِاسْتِئْصَالِ قَوْمِك مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدْ قَالَ سَعْدٌ كَذَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ الْيَوْمَ تُحْفَظُ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَبَعَثَ إلَى سَعْدٍ لِيُسَلِّمَ اللِّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ» الحديث فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى انْتِقَاضِ ذَلِكَ الْعَهْدِ وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَانِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَانِبٍ وَقَالَ: «أَتَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا» وَفِيهِ يَقُولُ قَائِلُهُمْ يُخَاطِبُ زَوْجَتَهُ: إنَّكِ لَوْ شَهِدَتْ يَوْمَ خَنْدَمَهْ إذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ لَمْ يَنْطِقْ الْيَوْمَ بِأَدْنَى كَلِمَةْ، وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَنْشُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ

الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ

وَيَذْهَلُ الْخَلِيلُ عَنْ خَلِيلِهِ

لَاهُمَّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَنْشُدُ الشِّعْرَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ» حَتَّى جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَقَدْ انْتَدَبَ حَضَرَا قُرَيْشٍ فَلَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ آمِنٌ إلَّا ابْنَ خَطَلٍ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ الْبَابِ وَقَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ مَلَكْت فَاسْجَحْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ» وَصَحَّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» فَذَلِكَ دَلِيلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا مُقَاتِلًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَإِنَّمَا مُرَادُهُ حَلَّ الْقِتَالَ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّهُ دَخَلَهَا مُقَاتِلًا وَفِي قَوْله تَعَالَى {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا وَنُزُولُ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وَإِنَّمَا لَمْ يَضَعْ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ تَابِعَةٌ لِلرِّقَابِ وَلَمْ يَضَعْ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا رِقَّ فَكَذَلِكَ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا فُتِحَتْ قَهْرًا اتَّضَحَ مَذْهَبُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قُلْنَا وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قَدْ تَأَكَّدَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الْأَرَاضِيِ أَمَّا عِنْدِي فَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَعِنْدَكُمْ تَأَكَّدَ الْحَقُّ بِالْإِحْرَازِ فَقَدْ صَارَتْ مُحَرَّزَةً بِفَتْحِ الْبَلْدَةِ وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَفِي الْمَنِّ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَمَّا تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْوَالِ بِدُونِ الْأَرَاضِيِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَانِمِينَ عَنْهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الرِّقَابِ فَالْحَقُّ فِي رِقَابِهِمْ لَمْ يَتَأَكَّدْ.
بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى رِقَابِهِمْ بِجِزْيَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَقُّ مَصَارِفِ الْخُمُسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْمَنِّ إبْطَالُ ذَلِكَ وَلِهَذَا قُلْت أَمَّا تَخْمِيسُ الْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْخُمُسَ مِنْ الرِّقَابِ كَانَ حَقًّا لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي بَدَلِ ذَلِكَ وَهُوَ الْجِزْيَةُ وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: تَصَرُّفُ الْإِمَامِ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَأَنَّهُ نُصِّبَ لِذَلِكَ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ فَيَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ وَرُبَّمَا لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَيْضًا فَإِذَا تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَأَدَّوْا الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْجِهَادِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ بَلْ فِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُمْ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْجَلَ فَمَنْفَعَةُ الْخَرَاجِ أَدْوَمُ وَلِأَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهَا لِلَّذِينَ أَصَابُوا ثَبَتَ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وَفِي الْقِسْمَةِ إبْطَالُ حَقِّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ أَصْلًا وَفِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا «قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ لِحَاجَةٍ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ» وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ الْأَوْلَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسَّوَادِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَلَا قَوْلَ أَبْعَدَ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي الْجِزْيَةِ الْخُمُسَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَالْحُلَلَ مِنْ بَنِي نَجْرَانَ» وَقَالَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا وَلَمْ يُخَمِّسْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» فَدَلَّ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِي الْجِزْيَةِ.
