فصل: باب الإجارة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الإجارة:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا سِنِينَ مَعْلُومَةً فَخَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ رَبُّ الدَّارِ فَلْيُسَمِّ لِكُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ أَجْرًا أَوْ يَجْعَلْ لِلسَّنَةِ الْأَخِيرَةِ أَجْرًا كَثِيرًا وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ خَافَ أَنْ تُنْقَضَ الْإِجَارَةُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ رَبِّ الدَّارِ أَوْ بِأَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُذْرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا السُّكْنَى فِي آخِرِ الْمُدَّةِ فَالْحِيلَةُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَجْرَ لِلسِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ شَيْئًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ قَبْلَ حُصُولِ مَقْصُودِهِ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَيُمْنَعُ رَبُّ الدَّارِ مِنْ الْفَسْخِ لِلْعُذْرِ كَيْ لَا يَفُوتَهُ مُعْظَمُ الْأَجْرِ بِالسُّكْنَى فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْدَ فِي صَفْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْكُلَّ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَفَرَّقَ التَّسْمِيَةَ فَرُبَّمَا يَذْهَبُ بَعْضُ الْقُضَاةِ إلَى رَأْيِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُوَزِّعُ الْمُسَمَّى عَلَى جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِالْحِصَّةِ، فَلَا يُنْظَرُ إلَى تَفْرِيقِ التَّسْمِيَةِ مَعَ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّفْقَةِ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الدَّارِ مِنْ مَرَمَّتِهَا، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ رَبُّ الدَّارِ إنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مِقْدَارِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَهُ فَيَضُمَّ ذَلِكَ إلَى أَجْرِ الدَّارِ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَيُقِرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنِّي اسْتَسْلَفْت مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ أَجْرِ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ حَتَّى إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا كَمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ حَتَّى إذَا حَلَفَ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يُنْكِرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَ السِّنِينَ، وَيُعْذَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِعُذْرٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ أَكْثَرَ الْأُجْرَةِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى حَتَّى لَا يَفْسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ مُضِيِّهَا الْعَقْدَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ.
وَإِنْ خَافَ أَنْ يَغِيبَ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَمْتَنِعَ أَهْلُهُ مِنْ رَدِّ الدَّارِ إلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ لِوَقْتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ أَهْلِهِ، وَيَضْمَنَ لَهُ الزَّوْجُ رَدَّهَا لِلْوَقْتِ الَّذِي يُسَمِّيهِ فَيُؤْخَذُ بِهِ حِينَئِذٍ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجَرَهَا مِنْ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَصِيرُ الزَّوْجُ مُلْتَزِمًا رَدَّهَا بِالضَّمَانِ أَيْضًا فَيُطَالِبُهُ بِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ قَالَ: وَفِي هَذَا بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّ الدَّارِ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْنَعَ الْآجِرَ إذَا جَاءَ لِيَأْخُذَهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ هَذَا وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ، وَالرَّدُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَيْفَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ تَسْلِيمَ الدَّارِ إلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا بِحَقٍّ لَازِمٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِإِقْرَارِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا كَذِبٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ الدَّارَ مِنْهَا بَعْدَ رِضَاهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ لِيَصِيرَ بِهِ ضَامِنًا رَدَّ الدَّارِ عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَعَلَى مَالِكِ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ، وَيَكُونُ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يُوَكِّلُ رَبَّ الدَّارِ فِي الْخُصُومَةِ مَعَ أَهْلِهِ لِاسْتِرْدَادِ الدَّارِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ بِهِ، فَإِذَا غَابَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَهْلَ الْمُسْتَأْجِرِ بِرَدِّ الدَّارِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وَكَالَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ غَيْرَ مَلِيءٍ بِالْأَجْرِ فَيَنْبَغِي لِلْآجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِأَجْرِ الدَّارِ مَا سَكَنَهَا أَبَدًا أَوْ يُسَمَّى كُلُّ شَهْرِ لِلضَّامِنِ فَتَكُونُ هَذِهِ كَفَالَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَيَأْخُذُ الْكَفِيلُ بِهَا إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْإِفْلَاسِ وَدَيْنِ الْأُجْرَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ التَّوَثُّقِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الْكَفَالَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْأُجْرَةِ.
رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا لَا بِنَاءَ فِيهَا فَأَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيَحْسِبَ لَهُ رَبُّ الدَّارِ مَا أَنْفَقَ فِي الْبِنَاءِ مِنْ الْأَجْرِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ وَبَيَّنَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ جَائِزٌ قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ الْآلَاتِ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الْوَكَالَةَ عَلَى مَا قَالَ فِي الْبُيُوعِ إذَا قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ لِلْمَدْيُونِ: سَلِّمْ مَالِي عَلَيْك فِي كَذَا وَاشْتَرِ لِي بِمَالِي عَلَيْك عَبْدًا وَالْأَصَحُّ: أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّرْفِ إلَى مَحَلٍّ مَعْلُومٍ، وَهُوَ بِنَاءُ الدَّارِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا أَمَرَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ الْمُسْتَأْجِرَ بِمَرَمَّةِ الْحَمَّامِ بِبَعْضِ الْأُجْرَةِ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ دَابَّةً وَغُلَامًا إلَى مَكَانِ مَعْلُومٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ فِي عَلَفِ الدَّابَّةِ وَنَفَقَةِ الْغُلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا أَنْفَقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي صَرْفَ الزِّيَادَةِ إلَى الْبِنَاءِ فِيمَا أَنْفَقَ، وَرَبُّ الدَّارِ يُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى تَسْلِيمَ ذَلِكَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَأَنْكَرَهُ رَبُّ الدَّارِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ أَشْهَدَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَقُولُ: إنَّهُ أَنْفَقَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ مَضْمُونٌ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الضَّامِنِ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى تَصْدِيقِ الضَّامِنِ كَانَ الْإِشْهَادُ بَاطِلًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي إنْفَاقَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ بَنَى فِيهَا وَقَالَ دَفَعْتهَا إلَيْهِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْرِ وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مِلْكٌ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا، فَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى هَذَا الْبِنَاءَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُصَدَّقَ فِي النَّفَقَةِ عَجَّلَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الدَّارِ إلَيْهِ، وَيُوَكِّلُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى دَارِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ حِينَئِذٍ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ، وَفِي هَذَا الْهَلَاكِ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّعْجِيلِ مَلَكَ الْأَجْرَ الْمَقْبُوضَ وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ ثُمَّ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ لِيُنْفِقَهُ فِي دَارِهِ كَانَ أَمِينًا فِي ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي الْمُحْتَمَلِ مَعَ الْيَمِينِ كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُكَذِّبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْوَصِيِّ يَدَّعِي الْإِنْفَاقَ عَلَى الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ يُصَدَّقُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِذَا خَافَ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي رَدِّ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَأَجَرَهَا مِنْهُ سَنَةً مِنْ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ تَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ دِينَارًا فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَإِضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ صَحِيحٌ فَبَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ رَدِّ الدَّارِ مَخَافَةَ أَنْ يَلْزَمَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِينَارٌ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: أَنَا لَا آمَنُ أَنْ يَغِيبَ رَبُّ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُنِي كُلَّ يَوْمٍ دِينَارٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا وَيَسْتَأْجِرَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ مِنْ الْعَدْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى إذَا مَضَتْ السَّنَةُ، وَتَغَيَّبَ رَبُّ الدَّارِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْعَدْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الدِّينَارُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَلُزُومُ الْعَقْدِ يَكُونُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَالْحِيلَةُ: أَنْ يُمْضِيَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ لِيَلْزَمَ الْعَقْدُ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ، فَإِذَا خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَبْعَثَ الْأَجْرَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ مَعَ الْعَدْلِ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ إذَا أَدَّى الْأَجْرَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، وَمِنْ عَزْمِهِ الْفَسْخُ عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ فَسَخْت الْعَقْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: فَسَخْت الْإِجَارَةَ بَيْنِي وَبَيْنَك رَأْسَ الشَّهْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ إضَافَةَ الْفَسْخِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَلَا تَكُونُ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ، وَكَمَا تَصِحُّ إضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إضَافَةُ الْفَسْخِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَهَذَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.
وَإِذَا اكْتَرَى الرَّجُلُ إبِلًا لِمَتَاعٍ لَهُ إلَى مِصْرَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنْ قَصَرَ عَنْهَا إلَى الرَّمْلَةِ فَالْكِرَاءُ سَبْعُونَ دِينَارًا فَإِنَّ قَصَرَ عَنْ الرَّمْلَةِ إلَى أَذْرَعَاتٍ فَالْكِرَاءُ سِتُّونَ دِينَارًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَهَالَةِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِالشَّرْطِ وَلَوْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ بِشَرْطٍ فِيهِ حَظْرٌ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ بَعْضِ الْأَجْرِ، فَإِنْ حَمَلَهُ إلَى مِصْرَ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْمِائَةُ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُفْسِدَ قَدْ زَالَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ ثَوْبًا لِلُّبْسِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُ وَمَنْ يَلْبَسُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَوْ رَكِبَهَا أَوْ لَبِسَهُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَجَبَ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا لِانْعِدَامِ الْمُفْسِدِ، وَهُوَ الْجَهَالَةُ قَالَ: وَالْحِيلَةُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يَفْسُدَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا إلَى أَذْرَعَاتَ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ أَذْرَعَاتَ إلَى الرَّمْلَةِ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا، فَإِذَا بَلَغَ أَذْرَعَاتَ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَى الرَّمْلَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى الرَّمْلَةِ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَكَذَلِكَ مِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِبِلِ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْإِبِلِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا، وَإِنْ أَبَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ بِأَذْرَعَاتٍ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى الرَّمْلَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ.
وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضًا لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حِيلَةٌ إلَّا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَاجِرَهُ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ، وَإِذَا بَاعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ أَجَرَ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَرَى زَرْعَهُ فِيهَا، وَإِذَا لَمْ يَبِعْهُ الزَّرْعَ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِزَرْعِ الْآخَرِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِقَلْعِ زَرْعِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَشْجَارٌ أَوْ بِنَاءٌ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَشْجَارَ وَالْبِنَاءَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَاجِرَهُ الْأَرْضَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَبِيعُ الْأَشْجَارَ بِطَرِيقِهَا إلَى بَابِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَابٌ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ طَرِيقًا مَعْلُومًا لَهَا مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِحَّ الشِّرَاءُ ثُمَّ يُؤَاجِرَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الطَّرِيقَ فِي الشِّرَاءِ فَسَدَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ قَبَضَهَا كَانَ الرَّدُّ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ مَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ صَحِيحًا فَشَرَطَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الطَّرِيقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.باب الوكالة:

(قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً لَهُ بِعَيْنِهَا بِكَذَا دِرْهَمًا فَلَمَّا رَآهَا الْوَكِيلُ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِلْآمِرِ، وَإِنْ نَوَى الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِيمَا بَاشَرَهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمْرِ الْآمِرِ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ تَامُّ الْوِلَايَةِ فِي تَصَرُّفِهِ فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِمَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْآمِرِ، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ لَا يُلْزِمُهُ الشِّرَاءَ لِلْآمِرِ لَا مَحَالَةَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْوَكَالَةَ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الشِّرَاءِ أَصْلًا، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي اكْتِسَابِهِ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِيَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَا يُقَالُ: إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ فَفِي حِصَّةِ مَا سَمَّى لَهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ جَمِيعِهَا بِالْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ لَا بِشِرَاءِ بَعْضِهَا وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَهَا لِلْآمِرِ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْأَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَهُوَ لِلْآمِرِ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالشِّرَاءِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِنْ أَمَرَ الْوَكِيلُ رَجُلًا آخَرَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ كَفِعْلِ الْأَوَّلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ عَلَى الْآمِرِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِيَشْتَرِيَهَا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَإِذَا فَعَلَ لَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْآمِرِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَيْهِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ الْأَوَّلُ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ الْآخَرِ لِلْآمِرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ فَإِنَّهُ مَتَى فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِ الْوَكِيلِ عَلَى الْعُمُومِ يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ، وَيَكُونُ فِعْلُ الْوَكِيلِ الثَّانِي كَفِعْلِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ إذَا اشْتَرَاهَا بِالنَّقْدِ.
وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا لِنَفْسِهِ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُوَكِّلِ تَفْوِيضَ الْآمِرِ إلَى رَأْيِهِ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْعُمُومِ وَيَقُولُ لَهُ: مَا صَنَعْت فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَكَّلَ الْوَكِيلُ رَجُلًا آخَرَ يَبِيعُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَكِيلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ وَلَكِنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَقَدْ قَالَ لَهُ صَاحِبُهَا: مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَصِيرُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ صَاحِبُ الْجَارِيَةِ بِبَيْعِهَا فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ إيَّاهَا مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْجَارِيَةِ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَالسَّبِيلُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ يَسْتَقِيلَهُ الْعَقْدَ فَتَنْفُذَ الْإِقَالَةُ عَلَى الْوَكِيلِ خَاصَّةً أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَنْ يُوَلِّيَهُ الْعَقْدَ فِيهَا أَوْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَا يَدَعَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي ثَمَنِهَا فِي الْبَيْعِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ ائْتَمَنَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي أَنْ لَا يَدَعَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي ثَمَنِهَا.
فَلَوْ اشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ لِلْآمِرِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَقَبَضَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْآمِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ رَدِّهَا بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ وَالْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي انْفَسَخَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَصْلِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ بَقِيَ هُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ إلَّا لِلْآمِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى وَكَالَتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ إلَّا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا، وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ عَلِمَ بِعَيْبِهَا، وَاشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَكُونُ خَصْمًا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ لِيَبِيعَهُ بِحَضْرَتِهِ فَيَنْفُذَ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَنَا، وَخُصُومَةُ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا تَكُونُ مَعَ الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَعَ عَاقِدِهِ، فَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي إلَّا بِأَنْ يَضْمَنَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ الدَّرْكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ الدَّرْكِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَلَا خُصُومَةَ لَهُ بِالْعَيْبِ مَعَ الضَّامِنِ لِلدَّرْكِ، وَإِذَا رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الضَّامِنِ لِلدَّرْكِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَيْسَ يُدْرَكُ.
وَإِذَا خَلَعَ الْأَبُ ابْنَتَهُ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الصَّدَاقِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَطْلُقْ الْبِنْتُ سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الْأَبِ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، كَمَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِ الِابْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ فِي الْخُلْعِ الْمَرْأَةَ تَلْتَزِمُ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهَا بِالْخُلْعِ شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى ابْنَتِهِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَهِيَ فِي الْخُلْعِ كَأَجْنَبِيٍّ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الدَّرْكَ لِلزَّوْجِ فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ الْخُلْعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الشُّرُوطِ.
وَإِذَا خَافَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ مَتَاعٍ مِنْ بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ يَبْعَثُ بِالْمَتَاعِ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ يَسْتَوْدِعُ الْمَالَ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ ضَامِنًا فَالْحِيلَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَسْتَأْذِنَ رَبَّ الْمَالِ فِي أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِرَأْيِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَيَدْفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صَنِيعَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.