وَإِذَا قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ ضَرَبَ لِلْفَارِسِ بِسَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ بِسَهْمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفِي قَوْلِهِمَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُضْرَبُ لِلْفَارِسِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعُمَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» «وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ وَبِاسْمِ كُلِّ مِائَةٍ سَهْمٌ» فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ سَهْمَ الْفَرَسِ ضِعْفَ سَهْمِ الرَّجُلِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلِأَنَّهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ فَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثُمَّ مُؤْنَةُ الْفَرَسِ أَعْظَمُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّجُلِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ» وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَفِي حَدِيثِ كَرِيمَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَسْهَمَ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَهْمَيْنِ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ».
وَفِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ يَوْمَ خَيْبَرَ سَهْمَيْنِ» وَمَا رَوَوْا «أَنَّهُ قَسَّمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا» صَحِيحٌ لَكِنْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ ثَلَثَمِائَةٍ وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَوْا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَانَتْ الْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ الْخَيْلُ بِفُرْسَانِهَا وَالرِّجَالُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَيْ الرَّجَّالَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ} أَيْ بِفُرْسَانِك وَرَجَّالَتِك وَقَالَ تَعَالَى {يَأْتُوك رِجَالًا} أَيْ رَجَّالَةً فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ فَإِذَا كَانَ بِاسْمِ كُلِّ مِائَةٍ سَهْمٌ كَانَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ وَمَا رَجَحَ بِهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارِضٌ فَفِيمَا رَوَيْنَا إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي نَصِيبِ الرَّاجِلِ ثُمَّ فِي هَذَا تَفْضِيلُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقِتَالِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ وَحْدَهُ وَالْفَرَسُ لَا تُقَاتِلُ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْفَرَسِ وَالرَّجُلِ وَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِالْفَرَسِ شَيْئًا لِأَنَّهُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْآلَاتِ، وَلَكِنَّ الْآثَارَ اتَّفَقَتْ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ فَأَخَذْنَا بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَأَبْقَيْنَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ فَصَاحِبُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ يَلْتَزِمُ الْمُؤْنَةَ أَيْضًا وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا وَصَاحِبُ الْفِيلِ وَالْبَعِيرِ مُؤْنَتُهُ أَكْثَرُ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِمَا شَيْئًا مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ أَكْثَرُ فَإِنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَرَسُ مِنْ الْعَلَفِ يُوجَدُ مُبَاحًا وَمَطْعُومُ بَنِي آدَمَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِثَمَنٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَاحِبُ الْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ وَالْمُقْرِفُ كَصَاحِبِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ وَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ لَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ لَهُمْ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْخَيْلَ أَغَارَتْ بِالشَّامِ وَعَلَى الْقَوْمِ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي خَمْصَةَ الْوَدَاعِيُّ فَأَدْرَكَتْ الْعِرَابَ الْيَوْمَ وَالْبَرَاذِينَ ضُحَى الْغَدِ فَلَمْ يُسْهِمْ الْمُنْذِرُ لِلْبَرَاذِينِ وَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَنْ أَدْرَكَ كَمَنْ لَا يُدْرِكُ وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: هَبِلَتْ الْوَدَاعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ أَذْكَتْ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَقَدْ أَذَكَرَتْهُ أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْخَيْلِ لِمَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْآيَةُ وَالْإِرْهَابُ يَحْصُلُ بِالْبِرْذَوْنِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ الْعَرَبِيُّ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى وَالْبِرْذَوْنُ أَقْوَى عَلَى الْحَرْبِ وَأَصْبَرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا عِنْدَ اللِّقَاءِ فَفِي كُلِّ جَانِبٍ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ وَمَعْنَى الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ يَجْمَعُهُمَا وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُنْذِرَ فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَأَمْضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتِهَادَهُ وَهَكَذَا نَقُولُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يَسْتَحِقُّ بِالْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ سَهْمَانِ وَبِمَا سِوَى ذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِيَّ فَرَسُ الْعَرَبِ وَكَمَا يُسَوِّي بَيْنَ الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فَكَذَلِكَ فِي الْخَيْلِ وَالْهَجِينِ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَالْمُقْرِفُ مَا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَقَدْ ذَكَتْ بِهِ أَتَتْ بِهِ ذَكِيًّا وَقَوْلُهُ أَذَكَرَتْهُ أَتَتْ بِهِ ذَكَرًا جَلْدًا.
(قَالَ): وَإِذَا دَخَلَ الْغَازِي دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْجَيْشِ فَارِسًا ثُمَّ نَفَقَ فَرَسُهُ أَوْ عَقَرَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَقَدْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ رَاجِلًا وَلِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذُ وَعِنْدَ الْأَخْذِ هُوَ رَاجِلٌ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّاجِلِ كَمَا لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَهْمِ صَاحِبِهِ.
وَلَوْ مَاتَ الْغَازِي بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَإِذَا نَفَقَ الْفَرَسُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ بِفَرَسِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ بِعَبْدِهِ وَلَوْ مَاتَ عَبْدُهُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ الْفَرَسُ (وَحُجَّتُنَا) أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَمَا لَوْ كَانَ فَرَسُهُ قَائِمًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْفَرَسِ لِمَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ بِهِ وَالْجَيْشُ إنَّمَا يَعْرِضُ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَمَنْ كَانَ فَارِسًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ فَقَدْ حَصَلَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ بِفَرَسِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ دَخَلَ كَذَا وَكَذَا فَارِسٍ وَقَلَّ مَا يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْقَهْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إعْزَازُ الدِّين وَذَلِكَ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ فَإِذَا كَانَ هُوَ عِنْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْفَرَسِ إلَى حَالِ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ بَعْدَ الْقِتَالِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لِأَنَّ مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالْقَهْرُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْفَارِسُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ وَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وَالْعَبْدُ آدَمِيٌّ كَالْحُرِّ ثُمَّ الرَّضْخُ لَيْسَ نَظِيرَ السَّهْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ السَّهْمِ بِمَا دُونَهُ.
وَلَوْ بَاعَ فَرَسَهُ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الدَّرْبَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْبَيْعِ أَنَّهُ مَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ الْقِتَالَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ التِّجَارَةَ وَبِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ فَرَسُهُ وَلِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ بِهِ مُسْقِطًا حَقَّهُ وَبِالْمَوْتِ مَا أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ هُوَ مُصَابٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِنْ الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ عَدَمَ الْقِتَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْقِتَالِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْبَيْعِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا بَاعَهُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْقُطُ سَهْمُهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْفَرَسِ عِنْدَ الْقِتَالِ مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدُ الْقِتَالِ يَطْلُبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَرَسًا لِيَهْرُبَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ بَيْعَهُ الْفَرَسَ لِإِظْهَارِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ أَنَّهُ يُرِي الْعَدُوَّ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِرَارِ أَصْلًا.
(قَالَ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ بَيْعَ الْفَرَسِ إلَى وَقْتِ الْقِتَالِ يُحَقِّقُ قَصْدَ التِّجَارَةِ فِيهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَرْغَبُ وَالتَّاجِرُ يَحْبِسُ مَالَ تِجَارَتِهِ إلَى وَقْتِ عَزَّتِهِ وَكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يَسْقُطُ سَهْمُهُ بِبَيْعِ الْفَرَسِ.
فَأَمَّا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ سَهْمَ الْفُرْسَانِ لِأَنَّ مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالْقَهْرِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ إعْزَازُ الدِّينِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَإِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَارِسًا فَالْقِتَالُ عَلَى الْفَرَسِ أَوْلَى، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يُدَوِّنُ الدَّوَاوِينَ وَيُثْبِتُ أَسَامِيَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الرَّجَّالَةِ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ رَاجِلًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْفَرَسِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِمَوْتِ الْفَرَسِ.
وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا، ثُمَّ قَاتَلَ رَاجِلًا بِأَنْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ حِصْنٍ أَوْ فِي السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحُصُولِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَهُ فَرَسٌ مُعَدٌّ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الرِّدْءَ السَّهْمَ مَعَ الْمُبَاشِرِ.
وَإِذَا مَاتَ الْغَازِي أَوْ قُتِلَ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُوَرَّثْ سَهْمُهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُوَرَّثُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَمَوْتُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْ نَصِيبِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ كَالشُّرَكَاءِ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَلَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُوَرَّثُ كَحَقِّ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا مَاتَ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبُولِهِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْقَبُولِ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ الْحَقُّ يَتَأَكَّدُ وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِي الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِنَا فِي الشُّفْعَةِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُوَرَّثُ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى ضَعْفِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِإِبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالْعَلِفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَضَمَانٍ وَبِامْتِنَاعِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَبِقَبُولِ شَهَادَةِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَامْتِنَاعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ ضَعِيفٌ كَحَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ رُبَّمَا لَا يُسَلِّمُونَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعَ مَوْلَاهُ فَقَاتَلَ بِإِذْنِهِ يَرْضَخُ لَهُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُكَاتَبُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ»، وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَرْضَخُ لِلْمَمَالِيكِ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ»؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُجَاهِدٍ بِنَفْسِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَهْلٌ لِلْجِهَادِ بِنَفْسِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِمَعْنَى التَّحْرِيضِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَ لَهُمَا قُوَّةُ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَلْحَقُهُمَا فَرْضُ الْجِهَادِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، وَالرِّقُّ فِي الْمُكَاتَبِ قَائِمٌ وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَعْجِزَ فَيَمْنَعُهُ الْمَوْلَى مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يُقَاتِلُ لَا يُرْضَخُ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّ مَوْلَاهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَا لِلْقِتَالِ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِلْقِتَالِ بِهِ وَنَظِيرُهُ مَا قَرَرْنَاهُ مِنْ بَيْعِ الْفَرَسِ، وَأَهْلُ سُوقِ الْعَسْكَرِ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ وَلَا يُرْضَخُ لِأَنَّ قَصْدَهُمْ التِّجَارَةُ لَا إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَإِعْزَازُ الدِّينِ فَإِنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَصْدَهُمْ الْقِتَالُ وَمَعْنَى التِّجَارَةِ تَبَعٌ لِذَلِكَ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ التَّاجِرِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لَا يُنْتَقَصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.
وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَفْرَاسٍ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِفَرَسَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِكُلِّ فَرَسٍ» وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ فِي الْقِتَالِ إلَى فَرَسَيْنِ حَتَّى إذَا كَلَّ أَحَدُهُمَا قَاتَلَ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمُبَارِزِينَ، فَكَانَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ فَرَسَيْنِ لِلْقِتَالِ فَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لَهُمَا وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ فَكَانَ مِنْ الْجَنَائِبِ وَهُمَا اسْتَدَلَّا بِمَا رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسْهِمْ لِصَاحِبِ الْأَفْرَاسِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ» وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُ وَلِأُمِّهِ صَفِيَّةَ وَمَا أَسْهَمَ لَهُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآثَارِ يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْفَرَسِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَيُحْمَلُ مَا يُرْوَى مِنْ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَهْمَيْنِ وَكَانَ رَاجِلًا» وَلَكِنْ أَعْطَاهُ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لِجِدِّهِ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَخَيْرُ فُرْسَانِنَا أَبُو قَتَادَةَ»، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إلَّا لِخَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِخَادِمَيْنِ.
وَمَنْ مَرِضَ أَوْ كَانَ جَرِيحًا فِي خَيْمَتِهِ حَتَّى أَصَابُوا الْغَنَائِمَ فَلَهُ السَّهْمُ كَامِلًا لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ كَمَا قَرَّرْنَا وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ».
وَإِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَاءَتْ بِغَنَائِمَ وَقَدْ أَصَابَ الْجَيْشُ غَنَائِمَ أَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُشَارِكُ بَعْضًا فِي الْمُصَابِ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ؛ وَلِأَنَّ الْجَيْشَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ كَالرِّدْءِ لَهُمْ حَتَّى يَلْجَئُونَ إلَيْهِمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلرِّدْءِ أَنْ يُشَارِكَ الْجَيْشَ فِي الْمُصَابِ وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فَهَذَا أَوْلَى.
وَإِنْ أُسِرَ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ غَنِيمَةً ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْهُمْ فَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ الَّذِي أُسِرَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَعَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ فِيمَا تَأَكَّدَ الْحَقُّ بِهِ وَهُوَ الْإِحْرَازُ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَارِضُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ مَرِضَ أَوْ جُرِحَ وَإِنْ الْتَحَقَ هَذَا الْأَسِيرُ بِعَسْكَرٍ آخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ اللُّحُوقِ بِهِمْ الْفَوْزَ وَالنَّجَاةَ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ بِفِعْلِهِ أَنَّ قَصْدَهُ الْقِتَالُ مَعَهُمْ وَيَجْعَلُ قِتَالَهُ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُصَابِ كَقِتَالِهِ لِلْإِصَابَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ، أَوْ الْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ فَالْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ أَوْ التَّاجِرُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ إذَا الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ إنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ.
وَفِي الْأَصْلِ ذَكَرَ أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ الْجِنَايَةُ تَبْطُلُ عَنْهُ، وَالدَّيْنُ يَلْحَقُهُ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَأَمَّا الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يَجِبُ شَاغَلَا لِمَالِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَدُوُّ مَالِيَّتَهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ كَمَا أَسَرُوهُ وَلِهَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنِيمَةٍ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَالدَّيْنَ يَلْحَقَانِهِ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ بِالْأَخْذِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسُهُ قِصَاصًا فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ.
(قَالَ): وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ أَحَدًا مِمَّا قَدْ أَصَابَهُ إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَقَدْ كَانَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِغْرَاءِ عَلَى الْقِتَالِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِالْقَتْلِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَارِزَةِ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَظَاهِرُهُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِذَلِكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَوْلَةً يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَقِيت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ وَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ ضَمَّةً شَمَمْت مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَاهَا اللَّهُ أَيَعْمَدُ أَسَدٌ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ فَيَقْتُلُ عَدُوَّ اللَّهِ ثُمَّ يُعْطِيك سَلَبَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُ قَبْلَ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعْطَاهُ سَلَبَهُ»، فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَتْلِ لَا بِالتَّنْفِيلِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ أَظْهَرَ فَضْلَ عِنَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَيَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْفَارِسِ مَعَ الرَّاجِلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَارِزَةِ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ عَنَاءٍ وَمُخَاطَرَةٍ بِالنَّفْسِ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى سَهْمًا مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الْعَنَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، وَالسَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَالٌ يُصَابُ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَعِنْدَكُمْ لَا يَجِبُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: السَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَفِيهِ الْخُمُسُ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بُلْقِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لِمَنْ الْمَغْنَمُ؟ قَالَ: لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَقَالَ: هَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى لَوْ رُمِيتَ بِسَهْمٍ فِي جَنْبِك فَاسْتَخْرَجْتَهُ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيك» وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ شَابَّيْنِ حَدِيثِ أَسْنَانِهِمَا أَحَدُهُمَا مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَالْآخَرُ مُعَاذُ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْجَمُوحِ فَقَالَ لِي أَحَدُهُمَا: أَيْ عَمُّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْت: وَمَا شَأْنُك بِهِ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاَللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُ مَا فَارَقَ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا مَوْتًا وَعُمَرُ بِي الْآخَرُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَلَقِيتُ أَبَا جَهْلٍ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْت: ذَاكَ صَاحِبُكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِهِ فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ وَاخْتَصَمَا فِي سَلَبِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، وَالسَّلَبُ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ فَقَالَا: لَا فَقَالَ: أَرَيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَأَرَيَاهُ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ثُمَّ أَعْطَى السَّلَبَ مُعَوِّذَ ابْنَ عَفْرَاءَ» وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَتْلِ لَمَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ».
(فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَهُ قُلْنَا: هُمَا أَثْخَنَاهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُهُ صَرِيعًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فَجَلَسْت عَلَى صَدْرِهِ فَفَتْحَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا رُوَيْعِي الْغَنَمَ لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى عَظِيمًا لِمَنْ الدَّبْرَةُ قُلْت: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ قُلْت: أَحُزُّ رَأْسَك قَالَ: لَسْت بِأَوَّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيِّدَهُ وَلَكِنْ خُذْ سَيْفِي فَهُوَ أَمْضَى لِمَا تُرِيدُ وَأَقْطَعْ رَأْسِي مِنْ كَاهِلٍ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ وَإِذَا لَقِيت مُحَمَّدًا فَأَخْبِرْهُ أَنِّي الْيَوْمَ أَشَدُّ بُغْضًا لَهُ مِمَّا كُنْتُ قَبْلَ هَذَا فَقَطَعْت رَأْسَهُ وَأَتَيْت بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَيْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْت: هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَانَ فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي شَرُّهُ عَلَى أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَنَفَلَنِي سَيْفَهُ» فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ إذْ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسَّيْفِ مَنْ أَثْخَنَهُ فَمَا كَانَ يَنْفُلُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ مَرْزُبَانَ الرَّازَةِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ مُرَصَّعًا بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَقَوَّمَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا لَا نُخَمِّسُ الْأَسْلَابَ وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَمَا أَرَانِي إلَّا خَامِسَهُ قَالَ أَنَسٌ: فَبَعَثْنَا بِالْخُمُسِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيهِ ثَبَتَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَمَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ مِنْهُ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَهُ فِي الْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ الْقِتَالِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ وَقَدْ كَانُوا أَذِلَّةً يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ، وَعِنْدَنَا بِالتَّنْفِيلِ يَسْتَحِقُّ.
وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ وَأَخْذِ سَلَبِهِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَ أَسِيرًا أَوْ أَصَابَ مَالًا آخَرَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَمَا يَكُونُ مِنْهُ فَضْلُ عَنَاءٍ فِي الْقَتْلِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْأَسِيرِ وَاسْتِلَابِ سَلَبِ الْحَيِّ ثُمَّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ».
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ بِحَسَبِ مَا يَرَى الصَّوَابَ فِيهِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} وَلِأَنَّ بِالنَّفْلِ يُعِينُهُ عَلَى الْبِرِّ وَهُوَ بَذْلُ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا وَلَكِنْ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يَجُوزُ النَّفَلُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ» وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ نَفَلَ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْغَنَائِمِ كَانَ إلَيْهِ كَمَا رَوَيْنَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ إلَّا مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فِي التَّنْفِيلِ إبْطَالُ حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ وَإِبْطَالُ حَقِّ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَهُوَ سَبَبٌ لِإِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّنْفِيلُ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا نَفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ عَلَفًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَفَضُلَ مِنْهُ فَضْلَةً بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَعَادَهَا فِي الْغَنِيمَةِ إنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمْ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِي الْغَنِيمَةِ لَهُمْ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ وَإِنْ كَانَتْ الْغَنَائِمُ قَدْ قُسِّمَتْ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِاللُّقَطَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّنَاوُلُ لِلْحَاجَةِ وَالْمُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَعَادَ الثَّمَنَ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ لَمْ تُقَسَّمْ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِّمَتْ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَإِنْ أَقْرَضَهُ رَجُلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْجُنْدِ لَمْ يَسْعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُقْرِضَ وَالْمُسْتَقْرِضَ فِي حَقِّ إبَاحَةِ تُنَاوِلِهِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْآخِذَ كَانَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَإِذَا زَالَ مَا بِيَدِهِ إلَى الْآخَرِ سَقَطَ حَقُّهُ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا.
وَإِذَا أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ الْجُنْدِ جَارِيَةً مِنْ الْغَنِيمَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْقِسْمَةِ يَتَعَيَّنُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْقِسْمَةُ لِتَمَيُّزِ الْمِلْكِ لَا لِابْتِدَاءِ الْمِلْكِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
وَإِنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ الْمِلْكُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَنَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ يَسْتَدْعِي مِلْكًا قَائِمًا فِي الْمِحَنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُ الثَّمَنَ وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَقَعُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ مَا هُوَ شَرْطُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مُنْعَدِمًا، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِيلَادُهُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْأَبِ يَسْتَوْلِدُ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ هُنَاكَ فَيَتَمَلَّكُهَا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ رَأْي الْإِمَامِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ فِيهَا وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ لِثُبُوتِ حَقٍّ مُتَأَكِّدِ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عَقْرٍ فَكَانَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِيلَادُهُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ.
وَإِنْ سَرَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُقْطَعْ لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ وَيُؤَدِّبُ وَلَا يُحْرَقُ رَحْلُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْرَقُ رَحْلُهُ وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ بِأَنْ يُحْرَقَ رَحْلُ الْغَالِّ» وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَكَادُ يَصِحُّ وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجَيْشِ أَعْرَابٌ جُهَّالٌ يَكُونُ مِنْهُمْ الْغُلُولُ فَلَوْ كَانَ يَسْتَحِقُّ إحْرَاقُ رَحْلِ الْغَالِّ لَاشْتُهِرَ ذَلِكَ وَنُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي رَحْلِهِ مَصَاحِفُ كَانَتْ تُحْرَقُ وَاسْتُكْثِرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَكَمَا لَا يَلْزَمُهُ إذَا سَرَقَ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدُهُ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ فِعْلَ هَذَا فِي السَّرِقَةِ كَفِعْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ.
وَإِذَا قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ فَوَقَعَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ أَوْ عَرَافَةٍ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، قَالَ: يَجُوزُ إذَا قَلَّ الشُّرَكَاءُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِقِسْمَةِ الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَدَمِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْإِفْرَادِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِمَامِ رَأْيُ الْبَيْعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا رَأَى الْقَتْلِ فِي الْأَسَارَى فَكَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الْعَرَافَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَعِتْقُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ نَافِذٌ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا قَلُّوا حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ خَاصَّةً فَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَالشَّرِكَةُ عَامَّةً وَبِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْعَتَاقِ كَشَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ: وَالْقَلِيلُ إذَا كَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلَّ وَلَسْت أُوَقِّتُ فِيهِ وَقْتًا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ حُكِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ فَقَالَ: قَدْ قِيلَ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فَكَانُوا أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ خَمْسُونَ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَقِيلَ: مِائَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ} وَقِيلَ: إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى كِتَابٍ وَحِسَابٍ وَقِيلَ: إذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ فَهُمْ قَلِيلٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْي الْإِمَامِ فِي اسْتِقْلَالِ عَدَدِهِمْ وَاسْتِكْثَارِهِ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وَإِذَا سَبَى الْجُنْدُ امْرَأَةً ثُمَّ سَبَوْا زَوْجَهَا بَعْدَهَا بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَقَدْ حَاضَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَيْضَتَيْنِ أَوْ لَمْ تَحِضْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُخْرِجُوهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى سَبَوْا زَوْجَهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهَا وَأَيُّهُمَا سُبِيَ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَام ثُمَّ سُبِيَ الْآخَرُ وَأُخْرِجَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا فَصْلٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا السَّبْيُ فَإِذَا انْعَدَمَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا سَوَاءٌ سُبِيَا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَإِذَا أُخْرِجَ الْمَسْبِيُّ مِنْهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وُجِدَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَارْتَفَعَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ سُبِيَ الْآخَرُ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.